السبت، 31 يوليو 2010

الدولة الحديثة في منظوري الشخصي


الدولة، الدولة، الدولة – ذلك الكيان الغرائبي الذي يرغب الكل في رضاه وفي السيطرة عليه في آن، ذلك التجسيد الدنيوي للإله للمتعالي الذي يثيب ويعاقب، ويرحم ويعذّب على شروطه وهواه، بغض النظر عما نجده في النصوص الدينية والشرائع، فللناس على أرض الواقع، لافي مجتمعاتنا الشرقأوسطية فحسب بل وفي شرائح اجتماعية كثيرة في المجتمعات الأكثر الديموقراطية، طريقة في التعامل مع الواقع تختلف جذرياً عن المثل التي تدّعيها يغلب عليها طابع الاستبداد، الأمر الذي غالباً ما ينعكس على رؤيتهم السياسية للأمور، مما يحوّل الدولة إلى مركز تجاذبات واصطفافات واستقطابات سياسية لاتنتهي.

لكن، وإذا لم يكن للدولة مهرب من التعامل مع كل هذه الضغوط حتى في حالة المجتمعات الأكثر وعياً فيما يتعلّق بالمثل والقيم الديموقراطية والحداثية، أرى، مع ذلك، أن الوقت قد حان للفصل مابين الدولة والعقائد بشكل عام، سواء كانت سياسية أو دينية، والنظر إليها كمؤسّسة خدمية خالصة منوطة بوظائف ومهمّات بعينها تهدف إلى تحقيق مصالح عامة والحفاظ على الحقوق الخاصة مع الاستيعاب المستمر لواقع دائم التغيّر، دون الدخول بشكل مباشر في الأزمات الناتجة عن صراعات عقائدية بحتة لتنتصر لفريق على آخر. 

ومن هذا المنطلق أرى أنه ليس من وظائف الدولة أن تقرّر ماهية الفكر الذي يجب مكافحته أو مساندته، فللدولة أن تتعامل مع الممارسات فقط، وذلك على أساس قبولها الواضح والصريح بمبدأ الحريات الفردية كحرية الرأي والتعبير والتجمّع، إلى غيرها من الحريات المنصوص عليها في الشرعة العالمية لحقوق الإنسان وغيرها من الاتفاقات الدولية. وبالطبع، لن يكون من السهل دائماً على الدولة أن تحدّد الخطوط الفاصلة ما بين الفضاء العام الذي يُسمح لها بالعمل فيه وتنظيمه، والفضاء الخاص الذي يتوجّب عليها الابتعاد بل الدفاع عنه، لكن تبقى هذه ماهية التحدّي الأساسي في علاقة الدولة مع مواطنيها بميولهم وأفكارهم المختلفة. وهذا التحدّي يواجه كل الدول سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، لكن لطريقة الدولة في التعامل مع الحريات الأساسية لمواطنيها انعكاساتها الحقيقية والمحسوسة على نوعية الأفكار المنتشرة بين صفوفهم. فهل كانت الأفكار المتشدّدة والظلامية لتنتشر في سورية مثلاً لو لم يكن النظام الحاكم فيها استبدادياً وفاسداً؟ وأليس بوسعنا أن نجد روابط واضحة ما بين الخطاب الإيديولوجي العلماني اليساري القومي الذي استخدمه النظام لتبرير سلطته، وتلك الأفكار التي تبنّتها الكثير من الشرائح المتضرّرة من سياسات النظام المستندة إلى هذا الخطاب؟ ألا يكفينا هذا درساً حول أهمية عدم إقحام الدولة في عمليات الاصطفافات الفكرية والإيديولجية والعقائدية في المجتمع؟ وألا يوجد في تاريخنا الطويل أدلّة كثيرة حول صعوبة إختفاء الأفكار من مجتمعاتنا بعد نجاحها في اجتياز مرحلة جنينية معينة؟ وألا يعني هذا أن الدور الأساسي للدولة، عندنا على الأقل وفي هذه المرحلة الحرجة من تطوّر وعينا المجتمعي والسياسي، هو إيجاد صيغ تعايش وتفاعل سلمي بين مكوّنات فكرية متناقضة ومتناحرة، صيغ تمكّنها من تفعيل الطاقات الخلاّقة لهذه المكوّنات على الرغم من تناقضاتها، أو ربما استناداً إلى تناقضاتها، بما يكفل انطلاق واستدامة عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والدولتية؟

