الجمعة، 4 ديسمبر 2015

أسوأ الردود

تاشفين مالك وسيد فاروق، المسؤولان عن الهجوم الإرهابي في سان برناردينو، كاليفورنيا
بلدي أمريكا تتعرض للهجوم، وسبقتها من قبل بلدي سوريا وبلدي فرنسا، وقبلهما كان دور بلدي العراق وبلدي لبنان ... بلدي العالم، كياني الخاص، يتعرض للهجوم. والمهاجم تحالف القوى المتطرفة القائمة على الجهل والإيديولوجيات السقيمة، وشهوة السلطة، والحسد، والجشع. في مواجهة هذا الهجوم، تمثل ردود الأفعال الحمقاء، والتبسيط، والتحيز، والكراهية، أسوأ رد ممكن، بل هي في الواقع جزء من المشكلة. أما الآلية الحقيقة للمواجهة فتكمن في التيقّظ الدائم، والعمل على بناء المزيد من الجسور بين البلدان والطوائف الدينية المختلفة في العالم، والتركيز الجدي على جهود صنع السلام، ودعم عمليات التنمية المعرفية والبشرية، والتعليم. لأن الاستبداد والجهل والإيديولجيات السياسية والفساد هي العدو الحقيقي لنا، ولا يمكن ولا ينبغي لمعركتنا ضدهم أن تتوقف لحظة.


الجمعة، 20 نوفمبر 2015

المعركة الحقيقية في سوريا


المعركة الحقيقية في سوريا ليست مع داعش، وما حدث في باريس هو في المقام الأول قضية فرنسية وليست سورية، وينبغي التعامل معها هناك وليس في سوريا. للمشكلة في سوريا اسم واحد فقط: نظام الأسد، فإذا ما تم تنحية الأسد عن المشهد السياسي، سيتكفل الثوار بسحق داعش، ولن تحتاج أية دولة لوضع "أحذيتها الثمينة" على أرضنا. نحن لسنا بحاجة لضربات جوية لتدمر ما تبقى من بلدنا، كما أننا لا نريد أن نعيش في ظل وصاية روسية-إيرانية. إن كلمة لافروف مؤخراً حول كون الإرهابي هو ذاك الذي يتصرف كإرهابي تنطبق على الأسد أكثر من غيره من اللاعبين على الساحة السورية بكثير، فالنظام بحسب المعطيات الموضوعية الموثقة هو المسؤول عن مقتل 98% من حالات القتل الموثقة، بينما لا تتجاوز مسؤولية داعش الـ 0.8%، ومسؤولية الثوار الـ 1.3%. هذا يعني أن روسيا وإيران متورطتان أكثر من أية دولة أخرى في تمويل ودعم الإرهاب، وربما يتوجب على اللائحة التي قدمها بوتين إلى قمة العشرين أن تشملهما أيضاً. على كل طرف من أطراف الصراع في سوريا أن يعيد النظر بطريقة تعريفه للمشكلة التي تواجهنا جميعاً والتي لايشكّل داعش إلا عارضاً لها.   

السبت، 5 سبتمبر 2015

عن العصبوية والتعصب


 (1)

إن محاولة ربط ظواهر إيجابية أو سلبية بعينها حصرياً بمكوّن بعينه من خلال التعميم هو جوهر التعصّب، وتكريس لعقلية الكراهية والتكفير وإدانة الآخر.

(2)

قد يأخذ التشدّد والتطرّف عند بعض الجماعات مظهراً عصبوياً أكثر منه دينياً، جامعاً المتدينين منهم والأقل تديناً وصولاً إلى الملحدين، ومكرّساً عقلية التشكيك في الآخر ورفضه، إن لم يكن على المستوى الاجتماعي المباشر فعلى المستوى النفسي العميق. وسيجد المتدينون والملحدون طرقاً مختلفة بالطبع للتعبير عن مشاعرهم وآرائهم في هذا الصدد من بدءاً بالتكفير الصريح وانتهاءاَ بإدانة بعض الممارسات الاجتماعية والثقافية وربطها بمكوّن بعينه، أو مناطق بعينها مرتبطة اجتماعياً أو تاريخياً بهذا المكوّن، فيتم بذلك توظيف اللغة العقائدية وشيئاً من اللغة "الموضوعية" لتبرير التعصّب والرفض. ومن هذا المنطلق، لاتختلف العصبوية خطورة عن التشدّد الديني، فكلاهما قادر على تبرير الممارسات الإجرامية والإرهابية بحق الطرف الآخر عند الضرورة.

(3)

التكفير ليس اختراعاً سنياً أو وهّابياً بل كان ديدناً لكل الطوائف الإسلامية منذ زمن الفتنة وحتى اليوم، في محاولة كل فئة التأكيد على أنها الفئة الناجية ولتبرير خصومتها وقتالها للفئات الأخرى. ومما لاشك فيه أن ربط ظاهرة التكفير والتشدّد بالسنة حصراً، كما هو شائع في الأوساط الإكاديمية والإعلامية المحلية والعالمية، بات يغذّي المظلومية السنية ويفاقم ظاهرة التعصّب والتشدّد في صفوفهم، لأن انتشار هذه الظاهرة تحوّل إلى أداة فاعلة في أيدي شيوخ التطرّف وعلمائه يستخدموها للتدليل على وجود مؤامرة عالمية تستهدف الإسلام السني تحديداً. هذا في وقت لا يقل فيه موقف الطوائف والأديان الأخرى تطرّفاً إن من الناحية الدينية و/أو العصبوية.

ولا يكفي هنا أن يدين كل طرف من المعادلة المتشابكة والمعقدة التعصّب الموجّه ضده، فهذا سهل، لكن التحدّي الحقيقي، والذي يجب على الجميع مواجهته لنتحصّل على فرصة حقيقية لتحقيق السلام والحرية والعدالة، يكمن في إدانة كل طرف للتعصّب الممارس باسمه، وتحليل أسبابه، وفهم سياقه، لكي نتمكّن جميعاً من مقاومة هذه الظاهرة والتغلّب عليها من خلال تبنّينا لمناهج ومقاربات فكرية ونفسية واجتماعية وسياسية واضحة وفعّالة.

