عمار في طوكيو بصحبة مترجمة روايته إلى اليابانية |
مقابلة مع عمّار عبد
الحميد | كِن كاواشيما
يعالج عمار عبد
الحميد في الحيض، روايته الأولى الجريئة التي مُنِع نشرُها في بلده
المسلم المحافظ، قضايا الحياة الجنسية والكبت.
سار الكاتبُ السوري عمار عبد الحميد درباً طويلة قبل أن
ينشر الحيض، روايته الأولى ذات العنوان الاستفزازي. ففقط عبر ترحاله
في أوْجُه الأصولية الإسلامية المتعددة، وعبر صراعاته لتوطين نفسه على هويته
ومعتقداته الدينية، استطاع أن يكتب روايته الأولى الجريئة التي تسبر أعماق القضايا
المعاصرة، كالحياة الجنسية ووعي الذات والكبت في الإطار الديني المحافظ في سوريا.
وقد كُتِبَتْ الرواية باللغة الإنكليزية، ونشرتْها دار الساقي للنشر في بريطانيا [2001]، وتُرجمَت إلى ستِّ
لغات، بما فيها اليابانية. بيد أن مضمونها المثير للسجال يحول دون نشرها بالعربية
ليقرأها أبناء بلد عمار.
وفي لقاء أجري معه خلال زيارته مؤخراً لليابان قال
الكاتب: «من الصعب جداً قبول مثل هذه القضايا في سوريا. إلاَّ أن الكتابة بالنسبة
لي علاج وطريقة للتأقلم مع الواقع. فبعدما تحررتُ من أوهام الأصولية الإسلامية
أُصِبتُ باكتئاب بلغ من الشدة حداً جعلني أفكر بالانتحار. وعندها بدأت الكتابة
فأنقذتُ حياتي.»
رواية الحيض تصوير لكيفية إدراك عمار
لشكوكه حول الدين والحياة السورية التقليدية وإحباطه منهما، من خلال أعين شباب
سوريين معاصرين. والقصة مسرودة من خلال مستويات عدة،
أحدها من خلال عيني حسن، وهو ابن إمام دمشقي يتمتع بقدرة غريبة على فرز المرأة
الحائض من رائحتها؛ وكذلك وسام التعيسة في زواجها من زوج مسيطر. كلاهما محبط
ومكبوت لا يزال في حياته المحافِظة، إلى أن يدخل كل منهما في علاقة جنسية تغيِّر
حياتَه تغييراً لا رجعة عنه؛ إذ يصير حسن خليل امرأة متزوجة، بينما تعيش وسام
علاقتها السحاقية الأولى. ويضعضع تحررُهما كلَّ المفاهيم الدينية والجنسية التي
عاشا في كنفها في السابق وإلى الأبد، وبمساعدة المفكِّرَين التقدميَّين نديم
وكنده، يبدأان بتشكيل نظرة جديدة كلياً إلى الحياة.
نظراً للمحيط المثقف ومتعدد الأديان الذي تربَّى فيه
عمار في سوريا التقليدية متعددة الطوائف، لا عجب أن يبدأ هذا الكاتب ذو الستة
وثلاثين عاماً بالتشكيك بهويته الدينية؛ خاصة وأنه قد تأثر من وجوه عدة بعائلته
الفنية غير الاتباعية. فأمه هي إحدى أشهر نجوم الشاشة في سوريا وأبوه مخرج سينمائي
معروف. ومسألة الدين برمَّتها، على ما جاء على لسان عمار، كانت مطاطة ومطواعة في
إطار عائلته. يقول عمار : «لقد أرسِلتُ في سن الثالثة إلى مدرسة خاصة كاثوليكية،
لكني اعتنقت الإسلامَ في السابعة، ولم يكُ هذا التغيير صعباً علي.»
وفي سنة 1983، إثرَ وصول عمار ذي السبع عشرة ربيعاً إلى
بريطانيا للدراسة – في أولِ زيارة له لبلد غربي – شرع بالتركيز على هويته الدينية
وعلى تأثيرها عليه. يقول: «لقد شعرت بالاشمئزاز تجاه تركيز الغرب على الذكورة
وسيطرة الذكور، وبدا لي وكأن الجميع يجاهر بذكورته. ألا يمكن أن تكون الأمور أكثر
طبيعية؟»
لكن حلمه العزيز كان أن يصبح عالِمَ فلك؛ فترك بريطانيا
بعد عام وانتقل إلى موسكو سعياً إلى هدفه. إلا أن ثمانية أشهر كانت أقصى مدة
استطاع عمار أن يبقاها تحت النظام السوفييتي المقيِّد. قال: «لقد قتل الواقع
السوفييتي حلمي، ولم أستطع التأقلم مع طريقة الحياة السوفييتية؛ فقد كنت عرضة
للمحاسبة طوال الوقت، وكأنني أعيش في ظل المُراقِب السَّامي Big Brother الذي تخيَّله جورج أورويل
في روايته 1984».
وبعد أن فقد حلمه وامتلأ إحباطاً من عدم قدرته على
الاستقرار في أيٍّ من البلدين، التفت عمار إلى الدين، فأمسى بعد شهر من الزمان
أصولياً. وذهب إلى الولايات المتحدة سنة 1986 وانتسب إلى جامعة ويسكونسِن حيث
حضَّر لإجازة في التاريخ بينما كان يتفقَّه ليصير إماماً.
