‏إظهار الرسائل ذات التسميات اليسار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اليسار. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 18 أغسطس 2017

الحداثة ما بين القبول والرفض

دبي عند الغروب -- الحداثة أكثر من أبنية

الحرة / من زاوية أخرى -- ليس من الغريب أن تشهد المجتمعات البشرية صراعاً وتنافساً مابين قيم الحداثة والقيم التقليدية، فالبشر لا يغيرون قيمهم وممارساتهم القائمة عليها بشكل اعتباطي وفوري، وإن بدا لنا في بعض الحالات الفردية أن شخصاً ما قد غير من سلوكياته وأفكاره مابين ليلة وضحاها فمرجع ذلك جهلنا بما كان يجري في ذاته من تفاعلات وحوارات. ففي الواقع، لا يمكن لتغيير قيمي أن يحدث إلا بشكل تدريحي ومن خلال تفاعلات داخلية وبينية معقدة تلعب فيها المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والدينية أدوارها الخاصة، حتى في الحالات الفردية.

وللتفاعلات الدولية، السلمي منها والحربي، دورها في توجيه وتشكيل هذه العملية أيضاً. فعلينا أن لا ننسى في هذا الصدد أن الحداثة بالنسبة للمجتمعات الشرقية والنامية جاءت نتيجة احتكاكات عنيفة مع المجتمعات الغربية، وأنها تبقى إلى حد ما "مستوردة" و "خارجة عن السياق،" بمعنى أنها لم تنبع عضوياً من صيرورات ونقاشات ومواجهات فكرية داخلية، على الأقل في المراحل الأولى لتغلغلها في هذه المجتمعات، وأنها تبقى وثيقة الارتباط بشخصيات ومؤسسات وأحداث غربية المنشأ.

وما تزال هذه النشاة الخارجية لقيم الحداثة تستخدم كوسيلة أساسية وفاعلة لمقاومتها من قبل التيارات الأصولية والمتشددة في المجتمعات الشرقية والنامية، بما فيها المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من قرن أو قرنين، بحسب المنطقة الجغرافية قيد الاعتبار، على بداية توغّل هذه القيم فيها، وعلى الرغم من تبني معظم الشرائح المجتمعية الشرقية والنامية لبعضها، وإن بدرجات متفاوتة. إذ تبقى النزعة القبلية متجذرة في النفس البشرية، ويبقى كل وافد إليها من خارجها، شخصاً كان أم فكراً، مشبوهاً.

لكن رفض بعض الشرائح والتيارت السياسية للأفكار والقيم الحداثية ليس ظاهرة حصرية بالمجتمعات ذات الغالبية المسلمة، ولا يشكل إدانة لدين بعينه. بل تكمن المشكلة أساساً في الشرائح الرافضة وفي كيفية تعاملها مع المجتمع من حولها، وكيفية تعامل هذا المجتمع معها، وما يحكم هذه العلاقة التفاعلية من تصورات وآليات ومؤسسات.

وإن كان لمسألة الهوية أثرها في هذه الظاهرة، سنجد عند تحليلنا لها أن للقضايا التنموية والاقتصادية دورها الذي لا يقل أهمية عنها، خاصة في تلك الحالات التي تتخذ فيها ظاهرة رفض الحداثة منحاً عنفياً.

من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بمسألة الهوية بالذات، فحتى في تلك المجتمعات التقليدية التي كان للدين فيها الدور الأكبر في تحديد الهوية، تبقى النزعة القبلية هنا أهم من النزعة العقائدية. إذ لا يتعلق بالضرورة انتماء المرء إلى دين أو طائفة بعينها بمدى إيمانه والتزامه بتعاليم فئته، خاصة في حال وجود علاقة إشكالية لها مع الفئات الأخرى نابعة عن طبيعة تعاليمها، أو حجمها الديموغرافي، أو أية ظروف خاصة أخرى.

وقد يكون الرفض في الكثير من الحالات رفضاً سلوكياً غير مقصود أو واع، بل قد يتناقض مع المبادئ المعلنة للأفراد والشرائح الرافضة. فالأفكار تتغير بأسرع مما تتغير به التصرفات والعادات والعقليات. وقد تتغير أفكار المرء دون أن تتغير نفسيته أو عقليته، سواء استوعى ذلك أم لا. وهذا ما يفسر لنا ذلك التناقض الصارخ في بعض الأحيان وبعض المجتمعات ما بين سلوكيات وتصرفات أتباع التيارات الحداثية من ليبراليين ويساريين، على مشاربهم المختلفة، وبين الأفكار والمبادئ المؤسسة لتياراتهم. ولا يتوقف الأمر على التصرفات والسلوكيات اليومية والقضايا العائلية بل يتعدى ذلك ليشمل الخيارات السياسية لأتباع هذه التيارات والتي قد يكون لمسألة الهوية والانتماء القبائلي دور أكبر من المبادئ في تحديدها. ولهذه الظاهرة تجلياتها حتى في المجتمعات الغربية، لكن تجلياتها في المجتمعات الشرقية والنامية تبقى أكثر انتشاراً ونفوذاً لأن جذور الحداثة فيها ماتزال أضعف.

تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة إشكالية حتى بالنسبة لتلك التيارات السياسية والشرائح المجتمعية التي قررت القبول بها، أو على الأقل التعامل معها بشكل أكثر انفتاحاً وأريحية، ولا تقتصر ظاهرة الرفض التي تشهدها المجتمعات المختلفة، الشرقية منها والغربية، على الموقف الإيديولوجي للأفراد أو الجماعات، فهناك أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية تجعلها خياراً إشكالياً حتى لمن آمن بها. ولعل العنف الذي تلجأ إليه بعض الجماعات كوسيلة للتعبير عن رفضها لقيم الحداثة يرتبط، بشكل جزئي على الأقل، بذلك التناقض الصارخ مابين أفكار مدعي الحداثة وبين سلوكياتهم وحساباتهم وخيارتهم السياسية على أرض الواقع. وما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية.


الجمعة، 4 سبتمبر 2015

العدل، والإسلام، والعلمانية، والتيارات اليسارية

(1)

قال (ابن تيمية) في الفتاوى 28/63: فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: { الله يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً }.

وقال ابن تيمية أيضاً في "رسالة الحسبة" والمدرجة في مجموع الفتاوى (ج 28/146): وأمور الناس تستقيم فى الدنيا مع العدل الذى فيه الاشتراك فى أنواع الاثم أكثر مما تستقيم مع الظلم فى الحقوق؛ وإن لم تشترك فى إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام).

