فيما يلي الحلقة الـ
12 من برنامج "بين سام وعمار"
إظهار الرسائل ذات التسميات إسرائيل. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات إسرائيل. إظهار كافة الرسائل
الجمعة، 1 يونيو 2018
الثلاثاء، 7 يوليو 2015
التغيير في اليونان: النصر الزائف
![]() |
صورة من الاحتفالات في ساحة أومونيا في أثينا قبيل فوز حزب سيريزا اليساري بالانتخابات اليونانية في كانون الثاني 2015.
|
فلا
روسيا ولا الصين قادرتان على تقديم أي دعم كافٍ لسد الفراغ الذي سيتركه خيار
الانعزال هذا. ولقد طرح محلل إسرائيلي أن تعود اليونان إلى حضن الليفانت وتشكل مع
تركيا وإسرائيل وسوريا ولبنان ومصر وقبرص اتحاد ما، لكن، يبقى هذا الطرح
مجرد فكرة في هذه المرحلة، لا يمكن لها أن تأثر في مجريات الأمور على المدى
القصير. مشكلة اليونان ليس نتيجة ما قام به الأوروبيون فقط، بل ما قامت به النخب
الفكرية والسياسية في اليونان من اليمين واليسار عبر العقدين الماضيين: مشكلة فساد
وكذب على الشعب وسوء إدارة وتعلّق بالأوهام. والغريب في الأمر أن أثينا استضافة
على مدى عقد ونيف الكثير من النشاطات واللقاءات الهامة المتعلقة باستقراء مستقبل
المنطقة ككل والتي تم فيها مناقشة سيناريوهات التفيكيك المحتملة في المنطقة.
ولنذكر
هنا أن كل شيء جرى في وضح النهار: فالمساعدة التي قدمتها شركة جولدمان زاكس
للحكومات اليونانية السابقة على تزوير دخولها وميزانيتها مما سمح لها باقتراض
مبالغ كبيرة من صندوق النقد العالمي عن طريق عدد من البنوك الأوروبية كما جرت
العادة، لم يكن بذلك السر الدفين. ولم تكن التنمية هي السبب الأساسي الذي دفع
الحكومات السابقة على الاقتراض، بل كانت رغبة اليونانيين بالتمسّك بدعم الدولة
لهم، دون التسائل عن قدراتها المالية الحقيقية في هذا الصدد. إن كان ما يجري في
اليونان مؤامرة فالكل شريك بها، بمن فيهم اليومانيو أنفسهم.
من
ناحية أخرى، من الواضح أن لا الصين ولا روسيا بوسعهما تقديم بديل آخر لليونانيين،
ما خلا استغلال الوضع لتوجيه بعض الرسائل السياسية للغرب، وقد ترغب
روسيا بالذات باستخدام المرافئ اليونانية لتعزيز وجودها في البحر
المتوسط. لكن لن يعود هذا الأمر بفائدة كبيرةعلى اليونان، بل سيضع أمنها على
المحكّ. ومهما بلغت قيمة المساعدات الاقتصادية المحتملة أو المتوهّمة التي يمكن أن
تقدمها هاتان الدولتان فلن تكفي لوضع حدّ لسياسات التقشّف.
فما
معنى الجو الاحتفالي في اليونان وبعض الأوساط اليسارية في هذه المرحلة إذاً؟ هل
يدرك اليونانيون أن النصر الذي حقّقوه هو نصر زائف Pyrrhic victory؟ أم تراهم يتعاملون مع موضوع
الاستفتاء كوسيلة للضغط على الاتحاد الأوروبي الذي أقنعهم ساساتهم وخبرائهم بأنهم
مجبرون على تقديم التنازلات المطلوبة والتي ستستمح لهم بالحفاظ على المعونات
الحكومية التي ألفوها؟ وهل هم مستعدون لما سيأتي في حال خسروا رهانهم هذا؟
التعثّر،
أي الامتناع عن تسديد القروض لأسباب قاهرة، هي إحدى مخاطر عمليات الإقراض، فعملية
الإقراض، كما نوّهت مجلة "بيزنيس
إنسايدر،" بطبيعتها مغامرة خطيرة من حيث كونها رهان، لا يمكن ضمانه
100%، على قدرة المقترض على التسديد خلال الفترة المتفق عليها وبالطريقة المتفق
عليها مع الفائدة المتفق عليها، فالفائدة هي مصدر الربح وهي الدافع الأساسي وراء
القبول بهذا الرهان. لذا لا يمكن اعتبار موقف سيريزا هنا خارج عن تقاليد النظام الرأسمالي.
