لقد
نجح الأسد ومنذ أشهر طويلة، إن لم نقل منذ بداية الثورة، إلى تحويل المواجهة مع
الثوار من جهته إلى مواجهة طائفية الطابع من خلال تصويره لما يجري على أنه معركة
وجودية بالنسبة للعلويين خاصة، والأقليات الدينية عامة. والسؤال أمامنا اليوم أكثر
من أي وقت مضى، بسبب الفظاعات والمجازر التي بات يرتكبها أزلام الأسد باطراد: هل
على السنة أن يتقوقعوا طائفياً بدورهم لينجحوا في مواجهتهم مع النظام؟
الجواب يعتمد على مفهومنا لهدف الثورة الأساسي: إذا كان
الهدف هو تحقيق العدالة والكرامة والحرية والتنمية مع الحفاظ على الوحدة الوطنية
(بصرف النظر عن الأسئلة المتعلقة بالطبيعة الإدارية للدولة: مركزية أو لامركزية،
وأي نوع من اللامركزية إلخ.)، فالجواب البديهي كان ومايزال: لا. إن التقوقع
الطائفي لا يمثّل وسيلة ناجعة للمقاومة. وهبّتنا للدفاع عن النفس ضد الهجوم
الطائفي لا تعني أن نصبح طائفيين بدورنا، لأن في هذا هزيمة لنا ولثورتنا،
فطائفيتنا ستبرّر بشكل ارتجاعي طائفية الطرف الآخر، وستحرّضهم على المزيد من
الإجرام مما سيطيل أمد الصراع ويزيد من تفتيت القوى الاجتماعية الثائرة وسيكرّس مع
الوقت التفتيت الحاصل للدولة ذاتها، مسهّلاً سيناريو التقسيم المزمع.
في
الواقع، وإذا ما أردنا فعلاً لمقاومتنا الشعبية أن تكون ناجحة في تحقيق أهداف
الثورة، فعلينا أن نتحلّى بالكثير من الصبر والحكمة في مواجهة الإجرام الطائفي
الموجّه إلى صدورنا وصدور من نحب فلا نتخلّى بأي شكل عن الطابع المدني
لحِراكنا. لقد أجبرنا النظام على التخلّي عن الطابع السلمي للثورة في معظم
المناطق، لكن أن نُجبرعلى التخلّي عن الطابع المدني للحِراك أيضاً يعني أن نُسلّم
بالهزيمة. إن التخلّي عن الطابع المدني للحِراك هو تخلٍّ عن الهدف الأساسي للثورة.
وحدهم من أصبحوا يرون في الثورة اليوم فرصة لبسط سيطرتهم على بعض المناطق وتحويلها
إلى إقطاعيات خاصة ومراكز لشنّ هجمات على كل من خالفهم في المذهب والرأي يرون في
التقوقع الطائفي آلية مناسبة للمواجهة مع النظام، وهم بذلك يصبحون الوجه الآخر
للنظام، ويساهمون معه في تحطيم الدولة وتقسيم الوطن. ولهذه اللحظة، وعلى الرغم من
كل العنف والإجرام الذي نواجهه، ماتزال هذه الفئات هامشية الوجود في صفوفنا،
فدعونا لا نعظّم من دورها من خلال التسرّع ومن خلال تبنّي الخطاب الطائفي حتى لو
لم يعبر هذا الخطاب إلا عن "فشة خلق" عابرة.
من
ناحية أخرى، لايمكننا الدفاع عن مدنية الحِراك من خلال إنكار طائفية الأسد وأزلامه
أو من خلال الإشارة إلى وجود الكثير من السنّة في صفوفهم، فمشاركة السنّة في القمع
لا تلغي الطابع الطائفي للنظام. لقد أضحت مؤسّسة الحكم في سوريا على أيدي الأسد
ورجاله طائفية بطبيعتها ومنذ سنين طويلة: فصناع القرار كانوا دائماً من الطائفة بل
من العائلة، ومايزالون، وكل آليات صنع القرار في مؤسّسات الدولة تتقاطع دائماً عند
الشخصيات العلوية الموالية للنظام والمقرّبة من الأسد، خاصة عند الأزمات. إن
استخدام الأسد للطائفة والطائفية لخدمة مصالحه الخاصة لا لخدمة الطائفة لا يلغي
نجاحه في إسباغ طابع طائفي على النظام طالما بقيت الطائفة بأكثريتها الساحقة
ملتزمة بالوقوف وراء الأسد كضامن لوجودها ومصالحها.