(4)

في هذه المرحلة من تاريخنا، ونظراً لما يجري على أرض الواقع في سوريا، لاشك في أننا أصبحنا كلنا ضحايا وكلنا آثمون في آن. ولا معنى للنسب والحصص هنا، لأن المشكلة مشكلة ذهنية ونفسية بعينها، وما لم نقم بالإنقلاب عليها وتغييرها، سنبقى غارقين في مستنقع الكراهية والإجرام إياه حتى تتساوى نسبنا منه.

(5)

لا يحقّ لأي فئة من الشعب، سواء كانت أغلبية أم أقلية، أن تختار شكلاً للدولة ومنطقاً لحكمها لا يتناسب إلا مع رؤيتها الخاصة للأمور، بصرف النظر عن رؤى الآخرين، ويقوم في جوهره على اضطهاد الفئات الأخرى المختلفة من خلال تحييد حقوقهم وآرائهم من خلال القمع المباشر أو الدعوة إلى استفتاء شعبي. فلا، الديموقراطية ليست مجرد انتخابات واستفتاءات شعبية، مهما كانت حرة. فقبل أن نستفتي وننتخب، علينا أولاً أن نتفق على طرق وآليات وترتيبات لحماية الحقوق الأساسية للأفراد والمكوّنات المختلفة في المجتمع، وبعد ذلك، وبناءاً على هذا الاتفاق، وضمن حدود الحقوق والترتيبات المنصوص عليها فيه، تبدأ العمليات الانتخابية والاستفتائية الحرة. هذا معنى أن تكون الدولة ديموقراطية ومدنية. علينا أن نتفق على قواعد اللعبة أولاً قبل الانتقال إلى مرحلة الانتخابات والاستفتاءات. أما من يروّج لفكرة إجراء استفتاءات شعبية قبل الاتفاق على أرضية جامعة، من منطلق أن الديموقراطية تعني حصراً رأي الأغلبية، وفي مجتمع يشهد انقسامات سياسية وطائفية وقومية ومناطقية واضحة، علاوة على حرب أهلية، ففي هذا تكريس للمواجهة القائمة، وتحضير للمواجهة القادمة التي يأمل البعض من خلالها أن ينجحوا في فرض نظام عقائدي استبدادي جديد.


الجمعة، 4 سبتمبر 2015

العدل، والإسلام، والعلمانية، والتيارات اليسارية

(1)

قال (ابن تيمية) في الفتاوى 28/63: فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: { الله يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً }.

وقال ابن تيمية أيضاً في "رسالة الحسبة" والمدرجة في مجموع الفتاوى (ج 28/146): وأمور الناس تستقيم فى الدنيا مع العدل الذى فيه الاشتراك فى أنواع الاثم أكثر مما تستقيم مع الظلم فى الحقوق؛ وإن لم تشترك فى إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام).

وفي القرآن: "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" (سورة الكهف: 30).

وفي الحديث: عن أَبُي عَبْدِ الله الْأَسَدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ". [رواه أحمد (3 / 153) والضياء في "المختارة" (249 / 2)] ["السلسلة الصحيحة": 767].

وفي السيرة، قال النبي لمهاجرة الحبشة: "...فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد." ولم يكن الملك مسلماً.

الخلاصة:

1)   العدل عماد الدولة.
2)   الله مع العدل، وينصر الدولة العادلة بصرف النظر عن معتقداتها الدينية.
3)   لاعلاقة ما بين قدرة الإنسان على التصرف بعدل، أي على إعطاء كل ذي حقّ حقّه، ومعتقده الديني.

وتعني هذه النقاط الثلاث أنه وعلى المستوى الجمعي والمؤسّساتي (فما الدولة إلا مؤسّسة أو مجموعة مؤسّسات)، العدل هو الأساس وليس المعتقد. فالمعتقد يأطر للعلاقة ما بين الله والفرد. أما العلاقة ما بين الفرد والفرد، فينبغي أن تخضع لمبادئ تنبع من إنسانية الجميع ورغبتهم في العيش بحرية وأمان، ولهذا لايمكن لهذه العلاقة أن تُنظّم بناءاً على معتقد مجموعة معينة من الأفراد بصرف النظر عن معتقدات الآخرين، فليس هذا من العدل من شيء.

فالمعتقد بطبيعته يفرّق، ولايمكن به بالتالي أن يكون أساساً لقيام الدول، أما العدل فيجمع، والناس في التاريخ الإسلامي لم يأسفوا على رحيل حاكم إلا وكان عدله هو الصفة الأساسية التي دفعتهم إلى ذلك.

وفي هذا كله تبرير وشرعنة إسلامية لمفهوم العلمانية، بعيداً عن كل السفسطة المحيطة بهذا المفهوم.

وفي هذا أيضاً دليل على أهمية التراث وقدرته على المساهمة في مساعينا لإيجاد حلول عقلانية لمشاكلنا الحالية، وذلك إذا ما تعاملنا معه بشكل موضوعي ومنهجي ونقدي بناء. إن من نبش ألف وأربعمئة عام من الحضارة الإسلامية ولم يجد أمامه إلا الترّهات فلأنه مسكون بالترّهات أساساً. وهنا جوهر مشكلتنا مع الكثير من الإسلاميين اليوم، لأنا حتى لو خاطبناهم بلغة الإسلام ذاتها، بل بلغة أولئك العلماء مثل ابن تيمية الذين يلعب فكرهم دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الإسلامي المعاصر، لن يفهموا ولن يفقهوا. ولنا في محاولات نصر حامد أبو زيد، وخليل عبد الكريم، وهادي العلوي وغيرهم خير دليل على ذلك.