لكن
لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتوقّف كثيراً عند هذه الاعتبارات. لأن وجود دول
أوروبية أخرى تعاني هي أيضاً من مشكلة الديون مثل إسبانيا والبرتغال وإيرلندا
وإيطاليا سيجعلها تفكير عميقاً فيما إذا كان بوسعها خلق سابقة يمكن لهذه الدول
الاعتماد عليها في علاقتهم مع الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب. لقد بات
مستقبل منطقة اليورو وربما الاتحاد الأوروبي ذاته على المحك الآن. ومن هذا
المنطلق، يمكن لدول الاتحاد أن تختار معاقبة اليونان وتعويض البنوك المتضرّرة بغية
توجيه رسالة واضحة للدول الأخر في هذا الصدد بأن إعلان التعثّر أو الخروج من منطقة
اليورو قرار له توابع خطيرة وضارة بالبلد ذاته قبل الاتحاد.
![]() |
صورة لقادة البريكس خلال قمة البريكس السادسة والتي عقدت في البرازيل في تموز 2014 وأعلن خلالها عن تأسيس مصرف البريكس. |
وعلينا
أن نذكّر اليسار العالمي للمرة الألف أن لابديل في المرحلة الحالية عن النظام
العالمي القائم، وأنه ما بوسع، لا روسيا ولا الصين ولا إيران ولا غيرها من الدول،
أن تأسس هذا البديل في هذه المرحلة لأن كل هذه الدول باتت تلعب اللعبة نفسها،
ووفقاً لذات القواعد، وإن قدّمت في بعض الأحيان ما يمكن اعتباره شروطاً أفضل، كما
تحاول الصين أن تفعل من خلال تأسيس مصرف التنمية العالمي
الجديد الذي أسّسته بالتعاون مع دول البريكس الأخرى (أي روسيا والهند
والبرازيل وجنوب إفريقيا). لكن هذه الخطوة، إن أثبتت نجاحها، لن تغير قواعد اللعبة
كثيراً، لأنها لا تمثّل إلا نوعاً من المضاربة على بعض مؤسّسات النقد العالمية
الغربية المنشأ أو الواقعة تحت تأثيره.
لن
تؤدي أية من هذه التطوّرات إلى انتصارات للفلاحين والعمال والفقراء، بل ستعود
عليهم بالويلات، وسيدفعون ثمنها أولاً وغالياً. وإذا لم يكن بوسع اليساريون أن
يستوعبوا هذه الحقيقة بمضامينه الخطيرة، كما تدلنا على ذلك احتفالاتهم الحالية،
فذلك لأنهم ماهوا في منظورهم الإيديولوجي ما بين الشر والغرب. إذ لم يعد بوسع
الشرّ أن يأتي من الشرق في منظورهم على ما يبدو، لأن شعوب الشرق أضعف وأكثر
تخلّفاً من أن تقدر على ذلك. فالشرق ضحية، الشرق خصيّ. نعم، لقد أصبح اليساريون
المفكرين الأكثر استشراقاً في العالم. واليونان المعاصر، على الرغم من كل ما قدمه
اليونان القديم للحضارة الغربية، بات يعد في منظور الكثيرين جزءاً من الشرق لا الغرب.
بل
لقد قام
الباحث الإسرائيلي آموتز أسائيل مؤخراً استناداً إلى التطورات
الحالية في اليونان بتشجيع اليونان على مغادرة الاتحاد الأوروبي والعمل على إحياء
رؤية أسكندر المقدوني القديمة من خلال تأسيس اتحاد ليفانتي بالتعاون مع تركيا
وقبرص ومصر وإسرائيل والفلسطينيين، مع ترك المجال أمام سوريا ولبنان للانضمام
لاحقاً عندما تسمح أوضاعهما الداخلية بذلك.
ولا
يوجد أية مشكلة في هذا المقترح، بل، ومن منطلق شخصي، أرى أن مشروعا من هذا النوع
يتماشى مع الرؤية التي طرحتها
"مؤسسة ثروة" في بيانها الصادر في دمشق في عام 2003 الذي
حفّز الحكومات والمنظمات المدنية الإقليمية على العمل لإطلاق كمنويلث مناطقي يمكن
له أن يشجع العملية التنموية في المنطقة ويسمح لها بالتعامل مع بعض القضايا
المناطقية والقومية والفئوية الحسّاسة بمرونة أكثر، لأن أية تنازلات سيادية وأي
تعديل في الحدود إذا ما ترافق مع عملية تجميع من خلال الانضمام إلى كمنويلث مناطقي
مشترك لن يخلّف الكثير من الآثار السلبية على الدول المعنية وشعوبها، بل على
العكس، سيساهم هذا التطور في بناء جسور للثقة ما بين المكونات المختلفة للمنطقة
سامحاً لشعوبها بتركيز جهودها على القضايا التنموية.
