الأحد، 28 فبراير 2016

الشاهدة

هنا، في جحيم العار والنسيان، في هذا الركن المهجور منه، يرقد بشار الأسد، القائد الدمية، عادى شعبه، وقتله حلفاؤه. مات، كما عاش، مبتسماً ومعجباً بنفسه، لأنه، حتى جاءه حتفه، بقي أغبى من أن يدرك حقيقة ما اقترفته يداه. مات خاذلاً ومخذولاً، قاتلاً ومقتولاً، غافلاً ومغفّلاً. مات. رحل. واندثر ذكره، ما خلا هذه الشاهدة المنسية. فيما بقي شعبه يشارك في صنع التاريخ أينما حلّ، جماعات وأفراد.   

الثلاثاء، 9 فبراير 2016

"لا تفاوضوا، لا تشرعنوا" – غُلُوٌّ ولَغَطٌ ولَغُوُ كَلَام

جانب من مظاهرة في لندن معارضة للتدخل البريطاني ضد الأسد جرت في 31 آب/أغسطس 2013
يخطئ من يقول ويعتقد أن المحادثات اليوم تشرعن ما يجري من إجرام بحق السوريين، فالعالم سيبقى منقسماً حول هذا الأمر، وسيبقى حلفاء النظام يشرعنون له ما يفعل، وسيبقى خصومه يلعنونه، وأن لم تتجاوز أفعالهم اللعن في معظم الأحوال. الشرعنة لم تعد هي المشكلة اليوم، ولم تكن. بل تكمن المشكلة في الانهيار المستمر للبلد، وللتدهور المستمر في الأحوال المعيشية للسوريين في الداخل، بل وللكثير من اللاجئين أيضاً، وهي أمور تتطلب الانخراط في أنواع  مختلفة من الحوارات واللقاءات والمشاورات والمفاوضات، ومع كل الأطراف المسؤولة عن هذا الوضع الذي توصلنا إليه.  

فأي فائدة ترجى من ساسة يجدون حرجاً في الكلام والتفاوض، بل يفتقرون إلى أساليبه الأساسية، ويتنصلون من مسؤوليتهم حياله. الكلام سلاح الساسة، وعليهم أن يحسنوا استخدامه، وما الأمر بمستحيل، فالممارسة مفتاح الإتقان لمن فتح عقله.

فاوضوا وإن من باب رفع العتب، فاوضوا وإن لمجرد إحراج الطرف الآخر، فاوضوا لكي لا تتركوا الساحة فارغة فيحتلها المنافقون والوصوليون، فاوضوا لكي تُعرفوا ويألفكم العدو قبل الصديق، فهذه الألفة قد تفتح أبواباً وتخلق احتمالات ما كان يمكن لها أن تخطر على بال أحد، فاوضوا لتفضحوا ما يجري من جرائم أمام شعوب العالم، فتحرجوا ممثليها على الساحة الدولية، فاوضوا لكي تطلعوا الناس على حقيقية ما يجري كل لحظة في سوريا، ولتفضحوا الأكاذيب التي يروج لها الآخرون، فالناس، خلاف ما تعتقدون، لا يدرون شيئاً، وغالباً ما ينسون، أو ينساقون وراء تصريحات ساستهم التي تهدف لتجنب التدخل من أساسه.  فلا رغبة عند الشعوب الغربية عموماً في التدخل في شؤون الآخرين، وما لم يبرر لها حكامها هذا التدخل، سواء عن طريق سرد الحقائق كما هي أو عن طريق تشويهها بل تزويرها في بعض الأحيان، لن تدعم هذه الشعوب التدخل، بل سترى فيه اعتداءاً سافراً على الآخرين، وستدينه كما يدينه من عانوا منه.