(2)

المشكلة ليست في التراث الإسلامي بحد ذاته إذاً، والذي لا يختلف عن غيره من حيث احتوائه لما هو سلبي وإيجابي، ومن حيث ذخره بالكثير من الشخصيات التي لها سلبياتها وإيجابيتها مثل ابن تيمية ذاته والذي أدى إنعاش فتواه المنسية بحق "النصيرية" في سبعينات القرن الماضي إلى تعميق الهوة ما بين المكونين السني والعلوي في سوريا ولبنان، وبالتالي من حيث احتياجه المستمر للتحليل والتنقيح بحثاً عما هو مفيد لنا، بل وللبشرية جمعاء، في عصرنا هذا. بل تكمن المشكلة الحقيقة في حالة الذعر التي يغرق بها الإسلاميون، وغيرهم من المثقفين الإيديولوجيين الشرقيين، عند معاينتهم للواقع المحيط بهم، والذي ما بوسعهم الانتماء إليه لأنهم لم يساهموا في صنع أي شيء فيه، والذي لا يمتّ لما يؤمنون به بأية صلة، هذا الواقع الذي يشعرهم بالعجز والاغتراب واللاإنتماء. ويبدو أن الحل الأسهل بالنسبة لهم في مواجهته يتلخص بالإرتكاس، ليس فقط إلى ما هو قديم (الإسلام) وجاهز (فكر عدد محدد من العلماء)، بل إلى تبني العقائد والمظاهر والممارسات الأكثر اختلافاً عن القيم المعاصرة كنوع من المبالغة في الرفض والتحدي.

من آراء ابن تيمية الأخرى التي تستوجب التفنيد بدورها، بل الرفض التام، لما فيه من تقليص لدور العقل وحرية الفرد، لكنه للأسف ينمّ عن اعتقاد شائع بين الإسلاميين على اختلاف مشاربهم.

أما فيما يتعلق بالمعتدلين منهم، والذين قد يتبنى بعضهم، خاصة الذكور، بعض المظاهر العصرية فيما يتعلق بالملبس والمعشر (الاختلاط)، فإن اعتدال معظمهم يبقى في واقع الأمر سطحياً، وغالباً ما يتجلى في وثائق غرائبية وموجهة للرأي العام العالمي أكثر منها لشعوبهم، مثل إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام، والذي يربط كل مواده بالشريعة الإسلامية دون أية محاولة لرفض تلك الأحكام فيها التي تتعارض كلية مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مما يفقده قيمته جملة وتفصيلاً.
  
 إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام هو إعلان تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، القاهرة، 5 أغسطس 1990.

الديباجة: تأكيداً للدور الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة ربطت الدنيا بالآخرة وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتناقضة وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة.

المادة 6: أ- المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، ولها من الحق مثل ما عليها من الواجبات ولها شخصيتها المدنية ذمتها المالية المستقلة وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها. ب- على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة ومسؤولية رعايتها.

المادة 10: الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان أو استغلال فقره أو جهله على تغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد.

المادة 16: لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني. وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية العائدة له على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة.

المادة 19: ... د- لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة.

المادة 22: أ- لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية. ب- لكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية. ج- الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة مجتمع بالتفكك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد.

المادة 24:كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية.

المادة 25: الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة.

يمكن الإطلاع على تحليل عبد القادر أنيس للإشكالات المختلفة الكامنة في الإعلان على موقع الحوار المتمدن. لكن ننوه هنا إلى النقاط التالية:

1.               التناقض الجلي في تفضيل الإعلان لأمة بعينها على حساب كل الأمم الأخرى (الديباجة والمادة 10).
2.               المادة 16، ومن خلال تقييدها للإنتاج الأدبي والفني بأحكام الشريعة، تمثل رفضاً لمعظم ما أنتجه الأدباء والفنانون العرب والمسلمون عبر القرن الماضي وهي بالتالي تتنافى مع حرية التعبير.
3.               قبول المادة 19 بأحكام الشريعة فما يتعلق بالجريمة على الرغم من احتوائها على عقوبات قروسطية مثل قطع اليد والصلب والرجم.
4.               تقييد حرية الرأي والأمر المعروف والمنكر بمبادئ وأحكام الشريعة، علاوة على تحريم "زعزعة الاعتقاد" يتنافي بدوره مع حرية التعبير.
5.               تشكل المادتان 24 و25 من الإعلان إلغاءاً عملياً لكل ما سبقه من مواد، وتكريساً لدور الشريعة، كما هي، كالمرجع الأول والأخير للمجتمعات الإسلامية.

 من ناحية أخرى، يشكّل إيمان هؤلاء المعتدلين بأمور مثل الإعجاز العلمي في القرآن والطب النبوي، علاوة على مبالغتهم في كتبهم "التنويرية" و"الإصلاحية" لمساهمة الحضارة الإسلامية في النهضة العلمية الأوروبية، محاولة رخيصة للاستحواذ على منجزات الحضارة الغربية المعاصرة.

(3)

لكن المشكلة هنا لا تتوقف على الإسلاميين، فتصرفات معظم المفكرين العلمانيين، اليساريين خاصة (إذ مايزال دور الليبراليين، بأنواعهم، في تشكيل الوعي العربي والإسلامي المعاصر محدوداً لأسباب كثيرة)، لا تقل تناقضاً.

فاليسار استورد عقائده جاهزة من الغرب (الشيوعية والاشتراكية والفوضوية) دون أن يقوم منظروه بأية مراجعة جدية لها، وحوّل مواقفه المناهضة للإمبريالية إلى عداء صريح للحضارة الغربية ككل. كما يدل استمرار النزعات العشائرية و"المحافظة" للكثير من أتباع التيارات اليسارية على الصعيد الاجتماعي على فشلهم في تقبل السلوكيات الناجمة بشكل طبيعي عن مبدأ الحريات الفردية، خاصة فيما يتعلق بحرية المرأة. ومع ذلك، هناك ما يكفي من الاختلاف في الأنماط السلوكية الاجتماعية ما بين أعضاء التيارات الإسلامية واليسارية (والليبرالية) لخلق أزمة كبيرة بينهم فيما يتعلق بطبيعة الدولة والأنظمة الحاكمة فيها، في حين تسمح لهم مواقفهم المناهضة للإمبريالية والرأسمالية والغرب بإيجاد أرضية سياسية مشتركة. ولقد لعب هذا الأمر دوراً كبيراَ في تشكيل الوعي العربي والإسلامي المعاصر، وبالتالي في الأزمة الراهنة التي تمر بها غالبية الشعوب التي تحمل إحدى أو كلا هاتين الهويتين.
  