ويبقى
هذا الطرح في هذه المرحلة حلماً، ولن يكون له تأثير إيجابي ملحوظ فيما يجري في
اليونان وسوريا، وغيرها من دول المنطقة، من تطورات مأساوية.
الاثنين، 1 أبريل 2002
وبعدين؟
![]() |
رام الله، الضفة الغربية، 14 آذار، 2002 |
علينا
أن نعيِّن بدقة إلى أين نحن ذاهبون وإلام نسعى حتى نتمكَّن من اختيار الدرب
الصحيح.
من أسهل
ما يكون فهمُ لماذا يشعر شعب، عاش عقوداً حتى الآن تحت الشروط المُذِلَّة لاحتلال
أجنبي، بكل هذا الإحباط، والمرارة، والغضب، والكره. ومن السهل أيضاً فهمُ الحاجة
إلى تفريغ عاطفي في ظل هذه الظروف. فأن ينجم العنف عن هذا الوضع ليس بالأمر
المفاجِئ.
أما
الأمر المفاجِئ الذي يعسُر فهمه فهو عجز الناس المعنيين، أو إحجامهم المتواصل، عن
رؤية عبثية العنف، على الرغم من كل هذه السنين من سفك عديم الجدوى للدماء. أيكون
القصد برمَّته من الوضع الحالي في الأراضي المحتلة هو السماح بتنفيس بعض البخار؟
أهو الرغبة في الثأر؟ أم أنه طلب العدالة؟ إذ إن هذه الأمور ليست هي نفسها، ولا هي
بسواسية.
إن
طلب العدالة يقتضي أكثر من استراتيجية، شبه عسكرية كانت أم خلاف ذلك (ذلك أن ثمة
علامات بيِّنة على أن هجمات الفلسطينيين على أهداف إسرائيلية تتم تنفيذاً
لاستراتيجية شبه عسكرية ما). طلبُ العدالة يقتضي فهماً عميقاً للقضايا الحقيقية
ذات الصلة، واستعداداً للتضحية بـالكبرياء أكثر من التضحية بالدم.
فعندما يقبل والدٌ فلسطيني (أو والدة فلسطينية) بالتضحية بشيء من الكبرياء في
مقابل السلام، قد يوفِّر على نفسه المحنة الفظيعة المتمثلة في التضحية
بأبنائه.
أما
"والِدو" الانتفاضة الجارية فيبدو أنهم أخذوا الأمر على العكس من ذلك.
فهم، على ما يبدو، لا يتورعون عن التضحية بأبنائهم من أجل الثقب الأسود النَهِم
لهذه القضية. والمَثَل التوراتي القديم عن والدِين وأطفال وعنب حامض لا يسعه إلا
أن يبرز في ظل هذه الظروف، دالاً على حصول تلك الظاهرة الطاعنة في القِدَم التي
يُضَحَّى فيها بالأبناء على محرقة غرور آبائهم. وعندي أنه ما من قضية تستحق ثمناً
كهذا، بل ما من قضية تُكسَب بثمن كهذا.
ليس
المقصود من هذا، بالطبع، أن الشبان الفلسطينيين ببساطة تُغسَل أدمغتهم لكي يواجهوا
الدبابات الإسرائيلية بصدورهم العارية أو يفجِّروا أنفسهم في المستوطنات
الإسرائيلية. فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. شباب فلسطين، رجالاً ونساءً، يفعلون
ما يفعلون عن سبق إصرار، نتيجة إحساسهم بالإحباط ورغبتهم في الحصول على ما يرون
فيه العدل.
لكنهم
على خطأ؛ فهذه ليست الطريقة الصحيحة لنوال العدل. إن ما يطلبون في الواقع قد
يؤوَّل كمجرد طلب للثأر وكمتنفَّس لقنوطهم وإحباطهم. غير أن الأسباب من وراء هذا
السلوك، وإن كان من السهل الإحاطة بها، تبقى، مع ذلك، ضارة بقضية العدالة، كما
قلنا. إذ لن يُطرَد الإسرائيليون أبداً خارج أرض، يراها كثيرون منهم أيضاً مقدسة،
بوسائل عسكرية. فالأراضي المحتلة ليست جنوب لبنان. ولدى الإسرائيليين، في هذه
الحالة، ما يحملهم على الشعور بأنهم يقاتلون دفاعاً عن حياتهم أيضاً، عن سلامة
هويتهم نفسها، ومن أجل المحافظة على تماسك مجتمعهم. فكلما جعلتْهم العمليات
الانتحارية يشعرون بهشاشتهم صاروا أكثر أهبة لجمع صفوفهم خلف أشدِّ زعمائهم
السياسيين والدينيين والاجتماعيين تطرفاً وعنصرية.