وفي القرآن: "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" (سورة الكهف: 30).

وفي الحديث: عن أَبُي عَبْدِ الله الْأَسَدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ". [رواه أحمد (3 / 153) والضياء في "المختارة" (249 / 2)] ["السلسلة الصحيحة": 767].

وفي السيرة، قال النبي لمهاجرة الحبشة: "...فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد." ولم يكن الملك مسلماً.

الخلاصة:

1)   العدل عماد الدولة.
2)   الله مع العدل، وينصر الدولة العادلة بصرف النظر عن معتقداتها الدينية.
3)   لاعلاقة ما بين قدرة الإنسان على التصرف بعدل، أي على إعطاء كل ذي حقّ حقّه، ومعتقده الديني.

وتعني هذه النقاط الثلاث أنه وعلى المستوى الجمعي والمؤسّساتي (فما الدولة إلا مؤسّسة أو مجموعة مؤسّسات)، العدل هو الأساس وليس المعتقد. فالمعتقد يأطر للعلاقة ما بين الله والفرد. أما العلاقة ما بين الفرد والفرد، فينبغي أن تخضع لمبادئ تنبع من إنسانية الجميع ورغبتهم في العيش بحرية وأمان، ولهذا لايمكن لهذه العلاقة أن تُنظّم بناءاً على معتقد مجموعة معينة من الأفراد بصرف النظر عن معتقدات الآخرين، فليس هذا من العدل من شيء.

فالمعتقد بطبيعته يفرّق، ولايمكن به بالتالي أن يكون أساساً لقيام الدول، أما العدل فيجمع، والناس في التاريخ الإسلامي لم يأسفوا على رحيل حاكم إلا وكان عدله هو الصفة الأساسية التي دفعتهم إلى ذلك.

وفي هذا كله تبرير وشرعنة إسلامية لمفهوم العلمانية، بعيداً عن كل السفسطة المحيطة بهذا المفهوم.

وفي هذا أيضاً دليل على أهمية التراث وقدرته على المساهمة في مساعينا لإيجاد حلول عقلانية لمشاكلنا الحالية، وذلك إذا ما تعاملنا معه بشكل موضوعي ومنهجي ونقدي بناء. إن من نبش ألف وأربعمئة عام من الحضارة الإسلامية ولم يجد أمامه إلا الترّهات فلأنه مسكون بالترّهات أساساً. وهنا جوهر مشكلتنا مع الكثير من الإسلاميين اليوم، لأنا حتى لو خاطبناهم بلغة الإسلام ذاتها، بل بلغة أولئك العلماء مثل ابن تيمية الذين يلعب فكرهم دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الإسلامي المعاصر، لن يفهموا ولن يفقهوا. ولنا في محاولات نصر حامد أبو زيد، وخليل عبد الكريم، وهادي العلوي وغيرهم خير دليل على ذلك.

(2)

المشكلة ليست في التراث الإسلامي بحد ذاته إذاً، والذي لا يختلف عن غيره من حيث احتوائه لما هو سلبي وإيجابي، ومن حيث ذخره بالكثير من الشخصيات التي لها سلبياتها وإيجابيتها مثل ابن تيمية ذاته والذي أدى إنعاش فتواه المنسية بحق "النصيرية" في سبعينات القرن الماضي إلى تعميق الهوة ما بين المكونين السني والعلوي في سوريا ولبنان، وبالتالي من حيث احتياجه المستمر للتحليل والتنقيح بحثاً عما هو مفيد لنا، بل وللبشرية جمعاء، في عصرنا هذا. بل تكمن المشكلة الحقيقة في حالة الذعر التي يغرق بها الإسلاميون، وغيرهم من المثقفين الإيديولوجيين الشرقيين، عند معاينتهم للواقع المحيط بهم، والذي ما بوسعهم الانتماء إليه لأنهم لم يساهموا في صنع أي شيء فيه، والذي لا يمتّ لما يؤمنون به بأية صلة، هذا الواقع الذي يشعرهم بالعجز والاغتراب واللاإنتماء. ويبدو أن الحل الأسهل بالنسبة لهم في مواجهته يتلخص بالإرتكاس، ليس فقط إلى ما هو قديم (الإسلام) وجاهز (فكر عدد محدد من العلماء)، بل إلى تبني العقائد والمظاهر والممارسات الأكثر اختلافاً عن القيم المعاصرة كنوع من المبالغة في الرفض والتحدي.

من آراء ابن تيمية الأخرى التي تستوجب التفنيد بدورها، بل الرفض التام، لما فيه من تقليص لدور العقل وحرية الفرد، لكنه للأسف ينمّ عن اعتقاد شائع بين الإسلاميين على اختلاف مشاربهم.

أما فيما يتعلق بالمعتدلين منهم، والذين قد يتبنى بعضهم، خاصة الذكور، بعض المظاهر العصرية فيما يتعلق بالملبس والمعشر (الاختلاط)، فإن اعتدال معظمهم يبقى في واقع الأمر سطحياً، وغالباً ما يتجلى في وثائق غرائبية وموجهة للرأي العام العالمي أكثر منها لشعوبهم، مثل إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام، والذي يربط كل مواده بالشريعة الإسلامية دون أية محاولة لرفض تلك الأحكام فيها التي تتعارض كلية مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مما يفقده قيمته جملة وتفصيلاً.
  
 إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام هو إعلان تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، القاهرة، 5 أغسطس 1990.

الديباجة: تأكيداً للدور الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة ربطت الدنيا بالآخرة وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتناقضة وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة.

المادة 6: أ- المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، ولها من الحق مثل ما عليها من الواجبات ولها شخصيتها المدنية ذمتها المالية المستقلة وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها. ب- على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة ومسؤولية رعايتها.

المادة 10: الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان أو استغلال فقره أو جهله على تغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد.

المادة 16: لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني. وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية العائدة له على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة.

المادة 19: ... د- لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة.

المادة 22: أ- لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية. ب- لكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية. ج- الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة مجتمع بالتفكك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد.

المادة 24:كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية.

المادة 25: الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة.