الميثاق العربي لحقوق الإنسان: اعتمد من قبل القمة العربية السادسة عشرة التي استضافتها تونس في  23 أيار، 2004.

الديباجة: انطلاقاً من إيمان الأمة العربية بكرامة الإنسان الذي اعزه الله منذ بدء الخليقة وبأن الوطن العربي مهد الديانات وموطن الحضارات ذات القيم الإنسانية السامية التي أكدت حقه في حياة كريمة على أسس من الحرية والعدل والمساواة.

المادة 3: 3- الرجل والمرأة متساويان في الكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات في ظل التمييز الايجابي الذي أقرته الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية الأخرى والتشريعات والمواثيق النافذة لصالح المرأة.

مادة 33: 1- الأسرة هي الوحدة الطبيعية والأساسية للمجتمع.

مادة 43: لا يجوز تفسير هذا الميثاق أو تأويله على نحو ينتقص من الحقوق والحريات التي تحميها القوانين الداخلية للدول الأطراف أو القوانين المنصوص عليها في المواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان التي صدقت عليها أو أقرتها بما فيها حقوق المرأة والطفل والأشخاص المنتمين إلى الأقليات.

تم وضع هذا الميثاق من قبل القوى القومية العربية العلمانية التي تسيطر عليها التيارات اليسارية بشكل كبير، وإن كان للشخصيات الليبرالية مساهمتها فيه أيضاً.

ومن منطلق حقوقي بحت يبدو من الواضح أن الميثاق أفضل بمراحل من نظيره الإسلامي وأقرب في مواده من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي شكّل مرجعية أساسية له، إضافة إلى المواثيق الدولية الأخرى المتعلقة بحقوق  الإنسان (المادة 43).

لكن، بوسعنا أن نرى فيه إيضاً ذات الغطرسة والغرور الفئوي ("الوطن العربي مهد الديانات وموطن الحضارات ذات القيم الإنسانية السامية...")، وإشكالية واضحة فيما يتعلق بدور المرأة ("في ظل التمييز الايجابي الذي أقرته الشريعة الإسلامية..." المادة 3)، ونزعة عشائرية محافظة من خلال اعتبار الأسرة، وليس الفرد، بمثابة "الوحدة الطبيعية والأساسية للمجتمع" (المادة 33).

 ولا يمكن لهذا الوضع أن يتحسّن حتى يتصالح أتباع هذه التيارات مع ضرورة الانخراط النقدي بالحضارة الغربية العالمية المعاصرة، بما فيها من قيم، الأمر الذي يتطلب القيام بمراجعة شاملة ونقدية للتراث، بما فيه من قيم. وبالتدريج، ومن خلال المساهمة في تطوير حضارتنا المعاصرة هذه، خاصة في المجالات العلمية والفنية والأدبية والفلسفية والقانونية، سيجد أتباع هذه التيارات أنفسهم قادرين على الانتماء لهذه الحضارة، بل وعلى نسبها لأنفسهم أيضاً، بفضل إثرائهم لها بإنجازات حقيقية.

لا يكمن الحل إذاً في المقاومة، بل في الإنخراط، الإنخراط النقدي الواعي. فلا الغرب ولا القوى الإقليمية الناشئة حول العالم اليوم، سيفتحوا لنا أبواب الإنخراط على مصاريعها، لإن الانخراط يهدد نفوذهم أكثر من تلك المقاومة العدمية التي تبنيناها عبر العقود الماضية والتي جاءت بمثابة الطبق الذهبي الذي قدمنا عليه أنفسنا وثرواتنا طعمة وهدية للأخرين. فالإنخراط يعني زيادة حصصنا وقدراتنا التنافسية على الساحة السياسية والإقتصادية، وهذا الأمر لن يتحقق من دون معركة. لكنها ستكون معركة من نوع آخر: تنموية وسياسية بالدرجة الأولى، وإن شابها العنف في بعض مراحلها، فلن يكون عبثي الطابع، أو بالأحرى، لا ينبغي له أن يكون وإلا عدنا إلى المربع الأول. لكن هذا الأمر يتطلب نقاشاً آخر.



الأحد، 19 يوليو 2015

مبادرة لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا: النسخة المعدلة


فيما يلي نص النسخة المعدّلة لـِ "مبادرة ثروة لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا" والتي طرحت رسمياً في 30 حزيران 2015. تم تعديل المواد الأساسية للمبادرة بناءاً على الحوارات، الخاصة والعامة، التي دارت مع مجموعة كبيرة من الخبراء والنشطاء والمعارضين السوريين. ويجري العمل حالياً على التحضير لطرح هذه المبادرة على نطاق عالمي أوسع (English Version).

مقدمة

تهدف المبادرة المقترحة هنا إلى تحويل النزاع في سوريا من صراع عسكري مدمّر إلى عملية سياسية يمكن من خلالها للأطراف الداخلية والخارجية المختلفة الاتفاق على ترتيبات إدارية مرحلية تسمح لكل طرف داخلي بالبدء بإعادة بناء ما تهدّم في منطقته، وإعادة توطين اللاجئين وتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين، وذلك بمساعدة القوى الداعمة له على الصعيد الإقليمي والدولي. وفي هذه الأثناء يمكن للمباحثات المتعلّقة بالوضع النهائي للبلد من الناحية الإدارية والسياسية والقانونية والدستورية أن تبدأ، وإن امتدت لسنين.