ومع
ذلك، وبالعودة إلى مسألة الانتفاضة الجارية، على المرء أن يؤكد أن
"والدِيها" يتحملون جانباً من الملامة، تحديداً على سلبيَّتهم، أي على
إحجامهم عن إعادة النظر في أولوياتهم ومبادئهم. إنهم ببساطة يورثون الجيل التالي
إحباطَهم، ويتركون القضية ميراثاً لا يقبل القسمة ولا يقلُّ قدسية عن الدين نفسه.
ولا يُتوقَّع من "الأبناء" أن يشكِّكوا في هذا الميراث أو أن يحلِّلوه،
بل يُتوقَّع منهم فقط أن يقبلوه على علاته، بل وأن يموتوا من أجله؛ وإلا فسيشهَّر
بهم "خونةً" و"عملاء للعدو" – مرتدين وكفار آخر زمن.
لكنْ
دعوني، مجازفاً بأن يشهَّر بي زنديقاً (ذلك أن المرء إذا لم يكن يستطيع تفكيك
ديننا الجديد هذا، لا يسعه إلا أن يكون زنديقاً فيدعو إلى إعادة النظر في بعض
أركانه) – أقول: دعوني أجرؤ هنا على إيجاز ما أعتقد أنه القضايا الحقيقية ذات
الصلة بالوضع الحالي – من أجل أولئك المهتمين بالعدالة، وليس بالثأر.
واسمحوا لي أولاً أن أشير إلى أني لا أقدم حجتي بيقين نبي توَّاق، بل بجرأة مثالي
شاب.
وقائع:
-
وجود إسرائيل أمر واقع. ونيَّتنا ليست القضاء عليه، أو "رمي اليهود في
البحر".
-
المصالح الدولية ليست متناغمة تماماً مع المصالح الفلسطينية؛ من هنا سهولة غضِّ
غالبية الدول النظرَ عن المستجدات المأسوية الحالية في الأراضي المحتلة، أو
تبنِّيها موقفاً يكاد يعدم الشدة والصراحة في إدانتها للاحتلال الإسرائيلي
ولتشديده الحصار على الفلسطينيين. وباختصار، يعدم هذا الصراع بالذات سماسرة دوليين
شرفاء.
-
الزعماء العرب أضعف أو أحجَم من أن يتخذوا مبادرة ذات وزن لدعم إيماننا الجديد هذا
الذي هو القضية الفلسطينية.
-
إسرائيل هو القوة المتفوقة عسكرياً.
-
إدانتنا الأخلاقية والقانونية للاحتلال الإسرائيلي، في معظمها، تقوم على ميثاق
الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهذا، بمعنى ما، يضعنا في
موقع يُتطلَّب منا فيه ويُتوقَّع منا أن نكون ممثلين
أفضل للمُثُل التي تتخلل هاتين الوثيقتين.
إذا
ما كان لهذه الوقائع من معنى فهو أننا لا نستطيع أن نفوز بالعدالة بمعناها النهائي
ذاك، الذي نتوق إليه أحياناً. بعبارة أخرى: من المتعذر تصحيح باطل وَقَعَ بأي معنى
نهائي. لقد اختُلِقَتْ دولة بين ظهرانينا وعلى حساب أحلامنا (وعلى حساب إزهاق
أرواح كثيرة). علينا أن نسلِّم بهذا الوضع ونتكيف معه. لقد تعارضتْ أشواق الآخرين
مع شوقنا نحن عند نقطة زمنية معينة، وكان أن خسرنا، مادياً على
الأقل. وهذا واقع آخر ينبغي أن نسلِّم به.
ولكن
– وههنا محطُّ رجائنا – كما أننا لا نستطيع نيل العدالة بالمعنى النهائي، كذلك لم
نخسر بالمعنى النهائي. فرغم كل شيء، نحن ما زلنا موجودين، وما زال الكثيرون منا
يحيون في الأراضي المحتلة. ولم تكسرنا "هزيمتنا" إلى حدٍّ يحول بيننا
وبين أن نتشوق إلى تحسين نصيبنا وأن نكافح للحصول على شيء أفضل، أفضل بكثير، مما
لدينا، شيء يتناسب أكثر مع أحلامنا ومع الكرامة الإنسانية.
