الأحد، 19 يوليو 2015

مبادرة لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا: النسخة المعدلة


فيما يلي نص النسخة المعدّلة لـِ "مبادرة ثروة لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا" والتي طرحت رسمياً في 30 حزيران 2015. تم تعديل المواد الأساسية للمبادرة بناءاً على الحوارات، الخاصة والعامة، التي دارت مع مجموعة كبيرة من الخبراء والنشطاء والمعارضين السوريين. ويجري العمل حالياً على التحضير لطرح هذه المبادرة على نطاق عالمي أوسع (English Version).

مقدمة

تهدف المبادرة المقترحة هنا إلى تحويل النزاع في سوريا من صراع عسكري مدمّر إلى عملية سياسية يمكن من خلالها للأطراف الداخلية والخارجية المختلفة الاتفاق على ترتيبات إدارية مرحلية تسمح لكل طرف داخلي بالبدء بإعادة بناء ما تهدّم في منطقته، وإعادة توطين اللاجئين وتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين، وذلك بمساعدة القوى الداعمة له على الصعيد الإقليمي والدولي. وفي هذه الأثناء يمكن للمباحثات المتعلّقة بالوضع النهائي للبلد من الناحية الإدارية والسياسية والقانونية والدستورية أن تبدأ، وإن امتدت لسنين.

وتتلخّص المبادرة بالبنود التالية:

1.  يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على خطوط واضحة لوقف إطلاق النار تفصل ما بين المناطق الخاضعة للأطراف الداخلية المختلفة، واعتماد كل منطقة مرحلياً كوحدة تابعة للطرف المعني يديرها بحسب توافقات داخلية محددة. ويأتي هذا الترتيب الجديد كجزء من استمرار لالتزام الأطراف الداخلية والخارجية المختلفة بوحدة الأراضي وسيادة الدولة السورية.
2. يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على بنود واضحة للتعاون ما بين الوحدات الجغرافية المختلفة الخاضعة لسيطرتهم في عدد من المجالات الحيوية، خاصة فيما يتعلّق بالقضايا الأمنية والاقتصادية، وآليات التنقّل ما بين الوحدات، وإدارة العلاقات القائمة ما بين المكونات والشرائح الاجتماعية المختلفة في كل منطقة.
3. يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على تحييد دور دمشق في الصراع عن طريق تأسيس حكومة مرحلية حيادية يشارك فيها ممثلين عن الأطراف المختلفة تدير شؤون المدينة ونواحيها تحت إشراف لجنة دولية أممية معينة من قبل مجلس الأمن. ويفضل إعطاء المسؤول الأممي المشرف على الشأن السوري صلاحية تشكيل هذه الحكومة بالتشاور مع كافة الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية.
4. يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على تنصيب رئيس مرحلي في دمشق، لفترة غير قابلة للتجديد، لا تقل عن سنتين ولاتزيد عن خمس سنوات، يتصف بأنه قادر على بناء الإجماع ما بين الأطراف المختلفة، تكون مهمّته الإشراف على عمل الحكومة المرحلية وعلى المباحثات ما بين أطراف الصراع، والعمل على تنسيق المساعي الإقليمية والدولية في هذا الصدد، في حين يبقى بشار الأسد مسؤولاً عن إدارة المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات الموالية له، وعلى تمثيل تلك الشرائح التي ماتزال تعتبره ناطقاً شرعياً معبراً عن مصالحها.
5. عند الضرورة، يمكن لأطراف النزاع الاتفاق على التبادل السلمي لبعض المناطق والسكان ما بين الأطراف المختلفة حفاظاً على أمن جميع الشرائح والمكونات الاجتماعية والثقافية. وبسبب الصعوبات المتعلّقة بعمليات تبادل السكان، لابد وأن ينبثق القرار المتعلّق بالرحيل من المكونات المتأثرة. علاوة على ذلك، ينبغي تقديم تعويضات مالية وعينية (مثل السكن) مناسبة إلى كل المتضررين وخلال إطار زمني منطقي.
6.  يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على دعوة قوات حفظ سلام مشكّلة من دول محايدة لمراقبة خطوط التماس المرحلية، والنقاط الحدودية، والمطارات والمرافئ الدولية، لمنع وقوع أية خروق لاتفاق وقف إطلاق النار، ولتسهيل التنقّل ما بين المناطق المختلفة، ولمنع تدفق المقاتلين والأسلحة من وإلى سوريا، إلا بحسب الاتفاقات الموقّعة من قبل أطراف النزاع.
7.  يمكن لكل طرف من أطراف النزاع في المرحلة الانتقالية أن يحتفظ بمجموعاته المقاتلة شرط تفريغها من العناصر الأجنبية بالتدريج وفقاً لجدول زمني محدّد، ولا يجوز للأطراف التحايل على ذلك عن طريق التجنيس و/أو منح الإقامات.
8.    ينبغي على الحكومة المرحلية احترام كافة العقود والاتفاقات التي عقدها النظام حتى تاريخ إعلان هذه المبادرة.
9.  يتوجّب على أطراف النزاع حظر خطاب التحريض والكراهية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، واحترام قداسة كل المعابد والمؤسسات الدينية، والصروح ذات الأهمية التاريخية، وعليهم توفير الحماية لكافة الحجاج والزوار القادمين من داخل أو خارج البلاد.
10. يتوجّب على كافة أطراف النزاع، ما أن تم التوقيع على هذا الاتفاق في صيغته التفصيلية النهائية، توجيه وتنسيق جهودهم لمحاربة المجموعات الداعمة للإرهاب الدولي والتي بنت لنفسها مقرات وبسطت سيطرتها على أراضٍ سورية. ويتوجّب في هذه المرحلة على جميع الأطراف أن تفرج عن كافة المعتقلين السياسيين، وأن تقدّم لوائح بأسماء من قضى منهم خلال فترة اعتقاله، وأن تفتح سجونها ومعتقلاتها للمراقبين العاملين في هيئات حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ليتأكدوا من امتثال الجميع لهذا الشرط.
11. تبدأ المرحلة الانتقالية مع تاريخ تعيين الرئيس المرحلي، وتنتهي عندما يستقيل بعد خدمة لاتقل عن سنتين ولاتزيد عن خمسة. ولاينبغي تجديد أو تمديد المرحلة الانتقالية. وينبغي على محادثات الوضع النهائي للبلد أن تبدأ وتنتهي خلال فترة حكم الرئيس المرحلي، وأن تتناول كل القضايا المتعلّقة بمستقبل سوريا، بما في ذلك وضع دستور جديد وطرحه للاستفتاء الشعبي، والبت في القضايا المتعلّقة بالعدالة الانتقالية. وعلى تاريخ انتهاء حكم الرئيس المرحلي أن يتزامن مع تاريخ استلام أول رئيس منتخب وطنياً في البلد لمنصبه. كما على تاريخ انتهاء حكم الرئيس المرحلي أن يتزامن أيضاً مع تاريخ انتهاء عمليات ونشاطات الحكومة المرحلية وبداية عمل الحكومة الوطنية الجديدة المنتخبة.
12.  ينبغي أن تخضع كل العمليات الانتخابية وكل الاستفتاءات التي تجري خلال المرحلة الانتقالية لرقابة الأمم المتحدة عن طريق هيئاتها المختصة.