وتتلخّص المبادرة بالبنود التالية:

1.  يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على خطوط واضحة لوقف إطلاق النار تفصل ما بين المناطق الخاضعة للأطراف الداخلية المختلفة، واعتماد كل منطقة مرحلياً كوحدة تابعة للطرف المعني يديرها بحسب توافقات داخلية محددة. ويأتي هذا الترتيب الجديد كجزء من استمرار لالتزام الأطراف الداخلية والخارجية المختلفة بوحدة الأراضي وسيادة الدولة السورية.
2. يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على بنود واضحة للتعاون ما بين الوحدات الجغرافية المختلفة الخاضعة لسيطرتهم في عدد من المجالات الحيوية، خاصة فيما يتعلّق بالقضايا الأمنية والاقتصادية، وآليات التنقّل ما بين الوحدات، وإدارة العلاقات القائمة ما بين المكونات والشرائح الاجتماعية المختلفة في كل منطقة.
3. يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على تحييد دور دمشق في الصراع عن طريق تأسيس حكومة مرحلية حيادية يشارك فيها ممثلين عن الأطراف المختلفة تدير شؤون المدينة ونواحيها تحت إشراف لجنة دولية أممية معينة من قبل مجلس الأمن. ويفضل إعطاء المسؤول الأممي المشرف على الشأن السوري صلاحية تشكيل هذه الحكومة بالتشاور مع كافة الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية.
4. يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على تنصيب رئيس مرحلي في دمشق، لفترة غير قابلة للتجديد، لا تقل عن سنتين ولاتزيد عن خمس سنوات، يتصف بأنه قادر على بناء الإجماع ما بين الأطراف المختلفة، تكون مهمّته الإشراف على عمل الحكومة المرحلية وعلى المباحثات ما بين أطراف الصراع، والعمل على تنسيق المساعي الإقليمية والدولية في هذا الصدد، في حين يبقى بشار الأسد مسؤولاً عن إدارة المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات الموالية له، وعلى تمثيل تلك الشرائح التي ماتزال تعتبره ناطقاً شرعياً معبراً عن مصالحها.
5. عند الضرورة، يمكن لأطراف النزاع الاتفاق على التبادل السلمي لبعض المناطق والسكان ما بين الأطراف المختلفة حفاظاً على أمن جميع الشرائح والمكونات الاجتماعية والثقافية. وبسبب الصعوبات المتعلّقة بعمليات تبادل السكان، لابد وأن ينبثق القرار المتعلّق بالرحيل من المكونات المتأثرة. علاوة على ذلك، ينبغي تقديم تعويضات مالية وعينية (مثل السكن) مناسبة إلى كل المتضررين وخلال إطار زمني منطقي.
6.  يتوجّب على أطراف النزاع الاتفاق على دعوة قوات حفظ سلام مشكّلة من دول محايدة لمراقبة خطوط التماس المرحلية، والنقاط الحدودية، والمطارات والمرافئ الدولية، لمنع وقوع أية خروق لاتفاق وقف إطلاق النار، ولتسهيل التنقّل ما بين المناطق المختلفة، ولمنع تدفق المقاتلين والأسلحة من وإلى سوريا، إلا بحسب الاتفاقات الموقّعة من قبل أطراف النزاع.
7.  يمكن لكل طرف من أطراف النزاع في المرحلة الانتقالية أن يحتفظ بمجموعاته المقاتلة شرط تفريغها من العناصر الأجنبية بالتدريج وفقاً لجدول زمني محدّد، ولا يجوز للأطراف التحايل على ذلك عن طريق التجنيس و/أو منح الإقامات.
8.    ينبغي على الحكومة المرحلية احترام كافة العقود والاتفاقات التي عقدها النظام حتى تاريخ إعلان هذه المبادرة.
9.  يتوجّب على أطراف النزاع حظر خطاب التحريض والكراهية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، واحترام قداسة كل المعابد والمؤسسات الدينية، والصروح ذات الأهمية التاريخية، وعليهم توفير الحماية لكافة الحجاج والزوار القادمين من داخل أو خارج البلاد.
10. يتوجّب على كافة أطراف النزاع، ما أن تم التوقيع على هذا الاتفاق في صيغته التفصيلية النهائية، توجيه وتنسيق جهودهم لمحاربة المجموعات الداعمة للإرهاب الدولي والتي بنت لنفسها مقرات وبسطت سيطرتها على أراضٍ سورية. ويتوجّب في هذه المرحلة على جميع الأطراف أن تفرج عن كافة المعتقلين السياسيين، وأن تقدّم لوائح بأسماء من قضى منهم خلال فترة اعتقاله، وأن تفتح سجونها ومعتقلاتها للمراقبين العاملين في هيئات حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ليتأكدوا من امتثال الجميع لهذا الشرط.
11. تبدأ المرحلة الانتقالية مع تاريخ تعيين الرئيس المرحلي، وتنتهي عندما يستقيل بعد خدمة لاتقل عن سنتين ولاتزيد عن خمسة. ولاينبغي تجديد أو تمديد المرحلة الانتقالية. وينبغي على محادثات الوضع النهائي للبلد أن تبدأ وتنتهي خلال فترة حكم الرئيس المرحلي، وأن تتناول كل القضايا المتعلّقة بمستقبل سوريا، بما في ذلك وضع دستور جديد وطرحه للاستفتاء الشعبي، والبت في القضايا المتعلّقة بالعدالة الانتقالية. وعلى تاريخ انتهاء حكم الرئيس المرحلي أن يتزامن مع تاريخ استلام أول رئيس منتخب وطنياً في البلد لمنصبه. كما على تاريخ انتهاء حكم الرئيس المرحلي أن يتزامن أيضاً مع تاريخ انتهاء عمليات ونشاطات الحكومة المرحلية وبداية عمل الحكومة الوطنية الجديدة المنتخبة.
12.  ينبغي أن تخضع كل العمليات الانتخابية وكل الاستفتاءات التي تجري خلال المرحلة الانتقالية لرقابة الأمم المتحدة عن طريق هيئاتها المختصة.

تقتضي الموافقة على هذه النقاط الدخول في عملية تفاوضية لاحقة للاتفاق على التفاصيل المتعلَقة بتنفيذها، مثل تحديد هوية الرئيس المرحلي، وأعضاء الحكومة المرحلية، والاتفاق على هوية الأطراف الداخلية التي يحقّ لها المشاركة في هذه الحكومة وفي العملية التفاوضية اللاحقة، وتعيين الجداول زمنية وخطوط وقف إطلاق النار، إلى آخر ما هنالك من تفاصيل وقضايا. وتبدأ المرحلة الانتقالية من تاريخ توقيع الاتفاق النهائي، وهو أيضاً تاريخ تعيين الرئيس المرحلي بشكل رسمي.