يمكن الإطلاع على تحليل عبد القادر أنيس للإشكالات المختلفة الكامنة في الإعلان على موقع الحوار المتمدن. لكن ننوه هنا إلى النقاط التالية:

1.               التناقض الجلي في تفضيل الإعلان لأمة بعينها على حساب كل الأمم الأخرى (الديباجة والمادة 10).
2.               المادة 16، ومن خلال تقييدها للإنتاج الأدبي والفني بأحكام الشريعة، تمثل رفضاً لمعظم ما أنتجه الأدباء والفنانون العرب والمسلمون عبر القرن الماضي وهي بالتالي تتنافى مع حرية التعبير.
3.               قبول المادة 19 بأحكام الشريعة فما يتعلق بالجريمة على الرغم من احتوائها على عقوبات قروسطية مثل قطع اليد والصلب والرجم.
4.               تقييد حرية الرأي والأمر المعروف والمنكر بمبادئ وأحكام الشريعة، علاوة على تحريم "زعزعة الاعتقاد" يتنافي بدوره مع حرية التعبير.
5.               تشكل المادتان 24 و25 من الإعلان إلغاءاً عملياً لكل ما سبقه من مواد، وتكريساً لدور الشريعة، كما هي، كالمرجع الأول والأخير للمجتمعات الإسلامية.

 من ناحية أخرى، يشكّل إيمان هؤلاء المعتدلين بأمور مثل الإعجاز العلمي في القرآن والطب النبوي، علاوة على مبالغتهم في كتبهم "التنويرية" و"الإصلاحية" لمساهمة الحضارة الإسلامية في النهضة العلمية الأوروبية، محاولة رخيصة للاستحواذ على منجزات الحضارة الغربية المعاصرة.

(3)

لكن المشكلة هنا لا تتوقف على الإسلاميين، فتصرفات معظم المفكرين العلمانيين، اليساريين خاصة (إذ مايزال دور الليبراليين، بأنواعهم، في تشكيل الوعي العربي والإسلامي المعاصر محدوداً لأسباب كثيرة)، لا تقل تناقضاً.

فاليسار استورد عقائده جاهزة من الغرب (الشيوعية والاشتراكية والفوضوية) دون أن يقوم منظروه بأية مراجعة جدية لها، وحوّل مواقفه المناهضة للإمبريالية إلى عداء صريح للحضارة الغربية ككل. كما يدل استمرار النزعات العشائرية و"المحافظة" للكثير من أتباع التيارات اليسارية على الصعيد الاجتماعي على فشلهم في تقبل السلوكيات الناجمة بشكل طبيعي عن مبدأ الحريات الفردية، خاصة فيما يتعلق بحرية المرأة. ومع ذلك، هناك ما يكفي من الاختلاف في الأنماط السلوكية الاجتماعية ما بين أعضاء التيارات الإسلامية واليسارية (والليبرالية) لخلق أزمة كبيرة بينهم فيما يتعلق بطبيعة الدولة والأنظمة الحاكمة فيها، في حين تسمح لهم مواقفهم المناهضة للإمبريالية والرأسمالية والغرب بإيجاد أرضية سياسية مشتركة. ولقد لعب هذا الأمر دوراً كبيراَ في تشكيل الوعي العربي والإسلامي المعاصر، وبالتالي في الأزمة الراهنة التي تمر بها غالبية الشعوب التي تحمل إحدى أو كلا هاتين الهويتين.
  
الميثاق العربي لحقوق الإنسان: اعتمد من قبل القمة العربية السادسة عشرة التي استضافتها تونس في  23 أيار، 2004.

الديباجة: انطلاقاً من إيمان الأمة العربية بكرامة الإنسان الذي اعزه الله منذ بدء الخليقة وبأن الوطن العربي مهد الديانات وموطن الحضارات ذات القيم الإنسانية السامية التي أكدت حقه في حياة كريمة على أسس من الحرية والعدل والمساواة.

المادة 3: 3- الرجل والمرأة متساويان في الكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات في ظل التمييز الايجابي الذي أقرته الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية الأخرى والتشريعات والمواثيق النافذة لصالح المرأة.

مادة 33: 1- الأسرة هي الوحدة الطبيعية والأساسية للمجتمع.

مادة 43: لا يجوز تفسير هذا الميثاق أو تأويله على نحو ينتقص من الحقوق والحريات التي تحميها القوانين الداخلية للدول الأطراف أو القوانين المنصوص عليها في المواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان التي صدقت عليها أو أقرتها بما فيها حقوق المرأة والطفل والأشخاص المنتمين إلى الأقليات.

تم وضع هذا الميثاق من قبل القوى القومية العربية العلمانية التي تسيطر عليها التيارات اليسارية بشكل كبير، وإن كان للشخصيات الليبرالية مساهمتها فيه أيضاً.

ومن منطلق حقوقي بحت يبدو من الواضح أن الميثاق أفضل بمراحل من نظيره الإسلامي وأقرب في مواده من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي شكّل مرجعية أساسية له، إضافة إلى المواثيق الدولية الأخرى المتعلقة بحقوق  الإنسان (المادة 43).

لكن، بوسعنا أن نرى فيه إيضاً ذات الغطرسة والغرور الفئوي ("الوطن العربي مهد الديانات وموطن الحضارات ذات القيم الإنسانية السامية...")، وإشكالية واضحة فيما يتعلق بدور المرأة ("في ظل التمييز الايجابي الذي أقرته الشريعة الإسلامية..." المادة 3)، ونزعة عشائرية محافظة من خلال اعتبار الأسرة، وليس الفرد، بمثابة "الوحدة الطبيعية والأساسية للمجتمع" (المادة 33).

 ولا يمكن لهذا الوضع أن يتحسّن حتى يتصالح أتباع هذه التيارات مع ضرورة الانخراط النقدي بالحضارة الغربية العالمية المعاصرة، بما فيها من قيم، الأمر الذي يتطلب القيام بمراجعة شاملة ونقدية للتراث، بما فيه من قيم. وبالتدريج، ومن خلال المساهمة في تطوير حضارتنا المعاصرة هذه، خاصة في المجالات العلمية والفنية والأدبية والفلسفية والقانونية، سيجد أتباع هذه التيارات أنفسهم قادرين على الانتماء لهذه الحضارة، بل وعلى نسبها لأنفسهم أيضاً، بفضل إثرائهم لها بإنجازات حقيقية.