تقتضي الموافقة على هذه النقاط الدخول في عملية تفاوضية لاحقة للاتفاق على التفاصيل المتعلَقة بتنفيذها، مثل تحديد هوية الرئيس المرحلي، وأعضاء الحكومة المرحلية، والاتفاق على هوية الأطراف الداخلية التي يحقّ لها المشاركة في هذه الحكومة وفي العملية التفاوضية اللاحقة، وتعيين الجداول زمنية وخطوط وقف إطلاق النار، إلى آخر ما هنالك من تفاصيل وقضايا. وتبدأ المرحلة الانتقالية من تاريخ توقيع الاتفاق النهائي، وهو أيضاً تاريخ تعيين الرئيس المرحلي بشكل رسمي.

(يمكن الإطلاع على الشرح التفصيلي لهذه البنود على الرابط التالي).


الخميس، 16 يوليو 2015

ملاحظات حول الطبيعة الإنسانية والنظام الدولي

شعارات للفوضويين في الغرب

ما يزال الكثيرون اليوم ينتقدون الغرب ككلّ، بحضارته وثقافاته واقتصادياته وسياساته، ويحلمون باندحاره وبسقوط النظام العالمي الذي وضع دعائمه، كل ذلك دون أن يقدم أحد رؤية ما لأيّ بديل عملي وعقلاني. بل، يبدو أن معظم المنتقدين هنا متصالحين تماماً مع فكرة أن الفوضى هي البديل الفعلي على المدى المنظور في حال تحقّق حلمهم وانهار الغرب.

الخراب ولا الغرب. إنها للعمر عقيدة غريبة، ولا يوجد ما يبرّر كل هذا الحقد الكامن في نفوس من يتبنّوها إلا الفشل والعجز والرغبة في التحصّل على ما لا يمكن للمرء كسبه بجدارة واستحقاق. فالخراب، إن تحقّق، هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها للبعض أن يبنوا أمجادهم: إقطاعيات صغيرة يكونوا فيها ملوكاً وليس مجرد طفيليين كما هو حالهم اليوم.

ولا فائدة تُرجى هنا من الصراخ "يا فوضويو العالم اتحدوا!" فهم، إن اتحدوا، فعلى الترهات والتفاهات والأوهام والأكاذيب. لكن الواقع أنهم لن يتحدوا أبداً، فهذا مخالف لطبيعتهم العقائدية في الصميم. وسيبقوا يتصارعون فيما بينهم على الفتات والأوهام. وفي أسوأ تجلياتهم وأكثرها عنفاً، لن يزيدوا عن كونهم  قتلة مأجورين، وإرهابيين، ولن يشكلوا أكثر من تحدّ أمني الطابع بوسع معظم دول العالم أن تحمي نفسها منه، بل وأن تستغلّه في صراعاتها مع الدول الأخرى من ناحية، ومع شعوبها من ناحية أخرى.

وفي هذه الأثناء، وبينما ينخرط فوضويو العالم في الأدلجة والمهاترات، ستستمر عمليات التحاصص ما بين القوى الفاعلة في الغرب والشرق، والشمال والجنوب، وسيستمر الدمار في أكثر من دولة ومنطقة في العالم. وتقع المسؤولية عن هذا الواقع المرّ على عاتق أقوياء العالم وحمقاه معاً.

من هو صاحب القرار هنا، من يدير العرض: الراقصة أم الطبال؟ أم كلاهما، لأن لا فرق بينهما، أو لأنهما يتناوبان على الدورين، فالظلم بطبيعته علاقة تفاعلية وتعاونية وتشاركية؟

إن كان ثمة محرّك لهذه التطورات الكلبية (السينيكية) فهي طبيعتنا البشرية إياها، بما فيها من مخاوف وأطماع ومصالح وغباء وعمىً إيديولوجي... هذه هي الطبيعة الحقيقية للمؤامرة القائمة. نعم، نحن المؤامرة والمتآمرون. نحن أصحاب القرار. نحن الراقصة والطبال.

من شعارات الفوضويين الإسلاميين

(2)

غالباً ما يحجّ أثرياء العالم، والكثير من أصدقائهم من ذوي النفوذ بحكم مناصبهم السياسية أو العسكرية، أو مكانتهم الاجتماعية، أو صفتهم الدينية، وبصرف النظر عن بلد المنشأ، إلى نفس الأماكن والبقع في العالم، بغرض العمل والمتعة، فتتقاطع دروبهم حتى في الوقت الذي تتضارب فيه مصالحهم، مما يعطيهم فرصاً أكبر للتنسيق، وللاختلاف، بشكل منظّم ومنهجي. وهو أمر تسهّله عليهم أيضاً قلّة عددهم النسبية.

وعلى الرغم من تنوّع خلفياتهم الثقافية والإثنية والدينية والسياسية، إلا أن الطبيعة الاستهلاكية للعالم، الذي ساهمت هذه النخب في بنائه، وماتزال تساهم في إدارته واستغلاله، أدت إلى تشكيل العديد من المؤسّسات التي تهدف إلى خدمتهم والتعييش منهم، سواء من خلال تقديم خدمات ومنتجات حصرية، أو تعديل بعض المنتجات الموجّهة للاستهلاك العام لتتلائم مع وضعهم الطبقي والذائقة الخاصة بهم. ومع الوقت، ساهمت هذه المؤسّسات في بناء ثقافة مشتركة تجمع هذه النخب وتعزلهم عن الطبقات الأخرى، بثقافاتها وهمومها. وقد يكون بوسعنا اليوم، من خلال دراسة وتحليل ثقافة النخبة وتفاعلاتها، التنبوء ببعض تصرفاتها وقراراتها على الأصعدة المختلفة، المهني منها والشخصي. وقد يساعدنا هذا الأمر أيضاً على تفهّم طبيعة مصالح النخبة ودوافعها.

لكن، ومن أجل فهمهم أكثر وأكثر، علينا أن نتعامل معهم كما هم: أي كأشخاص حقيقيين وليس كأشباح وخيالات. فنحن، في الحقيقة، نعرف معظمهم، فأقلية منهم فقط هي التي اختارت تجنّب الأضواء، ودور هؤلاء ليس أكبر أو أصغر بالضرورة من دور نظرائهم وزملائهم.

فمن هم إذاً أعضاء هذه النخبة الحاكمة والمتحكّمة في العالم؟

إنهم كبار رجال الأعمال والمستثمرين والمدراء التنفيذيين للبنوك والشركات النفطية والغذائية والدوائية والتقنية في العالم، وهم أيضاً جنرالات في الجيوش الكبرى في العالم، ورؤساء الدول العظمى وبعض الأنظمة الإقليمية. وبوسعنا أيضاً إضافة عدد لابأس به من الباحثين والخبراء والعلماء والفنانين والفلاسفة ورجال الدين إلى اللائحة.


ويمكن التعرّف على معظم هذه الشخصيات من خلال بحث بسيط على الإنترنيت. وما أن نفعل ذلك سنعرّف عن آراء وتصرفات بعضهم  ما يكفي لإثارة العديد من التساؤلات حول قدرتهم الحقيقة على حبك المؤمرات. فإذا كان منهم جورج سوروس، رجل الأعمال الديموقراطي الذي ساهم من خلال مؤسّساته الخيرية المختلفة بدعم عمليات التغيير الديموقراطي في أوروبا الشرقية، فإن منهم أيضاً دونالد ترمب، المليونير النرجسي صاحب التعليقات العنصرية والتحليلات السطحية الذي رشّح نفسه مؤخراً في الانتخابات الأمريكية ممثلاً عن الحزب الجمهوري.