(يمكن الإطلاع على الشرح التفصيلي لهذه البنود على الرابط التالي).


الخميس، 16 يوليو 2015

ملاحظات حول الطبيعة الإنسانية والنظام الدولي

شعارات للفوضويين في الغرب

ما يزال الكثيرون اليوم ينتقدون الغرب ككلّ، بحضارته وثقافاته واقتصادياته وسياساته، ويحلمون باندحاره وبسقوط النظام العالمي الذي وضع دعائمه، كل ذلك دون أن يقدم أحد رؤية ما لأيّ بديل عملي وعقلاني. بل، يبدو أن معظم المنتقدين هنا متصالحين تماماً مع فكرة أن الفوضى هي البديل الفعلي على المدى المنظور في حال تحقّق حلمهم وانهار الغرب.

الخراب ولا الغرب. إنها للعمر عقيدة غريبة، ولا يوجد ما يبرّر كل هذا الحقد الكامن في نفوس من يتبنّوها إلا الفشل والعجز والرغبة في التحصّل على ما لا يمكن للمرء كسبه بجدارة واستحقاق. فالخراب، إن تحقّق، هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها للبعض أن يبنوا أمجادهم: إقطاعيات صغيرة يكونوا فيها ملوكاً وليس مجرد طفيليين كما هو حالهم اليوم.

ولا فائدة تُرجى هنا من الصراخ "يا فوضويو العالم اتحدوا!" فهم، إن اتحدوا، فعلى الترهات والتفاهات والأوهام والأكاذيب. لكن الواقع أنهم لن يتحدوا أبداً، فهذا مخالف لطبيعتهم العقائدية في الصميم. وسيبقوا يتصارعون فيما بينهم على الفتات والأوهام. وفي أسوأ تجلياتهم وأكثرها عنفاً، لن يزيدوا عن كونهم  قتلة مأجورين، وإرهابيين، ولن يشكلوا أكثر من تحدّ أمني الطابع بوسع معظم دول العالم أن تحمي نفسها منه، بل وأن تستغلّه في صراعاتها مع الدول الأخرى من ناحية، ومع شعوبها من ناحية أخرى.

وفي هذه الأثناء، وبينما ينخرط فوضويو العالم في الأدلجة والمهاترات، ستستمر عمليات التحاصص ما بين القوى الفاعلة في الغرب والشرق، والشمال والجنوب، وسيستمر الدمار في أكثر من دولة ومنطقة في العالم. وتقع المسؤولية عن هذا الواقع المرّ على عاتق أقوياء العالم وحمقاه معاً.

من هو صاحب القرار هنا، من يدير العرض: الراقصة أم الطبال؟ أم كلاهما، لأن لا فرق بينهما، أو لأنهما يتناوبان على الدورين، فالظلم بطبيعته علاقة تفاعلية وتعاونية وتشاركية؟

إن كان ثمة محرّك لهذه التطورات الكلبية (السينيكية) فهي طبيعتنا البشرية إياها، بما فيها من مخاوف وأطماع ومصالح وغباء وعمىً إيديولوجي... هذه هي الطبيعة الحقيقية للمؤامرة القائمة. نعم، نحن المؤامرة والمتآمرون. نحن أصحاب القرار. نحن الراقصة والطبال.

من شعارات الفوضويين الإسلاميين

(2)

غالباً ما يحجّ أثرياء العالم، والكثير من أصدقائهم من ذوي النفوذ بحكم مناصبهم السياسية أو العسكرية، أو مكانتهم الاجتماعية، أو صفتهم الدينية، وبصرف النظر عن بلد المنشأ، إلى نفس الأماكن والبقع في العالم، بغرض العمل والمتعة، فتتقاطع دروبهم حتى في الوقت الذي تتضارب فيه مصالحهم، مما يعطيهم فرصاً أكبر للتنسيق، وللاختلاف، بشكل منظّم ومنهجي. وهو أمر تسهّله عليهم أيضاً قلّة عددهم النسبية.

وعلى الرغم من تنوّع خلفياتهم الثقافية والإثنية والدينية والسياسية، إلا أن الطبيعة الاستهلاكية للعالم، الذي ساهمت هذه النخب في بنائه، وماتزال تساهم في إدارته واستغلاله، أدت إلى تشكيل العديد من المؤسّسات التي تهدف إلى خدمتهم والتعييش منهم، سواء من خلال تقديم خدمات ومنتجات حصرية، أو تعديل بعض المنتجات الموجّهة للاستهلاك العام لتتلائم مع وضعهم الطبقي والذائقة الخاصة بهم. ومع الوقت، ساهمت هذه المؤسّسات في بناء ثقافة مشتركة تجمع هذه النخب وتعزلهم عن الطبقات الأخرى، بثقافاتها وهمومها. وقد يكون بوسعنا اليوم، من خلال دراسة وتحليل ثقافة النخبة وتفاعلاتها، التنبوء ببعض تصرفاتها وقراراتها على الأصعدة المختلفة، المهني منها والشخصي. وقد يساعدنا هذا الأمر أيضاً على تفهّم طبيعة مصالح النخبة ودوافعها.

لكن، ومن أجل فهمهم أكثر وأكثر، علينا أن نتعامل معهم كما هم: أي كأشخاص حقيقيين وليس كأشباح وخيالات. فنحن، في الحقيقة، نعرف معظمهم، فأقلية منهم فقط هي التي اختارت تجنّب الأضواء، ودور هؤلاء ليس أكبر أو أصغر بالضرورة من دور نظرائهم وزملائهم.

فمن هم إذاً أعضاء هذه النخبة الحاكمة والمتحكّمة في العالم؟

إنهم كبار رجال الأعمال والمستثمرين والمدراء التنفيذيين للبنوك والشركات النفطية والغذائية والدوائية والتقنية في العالم، وهم أيضاً جنرالات في الجيوش الكبرى في العالم، ورؤساء الدول العظمى وبعض الأنظمة الإقليمية. وبوسعنا أيضاً إضافة عدد لابأس به من الباحثين والخبراء والعلماء والفنانين والفلاسفة ورجال الدين إلى اللائحة.