لا يكمن الحل إذاً في المقاومة، بل في الإنخراط، الإنخراط النقدي الواعي. فلا الغرب ولا القوى الإقليمية الناشئة حول العالم اليوم، سيفتحوا لنا أبواب الإنخراط على مصاريعها، لإن الانخراط يهدد نفوذهم أكثر من تلك المقاومة العدمية التي تبنيناها عبر العقود الماضية والتي جاءت بمثابة الطبق الذهبي الذي قدمنا عليه أنفسنا وثرواتنا طعمة وهدية للأخرين. فالإنخراط يعني زيادة حصصنا وقدراتنا التنافسية على الساحة السياسية والإقتصادية، وهذا الأمر لن يتحقق من دون معركة. لكنها ستكون معركة من نوع آخر: تنموية وسياسية بالدرجة الأولى، وإن شابها العنف في بعض مراحلها، فلن يكون عبثي الطابع، أو بالأحرى، لا ينبغي له أن يكون وإلا عدنا إلى المربع الأول. لكن هذا الأمر يتطلب نقاشاً آخر.



الخميس، 16 يوليو 2015

ملاحظات حول الطبيعة الإنسانية والنظام الدولي

شعارات للفوضويين في الغرب

ما يزال الكثيرون اليوم ينتقدون الغرب ككلّ، بحضارته وثقافاته واقتصادياته وسياساته، ويحلمون باندحاره وبسقوط النظام العالمي الذي وضع دعائمه، كل ذلك دون أن يقدم أحد رؤية ما لأيّ بديل عملي وعقلاني. بل، يبدو أن معظم المنتقدين هنا متصالحين تماماً مع فكرة أن الفوضى هي البديل الفعلي على المدى المنظور في حال تحقّق حلمهم وانهار الغرب.

الخراب ولا الغرب. إنها للعمر عقيدة غريبة، ولا يوجد ما يبرّر كل هذا الحقد الكامن في نفوس من يتبنّوها إلا الفشل والعجز والرغبة في التحصّل على ما لا يمكن للمرء كسبه بجدارة واستحقاق. فالخراب، إن تحقّق، هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها للبعض أن يبنوا أمجادهم: إقطاعيات صغيرة يكونوا فيها ملوكاً وليس مجرد طفيليين كما هو حالهم اليوم.

ولا فائدة تُرجى هنا من الصراخ "يا فوضويو العالم اتحدوا!" فهم، إن اتحدوا، فعلى الترهات والتفاهات والأوهام والأكاذيب. لكن الواقع أنهم لن يتحدوا أبداً، فهذا مخالف لطبيعتهم العقائدية في الصميم. وسيبقوا يتصارعون فيما بينهم على الفتات والأوهام. وفي أسوأ تجلياتهم وأكثرها عنفاً، لن يزيدوا عن كونهم  قتلة مأجورين، وإرهابيين، ولن يشكلوا أكثر من تحدّ أمني الطابع بوسع معظم دول العالم أن تحمي نفسها منه، بل وأن تستغلّه في صراعاتها مع الدول الأخرى من ناحية، ومع شعوبها من ناحية أخرى.

وفي هذه الأثناء، وبينما ينخرط فوضويو العالم في الأدلجة والمهاترات، ستستمر عمليات التحاصص ما بين القوى الفاعلة في الغرب والشرق، والشمال والجنوب، وسيستمر الدمار في أكثر من دولة ومنطقة في العالم. وتقع المسؤولية عن هذا الواقع المرّ على عاتق أقوياء العالم وحمقاه معاً.

من هو صاحب القرار هنا، من يدير العرض: الراقصة أم الطبال؟ أم كلاهما، لأن لا فرق بينهما، أو لأنهما يتناوبان على الدورين، فالظلم بطبيعته علاقة تفاعلية وتعاونية وتشاركية؟

إن كان ثمة محرّك لهذه التطورات الكلبية (السينيكية) فهي طبيعتنا البشرية إياها، بما فيها من مخاوف وأطماع ومصالح وغباء وعمىً إيديولوجي... هذه هي الطبيعة الحقيقية للمؤامرة القائمة. نعم، نحن المؤامرة والمتآمرون. نحن أصحاب القرار. نحن الراقصة والطبال.

من شعارات الفوضويين الإسلاميين

(2)

غالباً ما يحجّ أثرياء العالم، والكثير من أصدقائهم من ذوي النفوذ بحكم مناصبهم السياسية أو العسكرية، أو مكانتهم الاجتماعية، أو صفتهم الدينية، وبصرف النظر عن بلد المنشأ، إلى نفس الأماكن والبقع في العالم، بغرض العمل والمتعة، فتتقاطع دروبهم حتى في الوقت الذي تتضارب فيه مصالحهم، مما يعطيهم فرصاً أكبر للتنسيق، وللاختلاف، بشكل منظّم ومنهجي. وهو أمر تسهّله عليهم أيضاً قلّة عددهم النسبية.

وعلى الرغم من تنوّع خلفياتهم الثقافية والإثنية والدينية والسياسية، إلا أن الطبيعة الاستهلاكية للعالم، الذي ساهمت هذه النخب في بنائه، وماتزال تساهم في إدارته واستغلاله، أدت إلى تشكيل العديد من المؤسّسات التي تهدف إلى خدمتهم والتعييش منهم، سواء من خلال تقديم خدمات ومنتجات حصرية، أو تعديل بعض المنتجات الموجّهة للاستهلاك العام لتتلائم مع وضعهم الطبقي والذائقة الخاصة بهم. ومع الوقت، ساهمت هذه المؤسّسات في بناء ثقافة مشتركة تجمع هذه النخب وتعزلهم عن الطبقات الأخرى، بثقافاتها وهمومها. وقد يكون بوسعنا اليوم، من خلال دراسة وتحليل ثقافة النخبة وتفاعلاتها، التنبوء ببعض تصرفاتها وقراراتها على الأصعدة المختلفة، المهني منها والشخصي. وقد يساعدنا هذا الأمر أيضاً على تفهّم طبيعة مصالح النخبة ودوافعها.

لكن، ومن أجل فهمهم أكثر وأكثر، علينا أن نتعامل معهم كما هم: أي كأشخاص حقيقيين وليس كأشباح وخيالات. فنحن، في الحقيقة، نعرف معظمهم، فأقلية منهم فقط هي التي اختارت تجنّب الأضواء، ودور هؤلاء ليس أكبر أو أصغر بالضرورة من دور نظرائهم وزملائهم.