إن
إنكار هذا الواقع لن يساعدنا في الحفاظ على مدنية حِراكنا، ولايشكّل هذا الإنكار
وسيلة ناجعة للتواصل مع العلويين كما يحلو للبعض أن يتصوّر، ولاينبغي لنا أن نقلق
كثيراً من أن يؤدي توصيف الواقع إلى إحراج مؤيدي الثورة من العلويين. إن التوصيف
الدقيق للمرض لا يعد إهانة للمريض بل مفتاحاً لعلاجه. وإن كان مرض الطائفية ليس
حِكراً على العلويين في مجتمعنا، فإن إرتباط الطائفة بالسلطة القمعية والفاسدة هو
ما يخلق الإشكال ويميّز طائفية العلويين عن طائفية السنّة. هذا علاوة على ذاكرة
جمعية مرتبطة بالتهميش والاضطهاد وواقع ديموغرافي يجعل من العلويين أقلية صغيرة.
إن
وجود طائفيين سنّة لا يغيّر من طبيعة المواجهة القائمة، لأن الثورة لم تأتِ لتنتصر
لهم على حساب أحد، ولم تنبع من صفوفهم أصلاً، وإن أقنعوا أنفسهم بذلك، تماماً كما
أقنع رجالات الأسد أنفسهم بذلك وأقنعوا معظم أبناء وبنات طائفتهم. وإن كانت شوكة
الطائفيين السنّة قد قويت في الآونة الأخيرة، فقمع النظام هو السبب الأساس كما
نعرف، وبدا من الواضح منذ البداية أن النظام يهدف إلى تعزيز هذا التيار بالذات
لاتخاذه مبرراً لما وقع من عنف من طرفه ولارتكاب المزيد من الإجرام والقمع في
المستقبل.
نعم،
لقد نجح النظام في تطييف المواجهة من قِبَله من البداية لأن بنيته الأساسية كانت
وماتزال طائفية، وبسبب وجود خطاب علوي داخلي وذاكرة جمعية كانت أقوى من أية ضمانات
يمكن أن تقدمها المعارضة ذات الغالبية السنية الساحقة، لا لشيء إلا لأن الواقع
الديموغرافي والتنموي في سوريا أفرز ذلك. ولاشكّ في أن تؤخّر المعارضة في تقديم
رؤية مناسبة وواعدة للمستقبل وتوفير شخصيات مرنة وواعية ومسؤولة قادرة على الإقناع
وكسب التأييد والقيادة دور كبير في تكريس المخاوف العلوية، بل والمسيحية والدرزية،
من التغيير. ومع الوقت، الوقت الذي استخدمه النظام لارتكاب المزيد من الجرائم
ولتوريط المزيد من الشخصيات والتجمعات العلوية في جرائمه، أصبح من الصعب على معظم
العلويين التراجع والرهان على التغيير: الخشية من التغيير، واستمرار الشكوك
والتساؤلات فيما يتعلّق بنوايا السنّة، وتكاثر الجرائم، وتزايد العناصر المتطرفة
في صفوف المعارضة وظهور الخطاب الطائفي السنّي على الساحة، كلها أمور تطغى في هذه
المرحلة على كراهية بعض العلويين لعائلة الأسد وحكمه. ولايبدو أن هذا الوضع سيتغير
في أي وقت قريب، وبالتالي لايمكن الرهان على انشقاق كبير في صفوف العلويين في هذه
المرحلة. ومع ذلك، لايمكننا تجريم العلويين ككل، لأن إصدار أحكام عامة على طائفة
بأسرها هو جوهر الطائفية، وهو جوهر الخطأ الذي يقع فيه العلويون ذاتهم عند تناولهم
لعلاقتهم مع السنّة، الأمر الذي سهّل للأسد وأزلامه عملية تطييف المواجهة مع
الثوّار وكسّب التأييد العلوي لذلك.
