الخميس، 16 نوفمبر 2000

الصيرورة البشرية بين الشرك والتنزيه


كان العرب قبل الإسلام يصنعون تماثيل من التمر لآلهتهم، يضعونها في بيتهم، يأخذونها معهم في ترحالهم، يحرقون لها البخور، يقدّمون لها الأضاحي، يتذلّلون لها، يقدّسونها ويتعبّدونها… ومع ذلك، كانوا لا يتوانون عن أكلها، عند الحاجة، تماماً كما يأكل المسيحيون جسد الرب ويشربون دمه ويلوك المسلمون كلمات قرآنهم.

فالناس في الحقيقة يعبدون إلاهاً هو ليس فقط قابلاً للإماتة و "التجييف"، بل هو بطبيعته ميت وقابل للاقتيات. إنه إله شهي الطعم. ربما لأنه مصنوع من أطايب ما طرأ على مخيلات البشر،وربما لأن عملية الاقتيات بذاتها تمثل محاولة للمشاركة في بعض صفات الإله الأساسية، كالكمال والخلود وكلية السيطرة، تماماً كما تنحو بعض قبائل الأمازون إلى التهام دماغ محاربيها الشجعان بعيد وفاتهم علّها تتحصّل على بعض ما كان لديهم من شجاعة.

لا يمكن لإله حيّ ومنزّه أن يرضي احتياجات البشر. لابد للإله إن يخضع بشكل ما من الأشكال لرغبات وسيطرة "خلقه"، ولابد للخلق من الشرك.

إن الاصرار على كون القرآن كلمة الله الأزلية محض شرك، لكن موقف أغلبية الفقهاء المسلمين المؤيد له عبر التاريخ ، علاوة على الموقف الشعبي، هو أكبر دليل على تعارض عملية التنزيه مع احتياجات البشر الفعلية فيما يتعلّق بالقضايا الإيمانية. لقد كان المسلمون بحاجة إلى "لوك" شيء ما عوضاً عن التمر والخبز، فكان أن حلّت الكلمة القرآنية، ذلك المعادل الإسلامي للمسيح (وللصنم)، محلّهما. وبذا تمّ تغييب الإله المنزّه لمصلحة الإله الناقص، واستعاد الناس إلهم المؤنسن واستمرّوا في اشباع نهمهم نحو الكمال المؤجل إلى الأبد.

لكن إماتة الإله كانت هزيمة أكثر منها نصراً. لأن تجييف الإله هو بمثابة تجييف للمبدأ والقيمة. وتجييف المبادئ والقيم هم بمثابة تجييف للحضارة القائمة عليهم. إن موت الحضارة الإسلامية جاء في خاتم المطاف كنتيجة حتمية لتقديس الكلمة عوضاً عن الله، أو لتفضيل الثابت على المتحوّل، وللمصلحة على المبدأ، الأمر الذي وضع حدوداً هائلة في وجه التأويل التحليلي (الذي يختلف عن التأويل الباطني)، وأدى فعلياً إلى وقف عملية الاجتهاد، فيما يتعلق بالأصول على الأقل.

ومن هذا المنطلق، بوسعنا أن نجزم أن الشرك كان السبب الأساسي لموت الحضارة الاسلامية، لكنه بمفهومه الفلسفي والقيمي الأعمق من المفهوم الفقهي المتعارف عليه. إن أغلب الفقهاء والعلماء وفقاً لهذا المفهوم مشركون لأن أغلبهم ينتمي بشكل أو آخر إلى مدرسة تقديس الكلمة. 

إن إماتة الإله والتهامه عملية إشكالية يفضح من خلالها الناس عجزهم عن الارتقاء إلى المبادئ الأساسية التي يدّعون الإيمان بها. إن تفضيل المبدأ على المصلحة أمر طالما أعجز التجمعات البشرية، ولذا، فإن التهام الله هو مظهر أساسي من مظاهر المدنية، ولربما، بحسب رينيه جيرار  René Girard وإريك جانس Eric Gans ومن نحا نحوهم من علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع، كان بدء هذه العملية هو نقطة انطلاق الحضارة المدنية الإنسانية.

وبذا، يكون الصراع بين الشرك والتنزيه (و لا أقول التوحيد لما ارتبط بهذا المفهوم من التباسات)، هو الصراع الأساسي الذي يحكم الصيرورة الإنسانية. لقد نشأ الشرك مع المدنية وبل ربما كان هو مسببها الأول، أما التنزيه فجاء نتيجة الخيبة التي نجمت عن فشل المدنية في تحقيق بعض التطلعات الإنسانية الأساسية كالعدل والاحساس بالانتماء والرغبة في رفع القيود المفروضة على الابداع.