وخلال دراسته للشريعة الإسلامية تطرق عمار لتعاليم
القرآن فيما له صلة بالحيض وبالنظافة الصحية لدى النساء، فوظَّفها لاحقاً في
روايته. يقول عمار في هذا الصدد: «لقد صُعِقتُ عندما علمت أنه لأكثر من 1400 عاماً
نُظِر إلى الحيض على أنه شيء نجس وقذر، بينما كان من المفترض أن يُنظَر إليه على
أنه علامة حياة. عندما تحيض النساء لا يُسمَح لهن بالصلاة أو بالصوم ويجتنب
أزواجُهُن الأكل معهن من نفس الطبق. ويذهب الرجال في بعض العائلات المتدينة إلى
حدِّ التأكد من فُوَط زوجاتهم الصحية. أيُعقَل هذا؟»
لقد دفعتْ مثل هذه الاكتشافات العديدة عماراً إلى أن
يفقد إيمانَه بالإسلام. والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت قضيةَ سلمان رشدي سنة
1989، حين أعلنت الحكومةُ الإسلامية في إيران أن روايةَ هذا الكاتب الهندي آيات
شيطانية تجديفية لانتقادها محمداً وأصدرت فتوى بتحليل دمه.
يقول عمار: «حكمُ إعدام! لم أستطع هضم فكرة أن يُقتَلَ
رجلٌ لأنه لا يوافق على بعض المعتقدات.» وفي نهاية المطاف، دفعت هذه الحادثة
عماراً للتخلي عن الأصولية لأنه أدرك أنه كان يضيِّع وقته، على حد قوله. ويفسر
عمار قائلاً: «في البداية، كان من الصعب جداً تقبُّل الحقيقة. لقد فكرت في
الانتحار إذ اعتراني اكتئابٌ شديد. لكنني وجدت مخرجاً من خلال قَرطَسَةِ أفكاري.»
وإذ يستعيد عمار ذكريات تلك الفترة شديدة التدين، يعترف
اليوم أنه كان يبحث عن إجابات على بعض التساؤلات الكبرى. «لكنني لم أعد بحاجة لها
لأنني أمِنْتُ نفسي، وبتُّ قادراً على منح الحب وتلقِّيه. تطلَّب اكتشاف هذه
الحقيقة وقتاً طويلاً.»
يعتبر عمار نفسه اليوم ملحداً، واجداً أن محمد ويسوع
ليسا سوى نموذجين بَدئيَّين بسيكولوجيين. وهو يقول إنه تعلم أهمية أن يستخلص
الشخصُ العِبَرَ من التجربة الخام، «فهذه هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحكمة.
ومن الضروري أن نكون منفتحين تجاه الاختلافات، ولاسيما الاختلافات الثقافية. فكلنا
مترابطون الآن في هذا العالم الصغير».
يعتقد عمار أن التغيرات العالمية التي أدت إليها الحضارة
الغربية المعاصرة قد خَلَقَتْ نوعاً من الصدام بين التقاليد والحداثة، الأمر الذي
من شأنه أن يؤدي إلى ظهور أزمات هوية مماثلة لدى العديد من الشعوب في العالم. وهو
يؤكد على ضرورة الإصغاء إلى مظالم الشعوب وذلك للوصول إلى حلٍّ لا يستبعد أي بلد.
يقول عمار: «لا يمكن لأي بلد أن يتقمص دور الله؛ فمادام
ثمة إله سيكون الشيطان موجوداً دائماً. وهذا ما تشعر به غالبية الجماهير العربية
اليوم – أن أميركا تتقمص دور الله وأن الحضارة الغربية كانت تستغل شقاءهم، الأمر
الذي أدى، في نهاية السنة الماضية، إلى أن يجترأ بعض الناس على نطح مركز التجارة
العالمي في نيويورك بالطائرات. فالمشاكل تبدأ عندما يشعر بلدٌ ما بقدرته على سحق
جميع التمردات.»
رجع عمار إلى سوريا حيث تكمُنُ جميع إلهاماته، على حدِّ
وصفه. وهو ينوي هناك الاستمرار بالحث على الحوار عبر Etana Press، وهي دارُ
نشر صغيرة أسَّسَها في دمشق. كما يخطط لتنظيم الندوات ونشر الكتب التي من شأنها أن
تولد الحوار في بيئة لا تزال بحاجة للتنوير.
«غالباً ما يكون الشعب السوري سطحيَّ الانفتاح. فالنساء،
على سبيل المثال، نَزَعنَ الحجاب وارتَدَينَ البيكيني عوضاً عنه. وهن يُرِدْنَ
التمتعَ بالامتيازات الغربية، كالحرية والاستقلالية، إلا أنهن يَودَدْنَ أن تُطلبَ
يَدُهنَّ وفق التقاليد الشرقية. فهن غير مستعدات للتنازل عن أي شيء.»
وعلى الرغم من أنه لا يمكن لعمار نشر كتابه في سوريا
نظراً لقوانين الرقابة الصارمة، إلا أنه ينوي نشره بالعربية على الإنترنت في
المستقبل القريب. فحتى ناشر الحيض البريطاني اضطر إلى حذف الفصل
الأخير من الكتاب، الذي يصور شخصيات تتحدث بصراحة عن محرَّمات دينية، خوفاً من
استفزاز الأصوليين.
وقد قال عمار: «أتوقع أن تكون هناك موجة رفض عارمة في
سوريا عندما أنشر كتابي بالعربية. وظني أنه سيكون هناك صياح أكثر من الحوار. بيد
أنني أتمنى أن يقترح الكتاب طريقة عقلانية للحوار بين من يتبع الدين ومن لا
يتبعه.»
***
*** ***
ترجمة:
موسى الحوشي
عن صحيفة International Herald Tribune
عن صحيفة Asahi Shinbun اليابانية
في 7 إبريل/نيسان 2002