ربما تكون السياسات الديكتاتورية الطابع لمصطفى كمال قد نجحت في تكوين تيار علماني شعبي في تركيا، ولكن، هاهي التيارات الإسلامية تعود فتفرض نفسها على الساحة وبوسائل ديموقراطية وقانونية الطابع، في معظم الأحيان، متحدّية وبقوة التُركة الكمالية في تركيا وعلى جميع الأصعدة. وإذا كان هناك بعض التلاعب من وراء الكواليس، فهو لا يقارن بحجم التلاعب الذي جرى من وراء وأمام الكواليس أبان الحكم الكمالي. ومايزال السؤال المتعلّق بدور الإسلام في تحقيق الهوية التركية مطروحاً وبقوة على الساحة التركية بالنسبة لأغلبية الأتراك، ومن الواضح أن كل الأجوبة الممكنة على هذا السؤال، من أكثرها تشدّداً إلى أكثرها انفتاحاً على قيم الحداثة ماتزال واردة. لذا، ونظراً للفشل النسبي للتجربة الأتاتوركية ذاتها، ربما كان من الأفضل لنا تجاهل الدعوات التي تطالب بنسخها في دولنا ومجتمعاتنا ذات الأغلبية العربية، إذ لاتهدف هذه الدعوات في معظم الأحيان إلّا إلى تبرير وإحكام قبضة الإجهزة الأمنية والعسكرية على آليات صنع القرار في أوطاننا.

وفي الحقيقة، إن بثّ الحداثة، بقيمها ورؤاها وأدواتها، لايتطلّب بالضرورة تبنّي آليات عمل استبدادية وقمعية، والتجربة العملية في مجتماعاتنا عبر العقود الماضية هي خير دليل على إخفاق الأنظمة الحاكمة في هذا الصدد، بل ونفاقها، حيث أنها سرعان ما ارتكست، بغض النظر عن طبيعة خطابها الإيديولوجي ووعودها المتكرّرة فيما يتعلّق بالتطوير والتحديث والعلمنة، إلى انتماءات عشائرية بحتة وإلى تبنّي آليات عمل وسيطرة أدّت إلى تحطيم بنية المجتمع المدني، ناهيك عن بنية "الهوية الوطنية،" من خلال القمع المستمر والاستعداد الدائم لعقد صفقات فاوستية مع أكثر التيارات والحركات ظلامية في مجتمعاتنا. والكلام هنا ليس عن التيارات السلفية بالذات والتي تؤدّي المظاهر المترافقة معها إلى تركيز الأضواء عليها في وقت لاتكاد فيه طائفة أو فئة أو تيار فكري في مجتمعاتنا يخلو من أصحاب العقليات المتحجّرة والنفسيات المتكلّسة التي لاتنضب جعبتها من المبرّرات والمسمّيات التي ترفض من خلالها عملياً إنسانية الآخر وتبرّر الحاجة للقمع وتجد له كافة أنواع المسوّغات، براجماتية كانت أو دينية أو ثقافية أو قومية.

وإن كان هناك أية مبررات ومدلولات لما سبق من طرح فهو التأكيد على ضرورة أن يكون العمل من أجل الدمقرطة والانفتاح السياسي أولويتنا الأساسية في هذه المرحلة من تاريخ وعينا الحضاري، وأن نسعى إلى بناء أكبر تحالف ممكن للقوى الفاعلة على الأرض لنعمل سوية لتحقيق الديموقراطية والحرية في مجتمعاتنا، إذ ربما نتمكّن من خلال هذا العمل المشترك أن نبني قواعد وضوابط للعيش المشترك أيضاً على الرغم من كل خلافاتنا الفكرية.