وهناك، علاوة على ذلك، جيل جديد يبرز على الساحة اليوم، جيل بنى ثروته ونفوذه من خلال الإنترنيت، منهم مؤسّسو ومدراء شركات مثل جوجل والفيسبوك وآبل وأي. بي إم. وغيرها من الشركات التي أصبح بعضها أغني وأكبر من شركات النفط. وحتى اللحظة، يبدو معظم هؤلاء مشغولين أكثر بربط وتشبيك الدول والشعوب مع بعضها البعض عن طريق الإنترنيت، منهم بتأليبها وتحريضها.

(3)

مازال معظم الناس واقعين تحت سلطة الرؤية القديمة حول عمليات إدارة التفاعلات العالمية، التي كان التخطيط لها يجري سرّاً ووراء الأبواب المغلقة، كما كان الحال مع اتفاقية سايكس-بيكو. لكن التحوّل الديموقراطي الذي شهدته المجتمعات الغربية، وعدد من دول العالم، علاوة على ثورة المعلومات والمعلوماتية، قلبت الموازين، وأصبح كل شيء اليوم يجري في وضح النهار. وهاهي السيناريوهات المختلفة التي تضعها مراكز الأبحاث العالمية، المدعومة والمموّلة من قبل النخب المتنفّذة في العالم وحكومات الدول العظمى، تُنشر وتُناقش في العلن.

ويستند أغلب هذه السيناريوهات على استقراءات موضوعية إلى حد كبير للوقائع الحالية في محاولة للتنبؤ بالتطورات المستقبلية واقتراح الخطط المناسبة لتوجييها بما يخدم مصالح النخب والدول الداعمة. لكن اختلاف الآراء والرؤى والتوجّهات عند الخبراء والساسة وغيرهم كفيل دائماً بتعقيد الأمور، ويتجلّى هذا الأمر في تناقض طرق الاستقراء وتحليل الأمور، وتضارب النبوءات والمقترحات المقدمة.

وفي الواقع، نادراً ما تقوم الدول والنخب بتصنيع الحدث هذه الأيام، لكن، وإن فعلوا، فقد باتوا يقدمون على هذا في العلن أيضاً، كما كان الحال في العراق. ولنا في التخبّط الأمريكي هناك مؤشّراً ممتازاً على نوعية "المؤامرات" التي تحوكها حتى أكثر النخب ثراءاً، وقوة، وهيبة.

نعم، لقد أصبح لزاماً علينا اليوم أن نتخلّص من تلك العقلية المهترأة التي ماتزال تنظر إلى بعض الدول والشخصيات وكأنها قادرة على التحكّم بكل شيء، وتوجيه كل الأحداث من مواقعها في الظلال ووراء الكواليس. فالواقع أن كل القوى معرّضة للزلات والهفوات، لكن الأنظمة الديموقراطية الراسخة تبقى، من خلال مخزونها المعرفي والخبراتي واستنادها إلى إرادة شعوبها، قادرة على التأقلم وعلى احتواء الأزمات، وصولاً، في بعض الأحيان، إلى استغلالها وتوجيهها بما يخدم المصالح العامة والخاصة معاً.

النخب لا تتآمر اليوم، بل تخطط في العلن

هذا هو الواقع ببساطة، ولابد لشعوب منطقتنا، بنخبها وعامتها، أن تتعلّم كيف تواجهه وتتعامل معه كما هو، ودون اللجوء إلى تلك القصص الغريبة والمستهجنة حول ما يجري في مؤتمرات عالمية مثل دافوس وبيلدربيرج، وحول الماسونيين واليهود، وبعض شخصياتهم وعائلاتهم المعروفة مثل عائلة روثـشـيلد. فإذا كانت هذه العائلة تمتلك جزيرة خاصة بها، فالممثل ليوناردو ديكابريو وغيره من مشاهير العالم يمتلكون جزرهم الخاصة أيضاً. لقد أصبح هذا الأمر موضة عند الأثرياء والمشاهير، ولايمكن استخدامه كدليل على امتلاك أحد لمخططات تآمرية خاصة تختلف عما يجري من حولنا من صراع مصالح مفضوح وعلني.

لسنا بحاجة إلى تبهير الحقائق. إن من يدير هذا العالم، ومن أداره عبر التاريخ، هم بشر مثلنا، ليس منهم من يتمتع بقوى خارقة للطبيعة، أو معصوم، أو يُوحى إليه بأفكار ومفاهيم وحقائق لا يمكننا استخلاصها بأنفسنا فيما لو أمعنا التفكير. والأهم من هذا أننا، أي نحن البشر الذين لا ينتمون إلى الطبقات المتنفّذة ، نبقى، بشكل أو آخر، شركاء في عملية إدارة العالم، وذلك من خلال خيارتنا في الحياة، بما في ذلك الخيارات اليومية، وعمليات البيع والشراء، ومشاركتنا في الانتخابات والثورات، ومن خلال الفن، والتحليل والتنظير، إلى آخرها من وسائل.  فإن كان العالم المعاصر لا يعجبنا، فالعيب منا أيضاً، وليس فقط في النخب. التغيير إذاً يبدأ منا، وما الإيمان بنظريات المؤامرة والترويج لها إلا محاولة للتنصّل من هذه المسؤولية.

إن ما يجري في العالم اليوم، وما جرى عبر التاريخ، لا يزيد عن كونه عملية تنافس وصراع ما بين شخصيات ومجموعات ودول وكتل عدة حول الموارد الطبيعية المتوفرة، وكيفية استغلالها من حيث الإنتاج والنقل والتصنيع والتطوير والتسويق، وحول المنافع والخسائر التي يمكن أن تنجم عن تحصّل الجهات المختلفة على حصص ونسب أصغر أو أكبر من هذا كله. ولا تهدف محاولات استقراء المستقبل والتخطيط له من قبل بعض الجهات إلا إلى تمكينها من التأقلم وبسرعة مع المتغيّرات بغية تكريسها لصالحها وتوجيهها في الاتجاهات المناسبة لها.

ولا يشكّل أيّ من هذه الأمور بالضرورة حدثاً استثنائياً، أو إجرامياً، أو لاأخلاقياً، أو مخالفاً للشرعية الدولية، وإن أدى إلى ذلك في بعض الأحيان، أو الكثير من الأحيان. ولايمكن إدانة هذه النشاطات بذاتها، لأنها كانت وستبقى محور حياتنا اليومية. لكن بوسعنا، بل ينبغي علينا، أن نطالب بإدارتها بشكل أفضل، وبمزيد من الشفافية، وبطرق تحفظ حقوق الدول والشرائح الأضعف.

إن ما هو غير عادي واستثنائي في هذا الصدد هو وجود دول وشعوب ماتزال نخبها الحاكمة والمتحكّمة غير قادرة أو راغبة في تفهّم وتقبل هذه الأمور والسعي للتعامل معها على نحو أفضل، نخب تتطلّب مصالحها الفئوية الضيقة عزل شعوبهاعن العالم ما أمكن، وتكريس الجهل والفقر بينها. إن الخيارات الداخلية لهذه النخب وصمت الشعوب الطويل حيالها هي العامل الأساس في إضعافها وتهمّيشها مما يجعلها عرضة للتدخّل والتلاعب الخارجي من قبل الدول والنخب الأقوى.