إن الشعوب الغربية اليوم والشعب الأمريكي بالذات، وعلى اختلاف مشاربهم السياسية، تعارض وبشدة التدخل في سوريا، ولا ننسى هنا أن البريطانيين صوتوا ضد هذا التدخل في عام 2013 على الرغم من استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، ولقد كان لهذا الموقف أثره الكبير على قرار أوباما في هذا الصدد أيضاً.  ونعم، يمكننا أن ننحي بالكثير من اللوم هنا على أداء المعارضة السياسية الهزيل منذ بداية الثورة حتى اللحظة.

إن تغييب شخصيات بعينها بسبب ميولها الأقرب إلى الليبرالية والبراجماتية، أو محاولة استقطابها من باب رفع العتب ومع الاصرار على تقليم أجنحتها واستخدامها كمجرد ديكور، كما حدث مع البعض، كان أكبر خطأ ارتكبته المعارضة، لأن هذه الشخصيات بحكم علاقاتها الدبلوماسية الواسعة، وفهمها الأعمق لطبيعة وكيفية عمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الغربية والدولية، ومعرفة بعضها بخبايا النظام وآلية عمله، بسبب ارتباطها به سابقاً، وإتقانها لعدد من اللغات الأجنبية، يجعلها أكثر قدرة من غيرها على إدارة هذه المرحلة. لكن الاعتبارات الإيديولوجية للمعارضة، التي يطغى عليها المكونين الإسلامي واليساري، علاوة على الحساسيات الشخصية والنرجسية، كانت وماتزال أقوى من أي اعتبار وطني.

ولا أتكلم هنا عن نفسي بالضرورة، فأنا أدرك تماماً أني شخصية إشكالية، لكني لا أجد سبباً مقنعاً لتحييد دور شخصيات مثل جهاد المقدسي، أو سمير التقي، أو عبد الله الدردري، أو بسمة قضماني، أو شادي الخش، أو سمير سعيفان، أو أيمن عبد النور، أو سامي الخيمي، أو ريم علاف، أو ريم التركماني، أو رضوان زيادة، أو نجيب غضبان، أو مصطفى إسماعيل، إلخ. قد أكون قد انتقدت أداء بعض هذه الشخصيات في السابق، لكن النقد ليس رفضاً أو دعوة إلى التهميش والإقصاء.

هذه هي الشخصيات التي كان يجب أن تتصدر العمل المعارض في السابق والتي ينبغي أن تتصدره الآن، وفي حال حدوث ذلك، سيكون بوسع هذه الشخصيات استقطاب الكثير من الشخصيات التكنوقراطية الأخرى المتاجدة في الوطن وفي المهجر/المنفى.

علاوة على ذلك، هناك دور استشاري هام أيضاً لبعض الشخصيات الفكرية، مثل صادق جلال العظم، وياسين الحاج صالح، وسلام كواكبي، وأدونيس، وبرهان غليون، وشخصيات دينية مثل الشيخ معاذ الخطيب، و الشيخ مراد الخزنوي، والشيخ سارية الرفاعي، والأب فيكتور حنا، وغيرهم.

نعم، هناك الكثير من الأسماء الغائبة هنا، شخصيات لها تاريخها الكبير في العمل المعارض، لكن المناصب السياسية لا تمثل تكريماً أو اعترافاً بأفضلية معنوية أو أخلاقية ما، فالتكريم يأتي لاحقاً، بعد تحقيق الاستقرار، وسيأتي من خلال خطوات رمزية معينة مثل إسباغ الأوسمة الوطنية أو إعادة تسمية بعض الصروح والمنشآت الوطنية، لكنه لن يأتي، ولا ينبغي له أن يأتي، من خلال العمل السياسي بشكل عام، والعمل السياسي في المرحلة التفاوضية بشكل خاص. فنحن، في هذه المرحلة، بأمس الحاجة إلى اختيار شخصيات تكنوقراطية قادرة على التفاوض وعلى التفاعل الفعال مع المجتمع الدولي بمؤسساته المختلفة، ومع وسائل الإعلام العربية والأجنبية.