وعود على بدء، يتلخّص دور الدولة الحديثة الأساسي في نظري في:

1) تقديم خدمات مختلفة مثل الإشراف على بناء وتطوير وتحديث وتوسيع البنى التحتية.
2) السعي إلى إيجاد معادلات وصيغ للتعايش السلمي بين الأطياف المختلفة المشكلة للمجتمع، والسعي إلى الحفاظ عليها وتطويرها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك لتبقى متسايرة مع المتغيرات والتطورات المجتمعية.
3) الدفاع عن الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات.
4) حماية الوطن ككل من أي عدوان خارجي أو تهديد داخلي لكيانه، سياسي كان أو عسكري أو إجتماعي أو اقتصادي.
5) تنمية العلاقات مع المجتمع الدولي.

إلى غيرها من هذه الأمور الوظيفية البحتة.

لكن ليس من وظيفة الدول فرض قيم فئة اجتماعية على أخرى باسم الحداثة أو الإسلام أو الأصالة أو الانتماء القومي أو غيرها من المسمّيات. إن بثّ ثقافة حداثية هو مسؤولية من يؤمن بها، تماماً كما أن بثّ الإسلام هو مسؤولية المسلمين، فالدولة لا دين لها ولا عقيدة أو إيديولوجية سياسية ولا انتماء قومي، ولا يجب أن تخضع لتجاذبات وإملاءات التيارت الفكرية المختلفة. إن الدولة الحديثة مؤسّسة خدمية صرفة، وليست مصدراً للهوية. وإذا بدا في هذا الكلام فصل للدين عن الدولة بالنسبة لبعض الإسلاميين، فالأمر أعمق من ذلك بكثير في الواقع، إنه فصل للإيديولوجية برمّتها عن الدولة لكي تبقى مؤسّسة تسعى لحفظ التوازنات وضمان الحقوق الأساسية لجميع الأطراف على الساحة، ولا تنتصر لطرف على حساب آخر إلا من خلال القوانين المتفق عليها لإدارة الفضاء العام المشترك بين الجميع.

السبت، 24 يوليو 2010

عن إشكالية النقاب في سورية


في متابعة لمسألة منع النقاب في الجامعات السورية لاحظت أن هناك من ينطق في هذا الأمر من منطلق الاحتكاك مع منقّبات تعرّضن للعنف والانتهاك المنزلي، ومن منطلق إيديولوجي نفسي ينظر إلى النقاب على أنه عنف ضد المرأة بحدّ ذاته وعلى أن المرأة المنقّبة معنّفة وضحية بالضرورة. من ناحية أخرى، يبدو أن هناك من ينظر إلى المسألة من منطلق الاحتكاك مع من هنّ مقتنعات بفكرة النقاب أصلاً ولم تتعرّضن لممارسات عنفية من قبل أب أو أخ أو زوج لقبوله، ومن منطلق القبول بالرأي الآخر وحقّه في التعبير عن قناعاته مهما تعارضت مع قناعات الناظر. لذا، فالانقسام ما بين مؤيّد ومعارض لهذه الخطوة يبدو أنه يعكس إلى حدّ ما هاتين الخبرتين الحياتيتين المختلفتين. هذا علاوة على وجود رؤية سياسية للأمور تنبع عن انتشار خلفيات سياسية لكلّ التطورات الداخلية السورية المتعلّقة بمسألة الدين والطائفة والقومية، الأمر الذي يعكس طبيعة التفاعلات القائمة بين المكوّنات المختلفة للمجتمع السوري في ظلّ تغييب مستمرّ للحريات العامة.