وهذا
الشيء، بكل بساطة، هو: اتفاق يضع حداً لحمَّام الدم الجاري، من شأنه أن يوفِّر
لأبنائنا، إن لم نقل لنا، فرصة لنحيا وننمو بسلام. حقاً إن من واجبنا أن نضحِّي ببعض
أجزاء حلمنا (وأوهامنا) ونعضَّ على كبريائنا لصالح حلٍّ واقعي هو، باعتراف الجميع،
أقل بكثير من الحلِّ الذي حلمنا به منذ زمن بعيد (أو ربما ليس منذ زمن بعيد)، لكن
من شأنه أن يؤدي إلى مستقبل سلمي للأجيال القادمة.
وإذا
كانت الرغبة هي السلام لا يصحُّ أن تكون الوسائل عنيفة. إذ هل تمهَّل أحدهم
وأعْمَلَ تفكيرَه في نوعية المجتمع الذي سيقدر على بنائه، حالما تنتهي الحرب، كلُّ
هؤلاء الشبان المقاتلين الصغار الذين قُيِّض لهم أن يقبلوا العنف طريقةَ حياة
طبيعية ووسيلةً مشروعة نحو غاية عادلة مرجوَّة؟
لئن
كان في تاريخ القرن العشرين، وبخاصة في التجربة الأفريقية، من عبرة فهي أن خرِّيجي
المدرسة شبه العسكرية، ولا سيما من انتسب منهم إليها وهو ما يزال مراهقاً، عاجزون
عن بناء مجتمع مستقر ومسالم.
فهل
سيكتفي الفلسطينيون بوضع يحلُّ فيه نظيرٌ فلسطيني محلَّ العدو الإسرائيلي؟ وما هو القصد
من هذه الانتفاضة برمَّتها، على كل حال، إذا كان كلُّ ما بمقدورها إنجازه هو إحلال
عدوٍّ محلَّ آخر، واستبدال نوع معين من الحروب (حرب أهلية تحديداً) بآخر (حرب
تحرير وطنية)؟ هذه الأسئلة تتحرق إلى إجابات قبل أن نواصل المضي قدماً على درب
الأفعال وردود الأفعال الغدار هذا، درب الضربات والضربات المضادة.
ولدى
الإسرائيليين أيضاً، من جانبهم، قضايا لا بدَّ لهم أن ينصرفوا إليها خدمةً لمصلحة
السلام وتحقيقاً للاستقرار والأمن. أهم هذه القضايا حاجتهم إلى مواجهة واقع أنهم
قد بنوا حلمهم (أي دولتهم) على حساب أشواق وأرواح أناس آخرين. لم يكن الفلسطينيون
مسؤولين عما لقيه اليهود من اضطهاد في أوروبا، فكانت معارضة الفلسطينيين للمخططات
الصهيونية ردَّة فعل طبيعية من شعب يسعى إلى الحفاظ على حريته، على أرضه، وعلى
هويته.
لا
يجوز للإسرائيليين أن يستبعدوا الفلسطينيين بوصفهم إرهابيين ومنبوذين. على
الإسرائيليين أن يقبلوا أن للفلسطينيين مطالب وشكاوى مشروعة، وعليهم أن يدركوا
أنهم، أخلاقياً، بحاجة ماسة إلى القيام بكل ما بوسعهم ليضمنوا حصول الفلسطينيين
على أفضل اتفاق ممكن. لا يجوز للإسرائيليين أن يواصلوا التعامل مع الوضع بذهنية
الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات، لا لشيء إلا لأنهم الأقوى. لقد ظلت هذه
الاستراتيجية، على أية حال، تتمخض عن عكس المقصود طوال عقود، ولم يُستفَد منها سوى
تأجيج التطرف لدى الشعب الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي في آن معاً.
والإسرائيليون،
ما داموا يتنكَّرون لكل ما فعلوا بالفلسطينيين، وما داموا يصرون على مواصلة سياسة
الهوان والقمع حيال سكان الأراضي المحتلة، وما داموا يحاولون أن يبرروا لأنفسهم،
وللعالم، ما هو، بالفعل، لا يقبل التبرير (أي إنكار الحقوق الإنسانية الأساسية
للفلسطينيين)، يقعون أكثر فأكثر في قبضة القوى العنصرية والأصولية التي تدفع
بالمجتمع الإسرائيلي برمَّته إلى حافة التورط في مغامرة إبادية محتملة للمرة
الثانية في تاريخ دولتهم الفتيَّة. فمنذا يستطيع أن ينسى ما حصل عام
1948؟
بعبارة
أخرى، فإن الإسرائيليين، بافتقارهم إلى الحكمة والشجاعة على الاعتراف بأنهم كانوا
على خطأ (بالنظر إلى الطريقة التي نظروا بها إلى الفلسطينيين وعاملوهم منذ انطلاقة
المغامرة الصهيونية نفسها، وليس بالنظر إلى محاولتهم إيجاد حلٍّ
لمشكلة الاضطهاد في أوروبا) وعلى محاولة تصويب خطئهم بالامتثال للمقررات الدولية
المعروفة فيما يخص الأراضي المحتلة، حوَّلوا بلدهم إلى معسكر اعتقال ضخم متوسِّع،
لأنفسهم وللفلسطينيين. وأحلامهم بمجتمع علماني آمِن قد تلاشت تماماً الآن، فيما
المنطقة على أهبة طور جديد من أطوار الإرهاب وسفك الدماء.
