الأربعاء، 25 يوليو 2012

المنشقون

مناف طلاس وبشار السد

من غير اللائق أو المعقول بعد كل هذه التضحيات والآلام أن يقود المرحلة الانتقالية الناجمة عن الثورة السورية أي شخص لاينتمي إلى الحِراك الثوري في الداخل. بل نحن بحاجة في الواقع إلى مجموعة من الأشخاص لأن هذا سيكون أقرب إلى روح العمل الثوري الحالي المتمحور حول الفكرة والمشروع وليس حول شخصيات بعينها. من ناحية أخرى، من البديهي، بل الضروري، لكي تستقيم الأمور وتستقر بأسرع وقت ممكن وبأقل خسائر ممكنة، وتتمكّن قيادات الثورة في الداخل من إدارة العملية الانتقالية بفعّالية، أن تقوم بالاستعانة بخبرات بعض المنشقّين النافذين وبعض الشخصيات القيادية من المعارضة التقليدية في الداخل والخارج، علاوة على الشخصيات التكنوقراطية التي ما تزال متواجدة في المؤسّسات الحكومية المختلفة.

من هذا المنظور، بوسعنا تخيّل دور ما لشخصية مثل مناف طلاس وغيره. أما أن يتوقّع منا البعض أن نسلّم زمام الأمور له أو غيره، وإن لمرحلة انتقالية ما، فهذا ليس من سابع المستحيلات وحسب، بل هو أول الترّهات وخُلاصتها. فإذا كان لمناف أو غيره من المنشقّين توقّعات وآمال من هذا القبيل فهذا أكبر دليل على عدم أهليتهم واستحقاقهم لإدارة المرحلة، وعلى أن انشقاقهم لم يأت بغية التعويض عن أخطاء الماضي وخياراته بل لتكريسها.

أما إذا كان مناف وغيره على استعداد للاكتفاء بدور الداعم والمستشار لقيادات الثورة خلال المرحلة الانتقالية، فأهلاً وسهلاً بهم في صفوف الثوار التي دعيناهم للانضمام إليها من اللحظة الأولى، وطال انتظارنا لهم. إن الشعب الذي كان على استعداد ليعطي بشار الأسد نفسه فرصة أخيرة للإصلاح في مطلع الثورة قادر على إعطاء مناف وزملائه ذات الفرصة في حال أثبتوا أحقيتهم بذلك ولم يحاولوا استحماره. وإذا كان لمناف وزملائه أية طموحات سياسية لاحقة، فطريقهم الوحيد إلى ذلك هو الانخراط في العملية الديموقراطية اللاحقة لا محاولة الالتفاف عليها.

ومهما قيل عن شرذمة القوى الثورية والمعارضة وتعاظم أخطار الحرب الأهلية، فهذا لايبرّر اللجوء إلى النظام ذاته بحثاً عن شخصيات قيادية، بل علينا أن نثق بقدرة الشعب والمجتمعات المحلية على فرز شخصيات أكثر ملائمة وشرعية لتولّي عملية القيادة. وبعد أكثر من سنة ونصف على بدء الثورة، بات من الواضح أن الشعب قد بدء بعملية الفرز هذه، وما علينا إلا نضع ثقة أكبر بقدرة الشخصيات الناجمة عن هذه العملية على الارتقاء لتحديات قيادة المرحلة الانتقالية ونقدم لها الدعم المناسب. هذا هو دور المعارضة التقليدية وهذا هو دور المنشقّين في هذه المرحلة الحرجة، فإن لم يقبلوه ويكتفوا به فلن يقبلهم الثوار، وسيستبدلونهم. نعم سيتطلّب هذا المزيد من الوقت والتضحيات، لكن تقديم المزيد من التضحيات خير من التضحية بما قُدم من التضحيات حتى اللحظة، وخير من خسران الحرب والمعركة، من خلال القبول بأنصاف حلول هي في الواقع تنازل عن أهداف الثورة.