لكن، وقبل أن ندخل في نقاش وتحليل للمبادئ والأفكار، ربما كان من الأنسب أن نذكّر أنفسنا ببعض الحقائق التي غالباً ما يتمّ تجاهلها هذه الأيام. ومنها أن الفكر السلفي لم ينتشر عن طريق إقناع الرجال فقط، في حين تم فرضه فرضاً على النساء، ومنها أن ما كل رجل سلفي المذهب عنيف الطبع والطابع بالضرورة، لا من الناحية الجسدية ولا من الناحية النفسية. إن السلفية في جوهرها فكر ذو تركيبة معقّدة ورؤية حياتية متكاملة. ولقد انتشر هذا الفكر في الخليج وسورية وكافة بقاع العالم ضمن شروط سياسية واجتماعية اقتصادية معينة بالإقناع لابالسيف. وإذا كانت المساجد السلفية تموّل خليجياً في معظم الأحيان، فهذا لايعني أن الإغراءات المادية تلعب دوراً كبيراً في عملية الإقناع أو أن السلفيين موظّفين عند زعماء وقادة الخليج. نحن لانتعامل هنا مع شخصيات مأجورة أو كاريكاتورية، وإن بدت كذلك لبعضنا بسبب نوعية اللباس والمظهر العام وبعض الفتاوى الغرائبية المتعلّقة بها، هناك بشر تحت كل هذه المظاهر والعُقَد لايقلّون حباً لأنفسهم وأولادهم ورغبة في تحصيل السعادة والنجاح في هذه الحياة الدنيا من نظرائهم من أتباع الديانات والمذاهب الفكرية الأخرى. ومهما كان انطباعنا كعلمانيين عن الفكر السلفي سلبياً، ومهما كنا رافضين له، ومهما كانت معقّدة هي الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي يفرضها علينا وجوده، لايمكننا أن نتعامل معه فقط من منطلق كونه شرّ مستطير لابد من مكافحته بكل الوسائل بما فيها القمع القانوني والأمني. نعم، ربما كان السلفيون أو معظمهم ينظرون إلينا كعلمانيين من هذا المنظور، لكن هذا لايعني أن نجاريهم في ذلك وننقلب على أفكارنا المتعلّقة بالحريات الشخصية والديموقراطية، ونتمترس نحن بدورنا وراء رؤانا وعُقَدِنا الخاصة ونصطنع لأنفسنا عقلية سلفية مضادة، لاتقلّ رفضاً للآخر عن عقلية السلفيين ذاتها.

من ناحية أخرى، لايهمّ من أي مكان جاءت الأفكار السلفية، تماماً كما لايهمّ من أي مكان وفدت إلينا الأفكار الحداثية والعلمانية، إن هذه الإختزالية الجغرافية للأمور غير مفيدة على الإطلاق في حلّ المشاكل الناجمة عن التفاعل المتبادل ما بين التجمّعات المتبنّية لهذه الأفكار، بل تمثّل هذه الإختزالية مقاربة ضارّة يتمّ طرحها عادة بهدف الدفاع عن أصالة ما موهومة أمام غزو أفكار توصف على أنها "دخيلة" لابدّ من وضع حدود أمامها (وكأنّ هذا الأمر ممكناً) لحماية أنفسنا منها، وبهدف المترسة والاصفاف وراء خطوط حمراء استعداداً لمواجهات مقبلة، مواجهات ليست بالضرورة حتمية، أو على الأقل، عنفها ليس حتمياً، لكنها تكاد بعنفها أن تصبح بمثابة النبؤات ذاتية التحقيق.

الأفكار السلفية والحداثية باتت الآن جميعها موجودة على الساحة السورية ومطروحة فيها بالقول والمظهر والممارسة، ولن تغادرها لعقود بل ربما لقرون قادمة، تماماً كما أن الإسلام والمسيحية، أو أي من الطوائف والملل والقوميات المتواجدة حالياً على الساحة، لن تغادرها أيضاً. علينا أن ننظر إلى المسألة من هذا المنطلق، وعلينا أن نعترف بأن التحدّي القائم في الواقع هو تحدّي إيجاد صيغ عملية وفاعلة للتعايش السلمي بين تجمّعات بشرية تحمل أفكار وعقائد متضاربة ومتنابذة لن يقدّم أي منها أي تنازل جوهري فيما يتعلّق بعقائده وتقاليده. كيف نبني جسوراً للتواصل بين كل هذه التجمّعات؟ كيف نمنع اندلاع صراع له الكثير من المؤجّجين؟ وكيف يمكن لنا أن نجمع ما يبدو غير قابل لأي جمع لنقلب السحر على الساحر فيما يتعلّق بالعلاقة مع النظام الاستبدادي الفاسد المستفيد من وجود كل الانقسامات والذي يجيد التلاعب بها دائماً وتسعير الصراعات البينية الناجمة عنها؟ هذه الأسئلة تحدّد طبيعة التحدّي الحقيقي الماثل أمامنا والتي نحبّذ فيما يبدو تناسيها وباستمرار لصالح الانجراف وراء قضايا تفصيلية، قضايا هامّة بذاتها نعم، ولكن لايمكن التعامل مع أي منها بجدية وفاعلية في ظلّ التغييب المستمرّ للحريات السياسية والمدنية، وفي ظلّ التغييب المستمرّ للعمليات الاصلاحية الجذرية التي نحن بأمسّ إليها، وباختصار بسيط، في ظلّ وجود هذا النظام المسلّح بعقلية وتركيبة معينة لاتسمح بأي مجال حقيقي للمناورة على صعيد النشاط المدني الميداني.