إن الإصرار على رفض هذا المنطق مقابل التمسّك بنظرية المؤامرة هي طريقة للتهرّب من المسؤولية كما ذكرنا، الأمر الذي يساعد النخب على تكريس سيطرتها، ويعفي الشعوب من ضرورة المواجهة إلى أن تفرض المواجهة نفسها بشكل عشوائي وفي غياب كارثي للرؤى والأدوات اللازمة لإدارتها.

(4)

أما فيما يتعلّق بالطبقات الوسطى والفقيرة والمعدمة، فبسبب حجمهم الديموغرافي الكبير، علاوة على تنوّعها الثقافي والإثني والديني والسياسي المذهل، وقوة انتماءاتها في هذا الصدد على وجه الخصوص، ففي غياب حكومات ديموقراطية الطابع، يستحيل على هذه الطبقات أن تنظّم نفسها على نحو فعّالٍ وكافٍ يسمح لها بالتعويض عن فساد واستبداد وإهمال نخبها الحاكمة والمتحكّمة، وإيجاد وسائل للمشاركة في صنع القرارات المحلية والدولية المؤثّرة في ظروفها المعيشية وفي تشكيل مستقبلها. ولايمكن في هذا الصدد حتى لتلك الثقافة العالمية المشتركة، بآمالها وتطلّعاتها، التي تشكلت تحت تأثير الثقافة الاستهلاكية العالمية أن تفعّل عمليات التعاون عابرة الحدود ما بين هذه الطبقات على نحو يمكن له مساعدتها على التأثير في مجريات الأمور.

مشكلة النظام العالمي إذاً ليست مسألة تآمر سافر، بل مسألة ظروف وشروط تتوفّر للبعض ولا تتوفّر للبعض الآخر جرّاء طبيعة التفاعلات الإنسانية المألوفة إياها ومنذ أبد الدهر.

فمن منا مستعد للتخلّي طوعاً عن المكاسب والمنافع التي جاءته بحكم ولادته في طبقة معينة أو نجاحه في الانخراط فيها؟ نعم، بوسعنا أن نستنبط المبادئ السامية حول الحقوق والواجبات، لكن تحويلها لهواجس ودوافع أمر آخر تماماً، ومن هنا ينبثق النفاق، وكلنا بشكل أو آخر مذنبون.

تفسير الأمور والمجريات من منطلق التآمر لاينفع، فكل ما يجري في عالمنا هذا ما هو إلا تعبير عن مكنوناتنا وطبيعتنا الإنسانية إياها. لذا، التغيير الحقيقي لا يبدأ إلا من هنا، من الذات. ومع الوقت، سيكون لهذا التغيير تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية إلى أن نصل إلى تلك النقطة الحرجة التي تسمح بالانعطاف وتغيير المسار وفقاً لرؤية ما، أو، بالأحرى، لإطار فكري ما تشكّل من خلال تواصلنا وتفاعلاتنا، السلبي منها والإيجابي.

صرخة العامة" للفنان التشيكي جوزف فاشال"

(5)

في السابق، كان الناس لا يتوحّدون  إلا في مواجهة عدو مشترك، لكن يبدو من الواضح أننا قد وصلنا إلى مرحلة في تاريخنا أصبح العدو المشترك الوحيد لنا فيها هو أنفسنا، هذا ما لم يأتنا عدو من الفضاء الخارجي. نعم، نحن عدونا الحقيقي اليوم، وتتجلّى هذه الحقيقة خاصة من خلال ذلك الميل فينا لتجاهل المضامين الحقيقة لوحدتنا في هذا الكون، وعلى هذه الأرض.

لكن الواقع، وحتى إشعار آخر، أننا بمفردنا في هذا الوجود، بمفردنا ككائنات ذكية وواعية بذاتها. لذا، نحن المسؤولون وأمام أنفسنا عن كل ما نفعل، وكل ما يُفعل باسمنا من قبل بعضنا، وكل ما يجري من حولنا، حتى إن لم يكن لنا علاقة مباشرة به. إذ، وحتى اللحظة، لا وجود لبديل لنا ولا لشريك معنا في هذا الوجود. الدنيا حقل تجاربنا نحن، وكل منا عالم وفأر في آن. إن في هذا الإدراك حرية عظيمة وعبء كبير.

الأربعاء، 15 يوليو 2015

الأزمة اليونانية والنظام العالمي

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس في مؤتمر صحفي عقب محادثات

(1)

بعد ما تم التوصّل إلى اتفاق بخصوص أزمة الديون اليونانية يبدو جلياً الآن أن الهدف من كل المناورات والمهاترات التي شهدتها الأشهر والأسابيع الماضية هو التحصّل على أفضل صفقة ممكنة وفقاً لقواعد اللعبة ذاتها، وليس تغيير قواعد اللعبة.

لا يوجد ما يعيب في هذا، لكنه يدل على ضرورة التفريق بين ما يُقال وما يُراد. كما يدل أيضاً على طبيعة التيارات اليسارية التي توجّه خلالها الكثير من الانتقادات إلى النظام العالمي الحالي، بأبعاده السياسية والمالية والاقتصادية، ويأتي بعضها في محلّه بالفعل، لكن لا يبدو أنها تملك أية بدائل عملية له. ولاشكّ في أن الكثير من القيادات اليسارية في اليونان وغيرها يدرك هذا الأمر، لكن أغلب الناس لا يدركونه، وينساقون بالتالي وراء ما يُقال خالطين بينه وبين ما يُراد، وهنا لبّ المشكلة. إذ عندما لا يدرك الناس حقيقة ما يجري من حولهم، يصبحون عرضة للتلاعب، خاصة من قبل الشخصيات والتيارات الوصولية الشعبوية والمتطرّفة حتى العدم.

وتقع مسؤولية ما حدث في اليونان على عاتق الكثير من الجهات، منها شركة جولدمان ساكس وصندوق النقد الدولي وعدد من المصارف الأوروبية. لكن المسؤول الأكبر هي في الواقع الأحزاب السياسية والنخب الاقتصادية اليونانية على اختلاف مشاربها. إذ طالما تلاعبت هذه الجهات بالحقائق، فأخفت بعضها، وزوّرت أخرى، وكل ذلك بهدف الحفاظ على نفوذها وخطها السياسي على المدى القصير، دون الانخراط في أية محاولة جدية لتشكيل رؤى وسياسيات للمدى الطويل. فقد رأت هذه الجهات فيما يبدو في الانخراط في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فرصة ذهبية بذاتها، وأن مجرّد المشاركة فيهما ستؤدي تلقائياً إلى إنعاش الاقتصاد وتنمية الدولة والمجتمع. أي أنهم تبنّوا نسخة تنموية لمبدأ الانتثار الاقتصادي trickledown economics  التي جاء بها الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان والتي تنصّ على أن انخفاض العبء الضريبي وزيادة الاستثمار الحكومي في المجالات الاقتصادية المختلفة سيساهم في زيادة إنتاجية قطاع الأعمال، الأمر الذي سيساهم بدوره في زيادة فرص العمل، علاوة على زيادة أجور العاملين ورواتب الموظّفين. من هذا المنطلق، أهملت الشخصيات اليونانية النافذة مهمة تطوير برامج عملية للتنمية البشرية والمؤسّساتية، مما أدى مؤخراً إلى انفجار فقاعة التوقعات التي تم بنائها والركون إليها.