السبت، 14 يوليو 2012

كان اسمه آصف شوكت




قال لي "البلد ليست مهيئة لثورات وعصيان مدني،" قلت له "هذا رأيك." قال لي "لن نسجنك ونترك أصدقائك في أميركا تجعل منك بطلاً،" قلت له "إيدك وما تعطي،" قال لي "البلد بلدنا منحرقها وما منتركها" قلت له "هللي بنوها بالأساس بيرجعوا بيعمروها". صرخ في وجهي، صرخت في وجهه. شتمني، شتمته. قام، قمت. قعد، قعدت. فكر، فكرت. قلت له "ماذا لو رحلت؟" ابتسم. قلت له "لكني لن أتوقف أو أتغير،" اتسعت ابتسامته. قلت له "الثورة قادمة،" ازدادت ابتسامته اتساعاً، وضمني عند انتهاء اللقاء. كان اسمه آصف شوكت، وكان هذا آخر عهدي به. جرى اللقاء في تموز ٢٠٠٥، وغادرت البلد مع عائلتي في ٥ أيلول ٢٠٠٥. لم أكن أريد الرحيل، لكني كنت أريد الاستمرار في العمل، وكنت أعرف أنه في عصر الإنترنيت تفقد المسافات معناها، إذا عرف المرؤ ماذا يفعل. بعد فترة وجيزة من وصولي إلى واشنطن، نشرت ورقة عمل بسيطة بعنوان "ثورة الياسمين: إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا."

الطائفية والأسد والثورة


لقد نجح الأسد ومنذ أشهر طويلة، إن لم نقل منذ بداية الثورة، إلى تحويل المواجهة مع الثوار من جهته إلى مواجهة طائفية الطابع من خلال تصويره لما يجري على أنه معركة وجودية بالنسبة للعلويين خاصة، والأقليات الدينية عامة. والسؤال أمامنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، بسبب الفظاعات والمجازر التي بات يرتكبها أزلام الأسد باطراد: هل على السنة أن يتقوقعوا طائفياً بدورهم لينجحوا في مواجهتهم مع النظام؟

 الجواب يعتمد على مفهومنا لهدف الثورة الأساسي: إذا كان الهدف هو تحقيق العدالة والكرامة والحرية والتنمية مع الحفاظ على الوحدة الوطنية (بصرف النظر عن الأسئلة المتعلقة بالطبيعة الإدارية للدولة: مركزية أو لامركزية، وأي نوع من اللامركزية إلخ.)، فالجواب البديهي كان ومايزال: لا. إن التقوقع الطائفي لا يمثّل وسيلة ناجعة للمقاومة. وهبّتنا للدفاع عن النفس ضد الهجوم الطائفي لا تعني أن نصبح طائفيين بدورنا، لأن في هذا هزيمة لنا ولثورتنا، فطائفيتنا ستبرّر بشكل ارتجاعي طائفية الطرف الآخر، وستحرّضهم على المزيد من الإجرام مما سيطيل أمد الصراع ويزيد من تفتيت القوى الاجتماعية الثائرة وسيكرّس مع الوقت التفتيت الحاصل للدولة ذاتها، مسهّلاً سيناريو التقسيم المزمع.