فلو أراد النظام في سورية تحرير المرأة أو الوقوف ضد العنف الممارس تجاهها لتبنّى قوانين واضحة فيما يتعلّق بقضايا جرائم الشرف، والعنف المنزلي، وزيجات القواصر، واغتصاب الميراث، وقضية فرض الحجاب والنقاب بالقوة على النساء البالغات، إلى آخرها من جرائم وانتهاكات ترتكب بشكل يومي. وكان يمكن لهذا الأمر أن يصدر كسلسلة من المراسيم الرئاسية لن يملك مجلس شعبنا إلّا التصديق عليها، إن لم نقل بالإجماع فبلأغلبية الساحقة. لكن هذه القوانين لم تصدر، وأجرؤ أن أقول أنها لن تصدر. ماصدر كان مجرّد إرشاد يتعلّق بقضية ثانوية (إذا ما قسناها بالحجم الحقيقي لقضية حقوق المرأة في البلد) غير كافية لإثارة ردة فعل شعبية كبيرة، في الوقت القريب على الأقل، لكنها كافية لاستدراج المزيد من أنصار التيارات العلمانية الذين يتخوّفون من المدّ الديني الذي تشهده البلد والمنطقة، إلى صفّ النظام للاصطفاف خلف قيادته "الحكيمة،" أو تلك القيادة التي تمظهر نفسها على أنها أهون الشرّين. ولقد نجح النظام في ذلك إلى حدّ كبير، ممعناً في تفكيكه للمجتمع المدني في البلد بمؤسّساته الرسمية والشبه-رسمية، ولصفوف المعارضة ككل.



المشكلة هنا أن الكثير يتناسون أن النظام الحاكم في سورية ليس علمانياً، بغض النظر عما يتشدّق به رجالاته، ولم يهتم يوماً ببناء قيم أو مؤسّسات علمانية حقّة، ناهيك عن حقوق المرأة بالذات. لماذا؟ لأن رجالاته وشخصياته الفاعلة ليست علمانية، بغض النظر عن العقائد التي يتشدّقون بها وبصرف النظر عن خلفياتهم الطائفية والقومية. مشكلة رجالات النظام أنهم رجال، ونظرتهم للمرأة قد لاتختلف كثيراً عن نظرة المتشدّدين الإسلاميين إلّا في بعض القضايا التفصيلية المتعلّقة باللباس. أما فيما يتعلّق بالشرف، والمكانة الاجتماعية، وصنع القرارات المصيرية، فرجل البيت يبقى هو الآمر الناهي بالنسبة لغالبيتهم العظمى. إن مشكلة حقوق المرأة في سورية مشكلة ثقافية تعاني منها كل الطوائف والقوميات، وليس فقط المسلمين السنة أو السلفيين.