هل
بوسع الإسرائيليين أن يعيشوا في هذا الوضع المزري؟ أشك في ذلك. وهل يريدون ذلك حقاً؟
هل هم على استعداد حقاً للاشتراك في اغتيال حلمهم نفسه؟ ذلك إنه حالما يعمل
المتطرفون والأصوليون، من كلا الطرفين، على استغلال الوضع، فإن هذا بالضبط ما سوف
يحدث (شارون وحماس، في الواقع، هما المستفيدان الأولان من حلقة العنف
الحالية). هذه هي الأسئلة التي ينبغي على الإسرائيليين أن يجيبوا عليها.
في
وقت يبدو فيه الطرفان وكأنهما فقدا حسَّ الاتجاه، لعل سؤال "وبعدين؟..."
هو أهم سؤال ينبغي طرحه.
الاثنين، 3 يوليو 2000
الأسد والسلام والمستقبل
تموز
3، 2000 / النهار
طرحت
قضية السلام مع إسرائيل نفسها بقوّة بعد هزيمة تشرين الأول 1973. وكان موقف الأسد
من محادثات السلام التالية لها والتي استمرّت سنين عدّة وتكلّلت بمعاهدة كامب
ديفيد، متناقضاً بعض الشيء. فبينما فهم السادات فيما يبدو بأن الولايات المتّحدة
الأمريكية هي المحرّك الأساسي للعبة في الشرق الأوسط وأنه لا يمكن التعويل على
الاتحاد السوفييتي للحصول على الدعم اللازم للوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي
(فلماذا يدعم الاتحاد السوفييتي ذلك الكيان العقائدي دول تضطهد الحزب الشيوعي وتتذبذب
في توجّهاتها السياسية بين الشرق والغرب في حين يُسمح للحزب الشيوعي بالعمل بكل
حرية في إسرائيل؟). أقول: بينما فهم السادات هذا الأمر بدا الأسد وكأنه إما لم
يفهمه أو قرّر لسبب ما من الأسباب تجاهله. فما يمكن أن يكون هذا السبب؟
إن
محاولات الأسد في الثمانينات لكي يصبح خليفة لعبد الناصر، مستغلاًّ العزلة العربية
التي فُرضت على مصر نتيجة للجهود السورية، تقدّم بلا شكّ الجواب الذي نبحث عنه،
لقد وضع حافظ الأسد طموحه الشخصي فوق الاعتبارات الوطنية (وهذا ليس غريباً،
فالحاكم العربي ما زال ينظر إلى دولته و كأنها ملكية خاصّة)، فوجد في خيارات
السادات الفرصة المناسبة لينفرد بزعامة تيار القومية العربية عن طريق
"تخوين" الأخير والتمظهر بشخصية الزعيم القومي الذي يرفض التعامل مع
العدو والتفريط بالمواقف والمبادئ والقيم. لكن الثمن الذي دفعته سورية بسبب طموح
زعيمها كان إلى حدّ كبير أفدح من ذلك الذي دفعته مصر.
إذ
كان تحويل سورية إلى تابع سوفييتي، الأمر الذي بدأ منذ إحجام الأسد عن حضور مؤتمر
جنيف في عام 1976، أسوأ تطوّر في تاريخ سورية المعاصرة على الصعيدين الداخلي والخارجي،
ولقد جاء كنتيجة حتمية لخيارات الأسد بعيد الحرب وأدّى بدوره إلى فرض حالة من
العزلة السياسية على سورية و إدراج اسمها في لائحة الأمم المساندة للإرهاب. هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى ساهمت عزلة سورية في خلق الظروف التي حوّلت نظام الأسد
"الديموقراطي الشعبي" إلى نظام قمعي استبدادي من الدرجة الأولى كُرّس من
خلاله الوضع الذي يجعلنا اليوم نغامر بأسس نظامنا الجمهوري في تجربة محفوفة
بالخطر.