 في الواقع، وإذا ما أردنا فعلاً لمقاومتنا الشعبية أن تكون ناجحة في تحقيق أهداف الثورة، فعلينا أن نتحلّى بالكثير من الصبر والحكمة في مواجهة الإجرام الطائفي الموجّه إلى صدورنا وصدور من نحب فلا نتخلّى بأي شكل عن  الطابع المدني لحِراكنا. لقد أجبرنا النظام على التخلّي عن الطابع السلمي للثورة في معظم المناطق، لكن أن نُجبرعلى التخلّي عن الطابع المدني للحِراك أيضاً يعني أن نُسلّم بالهزيمة. إن التخلّي عن الطابع المدني للحِراك هو تخلٍّ عن الهدف الأساسي للثورة. وحدهم من أصبحوا يرون في الثورة اليوم فرصة لبسط سيطرتهم على بعض المناطق وتحويلها إلى إقطاعيات خاصة ومراكز لشنّ هجمات على كل من خالفهم في المذهب والرأي يرون في التقوقع الطائفي آلية مناسبة للمواجهة مع النظام، وهم بذلك يصبحون الوجه الآخر للنظام، ويساهمون معه في تحطيم الدولة وتقسيم الوطن. ولهذه اللحظة، وعلى الرغم من كل العنف والإجرام الذي نواجهه، ماتزال هذه الفئات هامشية الوجود في صفوفنا، فدعونا لا نعظّم من دورها من خلال التسرّع ومن خلال تبنّي الخطاب الطائفي حتى لو لم يعبر هذا الخطاب إلا عن "فشة خلق" عابرة.

 من ناحية أخرى، لايمكننا الدفاع عن مدنية الحِراك من خلال إنكار طائفية الأسد وأزلامه أو من خلال الإشارة إلى وجود الكثير من السنّة في صفوفهم، فمشاركة السنّة في القمع لا تلغي الطابع الطائفي للنظام. لقد أضحت مؤسّسة الحكم في سوريا على أيدي الأسد ورجاله طائفية بطبيعتها ومنذ سنين طويلة: فصناع القرار كانوا دائماً من الطائفة بل من العائلة، ومايزالون، وكل آليات صنع القرار في مؤسّسات الدولة تتقاطع دائماً عند الشخصيات العلوية الموالية للنظام والمقرّبة من الأسد، خاصة عند الأزمات. إن استخدام الأسد للطائفة والطائفية لخدمة مصالحه الخاصة لا لخدمة الطائفة لا يلغي نجاحه في إسباغ طابع طائفي على النظام طالما بقيت الطائفة بأكثريتها الساحقة ملتزمة بالوقوف وراء الأسد كضامن لوجودها ومصالحها.

 إن إنكار هذا الواقع لن يساعدنا في الحفاظ على مدنية حِراكنا، ولايشكّل هذا الإنكار وسيلة ناجعة للتواصل مع العلويين كما يحلو للبعض أن يتصوّر، ولاينبغي لنا أن نقلق كثيراً من أن يؤدي توصيف الواقع إلى إحراج مؤيدي الثورة من العلويين. إن التوصيف الدقيق للمرض لا يعد إهانة للمريض بل مفتاحاً لعلاجه. وإن كان مرض الطائفية ليس حِكراً على العلويين في مجتمعنا، فإن إرتباط الطائفة بالسلطة القمعية والفاسدة هو ما يخلق الإشكال ويميّز طائفية العلويين عن طائفية السنّة. هذا علاوة على ذاكرة جمعية مرتبطة بالتهميش والاضطهاد وواقع ديموغرافي يجعل من العلويين أقلية صغيرة.

 إن وجود طائفيين سنّة لا يغيّر من طبيعة المواجهة القائمة، لأن الثورة لم تأتِ لتنتصر لهم على حساب أحد، ولم تنبع من صفوفهم أصلاً، وإن أقنعوا أنفسهم بذلك، تماماً كما أقنع رجالات الأسد أنفسهم بذلك وأقنعوا معظم أبناء وبنات طائفتهم. وإن كانت شوكة الطائفيين السنّة قد قويت في الآونة الأخيرة، فقمع النظام هو السبب الأساس كما نعرف، وبدا من الواضح منذ البداية أن النظام يهدف إلى تعزيز هذا التيار بالذات لاتخاذه مبرراً لما وقع من عنف من طرفه ولارتكاب المزيد من الإجرام والقمع في المستقبل.