ما هي نسبة النساء المعنّفات في سورية من غيرالمنقّبات؟ أو من المسيحيات؟ أو الدرزيات؟ أو العلويات؟ أو الكورديات؟ أو الآشوريات؟ أو الأرمنيات؟ أو التركمانيات؟ لايوجد أية دراسة علمية في هذا المجال أو أي مجال لإجراء دراسية علمية حقيقية في هذا المجال في هذا البلد في هذا الوقت في ظلّ حكم هذا النظام. هناك فقط سلسلة انطباعات تكوّنت بناءاً على تجارب فردية لمجموعة من الناشطين، والذين تتفلتر انطباعاتهم عبر نظرتهم الخاصة للأمور، وهذا لايكفي لنقوم بتشكيل آراء قطعية في هذا الصدد. ولايجب أن نحصر طرح قضية حقوق المرأة في سورية دائماً بدين معيّن وتيار معيّن، ولايجب أن نتسامح كثيراً مع أولئك الذين يطرحون القضية من هذا المنطلق، خاصة في مجتمع مثل مجتمعنا ودولة كدولتنا في ظلّ نظام كنظامنا الحاكم حالياً حيث يلعب عامل الاصطفافات الطائفية والمناطقية دوراً كبيراً في تحديد نوعية القضايا المطروحة على بساط البحث العام وفي تحديد كيفية هذا الطرح.

ولأولئك الذين يهتمّون بحقوق المرأة، أقول أنه عندما يكون هناك تحرّك نسائي حقيقي من قبل منقّبات معنَّفات يهدفن إلى التخلّي عن النقاب وإعلان استقلالهنّ عن الأسر التي تعنّفهنّ، فعندها يحقّ لنا التدخل وبقوة القانون لنصرة ودعم هؤلاء النساء. ولقد قامت المسز أسد منذ سنتين على افتتاح ملجأ للنساء المعنّفات، وهذا أمر جيد، ولكن تحرّكها هذا يبقى خطوة أقل من بسيطة لمواجهة مشكلة كبيرة تعاني منها آلاف مؤلّفة من النساء من كل أنحاء البلد. لكن الخطوة كانت كافية بالنسبة للمسز أسد التي استغلّت هذا الأمر لتجميل صورتها وصورة نظام زوجها المصون. ومع ذلك نقول مبروك لكل النساء اللاتي استفدن من هذه الخطوة، و"هاردلك" للباقيات الصالحات المعنّفات، من منقّبات وغير منقّبات، ومن مسلمات ومسيحيات، علويات ودرزيات، عربيات وكورديات، إلخ.

من ناحية أخرى، من الصعب فهم كيف يدافع بعض الناشطين عن قرار منع النقاب في الجامعات السورية. هم يقولون أن النقاب بحد ذاته عنف يمارس ضد المرأة، ويقولون بأن أغلب المنقّبات لاخيار لهن في موضوع إرتدائه، وأنهنّ معنَّفات ولاحول لهنّ ولاقوة أمام الضغوط الذكورية المتعلٌقة باللباس والدين. إذا كان الأمر كذلك فعلاً، فالنتيجة المنطقية لقرار منع النقاب هو إغلاق الجامعات في وجه المنقّبات، كيف سيساهم هذا الأمر في تحريرهن؟ أليس هذا عنفاً آخر يمارس ضدهن؟ وألن يؤدي هذا القرار إلى زيادة عزلتهن، ويجعلهن أكثر عرضة لتأثيرات الأفكار السلفية إياها التي يخشاها الجميع؟ هل حرمان المنقّبات في الحالة هذه من فرصة الخروج من المنزل، حيث العنف والاضطهاد، كما يُقال، لعدة ساعات في اليوم، والاحتكاك مع من يمكن أن يقدم لهنّ رؤية مختلفة للعالم، أو دعم نفسي على الأقل، هل هذا الحرمان هو الطريقة الصحيحة للتعامل مع الموضوع، خاصة من قبل أولئك الذين ينادون بحقوق المرأة ويؤمنون بأن النقاب عنف ضد المرأة؟

في الحقيقة، يبدو أن هذا التعاطف مع القرار من قبل بعض الناشطين نابع من خوف من المتشدّدين الإسلاميين وفكرهم، وهو خوف مشروع بالطبع لأن أفكارهم تحمل الكثر من الرفض للآخر وفيها الكثير من العنف لاشكّ، لكن، ولهذا بالذات، نحن بحاجة للتعامل مع الأمر بحكمة وحنكة وعقلانية، وليس من مطلق ردود الأفعال العاطفية أو الرؤى المجتزأة للأمور. لقد أعمى الخوف بصائرنا فيما يبدو، الخوف من بعضنا البعض.