من الناحية الأخرى، ليس من الضروري أن تمثل الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها كافة مكونات الشعبي السوري بشكل عادل، لأن التمثيل الفئوي في هذه المرحلة ليس هو الأساس، وصلاحيات الحكومة الانتقالية تبقى محدودة في إطار الإشراف على إدارة العملية الانتقالية بالتعاون مع المجتمع الدولي ووفق خطة تم الاتفاق عليها من بين الأطراف المتنازعة، خطة تهدف إلى تمهيد الطريق لانتخابات تشريعية رئاسية هي التي يفترض أن يتم من خلالها حل القضايا المتعلقة بالتمثيل الفئوي والمناطقي للبلد.

إذاً، وخلاصة القول، لكل مرحلة نمر بها تحدياتها الخاصة، والشخصيات التي نوهت إليها هي أعلاه، في رأيي، هي الشخصيات الأنسب لقيادة هذه المرحلة الحرجة، وكل ما يحول بينها وبين ذلك هي نرجسيات البعض وعقدهم الإيديولوجية، لأني أعتقد أن الحسابات الخاصة للدول الداعمة للمعارضة لا تتعارض مع اختيار هذه الشخصيات، خاصة في هذه المرحلة.

الاثنين، 8 فبراير 2016

عن الواقع، والنضال، والخنوع، والكرامة، والتغيير، والخوف، والقتل

1.

الإعتراف بالواقع ليس خنوعاً له، ولا يتحول إلى خنوع إلا إذا اقترن بالتخاذل.

2.

الاكتفاء بأقل مما نستحق اليوم لا يعني التخلي عن المطالبة والسعي وراء كل ما نستحق، ولكن لكل مرحلة تحدياتها وتوازناتها وأدواتها، وتسوياتها.

3.

الكرامة في النضال، وللنضال أوجه مختلفة. من لا يرى إلا وجهاً واحداً له، خسر كل شيء.

4.

إن استمرار الحروب الأهلية لما بعد نقطة حرجة معينة يضعنا على مسار دائري يسمح بإعادة إنتاج ما ثرنا بالإساس ضده، وإن اختلفت بعض الشخوص والتفاصيل – لبنان نموذجاً. أما التوصل لتسويات قبل بلوغ هذه النقطة فقد يسمح، إن أحسنا استثماره، بمتابعة المسيرة النضالية من أجل تحقيق أهداف الثورة الأساسية. وتكمن مصيبتنا كسوريين اليوم في أننا ربما نكون قد تجاوزنا نقطة اللاعودة هذه، وهذا ما يخشاه الكثير منا. لكن، من يدري، قد تسمح لنا محادثات جنيف، بخلاف كل التوقعات، بالتوصل إلى التسوية المنشودة، وعندها يبدأ نضالنا السلمي المدني من جديد. لن تكون ظروفه سهلة، لكنها لن تكون أكثر استحالة مما سبق.

5.

الاعتبارات الثورية والسياسية قد تتطلب منا أحياناً أن نجلس على طاولة واحدة ونتفاوض مع من ظلمنا وأجرم بحقنا، لكنها لا تبرر لنا أن نصبح مجرمين مثله، ولا تشرعن لنا تبني أي من أساليبه التي ندعي أنا ثرنا ضدها. والكلام هنا ليس عن العنف فقط، بل عن الإقصاء، والتمسك بالشعارات الفارغة، وتبني فلسلفة كل شيء أو لا شيء. قد نستحق كل شيء، لكن هذا لا يعني أنه سيأتي دفعة واحدة. علينا أن نقبل بالمساومات، ونتقن فن، بل علم المساومة.

6.

علينا أن نعترف بالواقع أولاً، ونفهمه، لكي نقرر ما إذا كان يناسبنا ويناسب مصالحنا أم لا، أو ما إذا كنا بحاجة إلى تغييره. بعد ذلك فقط يمكننا أن ننتقل لمناقشة الآليات المناسبة للتغيير.

7.