ولايغرنّنا
في هذا الصدد لجوئي إلى التعميم في هذا المقال بغرض التوضيح، فأنا أدرك تماماً أن
الأمور أعقد من طرحي المبسّط للأمور هنا، لكن الأمر أكثر أهمية من أن لا نطرحه أو
من أن نكتفي بطرحه في الأوساط الأكاديمية فقط، فالقضية قضية وعي عام، وبات علينا
أن نطرحها اليوم بشكل مباشر، لأن طرحها بشكل خجول لم يفدنا الشيء الكثير عبر
الخمسة عشر شهر الماضية وإلا لما وجدنا أنفسنا نواجه هذه المجازر اليوم وهذا
الانتشار للخطاب الطائفي البحت على كل الأصعدة.
التحدي
الماثل امامنا اليوم إذاً يتجلّى في حاجتنا إلى مقاومة نظام طائفي الطابع، وقوى لا
تقلّ عنه طائفية أصبحت موجودة اليوم في صفوفنا، وعلى مقاومتنا هذه أن تتجلّى في
التصدي المستمر للمحاولات الدؤوبة للجانبين لتطييف المواجهة القائمة والثورة ككل.
لن يكون الأمر سهلاً، فقمع النظام سيغذّي وباستمرار قوى التطرّف في صفوفنا بل
ونزعات التطرّف في نفوسنا ذاتها، فنحن بشر، أولاّ وآخراً. لكن، وبغض النظر عن
الصعوبات، إن نجاحنا في التصدي لمخطّطات التطييف حتى اللحظة يأتي كدلالة واضحة على
امتلاكنا لمقوّمات النجاح النهائي في هذه المواجهة. قد لا نستطيع أن نعبّر بالكلام
أحياناً عن مكنونات الصدور تلك التي ساعدتنا حتى اللحظة على تحقيق هذا الإنجاز لأن
مسألة مسألة وعي ناشئ عن تجربة لا عن نظريات، وهنا بالذات مكمن تفائلي المستمر
فيما يتعلّق بقدرتنا على تحقيق النصر في المواجهة القائمة. هذا الوعي هو ضمان الذي
يبحث عنه العلويون والمسيحيون والدروز، وهوالذي يجعل بعضهم جزءاً لايتجزأ من
الحِراك.
وفي
الختام، نذكّر بالأسس: لقد جاءت ثورتنا لتساعدنا على التسامي فوق الانتماءات الطائفية
والعقائدية الضيقة ولتساعدنا على بناء هوية جديدة جامعة تسمح لكل منا ولكل مجموعة
منا أن تكون كما تريد أن تكون دون أن تنكر حقوق الآخرين. إذ ليس مطلوباً من أي كان
أن يتخلّى عن انتمائه الخاص، فبوسع المواطن أن يكون سنيّ الهوية أو علويها أو
مسيحيها أو درزيها دون أن يكون طائفياً: هذا هو جوهر العقلية المدنية. لكنّنا لن
نتعلّم كيف نحقّق ذلك إلا من خلال تجاربنا الخاصة. هذه الثورة حرّرت البعض لكنها
كرّست عبودية الآخر: كل حسب خياره فيها وموقفه منها. إذا لم يدرك البعض ذلك بعد،
فهذا بالضبط هو الدرس الذي علينا أن نتعلّمه ونعلّمهم إياه. هم يريدونا أن نتعلّم
ونتشرّب منهم الطائفية، ونحن نريد أن نفطمهم وأنفسنا على المدنية. لهذا، قد لاتؤت
ثورتنا أُكُلها على هذا الصعيد إلا بعد سنين طويلة. في هذه الأثناء، ما بوسعنا إلا
الاستمرار في المواجهة، لكن على شروطنا قدر الإمكان، لن يكون بوسعنا أن نسمّي
أنفسنا أحراراً إذا سمحنا للنظام أن يملي علينا طبيعة المواجهة بعد نجاحه في
عسكرتها.