ويعكس مقال نشر بالإنكليزية في صحيفة "ذي ناشيونال" الإماراتية في 23 تموز (1) أحد جوانب عقلية الخوف المتعلّقة بانتشار النقاب. إذ يجادل فيصل اليافع، كاتب المقال، أن قرار حظر النقاب خفّف من الضغوط المتنامية على المرأة السورية لتبدي مدى التزامها الديني، وأفسح المجال لها بالتالي لتختار المظهر المناسب لها، هذا علاوة على أن المنقّبة أصبح عندها الفرصة الآن لإعادة ترتيب أولوياتها فتختار ما بين التعليم والمظاهر المتعلقة بالالتزام الديني. المشكلة في هذا التحليل هو تجاهله لانعكاسات هذا القرار على المرأة المنقّبة ذاتها التي سيساهم قرار الحظر في فرض المزيد من العزل عليها. من ناحية أخرى، إذا كانت المرأة المنقّبة ضحية للعنف المنزلي بالضرورة، كما يدّعي الكثيرون، فهذا يعني أن الخيار ما بين التعليم والالتزام بالنقاب لن يكون لها بل للذكور البالغين في العائلة، فالقرار من وجهة نظرها إذاً يخلق أزمة جديدة لها قد تؤدّي إلى حرمانها من التعليم، أو، على الأقل، إلى تزايد المواجهات اليومية المتعلّقة بالذهاب إلى الجامعة، مما يشكّل زيادة في العنف الممارس ضدها بالذات، علاوة على الإمعان في تهميش دورها فيما يتعلّق بالمشاركة في اتخاذ القرارت الأساسية في حياتها. فالقرار إذاً قد يخفّف ضغوطاً محتملة على بعض الشرائح النسوية، ولكن على حساب تزايد حقيقي لهذه الضغوط على المرأة المنقّبة بالذات. القرار إذاً ليس انتصاراً للمرأة المنقّبة بل عقاباً لها.

ويكشف مقال اليافع أيضاً جانباً آخر لارتداء النقاب ليس له علاقة بالفكر السلفي بالضرورة، وهو جانب اجتماعي واقتصادي. فواحدة من المنقّبات التي التقاها اليافع قالت أن النقاب بالنسبة لها طريقة لتحاشي التزيّن وكلفته العالية. فالمرأة المحجّبة في سورية لاتقلّ عرضة للضغوط الاجتماعية فيما يتعلّق بموضوع الزينة منها بموضوع الحجاب والنقاب، وهذا يشكّل عبئاً مادياً ونفسياً عليها. ومن الطبيعي أن منقّبة من هذا النوع لن تواجه أزمة نفسية كبيرة فيما يتعلّق بالتخلّي عن النقاب، لكن عودة الضغوط الاجتماعية والمادية المتعلّقة بالزينة لن يكون بالأمر السهل بالنسبة لها أيضاً، وإلّا لما اختارت النقاب أساساً، فالتقاب لايشكّل خياراً سهلاً بالنسبة لإمرأة تهتم بالزينة. إذاً، حتى في هذه الحالة، يأتي قرار حظر النقاب كعقاب للمنقّبة.

وفي الواقع، تبقى المرأة في مجتمعاتنا، سواء كانت منقّبة أو محجّبة أو سافرة، معرّضة لضغوط كبيرة ومتناقضة فيما يتعلّق بمظهرها الخارجي ودورها الاجتماعي، ولايمكن علاج هذا الموقف وتخفيف الضغوط الناجمة عنه من خلال إصدار قوانين وقرارات عشوائية. ولعلّ أحد العوامل التي تزيد الطين بلّة والوضع تعقيداً هو أن المرأة تلعب دوراً فاعلاً ونشطاً في عملية الضغوط الاجتماعية، فهي ليست ضغوطاً ذكورية بحتة، وإن ساهمت في خدمة العُقَد الذكورية المتعلّقة بالمرأة ونجمت عنها في معظم الأحيان، فالمرأة في مجتمعتنا سرعان ما تستبطن وتتمثّل ثقافياً الكثير من هذه العُقَد، متحوّلة من متلقّ سلبيّ للضغوط والإملاءات، وللعنف بشكل عام، إلى ممارس فاعل ونشط له. الوضع إذاً يتطلّب معالجة متأنية معمّقة وعقلانية، أي معالجة من ذلك النوع الذي لايمكن له أن يحدث في ظلّ النظام السياسي والاجتماعي القائم حالياً في سورية. فالحرية المطلوبة لإجراء تقييم ومعالجة من هذا النوع تتناقض جوهرياً مع الطبيعة الشمولية للنظام السوري.