ويمكن التعرّف على معظم هذه الشخصيات من خلال بحث بسيط على الإنترنيت. وما أن نفعل ذلك سنعرّف عن آراء وتصرفات بعضهم  ما يكفي لإثارة العديد من التساؤلات حول قدرتهم الحقيقة على حبك المؤمرات. فإذا كان منهم جورج سوروس، رجل الأعمال الديموقراطي الذي ساهم من خلال مؤسّساته الخيرية المختلفة بدعم عمليات التغيير الديموقراطي في أوروبا الشرقية، فإن منهم أيضاً دونالد ترمب، المليونير النرجسي صاحب التعليقات العنصرية والتحليلات السطحية الذي رشّح نفسه مؤخراً في الانتخابات الأمريكية ممثلاً عن الحزب الجمهوري.

وهناك، علاوة على ذلك، جيل جديد يبرز على الساحة اليوم، جيل بنى ثروته ونفوذه من خلال الإنترنيت، منهم مؤسّسو ومدراء شركات مثل جوجل والفيسبوك وآبل وأي. بي إم. وغيرها من الشركات التي أصبح بعضها أغني وأكبر من شركات النفط. وحتى اللحظة، يبدو معظم هؤلاء مشغولين أكثر بربط وتشبيك الدول والشعوب مع بعضها البعض عن طريق الإنترنيت، منهم بتأليبها وتحريضها.

(3)

مازال معظم الناس واقعين تحت سلطة الرؤية القديمة حول عمليات إدارة التفاعلات العالمية، التي كان التخطيط لها يجري سرّاً ووراء الأبواب المغلقة، كما كان الحال مع اتفاقية سايكس-بيكو. لكن التحوّل الديموقراطي الذي شهدته المجتمعات الغربية، وعدد من دول العالم، علاوة على ثورة المعلومات والمعلوماتية، قلبت الموازين، وأصبح كل شيء اليوم يجري في وضح النهار. وهاهي السيناريوهات المختلفة التي تضعها مراكز الأبحاث العالمية، المدعومة والمموّلة من قبل النخب المتنفّذة في العالم وحكومات الدول العظمى، تُنشر وتُناقش في العلن.

ويستند أغلب هذه السيناريوهات على استقراءات موضوعية إلى حد كبير للوقائع الحالية في محاولة للتنبؤ بالتطورات المستقبلية واقتراح الخطط المناسبة لتوجييها بما يخدم مصالح النخب والدول الداعمة. لكن اختلاف الآراء والرؤى والتوجّهات عند الخبراء والساسة وغيرهم كفيل دائماً بتعقيد الأمور، ويتجلّى هذا الأمر في تناقض طرق الاستقراء وتحليل الأمور، وتضارب النبوءات والمقترحات المقدمة.

وفي الواقع، نادراً ما تقوم الدول والنخب بتصنيع الحدث هذه الأيام، لكن، وإن فعلوا، فقد باتوا يقدمون على هذا في العلن أيضاً، كما كان الحال في العراق. ولنا في التخبّط الأمريكي هناك مؤشّراً ممتازاً على نوعية "المؤامرات" التي تحوكها حتى أكثر النخب ثراءاً، وقوة، وهيبة.

نعم، لقد أصبح لزاماً علينا اليوم أن نتخلّص من تلك العقلية المهترأة التي ماتزال تنظر إلى بعض الدول والشخصيات وكأنها قادرة على التحكّم بكل شيء، وتوجيه كل الأحداث من مواقعها في الظلال ووراء الكواليس. فالواقع أن كل القوى معرّضة للزلات والهفوات، لكن الأنظمة الديموقراطية الراسخة تبقى، من خلال مخزونها المعرفي والخبراتي واستنادها إلى إرادة شعوبها، قادرة على التأقلم وعلى احتواء الأزمات، وصولاً، في بعض الأحيان، إلى استغلالها وتوجيهها بما يخدم المصالح العامة والخاصة معاً.

النخب لا تتآمر اليوم، بل تخطط في العلن

هذا هو الواقع ببساطة، ولابد لشعوب منطقتنا، بنخبها وعامتها، أن تتعلّم كيف تواجهه وتتعامل معه كما هو، ودون اللجوء إلى تلك القصص الغريبة والمستهجنة حول ما يجري في مؤتمرات عالمية مثل دافوس وبيلدربيرج، وحول الماسونيين واليهود، وبعض شخصياتهم وعائلاتهم المعروفة مثل عائلة روثـشـيلد. فإذا كانت هذه العائلة تمتلك جزيرة خاصة بها، فالممثل ليوناردو ديكابريو وغيره من مشاهير العالم يمتلكون جزرهم الخاصة أيضاً. لقد أصبح هذا الأمر موضة عند الأثرياء والمشاهير، ولايمكن استخدامه كدليل على امتلاك أحد لمخططات تآمرية خاصة تختلف عما يجري من حولنا من صراع مصالح مفضوح وعلني.

لسنا بحاجة إلى تبهير الحقائق. إن من يدير هذا العالم، ومن أداره عبر التاريخ، هم بشر مثلنا، ليس منهم من يتمتع بقوى خارقة للطبيعة، أو معصوم، أو يُوحى إليه بأفكار ومفاهيم وحقائق لا يمكننا استخلاصها بأنفسنا فيما لو أمعنا التفكير. والأهم من هذا أننا، أي نحن البشر الذين لا ينتمون إلى الطبقات المتنفّذة ، نبقى، بشكل أو آخر، شركاء في عملية إدارة العالم، وذلك من خلال خيارتنا في الحياة، بما في ذلك الخيارات اليومية، وعمليات البيع والشراء، ومشاركتنا في الانتخابات والثورات، ومن خلال الفن، والتحليل والتنظير، إلى آخرها من وسائل.  فإن كان العالم المعاصر لا يعجبنا، فالعيب منا أيضاً، وليس فقط في النخب. التغيير إذاً يبدأ منا، وما الإيمان بنظريات المؤامرة والترويج لها إلا محاولة للتنصّل من هذه المسؤولية.