 نعم، لقد نجح النظام في تطييف المواجهة من قِبَله من البداية لأن بنيته الأساسية كانت وماتزال طائفية، وبسبب وجود خطاب علوي داخلي وذاكرة جمعية كانت أقوى من أية ضمانات يمكن أن تقدمها المعارضة ذات الغالبية السنية الساحقة، لا لشيء إلا لأن الواقع الديموغرافي والتنموي في سوريا أفرز ذلك. ولاشكّ في أن تؤخّر المعارضة في تقديم رؤية مناسبة وواعدة للمستقبل وتوفير شخصيات مرنة وواعية ومسؤولة قادرة على الإقناع وكسب التأييد والقيادة دور كبير في تكريس المخاوف العلوية، بل والمسيحية والدرزية، من التغيير. ومع الوقت، الوقت الذي استخدمه النظام لارتكاب المزيد من الجرائم ولتوريط المزيد من الشخصيات والتجمعات العلوية في جرائمه، أصبح من الصعب على معظم العلويين التراجع والرهان على التغيير: الخشية من التغيير، واستمرار الشكوك والتساؤلات فيما يتعلّق بنوايا السنّة، وتكاثر الجرائم، وتزايد العناصر المتطرفة في صفوف المعارضة وظهور الخطاب الطائفي السنّي على الساحة، كلها أمور تطغى في هذه المرحلة على كراهية بعض العلويين لعائلة الأسد وحكمه. ولايبدو أن هذا الوضع سيتغير في أي وقت قريب، وبالتالي لايمكن الرهان على انشقاق كبير في صفوف العلويين في هذه المرحلة. ومع ذلك، لايمكننا تجريم العلويين ككل، لأن إصدار أحكام عامة على طائفة بأسرها هو جوهر الطائفية، وهو جوهر الخطأ الذي يقع فيه العلويون ذاتهم عند تناولهم لعلاقتهم مع السنّة، الأمر الذي سهّل للأسد وأزلامه عملية تطييف المواجهة مع الثوّار وكسّب التأييد العلوي لذلك.

 ولايغرنّنا في هذا الصدد لجوئي إلى التعميم في هذا المقال بغرض التوضيح، فأنا أدرك تماماً أن الأمور أعقد من طرحي المبسّط للأمور هنا، لكن الأمر أكثر أهمية من أن لا نطرحه أو من أن نكتفي بطرحه في الأوساط الأكاديمية فقط، فالقضية قضية وعي عام، وبات علينا أن نطرحها اليوم بشكل مباشر، لأن طرحها بشكل خجول لم يفدنا الشيء الكثير عبر الخمسة عشر شهر الماضية وإلا لما وجدنا أنفسنا نواجه هذه المجازر اليوم وهذا الانتشار للخطاب الطائفي البحت على كل الأصعدة.

 التحدي الماثل امامنا اليوم إذاً يتجلّى في حاجتنا إلى مقاومة نظام طائفي الطابع، وقوى لا تقلّ عنه طائفية أصبحت موجودة اليوم في صفوفنا، وعلى مقاومتنا هذه أن تتجلّى في التصدي المستمر للمحاولات الدؤوبة للجانبين لتطييف المواجهة القائمة والثورة ككل. لن يكون الأمر سهلاً، فقمع النظام سيغذّي وباستمرار قوى التطرّف في صفوفنا بل ونزعات التطرّف في نفوسنا ذاتها، فنحن بشر، أولاّ وآخراً. لكن، وبغض النظر عن الصعوبات، إن نجاحنا في التصدي لمخطّطات التطييف حتى اللحظة يأتي كدلالة واضحة على امتلاكنا لمقوّمات النجاح النهائي في هذه المواجهة. قد لا نستطيع أن نعبّر بالكلام أحياناً عن مكنونات الصدور تلك التي ساعدتنا حتى اللحظة على تحقيق هذا الإنجاز لأن مسألة مسألة وعي ناشئ عن تجربة لا عن نظريات، وهنا بالذات مكمن تفائلي المستمر فيما يتعلّق بقدرتنا على تحقيق النصر في المواجهة القائمة. هذا الوعي هو ضمان الذي يبحث عنه العلويون والمسيحيون والدروز، وهوالذي يجعل بعضهم جزءاً لايتجزأ من الحِراك.