نحن نعرف تماماً أن النظام على استعداد ليقاتل حتى آخر سوري؟ فهل نتبنى نفس العقلية؟ قالوا "الأسد أو نحرق البلد،" فهل يعطينا هذا حق العمل تحت شعار "الثورة أو نحرق البلد؟"

هذا لب مشكلة التي تواجهنا عند التعامل مع الأنظمة العدمية: إنها دائماً وأبداً على استعداد لحشرنا في هذه الزاوية بالذات، زاوية الخنوع لإرادتهم، التي تريد لنا أن نحيا ونموت وندفن فيها. ومع ذلك، يحتم علينا اعترافنا بهذه الواقع، وادعائنا العمل من أجل الأفضل، من أجل حقوق الجميع، إيجاد منفذ ما من هذه الورطة لكي لا نكون شركاء في الجريمة. ويكمن مفتاح النجاح في بحثنا عن المنفذ في إصرارنا على المشاركة في العملية السياسية، لا في تجنبها، وفي النبش المستمر هنا وهناك بحثاً عن الانجازات الصغيرة التي يمكننا مع الوقت ترسيخها واستثمارها لمصلحة قضيتنا. فمن الواضح أن الفرج في حالتنا لن يأتي بالشكل الدرامي الذي نرجو، لا، لن يأتي الفرج لأزمتنا المعقدة دفعة واحدة، لذا، علينا أن نتعام كيف نحبو.

8.

إن توازن القوى الإقليمية والدولية، وطبيعة المجتمعات المحلية في سوريا، قد يسمح لنا بالتقدم خطوة بعد أخرى نحو الحل المنشود، لكنه لا يسمح لنا، ولن يسمح، بالقفز وحرق المراحل، بل إن محاولة القفز ستلقي بنا في الهاوية.

9.

الإجرام الذي حدث في سوريا لن يتوقف بين ليلة وضحاها، ووقوعه يعبر عن وجود عقليات ونفسيات مرضية معينة لا يمكن هزيمتها من خلال تبني أساليبها، تماماً كما لا يمكن الخضوع لها. إن قبولنا ببعض التنازلات مهما كانت كبيرة، لا يعني أبداً ان نرضى بالخضوع والخنوع مرة أخرى. التنازل السياسي هو التحضير لمرحلة جديدة من المقاومة لعقلية الخوف من الآخر، الخوف حد قتله لمجرد الشبهة لا أكثر.

الأحد، 7 فبراير 2016

عن الحسابات السياسية للمعارضة السورية في المرحلة القادمة

1.

الهدف الأساسي من المشاركة في محادثات جنيف كان تجنب أن يقع اللوم على المعارضة، لكن انسحاب المعارضة من المحادثات، الأمر الذي أدى إلى تجميدها، سمح لوزير الخارجية الأمريكي بإلقاء اللوم على المعارضة، وهو تطور مؤسف. لماذا؟ لأن إدارة أوباما تسعى، وبكل الوسائل، في هذه المرحلة، إلى تبرير سياساتها التراجعية فيما يتعلق بالملف السوري، على الرغم من كل المآسي التي أدى إليها هذا التراجع. لوم المعارضة يحقق لها هذا الأمر أكثر مما يحققه لوم روسيا أو إيران. من هذا المنطلق كان علينا أن نذهب إلى جنيف ونبذل ما بوسعنا لكي نبدو بمظهر المتجاوب على الرغم من كل تعنت الطرف الآخر، تآمر روسيا وإيران مع الأسد، وتخاذل الأطراف الدولية التي تدعي دعم الثورة. ولقد كان موقفنا قوياً في هذا الصدد، وكان كل المطلوب منا هو الإصرار على مواصلة اللقاءات مع ديمستورا حتى في حال اضطرارنا إلى تكرير ذات الكلام في كل لقاء.