و
عندما قرّر الأسد بعيد حرب الخليج الثانية أن يشارك في عملية السلام الجديدة
مخرجاً بذلك سورية من عزلتها، لم يجئ قراره هذا نتيجة حنكة سياسية بقدر ما كان اعترافاً
بالواقع الذي فرض نفسه مع انهيار الاتحاد السوفييتي. على أية حال، وجد الرئيس
السوري نفسه هنا محاطاً بأشخاص غير قادرين على التعامل مع عقلية العالم الغربي (والأسد
نفسه كان يعاني من ذات المشكلة بالطبع) وبالتالي على ترويج الموقف السوري بثوابته
المعروفة. إذ ما كان يمكن لأي مفكّر ليبرالي سوري أن يبقى في سورية ناهيك عن
أن يعمل في الحكومة في ظلّ الظروف الداخلية التي خلقها الأسد. ومن ناحية أخرى، لم
يخطر ببال الأسد، أو أي من رجالاته فيما يبدو، أن يرسلوا طاقماً من الشباب إلى
الغرب ليدرسوا و يتدرّبوا استعداداً للحظة كهذه. إن التخطيط البعيد المدى لم يكن
أبداً ميّزة للرعيل الأول للتصحيح. هذا و لقد ساهم أسلوب الأسد
"الباطني" الطابع في التعامل مع شؤون الدولة في تعقيد الأمور. إذ لم
يمكّنه هذا الأسلوب من التلويح بقضية مثل "الرأي العام" أمام الأنظار واستخدامها
كورقة ضغط إضافية خلال المحدثات كما يفعل الإسرائيليون في الكثير من الأحيان.
إن
بطئ سير عملية السلام إذن جاء نتيجة الافتقار إلى الكوادر اللازمة لإجراء
المحادثات من جهة، وغياب الرأي العام من جهة أخرى، ولم يكن التشبث بالمواقف والمبادئ
والثوابت السبب الأوحد في ذلك كما يُشاع. وجاء الوضع الداخلي في إسرائيل والانتخابات
الأمريكية و اغتيال رابين و تعدّد و تشتّت المسارات كعوامل مساعدة أخرى. ولم يكن
أمام الأسد من خيار في مواجهة هذا كلّه إلا اللجوء إلى ورقة الضغط اللبنانية من
جهة (إلى أن تمكّن باراك مؤخّراً من إبطال مفعول هذه الورقة بخطوة رائدة من نوعها
بالنسبة لقائد إسرائيلي) وورقة الرغبة الأمريكية الإسرائيلية ذاتها (ولعلّ هذه هي
الورقة الأقوى وإن كنا نتجاهلها في معظم الأحيان) من جهة أخرى في إبرام معاهدة
سلام لإنهاء حالة الجمود السائدة و ترسيخ وضع إسرائيل في المنطقة و فتح الطريق
أمامها لتطبيع العلاقات مع الدول العربية بشكل خاص ودول المنطقة بشكل عام. إذ يجب
أن لا ننسى هنا أن إسرائيل ما احتلّت ما احتلّته من أراض إلاّ بغية الضغط على
العرب من أجل التوصل إلى القبول بها ومن ثم تطبيع العلاقات معها. ويجب أن لا ننسى
في هذا الصدد أيضاً رغبة إسرائيل في الحصول على المساعدات الأمريكية الضخمة في حال
توقيعها لمعاهدة سلام مع سورية. إن توقيع معاهدة سلام مع سورية إذن ستجيء بمثابة
إعلان رسمي لانتصار إسرائيل على العرب وبعودتها، في منظور الإسرائيليين بالطبع،
لتزعّم هذه المنطقة من العالم بعد غياب دام أكثر من ألفي سنة. هذه هي الورقة
الأخطر في عملية السلام، وهي الورقة الوحيدة المتبقية في يد سورية اليوم، لكن
موضوع اللعب بها ليس بالأمر السهل أبداّ، وسنعود لهذا لاحقاً.
أما
الآن، فدعونا نتوقّف مع قمة جنيف الأخيرة بين كلينتون و الأسد.