إن ما يجري في العالم اليوم، وما جرى عبر التاريخ، لا يزيد عن كونه عملية تنافس وصراع ما بين شخصيات ومجموعات ودول وكتل عدة حول الموارد الطبيعية المتوفرة، وكيفية استغلالها من حيث الإنتاج والنقل والتصنيع والتطوير والتسويق، وحول المنافع والخسائر التي يمكن أن تنجم عن تحصّل الجهات المختلفة على حصص ونسب أصغر أو أكبر من هذا كله. ولا تهدف محاولات استقراء المستقبل والتخطيط له من قبل بعض الجهات إلا إلى تمكينها من التأقلم وبسرعة مع المتغيّرات بغية تكريسها لصالحها وتوجيهها في الاتجاهات المناسبة لها.

ولا يشكّل أيّ من هذه الأمور بالضرورة حدثاً استثنائياً، أو إجرامياً، أو لاأخلاقياً، أو مخالفاً للشرعية الدولية، وإن أدى إلى ذلك في بعض الأحيان، أو الكثير من الأحيان. ولايمكن إدانة هذه النشاطات بذاتها، لأنها كانت وستبقى محور حياتنا اليومية. لكن بوسعنا، بل ينبغي علينا، أن نطالب بإدارتها بشكل أفضل، وبمزيد من الشفافية، وبطرق تحفظ حقوق الدول والشرائح الأضعف.

إن ما هو غير عادي واستثنائي في هذا الصدد هو وجود دول وشعوب ماتزال نخبها الحاكمة والمتحكّمة غير قادرة أو راغبة في تفهّم وتقبل هذه الأمور والسعي للتعامل معها على نحو أفضل، نخب تتطلّب مصالحها الفئوية الضيقة عزل شعوبهاعن العالم ما أمكن، وتكريس الجهل والفقر بينها. إن الخيارات الداخلية لهذه النخب وصمت الشعوب الطويل حيالها هي العامل الأساس في إضعافها وتهمّيشها مما يجعلها عرضة للتدخّل والتلاعب الخارجي من قبل الدول والنخب الأقوى.

إن الإصرار على رفض هذا المنطق مقابل التمسّك بنظرية المؤامرة هي طريقة للتهرّب من المسؤولية كما ذكرنا، الأمر الذي يساعد النخب على تكريس سيطرتها، ويعفي الشعوب من ضرورة المواجهة إلى أن تفرض المواجهة نفسها بشكل عشوائي وفي غياب كارثي للرؤى والأدوات اللازمة لإدارتها.

(4)

أما فيما يتعلّق بالطبقات الوسطى والفقيرة والمعدمة، فبسبب حجمهم الديموغرافي الكبير، علاوة على تنوّعها الثقافي والإثني والديني والسياسي المذهل، وقوة انتماءاتها في هذا الصدد على وجه الخصوص، ففي غياب حكومات ديموقراطية الطابع، يستحيل على هذه الطبقات أن تنظّم نفسها على نحو فعّالٍ وكافٍ يسمح لها بالتعويض عن فساد واستبداد وإهمال نخبها الحاكمة والمتحكّمة، وإيجاد وسائل للمشاركة في صنع القرارات المحلية والدولية المؤثّرة في ظروفها المعيشية وفي تشكيل مستقبلها. ولايمكن في هذا الصدد حتى لتلك الثقافة العالمية المشتركة، بآمالها وتطلّعاتها، التي تشكلت تحت تأثير الثقافة الاستهلاكية العالمية أن تفعّل عمليات التعاون عابرة الحدود ما بين هذه الطبقات على نحو يمكن له مساعدتها على التأثير في مجريات الأمور.

مشكلة النظام العالمي إذاً ليست مسألة تآمر سافر، بل مسألة ظروف وشروط تتوفّر للبعض ولا تتوفّر للبعض الآخر جرّاء طبيعة التفاعلات الإنسانية المألوفة إياها ومنذ أبد الدهر.

فمن منا مستعد للتخلّي طوعاً عن المكاسب والمنافع التي جاءته بحكم ولادته في طبقة معينة أو نجاحه في الانخراط فيها؟ نعم، بوسعنا أن نستنبط المبادئ السامية حول الحقوق والواجبات، لكن تحويلها لهواجس ودوافع أمر آخر تماماً، ومن هنا ينبثق النفاق، وكلنا بشكل أو آخر مذنبون.

تفسير الأمور والمجريات من منطلق التآمر لاينفع، فكل ما يجري في عالمنا هذا ما هو إلا تعبير عن مكنوناتنا وطبيعتنا الإنسانية إياها. لذا، التغيير الحقيقي لا يبدأ إلا من هنا، من الذات. ومع الوقت، سيكون لهذا التغيير تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية إلى أن نصل إلى تلك النقطة الحرجة التي تسمح بالانعطاف وتغيير المسار وفقاً لرؤية ما، أو، بالأحرى، لإطار فكري ما تشكّل من خلال تواصلنا وتفاعلاتنا، السلبي منها والإيجابي.

صرخة العامة" للفنان التشيكي جوزف فاشال"

(5)

في السابق، كان الناس لا يتوحّدون  إلا في مواجهة عدو مشترك، لكن يبدو من الواضح أننا قد وصلنا إلى مرحلة في تاريخنا أصبح العدو المشترك الوحيد لنا فيها هو أنفسنا، هذا ما لم يأتنا عدو من الفضاء الخارجي. نعم، نحن عدونا الحقيقي اليوم، وتتجلّى هذه الحقيقة خاصة من خلال ذلك الميل فينا لتجاهل المضامين الحقيقة لوحدتنا في هذا الكون، وعلى هذه الأرض.

لكن الواقع، وحتى إشعار آخر، أننا بمفردنا في هذا الوجود، بمفردنا ككائنات ذكية وواعية بذاتها. لذا، نحن المسؤولون وأمام أنفسنا عن كل ما نفعل، وكل ما يُفعل باسمنا من قبل بعضنا، وكل ما يجري من حولنا، حتى إن لم يكن لنا علاقة مباشرة به. إذ، وحتى اللحظة، لا وجود لبديل لنا ولا لشريك معنا في هذا الوجود. الدنيا حقل تجاربنا نحن، وكل منا عالم وفأر في آن. إن في هذا الإدراك حرية عظيمة وعبء كبير.