لأن هدفنا كمعارضة في هذه المرحلة، ونظراً لأهمية ومحورية الدور الأمريكي، عجبنا هذا الأمر أم لا، يكمن في تمهيد نمهد الطريق للضغط على الإدارة القادمة من أجل أن ندفعها باتجاه تبني موقف مختلف حيال الصراع في سوريا، وهذا الأمر يتطلب منا اليوم تجريد إدارة أوباما من أي مسوغ أو عذر لتبرير سياستها. لن يؤدي نجاح المعارضة في هذا الصدد إلى أي تغيير في موقف الإدارة، لكنه قد يؤدي إلى كسبنا لتعاطف المزيد من مؤيدي سياسة النأي بالنفس على المستوى الشعبي، وهو الأمر الذي سيساعدنا مستقبلاً في الضغط على الإدارة الجديدة، سواء كانت ديموقراطية أو جمهورية. نعم، هذا حساب بعيد الأمد نسيباً، وهو بالضبط نوع الحسابات التي ينبغي علينا أن ننخرط بها، والتي كان علينا أن ننخرط بها منذ البداية. فما استمرت حساباتنا السياسية بالتمحور حول الرغبة في التحصل على مكاسب عاجلة، مهما بدت لنا هذه المكاسب مستحقة وعادلة، سنبقى غارقين في إطار ردود الأفعال، ولن نتمكن من التأثير على أي قرار دولي فيما يتعلق بقضايانا، وستبقى العدالة بالنسبة لنا أمراً مؤجلاً إلى ما لا نهاية.

2.

على المعارضة في هذه المرحلة أيضاً أن تسعى للتواصل المباشر مع الطرفين الروسي والإيراني وكل الأطراف الدولية الداعمة للأسد، لأن الكثير من الحسابات السياسية لهذه الأطراف قد تتغير مع الاحتكاك المستمر. ولا ينبغي على ما تقوم به هذه القوى من مجازر في هذه المرحلة أن يضعف من رغبتنا في التواصل معها، بل عليه أن يغذي هذه الرغبة، خاصة في حال روسيا وإيران، بالذات لأن وجودهما في سوريا بات يمثل احتلالاً. ألم نتحاور مع المحتل الفرنسي في السابق؟ وهل كان يمكن لنا دون اقتران المقاومة بالحوار أن نتوصل إلى الاستقلال؟ علينا أن نحسن كيف نتعامل مع الواقع الذي تم فرضه علينا، لكي نتوصل إلى أساليب جديدة لتغييره.

فالكرامة في هذه المرحلة تكمن في استمرار النضال، لكن للنضال أوجه وأطوار مختلفة، وما لم ندرك ذلك، سنخسر الحرب كلها، وليس مجرد معركة.

3.

أما فيما يتعلق بمسألة التدخل السعودي-التركي، فنحن نسمع هذا الكلام منذ أشهر، ولا ندري مدى جديته، لكن، وعلى افتراض جديته، فمن المستبعد أن يكون الهدف منه هو الدخول في حالة صدام مباشرة مع الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً وروسياً، وقد لا يؤثر على الأوضاع إلا في منطقتي دير الزور الرقة وبعض مناطق الحسكة وشمال اللاذقية وحلب. وقد يؤدي إلى رفع الحصار على حلب في حال وقوعه في الأسابيع القادمة. وربما أدى إلى دعم الثوار في إدلب وبعض المناطق الوسطى أيضاً. أما في دمشق وجنوب سوريا، فقد لا يؤدي إلا إلى تجميد الأوضاع. ويبقى الهدف هنا هو التمهيد لمباحثات أكثر جدية بين الأطراف في جينيف أو فيينا. هذا هو السيناريو المثالي للتدخل، إذا حدث، وهو يقوم على افتراض أن إيران وروسيا سيفضلا تجنب التصعيد، وسيرضيا إلى حد ما بالواقع الجديد الذي سيفرضه هذا التدخل. وقد لا يكون هذا الافتراض في محله على الإطلاق.

