السر
في عدم انضمام أي من دمشق وحلب إلى الثورة لا يكمن في ثقافة وتربية أهالي دمشق
وحلب، بقدر ما يكمن في ظاهرة الفردانية المغرقة التي تصيب سكان المدن الكبيرة
والتي تكلّم عنها علماء الاجتماع مطوّلاً في دراساتهم منذ ستينات القرن الماضي.
وهناك مثال شهير على ذلك هو حادثة وقعت في مدينة نيويورك في مطلع الستينات عندما
هاجم رجل صاحبته في شارع عام وقام بطعنها مرات عديدة بخنجره والناس تراقب من بعيد
أو تتابع السير دون أن يتوقف أحد لمساعدة المرأة أو للاتصال بالشرطة، حتى وقعت
المرأة جثة هامدة. البعض في تلك الفترة نحى باللائمة على طبيعة المجتمع الأمريكي
وعلى ثقافة العنف السائدة فيه، لكن الدراسات الأكثر الجدية والتي اعتمدت على تحليل
ظواهر مثيلة في بلدان أخرى أشارت إلى الدور الأكبر لطبيعة الحياة اليومية في المدن
الكبيرة في تشكيل هذه الحوادث. الكل في المدينة الكبيرة غريب، والكل مشغول، والكل
تعوّد إلا يهتم إلا بشؤونه الخاصة.
وفي منطقتنا اليوم، نرى أن معظم المشاركين في الحراك الثوري
في تونس ومصر اليمن وليبيا جاؤوا من المدن والنواحي الصغيرة، ومن ثم توجهوا إلى
المدن الكبيرة. في سوريا، نرى أن تحرّك ريف حماة وريف حوران وريف إدلب حيث الروابط
الأسرية والإنسانية ماتزال محافظة على متانتها ومعناها، هو الذي فعّل ورفد تحرّك
المدن الأكبر فيها. وفي حمص، تحرّكت أولاً الحارات والأحياء القديمة التي، بعكس ما
جرى في حلب ودمشق، ماتزال مأهولة من قبل سكانها الأصليين. وفي دمشق وحلب تحرّكت
تلك المناطق والأحياء والفئات التي ماتزال فيها للهوية الجماعية دور هام وأساسي في
تنظيم الحياة اليومية.
أما
ساكن المدينة الكبيرة، والتي لم تعد المدينة بالنسبة له تشكّل بيئة داعمة وحامية،
بل تحوّلت إلى مركز تجاري ضخم لينتقي منه ما يناسبه من احتياجات يومية، فهو فيما
يتعلّق بتفاعله مع الشأن العام، خاصة في المجتمعات الاستبدادية، نفعي بحت، وينظر
إلى الأمور من منطلق فردي بحت. وكل مين إيدو إلو، على حد تعبير كاتبنا محمد
الماغوط. إنهم مثل سكان نيويورك الذين لم يحرّكوا ساكناً لمساعدة تلك المرأة
المسكينة، فالحدث لا يعنيهم بشكل مباشر، لأن الكل غرباء بالنسبة لهم: الثوار
والقتلة.
وفي
الواقع، لا يمكن تحريك هذا الكائن إلا من منطلق فردي ونفعي. النداءات العامة
الموجّهة إلى أهالي حلب ودمشق لاتنفع، والإدانات العامة لاتنفع. إن تحريك ساكن
المدينة لايتم إلا من خلال توجيه رسائل إيجابية تخاطب ضميره واحتياجاته كفرد.
علينا أن نقنع الدمشقي كفرد والحلبي كفرد أن الثورة فرصة حقيقية له كفرد لتحسين
ظروفه المعيشية فيما لو نجحت، وأن فشلها سيكون وبالاً عليه كفرد.
وهذا
يعني أنه ينبغي علينا أن نقوم بحملة إعلامية متكاملة من أجل ذلك، وأن نطور خطابنا
الموجّه نحو الداخل السوري ليعكس هذه المتطلّبات، لكن التعامل الفعّال مع الإعلام
يبقى واحداً من التحديات الكثيرة التي ماتزال قوى المعارضة تفشل في التعامل معها.
إلى
متى؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.