فمن هم إذاً أعضاء هذه النخبة الحاكمة والمتحكّمة في العالم؟

إنهم كبار رجال الأعمال والمستثمرين والمدراء التنفيذيين للبنوك والشركات النفطية والغذائية والدوائية والتقنية في العالم، وهم أيضاً جنرالات في الجيوش الكبرى في العالم، ورؤساء الدول العظمى وبعض الأنظمة الإقليمية. وبوسعنا أيضاً إضافة عدد لابأس به من الباحثين والخبراء والعلماء والفنانين والفلاسفة ورجال الدين إلى اللائحة.


ويمكن التعرّف على معظم هذه الشخصيات من خلال بحث بسيط على الإنترنيت. وما أن نفعل ذلك سنعرّف عن آراء وتصرفات بعضهم  ما يكفي لإثارة العديد من التساؤلات حول قدرتهم الحقيقة على حبك المؤمرات. فإذا كان منهم جورج سوروس، رجل الأعمال الديموقراطي الذي ساهم من خلال مؤسّساته الخيرية المختلفة بدعم عمليات التغيير الديموقراطي في أوروبا الشرقية، فإن منهم أيضاً دونالد ترمب، المليونير النرجسي صاحب التعليقات العنصرية والتحليلات السطحية الذي رشّح نفسه مؤخراً في الانتخابات الأمريكية ممثلاً عن الحزب الجمهوري.

وهناك، علاوة على ذلك، جيل جديد يبرز على الساحة اليوم، جيل بنى ثروته ونفوذه من خلال الإنترنيت، منهم مؤسّسو ومدراء شركات مثل جوجل والفيسبوك وآبل وأي. بي إم. وغيرها من الشركات التي أصبح بعضها أغني وأكبر من شركات النفط. وحتى اللحظة، يبدو معظم هؤلاء مشغولين أكثر بربط وتشبيك الدول والشعوب مع بعضها البعض عن طريق الإنترنيت، منهم بتأليبها وتحريضها.

(3)

مازال معظم الناس واقعين تحت سلطة الرؤية القديمة حول عمليات إدارة التفاعلات العالمية، التي كان التخطيط لها يجري سرّاً ووراء الأبواب المغلقة، كما كان الحال مع اتفاقية سايكس-بيكو. لكن التحوّل الديموقراطي الذي شهدته المجتمعات الغربية، وعدد من دول العالم، علاوة على ثورة المعلومات والمعلوماتية، قلبت الموازين، وأصبح كل شيء اليوم يجري في وضح النهار. وهاهي السيناريوهات المختلفة التي تضعها مراكز الأبحاث العالمية، المدعومة والمموّلة من قبل النخب المتنفّذة في العالم وحكومات الدول العظمى، تُنشر وتُناقش في العلن.

ويستند أغلب هذه السيناريوهات على استقراءات موضوعية إلى حد كبير للوقائع الحالية في محاولة للتنبؤ بالتطورات المستقبلية واقتراح الخطط المناسبة لتوجييها بما يخدم مصالح النخب والدول الداعمة. لكن اختلاف الآراء والرؤى والتوجّهات عند الخبراء والساسة وغيرهم كفيل دائماً بتعقيد الأمور، ويتجلّى هذا الأمر في تناقض طرق الاستقراء وتحليل الأمور، وتضارب النبوءات والمقترحات المقدمة.

وفي الواقع، نادراً ما تقوم الدول والنخب بتصنيع الحدث هذه الأيام، لكن، وإن فعلوا، فقد باتوا يقدمون على هذا في العلن أيضاً، كما كان الحال في العراق. ولنا في التخبّط الأمريكي هناك مؤشّراً ممتازاً على نوعية "المؤامرات" التي تحوكها حتى أكثر النخب ثراءاً، وقوة، وهيبة.

نعم، لقد أصبح لزاماً علينا اليوم أن نتخلّص من تلك العقلية المهترأة التي ماتزال تنظر إلى بعض الدول والشخصيات وكأنها قادرة على التحكّم بكل شيء، وتوجيه كل الأحداث من مواقعها في الظلال ووراء الكواليس. فالواقع أن كل القوى معرّضة للزلات والهفوات، لكن الأنظمة الديموقراطية الراسخة تبقى، من خلال مخزونها المعرفي والخبراتي واستنادها إلى إرادة شعوبها، قادرة على التأقلم وعلى احتواء الأزمات، وصولاً، في بعض الأحيان، إلى استغلالها وتوجيهها بما يخدم المصالح العامة والخاصة معاً.

النخب لا تتآمر اليوم، بل تخطط في العلن

هذا هو الواقع ببساطة، ولابد لشعوب منطقتنا، بنخبها وعامتها، أن تتعلّم كيف تواجهه وتتعامل معه كما هو، ودون اللجوء إلى تلك القصص الغريبة والمستهجنة حول ما يجري في مؤتمرات عالمية مثل دافوس وبيلدربيرج، وحول الماسونيين واليهود، وبعض شخصياتهم وعائلاتهم المعروفة مثل عائلة روثـشـيلد. فإذا كانت هذه العائلة تمتلك جزيرة خاصة بها، فالممثل ليوناردو ديكابريو وغيره من مشاهير العالم يمتلكون جزرهم الخاصة أيضاً. لقد أصبح هذا الأمر موضة عند الأثرياء والمشاهير، ولايمكن استخدامه كدليل على امتلاك أحد لمخططات تآمرية خاصة تختلف عما يجري من حولنا من صراع مصالح مفضوح وعلني.

لسنا بحاجة إلى تبهير الحقائق. إن من يدير هذا العالم، ومن أداره عبر التاريخ، هم بشر مثلنا، ليس منهم من يتمتع بقوى خارقة للطبيعة، أو معصوم، أو يُوحى إليه بأفكار ومفاهيم وحقائق لا يمكننا استخلاصها بأنفسنا فيما لو أمعنا التفكير. والأهم من هذا أننا، أي نحن البشر الذين لا ينتمون إلى الطبقات المتنفّذة ، نبقى، بشكل أو آخر، شركاء في عملية إدارة العالم، وذلك من خلال خيارتنا في الحياة، بما في ذلك الخيارات اليومية، وعمليات البيع والشراء، ومشاركتنا في الانتخابات والثورات، ومن خلال الفن، والتحليل والتنظير، إلى آخرها من وسائل.  فإن كان العالم المعاصر لا يعجبنا، فالعيب منا أيضاً، وليس فقط في النخب. التغيير إذاً يبدأ منا، وما الإيمان بنظريات المؤامرة والترويج لها إلا محاولة للتنصّل من هذه المسؤولية.