 وفي الختام، نذكّر بالأسس: لقد جاءت ثورتنا لتساعدنا على التسامي فوق الانتماءات الطائفية والعقائدية الضيقة ولتساعدنا على بناء هوية جديدة جامعة تسمح لكل منا ولكل مجموعة منا أن تكون كما تريد أن تكون دون أن تنكر حقوق الآخرين. إذ ليس مطلوباً من أي كان أن يتخلّى عن انتمائه الخاص، فبوسع المواطن أن يكون سنيّ الهوية أو علويها أو مسيحيها أو درزيها دون أن يكون طائفياً: هذا هو جوهر العقلية المدنية. لكنّنا لن نتعلّم كيف نحقّق ذلك إلا من خلال تجاربنا الخاصة. هذه الثورة حرّرت البعض لكنها كرّست عبودية الآخر: كل حسب خياره فيها وموقفه منها. إذا لم يدرك البعض ذلك بعد، فهذا بالضبط هو الدرس الذي علينا أن نتعلّمه ونعلّمهم إياه. هم يريدونا أن نتعلّم ونتشرّب منهم الطائفية، ونحن نريد أن نفطمهم وأنفسنا على المدنية. لهذا، قد لاتؤت ثورتنا أُكُلها على هذا الصعيد إلا بعد سنين طويلة. في هذه الأثناء، ما بوسعنا إلا الاستمرار في المواجهة، لكن على شروطنا قدر الإمكان، لن يكون بوسعنا أن نسمّي أنفسنا أحراراً إذا سمحنا للنظام أن يملي علينا طبيعة المواجهة بعد نجاحه في عسكرتها.

الجمعة، 6 يوليو 2012

اللامركزية والكورد والثورة


الواقع على الأرض ينبئنا بأن الأكراد قد تحصّلوا على نوع من الحكم الذاتي في المناطق التي يشكّلون فيها الأغلبية في هذه المرحلة، ونظراً لتاريخ الاضطهاد الذي تعرّضوا عليه، من الصعب تخيّل سيناريو يتم من خلاله التنازل عن هذا الأمر. اللامركزية في هذه الحالة هي طريقة للحفاظ على كيان الدولة مع السماح للأكراد بالمحافظة على ما يعتبروه مكاسب وحقوق. مع الوقت، وإن لم نتمكّن من إعادة بناء جسور الثقة المهترئة ما بين المكوّنين العربي والكوردي على المستويين المحلي والوطني الانفصال قد يفرض نفسه على الساحة في نهاية المطاف، استناداً إلى حق المادة 14 من ميثاق الأمم المتحدة: حق تقرير المصير.

من ناحية أخرى، وفيما لو نجحنا في إعادة بناء جسور الثقة ما بين شعبينا، فهناك ما يكفي من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والديموغرافية والنفسية لتساهم في أن يختار الأكراد البقاء في سوريا. الانفصال ليس الخيار الطبيعي والسهل للأكراد كما يتصوّر البعض، بل هو الخيار الأصعب والأخير في المعادلة، هو الخيار الذي يمهّد له فشلنا في التعامل مع الخيارات الأخرى بالجدية والعناية المناسبة. هناك اختلاف جذري ما بين تجربة الأكراد في سوريا وتجربتهم في العراق. لقد تكونت عبر الزمن لدى كورد سوريا، وعلى الرغم من تجربة الاضطهاد والتهميش التي تعرّضوا لها، هوية سورية حقيقية تجعلهم يشعرون بانتماء حقيقي لهذا الوطن ككل، وليس فقط إلى جزء منه. وانفصال أكراد سوريا له تعقيدات كثيرة قد تؤثر سلباً على مشروع إنشاء دولة كوردية في العراق، والذي دخل في مراحله الأخيرة، وما قد أصبح مبرّراً في العراق من منظور عالمي بل وإقليمي نتيجة لتجربة تاريخية مريرة، لايوجد له مبرّراته في سوريا حتى الآن، والأكراد يدركون ذلك قبل غيرهم.