فمما لاشكّ فيه هنا أن الثقافة الحياتية اليومية في اليونان ماتزال تتمحوّر حول الدولة ومؤسّساتها، كما هو عليه الحال في الدول الليفانتية الأخرى، ربما باستثناء إسرائيل نظراً لبعض النشاطات الاقتصادية التي شهدها القطاع الخاص في العقدين الأخيرين. لكن الاعتماد المستمر والدائم على الدولة في كل صغيرة وكبيرة يتعارض مع طبيعة العمليات الديموقراطية، من حيث إحباطه لمحاولات القطاع الخاص لتطوير نفسه بحيث يتمكن من المساهمة في عمليات التنمية المستدامة، فيبقيه في الطور الجنيني إن لم نقل الطفيلي.

وتهدف سياسات التقشّف المقترحة من قبل الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، إلى فكّ الارتباط الوثيق ما بين الشعب والدولة الخانق لكليهما لصالح المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة، بما في ذلك القطاع الخاص، الذي سيصبح مطالباً أكثر من ذي قبل بتطوير نفسه وقدراته ليصبح قوة قيادية في الدولة والمجتمع. ولأن القطاع الخاص يقوم أساساً على المؤسّسات الربحية الصغيرة والمتوسطة، لن تؤدي تقويته بالضرورة إلى استئثار نخبة ما بالنشاطات الأكثر ربحاً وإدارتها خدمة لمصالحها الخاصة على حساب باقي الشعب. إذ طالما بقيت عمليات صنع القرار في الدولة شفافة الطابع، وقامت مؤسّسات المجتمع المدني، بما فيها الصحافة والإعلام المرئي، بمتابعة ومراقبة التطورات يمكن الحدّ من عمليات التلاعب والاستئثار التي تمثّل جزءاً عضوياً من النشاطات العامة بمختلف أوجهها لأنها انعكاس حتمي لطبيعتنا الإنسانية.

لم يكن هناك مؤامرة ضد اليونان إذاً، ولايمثل الاتفاق الجديد لحل أزمتها محاولة لإخضاعها وإذلالها أو للقضاء على ديموقراطيتها، كما يروّج البعض. كل ما في الأمر أنه ينبغي على الدول أن تدرك أن التعامل مع النظام المالي الدولي بشكل خاص، والنظام العالمي بشكل عام، يتطلب الالتزام بذات الحكمة القديمة التي يفترض على المواطن العادي أن يأخذها دائماً بعين الاعتبار: تقع المسؤولية على عاتق المشتري caveat emptor.

(2)


وفي الواقع، نحن بحاجة ماسة إلى إصلاح تدريجي للنظام العالمي القائم، وليس لعملية ثورية ضده. إذ لايوجد شيء محدّد هنا ليثور المرء ضده. فما يزال "النظام العالمي" مجرّد مفهوم غامض في هذه المرحلة، وذلك على الرغم من وجود مؤسّسات مالية وسياسية وقانونية واقتصادية دولية الطابع تبدو وكأنها دعائم له. فالتخبّط الحاصل في إدارة هذه المؤسّسات وتوجيهها، خاصة في أوقات الأزمات، يدل على أنها ماتزال مشاريع قيد التنفيذ أكثر منها دعائم راسخة لنظام بعينه. ولاشك في أن لتعارض سياسات ومصالح الدول الأساسية الداعمة لهذه المؤسّسات دور كبير في تمييع هويتها المؤسّساتية وعرقلة مساعيها لخدمة أهدافها والالتزام بمبادئها المعلنة.

ولايمكن وصف النظام العالمي موضوعياً في هذه المرحلة لا بالديموقراطية ولا بالاستبداد، ولاوجود هناك لنخبة أو كتلة بعينها قادرة على السيطرة عليه بشكل كلّي، وتجييره لخدمة مصالحها الخاصة. لكن، لا مفرّ من الاعتراف أيضاً بأن الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ما تزال تلعب الدور الأكبر في بلورة معالمه، وماتزال، بسبب قوة أنظمتها الديمقراطية، الأكثر قدرة على التأقلم الفعّال مع متغيراته المستمرة.

وتشكّل المثابرة على المساعي الرامية لتنظيم آليات عمل المؤسّسات الدولية المختلفة، وإصلاح أنظمتها الداخلية لتعكس تغير الحقائق على الأرض، ولتصبح أكثر قدرة على تفعيل وخدمة المبادئ التي أسّست من أجل خدمتها، وسيلة أنجع وأفضل من أية ثورة عالمية في هذه المرحلة لتحقيق العدالة، إن كانت هي الهدف الحقيقي.

ولاشك في أن للإعلام المستقل دوره الهام هنا من خلال تغطية نشاطات وفعّاليات هذه المؤسسات وتببين وقعها على الواقع المُعاش لمختلف الشعوب.

إذن، يتطلّب تحقيق العدالة على المستوى الدولي استمرار عمليات الدمقرطة والترويج لها، لأن الدول غير الديمقراطية لن تسعى إلا لتحقيق مصالح النخب المتنفّذة فيها، بصرف النظر عن مصالح شعوبها. وطالما استمرت عملية تشكيل النظام الدولي من خلال الصراع النخبوي ما بين قوى ديموقراطية وأخرى غير ديموقراطية، ستبقى المساومات الحاصلة تتمحور حول المصالح الضيقة للنخب، بصرف النظر عن المبادئ الديموقراطية واعتبارات العدالة، ولن يكون للمبادئ التي نراها في التشريعات الدولية، مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و"مسؤولية الحماية،" أثر كبير على قرارات المؤسّسات الدولية، كما هو الحال في معظم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن مثلاً.

كيف سيكون بوسع الشعوب أن تراقب وتحاسب ممثليها في المؤسّسات الدولية ما لم تكن قادرة على مراقبة ومحاسبة ممثليها في المؤسسات المحلية والوطنية؟ وكيف يمكن للنظام الدولي أن يتصرّف بعدالة حيال بعض الشعوب إن كانت مستعبدة وكان ممثلوها في مؤسّساته ودهاليزه ومؤتمراته مشغولين ليل نهار بإقناع ممثلي الشعوب الحرة بأن شعوبهم غير جاهزة بعد للحرية؟ وإن كانت الدول الغربية على استعداد دائم لتناسي مبادئها الإنسانية في تعاملها معنا، وهو أمر من النادر أن تقدم عليه عند تعاملها مع شعوبها، فذلك لأن حكامنا ونخبنا المتنفّذة قد سبقوها إلى ذلك، فسوّلوا وسهّلوا لها الأمر. فإن بدا لنا النظام الدولي القائم اليوم غير عادل فربما لأن أنظمتنا المحلية والوطنية غير عادلة أيضاً.