إن ما يجري في العالم اليوم، وما جرى عبر التاريخ، لا يزيد عن كونه عملية تنافس وصراع ما بين شخصيات ومجموعات ودول وكتل عدة حول الموارد الطبيعية المتوفرة، وكيفية استغلالها من حيث الإنتاج والنقل والتصنيع والتطوير والتسويق، وحول المنافع والخسائر التي يمكن أن تنجم عن تحصّل الجهات المختلفة على حصص ونسب أصغر أو أكبر من هذا كله. ولا تهدف محاولات استقراء المستقبل والتخطيط له من قبل بعض الجهات إلا إلى تمكينها من التأقلم وبسرعة مع المتغيّرات بغية تكريسها لصالحها وتوجيهها في الاتجاهات المناسبة لها.

ولا يشكّل أيّ من هذه الأمور بالضرورة حدثاً استثنائياً، أو إجرامياً، أو لاأخلاقياً، أو مخالفاً للشرعية الدولية، وإن أدى إلى ذلك في بعض الأحيان، أو الكثير من الأحيان. ولايمكن إدانة هذه النشاطات بذاتها، لأنها كانت وستبقى محور حياتنا اليومية. لكن بوسعنا، بل ينبغي علينا، أن نطالب بإدارتها بشكل أفضل، وبمزيد من الشفافية، وبطرق تحفظ حقوق الدول والشرائح الأضعف.

إن ما هو غير عادي واستثنائي في هذا الصدد هو وجود دول وشعوب ماتزال نخبها الحاكمة والمتحكّمة غير قادرة أو راغبة في تفهّم وتقبل هذه الأمور والسعي للتعامل معها على نحو أفضل، نخب تتطلّب مصالحها الفئوية الضيقة عزل شعوبهاعن العالم ما أمكن، وتكريس الجهل والفقر بينها. إن الخيارات الداخلية لهذه النخب وصمت الشعوب الطويل حيالها هي العامل الأساس في إضعافها وتهمّيشها مما يجعلها عرضة للتدخّل والتلاعب الخارجي من قبل الدول والنخب الأقوى.

إن الإصرار على رفض هذا المنطق مقابل التمسّك بنظرية المؤامرة هي طريقة للتهرّب من المسؤولية كما ذكرنا، الأمر الذي يساعد النخب على تكريس سيطرتها، ويعفي الشعوب من ضرورة المواجهة إلى أن تفرض المواجهة نفسها بشكل عشوائي وفي غياب كارثي للرؤى والأدوات اللازمة لإدارتها.

(4)

أما فيما يتعلّق بالطبقات الوسطى والفقيرة والمعدمة، فبسبب حجمهم الديموغرافي الكبير، علاوة على تنوّعها الثقافي والإثني والديني والسياسي المذهل، وقوة انتماءاتها في هذا الصدد على وجه الخصوص، ففي غياب حكومات ديموقراطية الطابع، يستحيل على هذه الطبقات أن تنظّم نفسها على نحو فعّالٍ وكافٍ يسمح لها بالتعويض عن فساد واستبداد وإهمال نخبها الحاكمة والمتحكّمة، وإيجاد وسائل للمشاركة في صنع القرارات المحلية والدولية المؤثّرة في ظروفها المعيشية وفي تشكيل مستقبلها. ولايمكن في هذا الصدد حتى لتلك الثقافة العالمية المشتركة، بآمالها وتطلّعاتها، التي تشكلت تحت تأثير الثقافة الاستهلاكية العالمية أن تفعّل عمليات التعاون عابرة الحدود ما بين هذه الطبقات على نحو يمكن له مساعدتها على التأثير في مجريات الأمور.

مشكلة النظام العالمي إذاً ليست مسألة تآمر سافر، بل مسألة ظروف وشروط تتوفّر للبعض ولا تتوفّر للبعض الآخر جرّاء طبيعة التفاعلات الإنسانية المألوفة إياها ومنذ أبد الدهر.

فمن منا مستعد للتخلّي طوعاً عن المكاسب والمنافع التي جاءته بحكم ولادته في طبقة معينة أو نجاحه في الانخراط فيها؟ نعم، بوسعنا أن نستنبط المبادئ السامية حول الحقوق والواجبات، لكن تحويلها لهواجس ودوافع أمر آخر تماماً، ومن هنا ينبثق النفاق، وكلنا بشكل أو آخر مذنبون.

تفسير الأمور والمجريات من منطلق التآمر لاينفع، فكل ما يجري في عالمنا هذا ما هو إلا تعبير عن مكنوناتنا وطبيعتنا الإنسانية إياها. لذا، التغيير الحقيقي لا يبدأ إلا من هنا، من الذات. ومع الوقت، سيكون لهذا التغيير تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية إلى أن نصل إلى تلك النقطة الحرجة التي تسمح بالانعطاف وتغيير المسار وفقاً لرؤية ما، أو، بالأحرى، لإطار فكري ما تشكّل من خلال تواصلنا وتفاعلاتنا، السلبي منها والإيجابي.

صرخة العامة" للفنان التشيكي جوزف فاشال"

(5)

في السابق، كان الناس لا يتوحّدون  إلا في مواجهة عدو مشترك، لكن يبدو من الواضح أننا قد وصلنا إلى مرحلة في تاريخنا أصبح العدو المشترك الوحيد لنا فيها هو أنفسنا، هذا ما لم يأتنا عدو من الفضاء الخارجي. نعم، نحن عدونا الحقيقي اليوم، وتتجلّى هذه الحقيقة خاصة من خلال ذلك الميل فينا لتجاهل المضامين الحقيقة لوحدتنا في هذا الكون، وعلى هذه الأرض.

لكن الواقع، وحتى إشعار آخر، أننا بمفردنا في هذا الوجود، بمفردنا ككائنات ذكية وواعية بذاتها. لذا، نحن المسؤولون وأمام أنفسنا عن كل ما نفعل، وكل ما يُفعل باسمنا من قبل بعضنا، وكل ما يجري من حولنا، حتى إن لم يكن لنا علاقة مباشرة به. إذ، وحتى اللحظة، لا وجود لبديل لنا ولا لشريك معنا في هذا الوجود. الدنيا حقل تجاربنا نحن، وكل منا عالم وفأر في آن. إن في هذا الإدراك حرية عظيمة وعبء كبير.

