الخميس، 11 سبتمبر 2014

الدولة المدنية والطروحات الإسلامية


البعض يكذب، وبكل صدق، إلى درجة أنه يصدّق أكاذيبه، ثم يستغرب، وبصدق مطلق، عدم قدرة البعض على تصديق هذه الأكاذيب.

مثال: صديق مؤيد قال لي في بداية الثورة: "هاهو سيادة الرئيس قد أعطاكم ما تريدون (في إشارة إلى الدستور الجديد)، لماذا لا توقفوا الثورة إذاً قبل أن يأتي الإسلاميون الإرهابيون ويسيطروا على كل شيء؟" هذا الصديق يعرف تماماً أننا نعيش في بلد تم فيه تعديل الدستور في أقل من عشرين دقيقة، ويعرف تماماً كيف يستخدم النظام "الإرهابيين،" فاللعبة مفضوحة إلى درجة أن فنانينا سخروا منها في المسلسلات ("أيام الولدنة" وغيره). ومع ذلك، ها هو يريديني أن أصدق بأن الدستور الجديد الذي تم وضعه في غرف مغلقة من قبل مجموعة قليلة من الناس، الذين لاحيلة لهم على الإطلاق فيما يتعلق بالتعامل مع المؤسسات الأمنوعسكرية الحاكمة، سيغير كل شيء. هذا إذا ما تجاهلنا المشكلة الكبيرة الكامنة في كلمة "قد أعطاكم،" وتجاهلنا من أين يأتي الإرهاب.

مثال آخر: الكثير من أتباع التيارات الإسلامية تبنوا في مرحلة ما طرح الدولة المدنية، لكنهم مع ذلك أصروا وفي كل الحوارات التي أجريتها معهم على: ضرورة الحفاظ على تسمية "الجمهورية العربية السورية،" بصرف النظر عن المطالب الكوردية وبأن الدولة المدنية تعريفاً ليست دولة قومية، وأصروا على اعتبار الإسلام الدين الرسمي للدولة، والشريعة المصدر الأساسي للتشريع، مع أن الدولة المدنية لا دين لها، ورفضوا مفهوم الزواج المدني، وأصروا على تعليم الدين للجميع في المدارس بمن فيهم أولاد العلمانيين... و...و...و... عند التفاصيل يتضح أن مفهوم معظم أتباع التيارت الإسلامية للدولة المدنية ليس مدنياً على الإطلاق، على الرغم من قناعتهم الواضحة بأنهم من مؤيدي قيام الدولة المدنية! فإذا كانت هذه هي الحال مع هؤلاء، فكيف بنا مع من يطرح منهم وبشكل واضح وصريح رفضه للدولة المدنية ودعوته لقيام الدولة الإسلامية؟

علي أن أعترف هنا أنه في بعض الحالات تقابلت مع شخصيات من التيار الإسلامي قالوا لي فيما يتعلّق ببعض المطالب أعلاه بأنهم "قد نعطيكم إياها!!" لكن الحقوق الأساسية للإنسان تنبع منه ذاته، من إنسانيته ذاتها، وليست خاضعة للمساومة، إذ لايساوم على حريته وحقوقه إلا عبد.

ما مشكلة الإسلامي مع الحياة في دولة له فيها حق بناء المساجد والعبادة فيها بحرية، وحق الزواج والطلاق والتوريث حسب الشريعة الإسلامية والمذهب الذي يتبعه، وفي أن يعلّم أولاده الدين كما يفهمه هو، أي وفقاً لمذهبه الخاص؟ أين الاضطهاد الذي يتعرّض له الإسلامي هنا؟

أما بالنسبة للشخص الذي يؤمن بالفعل بطرح الدولة المدنية والذي قد تقدر له الظروف أن يعيش في دولة إسلامية فالاضطهاد الذي سيتعرض له هناك واضح وصريح: إذ ستفرض عليه الدولة صلوات وعبادات قد لايؤمن بها من منطلق أنه مسلم بالولادة، وأن يعيش، فيما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث والحياة الاجتماعية ككل، وفقاً لطرق وتقاليد وأعراف وقوانين قد لا يؤمن ببعضها على الأقل، أن لم نقل بكلّها، وسيضطر إلى مراقبة أولاده وهو يتلقون تعاليم حول الحياة والوجود تناقض بعض معتقداته الأساسية، إن لم نقلّ جلّها، لأنه وإن كان مسلماً بالولادة توصل في حياته إلى قناعات مغايرة أو تفسيرات مختلفة للإسلام ذاته.