ويتزامن قرار منع النقاب مع قرارات التضييق على المحجّبات عموماً في الوظائف الرسمية، وحملات اعتقال تعسفية ضد أعضاء التيارات الدينية طالت الآلاف حتى اليوم دون أية دلائل أو بوادر حول احتمال توقّفها في أي وقت قريب، والنتيجة: سورية تشهد اليوم فيما يبدو ولادة طائفة جديدة، الطائفة السلفية، سيصبح وعيها مجبولاً بعقدة اضطهاد الآخرين لها، وسيشبّ أبناؤها وبناتها على كره هؤلاء الآخرين وليس فقط التشكيك بأفكارهم والاختلاف معهم، وسينتظر الجميع اللحظة التاريخية المناسبة التي ستسمح لهم بأن يحرّروا أنفسهم ويثأروا من مضطهديهم.

إن حظر المظاهر المتعلّقة بالسلفية لن يؤدي إلى زوال الأفكار السلفية، ولايمثّل الطريقة الأمثل للتعامل مع التحدّي الذي يفرضه علينا تواجد هذه الأفكار على الساحة السورية والإقليمية والعالمية اليوم، ولن تؤدّي هذه المقاربات الانفعالية في الواقع إلّا إلى تزايد استبطان وتجذير وتعميق الأفكار والمبادئ السلفية في مجتمعاتنا.

ويبدو في الحقيقة أنا أصبحنا على وشكّ أن نتحوّل جميعاً إلى أقليّات في سورية، أقلّيات تعاني كلها من عقد اضطهاد، وتنتظر كلّها فرصتها التاريخية للثأر. لكن، وبعد عقود طويلة من الاستبداد، ربما كان تمثّلنا لخطاب وأخلاقيات ودوافع حكّامنا التاريخية أمراً طبيعياً.

حواشي:

(1) إحدى الملاحظات الأخرى حول مقال اليافع تنبع من تأكيده على أن النساء السوريات وافقن على قرار حظر النقاب، لكن،على ماذا يستند اليافع في تأكيده هذا في غياب أية إحصائية أو استبيان حول هذا الأمر؟ إن الانطباعات الشخصية المتكوّنة من بعض اللقاءات الخاصة لايكفي لدعم أي تأكيد من هذا النوع، ومما لاشكّ فيه أن الكثير من المنقّبات إن لم نقل جلّهن، لايوافقن على هذا القرار، ولاشكّ أن الكثير من أتباع التيارات الإسلامية سيجدن فيه اعتداءاً على فضائهم الخاص، ولقد أبدى الكثير من النشطاء العلمانيين السوريين، من يساريين وقوميين وليبراليين،رجالاً ونساءاً، في الداخل والخارج، أيضاً رفضهم لهذا القرار، لذا، يبدو من الواضح أن تأكيداّ من هذا النوع يبقى غير مبرّراً على الإطلاق.



الثلاثاء، 20 يوليو 2010

عن النقاب والعنف وخيارات المرأة


ما كل المنقبات والمحجبات معنفات وضحايا، فللمرأة خيارات فيما يتعلق بالحرية الشخصية لاتقل تعقيداً عن خيارات الرجل، ولعل في إصرارا مسلمات الغرب على ارتداء الحجاب أو النقاب بالرغم من الانطباعات السلبية المتعلقة به هناك ووجود فرص كافية لهن للتمرد لو شئن دليل واضح على تعقيد هذه المسألة، فكفوا عن تبسيط الأمور وفرض الوصاية على المرأة باسم تحريرها. منع الحجاب أو النقاب لايقل امتهاناً وانتهاكاً للمرأة من فرضه عليها.