وإن كانت العدالة، حتى في المجتمعات الديموقراطية، لا تُؤخذ أو تُصان إلا من خلال الضغوط الشعبية المباشرة، أو عن طريق مؤسّسات المجتمع المدني، فأي خيار هناك للشعوب المستعبدة من قبل أنظمتها غير الكفاح؟

والخلاصة: ما لم تتحقق مصالح الشعوب لن تتحقق العدالة، ولن يتحقق السلام، لكن الشعوب التي لا تناضل من أجل تحقيق العدالة على الصعيد الداخلي لن يكون بوسعها أن تناضل من أجلها، ومن أجل مصالحها، على الصعيد الخارجي. وإن كان اليونانيون قد ساهموا في أزمة الديون التي يمرون اليوم بها، فهم، وعن طريق العملية الديموقراطية، استطاعوا أن يتحصّلوا على صفقة أفضل من تلك التي طرحت عليهم في بادئ الأمر، وإن كانت مسيرتهم نحو الخروج من المأزق تماماً ماتزال طويلة وصعبة.


أما فيما يتعلق بالنظام العالمي بمؤسّساته وعثراته وأطماعه، فالغرب جزء من المشكلة وليس كلها، ونحن، بأنظمتنا الاستبدادية الفاسدة، وبإيديولوجياتنا العقيمة، وبعقد الاضطهاد التي ما زلنا نعاني منها، نمثل الجزء الآخر. ولن يكون بوسعنا التعامل بنجاح مع أية تحديات ناجمة عن مطامح الدول الغربية، ما لم نجد حلولاً لمشاكلنا الخاصة أولاً، أو، ربما كان علينا أن ننشط على المسارين في آن. أما الاستمرار في التذمّر والتفكير التآمري فتكريس لعقلية التخاذل والجمود.

الأحد، 12 يوليو 2015

المصلحة والنظام الدولي بين البارحة واليوم

تصوير فني لمفهوم الإمبريالية الأوروبية

(1)

من بين المصطلحات الشائعة في القاموس العربي المعاصر مصطلحا الإمبريالية والكولونيالية، وهما مصطلحان حديثان نسبياً بدأ استخدامهما في مطلع القرن التاسع عشر لوصف مساعي الدول الغربية لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على العالم مستغلّة قوتها العسكرية. لكن الظاهرة بحد ذاتها، أي محاولة بسط النفوذ بالقوة، ظاهرة موغلة في القدم، بدأت مع انطلاقة المغامرة الإنسانية على سطح هذه المعمورة، ولم تقتصر أبداَ على دولة أو حضارة أو شعب أو دين بعينه. بل يمكن قراءة قصة الحضارة الإنسانية ككل على أنها سلسلة مستمرة من الغزوات والحروب والمحاولات الاستيطانية، كما فعل معظم المؤرخين القدماء والتقليديين، على اختلاف مشاربهم وحضاراتهم.

وتشكّل محاولة ابن خلدون من خلال مقدمته المعروفة استثناءً هاماً وثورياً لهذه القاعدة. ولهذا، ما يزال علماء الاجتماع والسياسة المعاصرون يتداولونها ويشيرون إليها في كتاباتهم حتى اللحظة. ومايزال لمفهوم "العصبية" الذي اقترحه ابن خلدون دور كبير في محاولاتنا العصرية لفهم وتفسير كيفية تعامل شعوب منطقتنا بالذات مع مسألة الهوية.

وعادة ما يستخدم الباحثون الإسلاميون، القدامى منهم والمعاصرون، مصطلح "الفتوحات" عند تعاملهم مع العمليات الإمبريالية والكولونيالية الطابع التي أسّس المسلمون من خلالها حضارتهم القديمة. وهو مصطلح احتفائي بالطبع كما يدلّنا التحليل اللغوي والتفسير العقائدي له. فما دامت الجهة المحتلّة والمستيطنة إسلامية المعتقد، لم يكن عند علماء وجهابذة الإسلام اعتراض عليها.

كما يستخدم الإسلاميون أحياناً مصطلح "الغزوات،" الذي قد يبدو للوهلة الأولى، من الناحية اللغوية على الأقل، أكثر "موضوعية" من مصطلح الفتوحات. لكن توخّي الموضوعية لم يكن الهدف من وراء طرح هذا المصطلح في الواقع، بل الرغبة في الإشارة إلى المعارك الصغيرة التي انخرط بها المسلمون ضد "أعدائهم" عبر التاريخ. إذ لا يجد المسلمون حتى اللحظة أيّ إشكالٍ في إصرارهم على التعامل مع الحروب التي شنّوها، أو شُنّت باسمهم، عبر التاريخ، من منظور احتفائي بحت.

الفتوحات


(2)

ويقابل مصطلحي الفتوحات والغزوات عند الغربيين مصطلحات متعدّدة، لا تقلّ عنها احتفائية، استخدمت لتبرير وتسويغ الحملات الإمبريالية والمغامرات الكولونيالية للغربيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك باستثناء أشهرها، أي مصطلح "الحروب الصليبية،"  الذي برز على الساحة الفكرية في القرون الوسطى.

أما والمصطلحات المعاصرة فمنها: "عبء الرجل الأبيض" White Man’s Burden، الذي تبنّاه المنظّرون البريطانيون في أواخر القرن التاسع عشر، وهو بالأساس عنوان قصيدة للشاعر والروائي البريطاني رديارد كبلينج Rudyard Kipling. و "البعثة التحضيرية La Mission Civilisatrice " الذي استخدمه الفرنسيون، في حين لجأ الأمريكيون إلى استخدام مصطلح "القدر الجليّ Manifest Destiny" لتبرير توسّعهم عبر القارة الأمريكية وتهميشهم للسكان الأصليين ومحاولاتهم الفاشلة لاحتلال المسكيك.

أما الروس، وهو الشعب الذي مايزال اليسار العالمي يصرّ على تجاهل مغامراته الإمبريالية أو تبريرها على أنها استراتيجية استباقية للدفاع عن النفس والوطن، فقاموا بإطلاق مغامرتهم الإمبريالية المعاصرة، والأكبر في تاريخهم، تحت الشعار الماركسي "يا عمال العالم اتحدوا،" وغيره من الشعارات الشيوعية والسوفييتية.

في حين استخدم الصينيون، ومازالوا، مفهوم السابقة التاريخية (في إشارة إلى سيطرتهم في مرحلة تاريخية ما على المنطقة قيد البحث) ورغبتهم في مساعدة الشعوب المتخلّفة ي منطقتهم على تنمية نفسها لتبرير احتلالهم للتيبت وكشغر (شينشيانج)، وفي مطالباتهم الحالية فيما يتعلق بالجزر الواقعة في بحر الصين الجنوبي.

لاننسى طبعاً الألمان ومصطلح "المجال الحيوي lebensraum" الذي استخدموه لتبرير محاولتهم الفاشلة لإنشاء إمبراطورية عالمية جديدة هي الرايخ الثالث.

أوروبا تحت الاحتلال النازي

أما المغامرة الصهيونية، فتتفرّد وتتميّز عن المغامرات الإمبريالية والاستيطانية المعاصرة من حيث نشأتها كمحاولة يهودية لإيجاد حلّ لـِ "المسألة اليهودية" في الغرب وإنقاذ اليهود من خلال تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين. أي أن تحقيق المجد، وهو الأمر الذي غالباً ما يلعب دوراً هاماً في المغامرات الإمبريالية والكولونيالية التقليدية، لم يكن عاملاً في هذه المغامرة. أما فيما يتعلّق بتجاهل الحركة الصهيونية لحقوق الشعب الفلسطيني، فلا يعدّ هذا الأمر استثنائياً بحدّ ذاته، وإن بقي مداناً من منطلق إنساني وحقوقي، لأن محاولة شعب ما حلّ مشاكله أو تحقيق طموحاته على حساب شعب آخر هو جوهر النزعة الإمبريالية، والحركة الصهوينية إذاً لم تأت كاستثناءٍ لقاعدة الفعل الإمبريالي بل استمرار وتكريس له مع اختلاف هوية الجهة الفاعلة. ولاننسى هنا أنه عندما كان لليهود دولة ومجد في الماضي، سواء في فلسطين أوالخزر، لم تغب النزعة الإمبريالية عن ممارساتهم وكرهم. وفكرة أن اليهود هم "شعب الله المختار،" استخدم كمبرر لها بالطبع.