وفي حال اختار الطرفان التصعيد، فالمنطقة قد تتجه تدريجياً نحو صراع طائفي شامل، قد يكون التعويل فيه على تدخل أمريكي أو حتى أوروبي إلى جانب المحور السني أمراً غير مضمون. في حال أصر الغرب على النأي بالنفس، فأن توازنات القوى ترجح انتصار المحور الروسي-الإيراني، بصرف النظر عن الحسابات الديموغرافية، فهناك أكثر من طريقة لتطويع  الأغلبيات الهلامية، كما هو الحال مع الأغلبية السنية العربية، التي لا يمكن لها في الواقع أن تتحول إلى حقيقة سياسية تحت هذا العنوان.

من هذا المنطلق، ولأن حسابات القوى الأخرى أكبر من سوريا، في حين لا يخدم استمرار الصراع على أرضنا مصلحة السوريين على اختلاف خلفياتهم، على المعارضة السورية أن تدرك أن دورها في المرحلة القادمة يهدف إلى إيجاد توازن ما لمصالح كل الأطراف المتناحرة على أرضها، وأن تكون صانع سلام أكثر من كونها طرفاً في النزاع. لا أحد يلعب هذا الدور حالياً، ولن يلعبه أحد أفضل من طرف سوري يتكلم مع الجميع ولا يرهن حساباته السياسية بمصالح أي طرف ما خلا الشعب السوري بكل مكوناته، طرف ثار أساساً لتحقيق مصلحة الوطن ضد طغمة لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الخاصة وإن على حساب الوطن.

إن تبني النظام وأتباعه لشعار "الأسد أو نحرق البلد" قد يصلح لهم، ويتناسب مع عقليتهم ومخاوفهم، لكنه لا يسوغ للثوار تبني عقلية مماثلة، عقلية شعارها العملي، وإن بقي غير منطوق، "الثورة أو نحرق البلد." لم تكن الثورة أبداً هدفاً بذاته بالنسبة لمن قاموا بها، ولا ينبغي لها أن تكون، إنما هي أداة من أدوات النضال المختلفة من أجل تحقيق التغيير الديموقراطي المنشود، والتوصل إلى مجتمع الحقوق المتساوية. والعمل السياسي وجه آخر من هذا النضال. ولن تأتي تسوياته وتنازلاته، كما يتوقع البعض، على حساب الهدف الأساسي، لكن الفرج والعدالة لا يأتيان دفعة واحدة دائماً، بل لا يتحققان في معظم الأحيان إلا بالتدريج.

لقد أصبحت عودة الاستقرار إلى سوريا في هذه المرحلة ضرورة كبيرة، وقد يتطلب الأمر قبولنا بتنازلات ما كنا نتوقعها منذ عام أو أكثر، لكن الواقع أن موازين القوى حالياً ليست في صالحنا. وفي حال وقع التدخل السعودي-التركي، فهذا لا يعني تجميد العمل السياسي، بل على العكس، على المعارضة وقتها أن تستغل وقوعه، وهو الأمر الذي سيصب في مصلحتها في المرحلة الأولى، لتكثيف العمل السياسي بغية تجنب تصعيد روسي-إيراني. وقد تكون التنازلات المطلوبة في هذه الحال أقل إيلاماً، لكن، علينا أن لا نغامر في المراهنة على حل عسكري بالكامل، كما يفعل الروس والإيرانيون اليوم. لأن ثمن الخسارة سيدفعه الشعب السوري أولاً.

باختصار، علينا أن لا نمتنع عن العودة إلى المحادثات في آخر شباط، إن تم عقدها، لكن علينا أن ندرك أن صنع السلام هو الهدف الحقيقي لنا في هذه المرحلة. لأن عودة السلام ستسمح لنا في مرحلة قريبة بمتابعة النضال من أجل بناء مجتمع ديموقراطي، مهما كانت الظروف الصعبة. وفي هذه الأثناء، على المعارضة أن تواصل تفاعلها مع القوى السياسية المختلفة، ولا تكتفي بالانتظار.