المشكلة إذاً أن الصديق المؤيد يريد لنا، من خلال تصديقنا لكذبة الدستور الجديد، أن نوافق على استمرار النظام لكي نحمي أنفسنا من الإسلاميين، والأصدقاء الإسلاميون يريدون لنا، من خلال تصديقنا بأنهم بالفعل ملتزمين بالقيم المدنية وأنهم "قد يعطوننا بعض الحقوق،" أن نوافق على قيام الدولة الإسلامية لكي نحمي أنفسنا من النظام. لكن السؤال الذي يواجهنا في الحقيقة هو: من سيحمينا من الطرفين؟



لايكفي بالنسبة لي أن يكون المرء صديقاً من فترة ما قبل الثورة ليبقى صديقاً اليوم إن كان ما يزال مؤيداً. ولايكفي المرء أن يكون ثائراً ليكون صديقاً حقيقياً وشريكاً إذا كان مشروعه الخاص يقتضي قيام دولة لا تحترم حقوقي الأساسية.

كيف لي أن أبدي أي تعاطف صادق مع أشخاص لم أر منهم منذ بداية الثورة حتى اللحظة إلا احتقاراً لحقوقي ومخاوفي، أو محاولة تلاعب على المشاعر وضحك على العقول؟ أشخاص لم يضيرهم على الإطلاق بأن "أمثالي" لم يضمروا لهم أي شر، وأننا أردنا لهم ما أردنا لأنفسنا: أن يعيشوا بكرامة، وعملنا معهم جاهدين لنتفق على رؤى مشتركة حقيقية، لكنهم لم يوافقوا إلا على القشور، ومضوا، كالنظام، في مشروع فئوي أرادوا أن يفرضوه على كل الناس، وبقوة السلاح. ثاروا، أي نعم، وقاتلوا ويقاتلون بشجاعة، لكن من أجل حريتهم هم فقط، ومن أجل أن يتوصلوا هم إلى السلطة، ليحكموا بما حكم الله، على حسب قولهم، لكن الواقع يقول بأنهم سيحكمون حسب أهوائهم، وإلا كيف تشتتوا إلى فرق وجماعات كداعش، وجبهة النصرة، وأحرار الشام، وصقور الشام، والجبهة الإسلامية، وجيش الإسلام، و....و..و...؟  هذا غير الاختلافات ما بين إسلاميي الحركات السياسية من سلفيين وإخوان وتحريريين، إلخ؟ ومن الواضح هنا أيضاً أن بعضنا لا يريد أن يحتكم إلى شرع الله أساساَ فيما يتعلّق بحياتنا الشخصية، وهو أمر لم ننكره أبداً، وهو من خقنا مهما أساء إلى مشاعر البعض.

إن طرح الدولة المدنية شكّل ليعطي الجميع جزءاً كبيراً مما يريدون: قد لايتحصّل الإسلاميون فيه على دولة إسلامية: لكن سيكون بوسعهم أن يبنوا بيوتاً إسلامية، شبكات إسلامية، جمعيات إسلامية، مصارف إسلامية، مدارس إسلامية، جامعات إسلامية وغيرها من المؤسسات بما فيها أحزاب إسلامية أيضاً. وقد لا يتحصّل العلمانيون على دولة علمانية، لكن سيكون بوسعهم أن يعيشوا حسب معتقداتهم دون خوف من اضطهاد وأن يديروا مؤسساتهم العلمانية المرادفة. الدولة المدنية حل ناجع ومجرّب في دول كثيرة لايرفضه إلا من يريد سلطة مطلقة لا تتم محاسبته فيها من أحد.
نحن لا نطالب الإسلاميين أن يكونوا كما نريد، لكننا لا نريد أن نكون كما هم، أين الإيديولوجية أو رفض الآخر في هذا المطلب؟