قد يقول البعض أن كورد سوريا يريدون أن يكونوا هنا وهناك في الوقت ذاته: أي في العراق وسوريا وتركيا. لكن، ماذا في ذلك؟ اللامركزية وعلاقات ودية مع العراق وتركيا ستعطي الأكراد في سوريا فرصة كبيرة لينتموا إلى كوردستان وسوريا في آن، تماماً كما يمكن للعرب أن ينتموا إلى سوريا والوطن العربي في آن، وبالتالي ستسمح لهم بالحفاظ على عنصريين أساسيين في تركيبة هويتهم. لكن الانفصال سيؤدي إلى شرخ في الهوية عند الكثير من أكراد سوريا، وهم يدركون ذلك أيضاً. لذا، علينا أن نتعامل مع طروحات اللامركزية على نحو أقل تشنجاً، لأن التشنّج وليس الطرح هو الأمر الذي قد يمهّد الطريق نحو الانفصال كخيار أخير. علينا أن ننسى الإيديولوجية ونعيد زيارة المفاهيم بناءاً على ما نراه على أرض الواقع.

كما ينبغي علينا في هذا الصدد أن ننوّه إلى أن اللامركزية ليست مهمّة فيما يتعلّق بالأكراد فقط، هي مهمّة أيضاً لسكان الدير والرقة ودرعا وإدلب وحمص وحماة والساحل إلخ. كل منطقة من مناطق سورية لها خصوصية معينة، والحكم المركزي لم يحترم خصوصية هذه المناطق ولم يحسن إدارة عملية التنمية فيها. والوقائع على الأرض تنبؤنا أيضاً أن اللامركزية أصبحت واقعاً معاشاً لمعظم المناطق السورية أيضاً، وأن الأمر لاينطبق فقط على المناطق ذات الأغلبية الكوردية. ومن هذا المنطلق أيضاً، أي من خلال قراءة الوقائع كما أصبحت على الأرض اليوم، ربما كان من الأفضل والواجب أن نتسائل: من قال أن على اللامركزية المنشودة أن تستند بالضرورة على تركيبة المحافظات القائمة حالياً؟ إذ ربما كان من الأفضل اعتماد المناطق كمرجع أساسي في التركيبة اللامركزية. في سوريا 14 محافظة مؤلّفة من 63 منطقة، والمجالس الثورية التي نشأت في ظل الثورة تعكس هذه التركيبة المناطقية أكثر من تركيبة المحافظة. وربما كان في الأمر دلالات عملية علينا الاستفاد منها.

بمعنى، أننا إذا أردنا أن نسلّم بأن اللامركزية ستمهّد إلى انفصال الأكراد، على الأقل في الحسكة، هل ستؤدي اللامركزية أيضاً إلى انفصال دير الزور ودرعا والسويداء وحلب أيضا؟ ألن تخدم اللامركزية تطلّعات سكان هذه المناطق دون أن تؤدي إلى حلول انفصالية؟ هناك في سوريا 20 مليون عربي، فلماذا نصرّ دائماً على معالجة مسألة اللامركزية فقط من منظور الأكراد وما قد يفعلوه. لماذا لانسأل أنفسنا إذا ما كان يمكن للنظام اللامركزي أن يخدم تطلّعات الشرائح العربية أيضاً؟