(3)

لكن هناك فرق هام حالياً ما بين الشعوب الغربية والشعوب الأخرى فيما يتعلّق بتعاملها مع المسألة الإمبريالية يتجلّى في المساعي الأكاديمية الغربية المستمرة لمراجعة المفاهيم المستخدمة لتبرير الإمبريالية وتبيان مغالطاتها ووجه النفاق فيها، ولاننسى في هذا الصدد أن أشهر مفكري ومنظّري اليسار العالمي هم من الغرب، وإن كانت مراجعة اليساريين لهذه الظاهرة إيديولوجية الطابع، مما يجعلها تركّز على البعد الأخلاقي والقانوني للظاهرة وعلى ممارستها من قبل الغربيين حصراً، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

وتؤثر هذه النزعة الإيديولوجية سلبياً على معظم تحليلات اليسار في هذا الصدد، خاصة من خلال تصويرها للآخرين كضحايا، وتبريرها أو تجاهلها لممارساتهم المماثلة. وأثناء ذلك يتم تغييب السياق التاريخي للظاهرة وارتباطها اللصيق بالطبيعة الإنسانية ومفهوم "المجموعة" المتميّزة عن الآخريات (قبيلة، عشيرة، قوم، دين) و مفهوم "الدولة." فحتى ما قبل تأسيس المدن والدول، كانت المجموعات تغير على أراضي بعضها البعض، وتحتلّها أو تستوطنها، وتستعبد أوتبيد سكانها الأصليين.

من ناحية أخرى، لابد من الإشارة إلى غياب أية محاولة جديّة لمراجعة المفاهيم والمصطلحات التاريخية من قبل الشعوب غير الغربية. ولهذا التقصير مدلولات أخطر من استمرار الغرب في محاولته لبسط نفوذه على العالم، لأنها فيها تجاهلاً لسرّ تفوّقه في اللعبة أساساً وهو: انفتاح شعوبه الكبير على النقد والتجديد وعلى نحو يسمح لها بإجراء تعديلات مستمرة على حسها بالهوية  الانتماءهويته. لقد أصبحت الهوية بالنسبة للشعوب الغربية عملية تفاعلية وليست إرثاً جامداً غير قابل للتعديل.

وفي هذه الأثناء تستمر المعركة، ومحاولات تبريرها. إذ راجت في الغرب والعالم في العقدين الماضيين مصطلحات مثل "العولمة،" و"صراع الحضارات،" و"الفوضى الخلاقة،"  و"ترويج الديموقراطية،" التي يرى الكثيرون فيها محاولة مستمرة لتسويغ إمبريالية جديدة والتي يرى البعض في تطورات مثل توسيع الناتو تعبيراً عنها.

الدول العضوة في حلف الناتو

ويقابل هذه المصطلحات في المعسكر الروسي مفاهيم مثل "تصحيح لخطأ تاريخي،" الذي استخدم لتبرير احتلال القرم، والدفاع عن "السيادة الوطنية" وحقوق المكون الروسي، وهما من الأعذار التي استخدمت لتبرير التدخّل في شرق أوكرانيا. بل تم استخدام مفهوم السيادة الوطنية أيضاً لتبرير دعم روسيا لنظام بشار الأسد.

بينما تسعى إيران اليوم إلى بسط نفوذها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا تحت عنوان "المقاومة" و"الممانعة،" ولقد سبق للنظام السوري أن استخدم هذين المصطلحين لتبرير احتلاله للبنان.

في المقابل تبنّت دول الخليج مهمة الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية (السنّية) من الهجوم "الشيعي الصفوي،" الأمر الذي مهّد الطريق أمام تدخّل سعودي سافر في كل من البحرين واليمن، وغير مباشر في سوريا والعراق ولبنان، بالتعاون مع دول الخليج الأخرى علاوة على مصر والأردن وتركيا.

وهناك من يرى أن "الربيع العربي" مصطلحا مخترعاً جاء لتبرير ثورات مصطنعة هدفها تحقيق مصالح عربية معينة. لكن المشكلة في هذا الطرح تكمن في تجاهله التامّ لدور الظروف الموضوعية في الأمر مثل الانفجار السكاني الذي تشهده المنطقة منذ عقود، وشحّ الموارد الطبيعية في بعض الدول، وتفشّي بعض الظواهر البيئية كالجفاف والتصحر، هذا علاوة على الممارسات الاستبدادية والفاسدة والفئوية لمعظم الأنظمة الحاكمة، ورغبة بعض القوى الإقليمية في تجيير المتغيرات الحاصلة لخدمة مصالحها الخاصة. ككما لاينبغي هنا إنكار مشروعية وجدية وأصالة المطالب الشعبية بالإصلاح وبالتحرّر من نير الاستبداد، حتى في واقع تخوّف بعض الشرائح والمكوّنات المشروع من عملية التغيير خشية أن يؤدي هذا الأمر إلى قمعها وتهميشها.

ومن الواضح، لمن لا يعاني من ظاهرة العمى الإيديولوجي، أن كل هذه الأطراف إنما تسعى وببساطة إلى تبرير ذات الظاهرة: النزعة الإمبريالية المتأصّلة في مفهوم الدولة والجماعة ذاته.

(4)

لذا، وإذا ما أردنا بالفعل أن نضع حداً لظاهرة الإمبريالية، فعلينا أن لا نقصر نقدنا على هذه الدولة أو تلك، بل علينا أن نبدأ بتحليل ونقد الظاهرة ذاتها بقواعدها المعروفة في محاولة لطرح بديل ناجع لكيفية تفاعل الشعوب والدول مع بعضها، بديل يمكن من خلاله تعزيز التعاون، وترشيد التنافس، وإيجاد وسائل سلمية لحلّ الخلافات والنزعات. لأن المشكلة هنا لا تكمن في سلوكيات بلد أو شعب بعينه، بل في السلوكيات التي دأب الأقوياء بشكل عام على تبنّيها عبر التاريخ حيال الآخرين، بصرف النظر عن المبادئ التي جاؤوا وادّعوا التمسّك بها. ففي غياب توازن مناسب للقوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، ستبقى عملية تفعيل وتطبيق المبادئ خاضعة لتلاعب الأطراف الأقوى.

جزر سبراتلي والباراسيل المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي

فلا يكفي لمحاربة هذه الظاهرة إذاً أن نكتفي بانتقاد الغرب وأمريكا، لأن تفوّق الغرب في هذا المجال مرتبط بشكل وثيق بتفوّقه في المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والمعرفية. أي أنه، ومن منطلق خضوع الجميع من الناحية العملية لقانون الغاب الذي مايزال يتحكّم في العلاقات الدولية، لا يرتكب أية جريمة هنا، ولا تشكّل سلوكياته استثناءاً للقاعدة بل تمثّلاً فاعلاً وخلّاقاً لها.