جاء
الأسد إلى هذا اللقاء وقد فقد ورقة الضغط اللبنانية وحالته الصحية لم تكن تبشّر
بخير ولم يكن رجالاته قد نجحوا عبر الجلسات السابقة في الترويج للموقف السوري
خاصّة فيما يتعلّق بحقوق سورية في أمواه طبرية، وكانت الانتخابات الأمريكية علاوة
على ذلك على الأبواب، وهذا وقت كما نعرف تختار فيه أمريكا دائماً مهادنة إسرائيل
تقرّباً من اللوبي الصهيوني الذي يكثّف من نشاطاته في هذه الفترة الحرجة بالذات، ومع كل هذا، يقول الأمريكان لنا أن الصفقة التي عرضها باراك على الأسد كانت بالفعل
معقولة بل ومغرية. إذ عرض باراك على الأسد الانسحاب من كل الجولان ما عدا عدة
أمتار محيطة ببحيرة طبرية. ما معنى هذا؟ هل معناه أنه لن يكون لسورية أي حقّ في
مياه طبرية؟ أم هل يتعلّق الموضوع بالسيادة فحسب مع إمكانية التوصّل لاتفاق فيما
يتعلّق بالمياه فتبقى هكذا بحيرة طبرية تحت السيادة الإسرائيلية مع إمكانية منح
سورية بعض الحقوق فيما يتعلّق بالمياه؟ تبقى الإجابات على هذه الأسئلة غير ممكنة
في الوقت الراهن لعدم توفّر المعلومات الموثوقة. و كل ما نعرفه فيما يتعلّق بموقف
الأسد حيال ذلك كله هو أنه اختار الانسحاب من اللقاء لأن الصفقة، حسب شهادة
كلينتون ذاته، لم تؤمّن للأسد إمكانية السباحة في البحيرة.
بأي
عقلية تعامل الأسد و رجالاته مع عملية السلام؟ هل تعاملوا بعقلية كل شيء أو لاشيء،
أي إما كل الجولان أو و لا حتى شبر من الجولان؟ من الأدلة القليلة التي في حوزتنا
بوسعنا أن نقول أن هذا هو ما فعلوه بالضبط. فهل كان هذا التصرّف حكيماً؟ في
الحقيقة إنها لعقلية صبيانية تلك التي تتعامل بهذا الأسلوب مع مصالح الوطن. إن
موقف سورية ضعيف فعلاً من الناحية العملية (و لندع اعتبارات العدالة و الأخلاق
جانباً الآن و لنتكلّم من وجهة نظر "الريال بوليتيك" لأنا في الواقع
بأمس الحاجة إليها اليوم)، لكن هذا لا يمنعها من التمسّك بثوابتها قدر الإمكان
فتحاول الحصول على أفضل صفقة ممكنة، وهذا قد يعني القيام ببعض التضحيات أو
التنازلات. فإن كان لابدّ من التضحية بحصّتنا من السيادة على بحيرة طبرية في مقابل
الحصول على البعض الحقوق في مياهها واسترجاع الجولان بأسره باستثناء ذلك الشريط
الضيّق المحيط بالبحيرة، وتحرير آلاف المواطنين السوريين من نير الاستعمار و
السماح للنازحين بالعودة إلى ديارهم، فإنها لعمري صفقة يمكن قبولها و التعايش
معها.
على
الدكتور بشار إذن أن يحرّر نفسه و في أسرع وقت ممكن من نير سياسات أبيه وعليه أن
يحاول أن يحصل على كل شيء، أي على كل الحقوق المغتصبة، أو أن يرضى في ظلّ الظروف
الراهنة بما هو أقلّ. أما خيار اللاشيء فهو مرفوض حتماً لأنه يعني التخلّي عن
الجولان و لا يحقّ لأي حاكم سوري أن يتّخذ هذا القرار. إذ أن احتمال خسارة الجولان
بشكل نهائي، أي كما خسرنا اللواء من قبل، احتمال للأسف حقيقي جداً.
والآن
صار بمقدورنا العودة إلى ورقة الرغبة الإسرائيلية الأمريكية في السلام. إن هذه
الورقة هي بالطبع في يد إسرائيل أكثر مما هي في يدنا، تماماً كما كانت الحال
مع الورقة اللبنانية. فإذا ما استمرينا نمضي على ذات النهج الذي خطّه الأسد سندفع
بإسرائيل عاجلاً أو آجلاً إلى سحب هذه الورقة من يدنا كلّية، تماماً كما فعلت
بالورقة اللبنانية، خاصّة في حال توقيعها لمعاهدة مع الفلسطينيين، فتقرّر التخلّي
عن مجرى السلام مع سورية وتضم الجولان نهائياً إلى أراضيها متحجّجة بم ستسميه
"بتعنّت" السوريين، وإن دعمتها أمريكا في مسعاها هذا، قل على الجولان
السلام. وستكتب على سورية العزلة من جديد.
هذه
هي الخيارات والوقائع التي يتوجّب علينا اليوم التعامل معها ولقد جاءت كنتيجة
مباشرة لسياسات "حكيم الأمة" الراحل وحزبه ورجالاته، وذلك الصمت المطبق
لشعب هرم.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)