الأحد، 5 يوليو 2015

ملاحظات حول الظلم والحرية

أبطال الثورة – لوحة ديجتالية لـِ عمار عبد الحميد من سلسلة “عن الحرية والثورة” حقوق الطبع محفوظة

(1)

عقلية الضحية

يشكّل الاقتناع المستمر لكل شعب وجماعة من شعوب وجماعات منطقتنا الشرقأوسطية بإنهم أبداً ضحايا لظلم الآخرين لهم إحدى المشاكل العويصة التي تواجهنا في المنطقة اليوم. إذ لا يبدو أنه بوسع أي من مكوّنات المنطقة الديموغرافية، بصرف النظر عن كيفية تعريفها، سواء كان دينياً أو قومياً أو قبلياً أو سياسياً، أن ترى الظلم الواقع منها أو الممارس باسمها، ولا أن تعترف بأية مسؤولية لها فيما تعرّضت له من ظلم، سواء من خلال التقصير، أو سوء الإدارة، أو تفشّي الجهل، أو تبنّيها لقوالب فكرية وسياسية جاهزة أو مستوردة بلا أية مراجعة حقيقية لها، إلى آخره من أسباب. لا. شعوبنا فيما يبدو بحاجة ماسّة لتشعر بأنها مظلومة دائماً، وأن الظالمين فيها عملاء كلهم، أو مستعمرون، شخصيات فاقدة الانتماء لم تفرزهم بيئاتنا أو ثقافاتنا المحلية، بل هبطوا من المريخ، أو خرجوا إلينا من غياهب الأرض.

إن التعامل مع الأمور بهذه العقلية يعفي الناس من مسؤولية تغيير ما بأنفسهم على كل الأصعدة، النفسية منها والاجتماعية والسياسية والفكرية، وهو لعمرنا تحدّ صعب، وليس من المستغرب على الإطلاق أن يتهرّب الناس من مواجهته، وإن بقى ذلك مستهجناً وعدمي المفعول. وإن كان بعض الناشطين السوريين قد أثبتوا في مطلع الثورة أنهم قد بدأوا بالتنبّه إلى مخاطر هذه العقلية، إلا أن عنف القمع الذي مارسه النظام الأسدي ومنهجيته سرعان ما أجبر معظمهم على الارتكاس إلى العقلية ذاتها.

أو هكذا يمكن أن يخيل لنا للوهلة الأولى. لكن السبب الحقيقي وراء هذا الارتكاس هو فشلنا في تأسيس منظور فكري جديد يسمح بتعليل وتحليل وتطوير ذلك الإحساس المبهم بضرورة الانتفاض والتغيير الذي حرّك بعضنا يوماً ودفعهم إلى الثورة خالطين ما بين الرؤى والشعارات، ودون أن يكون في حوزتهم الأدوات الفكرية المناسبة لفهم كنه دوافعهم وإدارتها بالشكل المناسب، ولتحليل وإدارك المضامين الحقيقية لحراكهم.

إذ تبقى معركتنا من أجل تحرير وتطوير وتنمية أنفسنا ومجتمعاتنا معركة فكرية بالدرجة الأولى، ونحن ما نزال في بداية الطريق. وعلينا، إذا ما أردنا النجاح في التصدي لصعوباته وعقباته، أن نتنبّه إلى خطر الوقوع في فخ الأدلجة من جديد. فنحن لسنا بحاجة إلى إيديولوجيات جديدة، بل إلى أدوات فكرية جديدة تسمح لنا بكسر الموجود منها وفتح عقولنا على ضرورة الإبداع والتجديد بشكل مستمر.

(2)

الاعتداء والظلم

علينا أن نفرّق في معرض كلامنا عن الظلم ما بينه وبين الاعتداء أو الجريمة. فالاعتداء أو الجريمة ظاهرة لحظية استثنائية، أو، لنكن أكثر دقّة، ظاهرة قصيرة الأمد من مثل الاغتصاب أو السطو أو بعض أعمال الشغب. وقد تكون هذه الظاهرة متكرّرة، بل منظمّة أيضاً، لكن غياب البعد السياسي يحدّ من تأثيرها ويميّزهاعن الظلم، ويسمح للمجتمع والدولة بمكافحتها ومعاقبة مرتكبيها بشكل فعّال نسبياً، بحيث تبقى استثناءاً لقاعدة الحياة اليومية.

لذا، وعلى الرغم من انتشار ظاهرة الإجرام في الدول والمجتمعات الديموقراطية ، لا يمكننا موضوعياً أن نصفها بالظالمة، إلا، ربما، فيما يتعلّق بتعاملها مع بعض الشرائح الاجتماعية، أو فيما يتعلّق بسياساتها الخارجية.

أما الظلم، فهو عملية مستدامة ومنهجية، تكرّس نفسها من خلال مؤسّسات الدولة والمجتمع، حتى يصبح الواقع الحياتي معرّفاً ومحدّداً بها، وتصبح هي القاعدة، لا الاستثناء كما هو الحال مع الجريمة. بل، غالباً ما يؤدي تفشّي الظلم إلى تزاوج ما بينه وبين الجريمة المنظّمة، كما كان حال النظام الأسدي في سوريا.

(3)

شراكة الظالم والمظلوم

لا وجود لظلم مطلق ، خاصة على المستوى الجمعي. فالظلم ظاهرة تعاونية وتشاركية يساهم فيها الظالم والمظلوم على حد سواء، وإن بأساليب مختلفة. فبشكل أو آخر، لجميع قاطني الدول الاستبدادية مساهماتهم الفاعلة في الظلم الواقع عليهم، والممارس غالباً باسمهم. وغالباً ما تبدأ مساهمة المظلوم في الظلم الواقع عليه بصمته في وجهه، لكنها كثيراً ما تتعدّى ذلك إلى انتقاد من يرفض الصمت، ومن ثم نبذه، بل قد يلجئ البعض أحياناً إلى تهديد هذا العنصر المشاغب، أو التبليغ عنه، أو التجسّس عليه لصالح الأجهزة القمعية.

نعم، بشكل أو آخر، وبعد اللحظة الأولى لوقوعه علينا، والتي غالباً ما تأخذنا على حين غرة، أو بعد اللحظة الأولى لتنبّهنا أن هناك ظلماً صادر منا بشكل أو آخر، أو ممارس باسمنا، نصبح كلنا شركاء في الظلم، لا ضحايا له، وذلك بخلاف ضحايا الاعتداء والجريمة الذين لا يتحملون مسؤولية ما جرى لهم، لا قانونياً ولا أخلاقياً، إلا في بعض الحالات استثنائية.