إن الانتخابات الحرة والنزيهة التي شهدتها سوريا في 1947 و1949 و1954 عكست الانتماءات المناطقية بشكل واضح، وأنا واثق، بعد متابعة التطورات على الأرض عبر الشهور الماضية، أن هذه الانتماءات قد عادت إلى الساحة وبقوة، وأنها ستفرض نفسها على العملية السياسية مرة أخرى. وفي الحقيقة يمكن إسباغ الكثير من الخلافات التي تحدث بين حركات المعارضة والمعارضين في المهجر إلى التباين في خلفياتهم المناطقية أيضاً. إن إصرارنا على التركيبة المركزية سيضع المكوّنات المختلفة لمجتمعنا في حالة صراع على الدولة تماماً كما حدث في السابق، لكن اعتماد التركيبة اللامركزية المناسبة سيفسح المجال أمام الجميع لتأسيس فضائهم الخاص والانطلاق من خلاله إلى الساحة الأكبر. في رأيي هذا هو الحل الأفضل لبنية الدولة في المستقبل من التركيبة المركزية خاصة نظراً للتجربة التي مررنا بها عبر العقود الماضية.

الخميس، 5 يوليو 2012

التدخل الخارجي من جديد


رداً على طلب أحد الأصدقاء بأن أعطيه مثالاً ناجحاً عن التدخل الخارجي في المنطقة

أولاً، المشكلة أن التدخّل الخارجي في سوريا قائم، والمتدخّلون هم إيران وروسيا والقوى التابعة لهما مثل حزب الله وجيش المهدي، وربما "ينجح" هذا التدخّل ويحقّق "الاستقرار" ولكن على حساب "الثورة."  نحن نطالب بتدخّل موازي من قوى الغرب الديموقراطي، بناءاً على القوانين والشرائع الدولية، لموازنة الأمور بعض الشيء. لكن، طبعاً لايوجد ضمانات فيما يتعلّق بموضوع النجاح، لا فيما يتعلّق بالتدخّل الخارجي ولافيما يتعلّق بالثورة ذاتها. نحن ثرنا لأن الثورة أصبحت حاجة وضرورة، وليس لأن النجاح مضمون، ومن نفس المنطلق نحن اليوم نطالب بالتدخّل الخارجي إلى جانب الثوار، لأن تدخّل روسيا وإيران إلى جانب النظام جعل المعركة غير متكافئة، وأصبح اصطفاف بعض أعضاء المجتمع الدولي إلى جانبنا حاجة وضرورة، لكن لا يوجد ضمانات فيما يتعلّق بالنجاح.

 ثانياً، في حين لاتوجد ضمانات فيما يتعلّق بالنجاح، هناك ضمانات فيما يتعلّق بالفشل. فعندما لانستخدم الأدوات المناسبة للمواجهة القائمة الفشل مضمون. وعندما نختار أن نخوض معركة ما بمفردنا في حين يقوم الطرف الآخر بالاستعانة بحلفائه، الفشل مضمون، وعندما نخوض معركة بأجساد عارية في حين يختار الطرف الآخر كل أنواع الأسلحة المتاحة لديه دون أي تردّد الفشل مضمون. التسلّح والتدخل الخارجي إلى جانب الثوار يعطينا فرصة للنجاح لكنه لايضمن النجاح.

 ثالثاً، عندما نتحدّث عن التدخّل الخارجي في المنطقة، يذكّرنا الكثيرون بالتجربة العراقية، متناسين أن العراق شهد تدخلاّ من أكثر من طرف خارجي، علاوة على صراعات داخلية بين قوى مختلفة. لقد أصبح العراق أرض معركة لمجموعة كبيرة من القوى الداخلية والخارجية. في الداخل إثنيات وقوميات وطوائف وأحزاب وشخصيات مختلفة، عمل كل منها مع حلفاء له في الخارح من الولايات المتحدة إلى إيران إلى سوريا إلى السعودية إلى القاعدة وحزب الله إلخ. المشكلة نفسها تكرّر الآن في سوريا، ولايوجد عندنا وسائل لمنع هذا الأمر، لأننا لسنا الطرف الوحيد في المعادلة، هناك أطراف أخرى، في الداخل والخارج، كما هي الحال دائماً، بعضها مع الثورة وبعضها ضد الثورة، ولكل طرف أساليبه ومصالحه الخاصة.