وفي الواقع، يشير التحليل الموضوعي لسلوكيات الدول اليوم، على اختلاف قدراتها، إلى غياب أية رغبة حقيقية عند النخب الحاكمة والمتحكّمة في  صنع القرار في كل دول العالم، والنخب الفكرية الخاضعة لها أو الواقعة، كلياً أو جزئياً، تحت تأثير إعلامها وأكاذيبها، في تغيير قواعد وطبيعة اللعبة. على العكس، فالكل يقبل باللعبة وقواعدها كما هي، والكل يشارك بها، والكل يسعى إلى التفوّق من خلالها لا على حسابها. ولا يوجد ما يثير الدهشة في هذا الوضع، فالرؤى الضيقة للنخب الحاكمة تجعلها غير قادرة على تخيّل وتشكيل البدائل، كما أن مخزوننا المعرفي والنفسي بتراكماته الهائلة ما زال يسوّغ لها الاستمرار في اللعبة كخيار أضمن وأكثر واقعية وعقلانية من المغامرة بتجريب وتفعيل مقاربات جديدة تماماً.

كما يشكّل غياب حسّ هذه النخب بالانتماء لأيّ شيء خارج الأطر والدوائر الضيقة التي بنوها من حولهم، وتحصّنوا وراء أسوارها، عاملاً إضافياً هاماً لتمسّكها باللعبة كما هي. وإذا كان بوسعنا أن نلحظ وجود هذه النزعة عند النخب الفاعلة في الدول الديموقراطية، فما بالك بالواقع المعاش في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية؟

(5)

وبسبب الطغيان الإيديولوجي على الفكر العالمي في هذه المرحلة، والانتشار الواسع للتحليلات المجتزأة، بل والمأجورة في الكثير من الأحيان، وهي ظاهرة لم تنجو منها حتى الأوساط الأكاديمية في الجامعات العالمية الأكثر شهرة ورقياً، قلة هم اليوم أولئك الأشخاص الذين يدركون الطبيعة الحقيقية وغير المنمّقة لما يجري من حولهم من تطورات، ويحاولون تحليل الأمور بالموضوعية والعقلانية الملائمة.

ومن هذا المنطلق، مانزال نجد أعضاء اليسار العالمي مصرّين على الاستمرار في نقد تصرفات أمريكا والغرب وحسب، في حين يدافع أغلبهم عن تصرفات مماثلة لروسيا وإيران والصين وغيرها من الدول، بل وعن تصرّفات طغاة من أمثال الراحل صدام حسين وذلك الآخر الذي اختار المشي في خطاه، بشار الأسد، ويبرّرونها، هذا إن لم ينكروها جملة وتفصيلاً من خلال طرحهم لتفسير تآمري مرتجل. لكن الواقع أن الأنظمة الحاكمة في هذه الدول "الطاهرة" و "البريئة،" لا تسعى من خلال نقدها لأمريكا ودول الغرب لقلب الأمور وتحقيق العدالة للجميع، أو حتى لشعوبها، بل إلى التعويض عن قلّة مهارتها في إدارة التفاعلات الدولية بغية تحقيق مصالح فئوية خاصة.

فالتوصيف الأدقّ لما يجري في العالم اليوم هو صراع مصالح، لا صراع حضارات ولاثقافات، فالحضارة الوحيدة الفاعلة على الساحة اليوم هي الحضارة الغربية، وكل ثقافاتنا المعاصرة متأثرة بها.

الحضارات بحسب طرح صامويل هانتينحتون


(6)

ومن العوامل الأخرى المساهمة في تخلّف الدول عن اللحاق بركب الغرب وحضارته التي أصبحوا جزءاً منها رغماً عنهم، مُكرهين على ذلك بقوة فكرها وثقافتها أولاً، ثم اقتصادياتها، ثم جيوشها: فساد النخب الحاكمة والمؤثرة، أو تمسّكها بتراث بالٍ للحفاظ على مراكزها، أو لجوئها إلى التقليد الأعمى للغرب من دون إجراء أية مراجعة نقدية للأفكار الوافدة منه، أو للتراث على ضوء المبادئ الوافدة. ذاته، علاوة على تراجع العمليات التنموية، أو غيابها نهائياً في بعض الأحيان، أو أي خليط من هذه الأمور.

ولايغرنّنا في هذا الصدد الخطوات الإيجابية التي تحققها الصين حالياً، أو تعنّت ورعونة الروس بقيادة قيصرهم الجديد، إذ سبق للاتحاد السوفييتي أن حقق إنجازات مماثلة قبل تراجعه وانهياره.

وحتى لو نجحت هاتان الدولتان وشركائهما حول العالم في مساعيهم لتقليص النفوذ الغربي من خلال اللعب وفق نفس القواعد، فلن يشكّل هذا الأمر تطوراً إيجابياً من الناحية الحضارية، بل انتاكسة كبيرة ومفجعة. فعلاوة على تعزيز الطبيعة السينيكية للعبة من خلال هذا "النصر،" ستتعزز أيضاً شرعية الطريقة النخبوية المنغلقة، فكرياً وسياسياً ومجتمعياً، في الحكم والتي لا يمكن مقاومتها إلا من خلال العمل لتأسيس أنظمة سياسية ومجتمعية منفتحة وديموقراطية ولامركزية.

إذ ترتبط عمليات الدمقرطة والتنمية المستدامة والتجديد الفكري والثقافي ببعضها البعض بشكل لصيق، ولايمكن إدارتها بفعّالية من فوق ومن المركز حصراً، إلا لفترت وجيزة في أفضل الحالات، ولايمكن استدامة أي انجاز أو نجاح تنموي أو "خارجي" مالم نحصّنه بتغييرات سياسية وحقوقية عميقة في الداخل. لأن التضحية بالحرية من أجل التنمية تفريط بهما معاً، وتأجيل التجديد الفكري والتحديث المجتمعي تخوّفاً من ردود أفعال القوى المتطرّفة، وتذرّعاً بذلك، هو استسلام وتمكين لهذه القوى بالذات، والإصرار على التعامل مع الشعوب وكأنها قطعان لا تبالي إلا بالرعي والمرعى هو البِذار الذي يفرز الثوارت الشعبية والفوضى.

وخلاصة الكلام: لايكفي أن يستنبط العالم مواثيق ومفاهيم جديدة حول العدالة والإخوة والمساواة، وحول حقوق الإنسان وعلاقته بالبئية المحيطة، ولايكفي أن نتبنّى أنظمة جديدة ناظمة للعلاقة ما بين الدولة والمواطن، وما بين الدول ذاتها، مالم نغير موازين القوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، وما بين المكونات والطبقات المختلفة لكل دولة على حدة. و لايمكن تحقيق أي من هذه الأمور وصولاً إلى تفعيل وتطبيق ما طوّرناه من مفاهيم ومواثيق إنسانية وحقوقية استناداً إلى تجربتنا التاريخية ومخزوننا المعرفي والخبراتي المشترك، بين ليلة وضحاها، وبلا تنظيم عالمي الطابع.

وتتلخّص مأساتنا اليوم بالذات في غياب تنظيم من هذا النوع عن الساحة العالمية بل ربما في غياب حتى تلك الشخصيات القادرة على بناءه والترويج له.