(4)

* لا يمكن للإنسان الحرّ أن يَظلم قصداً وعمداً، تماماً كما لايمكن له أن يُظلم إلى الأبد، فالحرّ لايسكت عن الظلم.
* الظلم استعباد للظالم والمظلوم معاً ما رضي كلاهما به من خلال التسليم بكونه قانوناً طبيعياً، أو قدراً لايغيّره إلا المقدّر له.
* الحرّ قدر نفسه. نعم. إن كنا أحراراً، فنحن القدر.

(5)

الأطفال والإجرام

قد يكون الأطفال الذين وقعوا تحت استغلال بعض البالغين لهم، وقاموا بارتكاب الجرائم والانتهاكات، ضحايا هم أيضاً، خاصة من الناحية الأخلاقية. ولن يتوقف هؤلاء الأطفال عن كونهم ضحايا حتى يتم تحريرهم، ومن ثم إعادة تأهيلهم، فيروا ويقتنعوا بأن ما قاموا به كان اعتداءاً وإجراماً، وأنه في جوهره استثناء مرفوض قانونياً واجتماعياً وأخلاقياً، وليس هو القاعدة الناظمة للعلاقات ما بين البشر، كما تمّ تثقيفهم في السابق. ويعني هذا الأمر من الناحية العملية أنه ينبغي حتى على الأطفال أن يعترفوا بأخطاءهم ويتحمّلوا وزرها لكي يعدّوا ناضجين ويتوقّفوا عن كونهم ضحايا.

من هذا المنطلق تفرض المجتمعات عقوبات قانونية خاصة بالأطفال، فما بالنا بالبالغين العاقلين الراشدين.

فحوى القول: شعوبنا المعاصرة لم تبلغ سن الرشد بعد، ولن تبلغه إلا من خلال ما نمرّ به من تجارب عصيبة، هذا إن نجحنا في استخلاص الدروس المناسبة منها.

(6)

المواجهة مع الظلم ليست عملية تحرير بل عملية تعديل، فالحرية حالة نفسية وذهنية، وعلى المرء أن يكتسبها أولاً ليصبح قادراً على تعديل موازين القوى المؤثّرة عليه ليحقّق العدالة ويتوّصل إلى المساواة.

(7)

لا يناضل العبد من أجل التحصّل على الحرية بل ليصبح هو المستعبِد، فمفهومه الثنائي للوجود لا يسمح له بإلغاء العبودية لأن في ذلك إلغاء له أيضاً. فالناس بالنسبة له صنفان: إما مستعبِد أو مستعبَد.

أما الحرّ فيناضل من أجل الحفاظ على حريته، لا لكسبها، ولتحقيق العدالة والمساواة.

(8)

من لم يتحرّر عقله لن يتحرّر جسده. ومن كان عاجزاً عن تحرير عقله، فلن يؤدي نجاحه في تحرير جسده إلا إلى بروز طاغية جديد على الساحة المكتظة أبداً بهم.


السبت، 15 مارس 2014

أزمتنا اليوم


هناك الكثير من الخبراء العقلانيين من صفوف اليمين واليسار ممن تتميّز تحليلاتهم السياسية للأزمات المختلفة التي تجري من حولنا بالذكاء في معظم الأحيان، ومع ذلك، يبدو أن معظمهم يغفل لسبب أو آخر التعامل مع القضية المحورية التي تواجهنا اليوم وتلك النزعة التي تحرّك كل الأحداث في هذه المرحلة: حقيقة أنه عندما تقوم نخبة حاكمة في مكان ما بارتكاب جرائم وانتهاكات كبيرة دون أن تتعرّض للمسائلة والعقاب في هذه المرحلة من صيرورتنا التاريخية، فأن هذا الواقع سيمهّد مع الوقت طريقنا إلى فوضى واسعة النطاق قدارة على تشكيل تهديد وجودي للبشرية جمعاء.

إذ لايمكن لأساليب إدارة الأزمات التي استخدمناها في القرون الماضية، بما فيها القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى القرن العشرين، أن تساعدنا على التعامل بشكل ناجع وفعّال مع التحديات التي نواجهها اليوم. لا وجود لأمم حصينة اليوم، ولا يمكن لأي شعب أن يحمي نفسه من تبعات بعض الأزمات التي قد تبدو لوهلة محلية الطابع. لا وجود في عالمنا اليوم لأزمات محلية إلا فيما ندر، لقد أضحت معظم الأزمات التي ينبغي علينا التعامل معها اليوم عالمية الوقع والتبعات، لأن الإنسانية، وعلى الرغم من كل الحدود الكائنة وتلك التي يتمّ تصنيعها بشكل أو آخر، أضحت متوحّدة الحال، خاصة فيما يتعلّق بالتطلّعات والرغبات الأساسية للشعوب والمجموعات والأفراد المكونيين لها. لقد أضحت أقدارنا أكثر ترابطاً وتخالطاً مما كانت عليه في أي وقت مضى. هذه هي النتيجة الطبيعية لعولمة بدأت مذ بدأت الخليقة.

لهذا نجد أنفسنا اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى تكوين رؤية عالمية ونظام عالمي عادل وواضح المعالم ليساعدنا على إدارة شؤوننا من خلال مؤسّسات عالمية تعمل وفقاً لإطر ديموقراطية وشفافة لتحقيق التطلّعات ولحفظ النظام في كل زاوية وبقعة. لقد آن أوان البدء بالتفكير وبشكل جدّي بكيفية إنشاء حكومة عالمية تساعدنا على إدارة التحديات التي تواجهنا اليوم والذي لم نعد نملك فيه رفاهية التعامل مع طرح هذا النوع من خلال قصص الخيال العلمي وحسب، لإن كل أزمة تواجها اليوم من صراع الهويات، إلى سياسات الطاقة، وتجارة المخدرات والرقيق، والكوارث البيئية المختلفة، تشير بوضوح إلى العجز ذاته: غياب المؤسّسات الحاكمة والعادلة التي يمكننا اللجوء إليها وقت الأزمات أو لكي نتجنّب الوقوع في الأزمات أساساً. لكن لا يمكن للأفكار التي لاتجد من يتبنّاها أن تزدهر، وهذا هو مصدر تشاؤمي في هذه المرحلة، إذ  ما زالت النخب السياسية الحالية الفاعلة على الساحة الدولية اليوم غير راغبة في مواجهة حقيقية الأزمة التي نمرّ بها، وبالتالي سنبقى نتصارع ونتخبّط، دون هوادة أو وجهة.