الثورة أساساً لا تجمع، بل تفرّق وتغربل، أما ما يمكن له أن يجمع، دون اللجوء إلى القمع والعنف والاضطهاد، فهو الرؤية، وفيما يتعلّق بالوضع السوري بالذات: رؤية مشتركة لسوريا ما بعد الثورة. ولا يمكن لرؤية كهذه أن تبنى على أسس عقائدية، سواء كانت هذه العقيدة دينية الطابع (دولة إسلامية) أو علمانيته (دولة قومية عربية و/أو اشتراكية)، لأن العقائد تفرّق. ومالم نتمكن من الاتفاق على هذه الرؤية الجامعة، فلاشكّ عندي من أن الحرب ستستمر حتى التقسيم، ولسنين ما بعده، حتى لو طال هذا التقسيم المنطقة بأسرها. وهذا الكلام لا يأتي بمثابة التهديد، بل التوصيف لواقع نراه يتجلّي وبسرعة أمام أعيننا جميعاً.

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

المتشدّدون والمعتدلون

السؤال المطروح هنا هو: هل بوسع التيارات الإسلامية تقديم تفسير عملي وعادل وفعال لهذا الشعار؟ فالشعارات بحد ذاتها لا تكفي. أما التيارات العلمانية فلقد جائت بطرح الدولة المدنية، لكنا حتى اللحظة لم ندخل في التفاصيل العملية للأمر، خاصة فيما يتعلّق بالتواصل مع الشرائح الشعبية الأوسع.


في وقت يتكاثر فيه الكلام عن المتشدّدين والمعتدلين أرى أنه من الضروري أن نحاول الاتفاق على تعريف واضح للمصطلحين علّنا بذلك نتمكّن من تحديد بعض أوجه التحديات التي تواجنا في هذه المرحلة. وفيما يلي، مقاربة خاصة في هذا الصدد:

المتشدّدون: أولئك الذين يدّعون معرفة التفسير الوحيد الصحيح للمعتقد، ويعظون الناس باستمرار حول كل كبيرة وصغيرة في حياتهم، ويصرّون على احتكار الحقيقة، وإنهاء الحوار الدائر منذ الأزل حول طبيعة مصائرنا الفردية والجماعية، عوضاً عن أن يرضوا بدورهم كمجرّد مشاركين أو كمساهمين فاعلين فيه عن طريق تحفيزيهم للآخرين على أخذ بعض الأمور بالاعتبار. وغالباً ما ينتهي المطاف بالمتشدّدين إلى تبنّي أساليب النصّابين والمشعوذين، فيركبهم الخطأ من رؤوسهم إلى  خمص أقدامهم حتى في حال صحّت بعض توقعاتهم وتحليلاتهم، فالعبرة في الأسلوب والمنهج، فمن يرفض إخضاع أفكاره لنفس التدقيق الذي يعرّض أفكار اللآخرين له، يجرّد نفسه وأفكاره من أية شرعية يسبغها التواصل المفتوح مع الآخرين، من حيث رفضه لشرط الانفتاح. فالتشدّد في الجوهر نظام مغلق، والمتشدّد في عمق أعماقه لا يزيد عن كونه شحّاذ مشارط.

المعتدلون: أولئك الذين يعترفون بتنوّع التفسيرات الموجودة والممكنة للمعتقد، والذين هم على استعداد دائم لاستيعاب حتى الرفض الصريح له من دون قيد أو شرط. ولا يهتم المعتدلون بالاتفاق على تعريف واضح للإيمان والمعتقد بقدر اهتمامهم بالاتفاق على الطرق الأنسب لضمان حرية المعتقد والتعبير للجميع، كلّ، فرداً كان أو جماعة، وفق تفسيره ورؤيته الخاصة. فعملية النقاش والحوار التي تهمّ المعتدلين أكثر من غيرها تتناول على وجه الخصوص قضية الحدود العادلة التي ينبغي أن تقوم ما بين الأفراد والجماعات، وما بين الفضاء الخاص والعام. كما يسعى المعتدلون أيضاً إلى الاتفاق فيما بينهم على الكيفية الأنسب للتعامل مع المتشدّدين، أي أولئك الذين يصرّون على فرض آرائهم على الآخرين، بقوة السلاح، وبقوة مؤسسات الدولة والمجتمع، على حساب إبطال كل الحدود ما بين الأفراد والجماعات، وما بين الخاص والعام، إلا تلك التي يرونها هم وحدهم مناسبة.