 رابعاً، للتوضيح، الفشل في العراق لم يكن فشلاً للتدخّل الخارجي، بل فشل لمشروع تغييري كان له مؤيدوه في الداخل والخارج في مواجهة مشروع تغييري آخر له مؤيدوه في الداخل والخارج أيضاً، وبالتحديد: فشل المشروع الأمريكي في مواجهة المشروع الإيراني.
 خامساً، لاتوجد دولة في العالم تملك إمكانية منع التدخل الخارجي بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. الخيار الحقيقي هو تأطير التدخل عن طريق الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين الناظمة لعمل رعايا الدول الأجنبي والمنظمات الدولية، إلخ. نحن اليوم نناضل لنتوصّل إلى تلك المرحلة التي يمكن خلالها أن نسعى إلى تأطير عملية التدخل، أي إلى وضع شروط واضحة ومنطقية وعملية لعلاقة الداخل مع الخارج، بحيث لايتحوّل صراع المصالح بين القوى المختلفة في الداخل والخارج إلى صراع مسلّح، وتبقى هناك أقنية ووسائل سياسية وقانونية للتعامل معه.

سادساً، حتى التدخل الخارجي في هذه المرحلة قد لايمنع تقسيم البلاد ما لم تتمكّن القوى السياسية المختلفة الموجودة على الساحة من الاتفاق على رؤية جامعة لسوريا المستقبل. إن معاينة  التطورات الموجودة على الأرض اليوم تدل على أن الظروف القائمة تختلف اختلافاً جذرياً بين منطقة وأخرى: الظروف في الحسكة ليست كما هي في دير الزور، أو الساحل، أو حمص، أو حلب، أو إدلب، أو حماة، أو دمشق، أو درعا، أو السويداء. الشروط القمعية مختلفة، أدوات القمع مختلفة، أدوات النضال مختلفة، التجمعات والخصوصيات المحلية مختلفة. إن اختلاف هذه الظروف مع غياب الرؤية وتشتت قوى المعارضة لايبشّر بالخير. وفي الواقع، لايمكن العمل على موضوع التدخّل الخارجي بمعزل عن موضوع توحيد الرؤى فيما يتعلّق بمستقبل سوريا. إن غياب الرؤية المشتركة هو أحد العوامل الأساسية المعرقلة للتدخّل الخارجي الداعم للثوار.

الطلب جاء رداً على مداخلتي التالية:

فلنكن واضحين: إن المطالبة بالتدخل الدولي حق من حقوقنا الأساسية من الناحيتين الأخلاقية والقانونية، لأننا شعب ينتمي إلى بلد هو عضو مؤسّس في الأمم المتحدة. ونحن عندما ندعو إلى تدخل دولي لمساعدتنا في التخلّص من حكم الأسد الاستبدادي والفاسد لا نطالب بما هو خارج نطاق القانون الدولي والالتزامات القانونية الملزمة لكل الدول الموقّعة على ميثاق الأمم المتحدة. إن مطالبتنا المجتمع الدولي بأن يحترم التزاماته الأخلاقية والقانونية تجاهنا كشعب هي جزء لا يتجزأ من نضالنا من أجل تحرير أنفسنا من القمع. لقد ثرنا من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وهذا يعني أننا لن نرضى بعد اليوم أن نحكم من قبل أنظمة قمعية أو أن نكون جزءاً من نظام دولي ظالم. نحن نريد من كل الساسة الذين يتخذون القرارات المؤثرة في حياتنا أن يكونوا مسؤولين أمامنا، أينما كانوا. نحن نريد لكل المؤسسات الوطنية والدولية التي تم تأسيسها باسمنا والتي يكون للقرارات التي تتخذها تأثير حقيقي على طريقتنا في العيش أن تكون شفافة وعادلة وقابلة للمساءلة من قبلنا. لهذا ثرنا، ولهذا ستستمر ثورتنا، حتى نضع حداً لطغيان الأسد، وحتى يقبل المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاهنا.