* كلّما ذكر مصطح أقلية أو أغلبية أمامنا اتجه تفكيرنا نحو الطوائف
والقوميات لا الأحزاب، هذا ما يجعل موضوع حكم الأغلبية مخيف من منطلق وجودي
بالنسبة للأقليات، وهذا ما يجعل تقديم رؤى فيما يتعلق بشكل الحكم مستقبلياً وفيما
يتعلّق بتوفير آليات لضمان حقوق الأقليات وعدم تهميشها أمراً حيوياً وضرورياً
لانتصار الثورة وإنقاذ الوطن من التمزّق والانهيار.
* نعم التعامل مع موضع الأقليات في وقت يتم فيه اضطهاد الأغلبية
باسم حماية الأقليات أمر صعب من الناحية العاطفية، لكن مستقبل الوطن يتطلّب منا
تغليب العقل على العاطفة وعدم إهمال هذا الأمر أو التعامل معه بشكل سطحي لأن في
ذلك تكريس للصراع وعملية التفتيت المجتمعي القائم.
*
إن فشل المعارضة حتى اللحظة في التعامل مع القضية الكوردية بشكل مناسب، وتهرّب
جماعاتها المستمر من الالتزام بأية تنازل أو رؤية في هذا الصدد يرسل إشارات خاطئة
إلى الأقليات الأخرى، ويكرس نزعة المترسة الطائفية والأقلوية.
*
نعم، الحلول الانفصالية في سوريا غير عملية من كل النواحي، الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية، لكنها تبقى أفضل من الغموض والضبابية بالنسبة للأقليات. إن غياب الرؤى
المستقبلية الواضحة يجعل كل ما هو غير عملي وغير منطقي وغير عقلاني مقبولاً بل
ضرورياً.
*
ما لم نخرج بالعمل السياسي المعارض من إطار التجمّعات العربية السنية الذكورية
التي تبحث عمن يناسبها من شخصيات من المكوّنات الأخرى لتستخدمها كغطاء تتستر من
خلاله على نزعاتها السلطوية، سنفشل وباستمرار في إطلاق حوار وطني حقيقي حول مستقبل
سوريا. على المعارضة بأن تدرك بأن قدرتها على قيادة المرحلة الانتقالية ستكون
مرتهنة بقدرتها على تمثّل طموحات وتطلّعات كل المكوّنات الاجتماعية في سوريا، بصرف
النظر عن موقفها السياسي الحالي، وليس طموحات وتطلّعات الثوار فقط، وإلا ستكون
عاجزة عن إفراز رؤية وطنية جامعة قادرة على توحيد كل الفئات المكوّنة للمجتمع
السوري، وبالتالي عاجزة عن الحفاظ على وحدة الدولة السورية.
*
إن الرهان على الحل العسكري لإسقاط النظام شيء، فالنظام لم يترك لنا الخيار هنا،
والرهان عليه لإخضاع كل المناطق في سوريا لسلطة مركزية واحدة من جديد شيء آخر
تماماً. فهذا الرهان هو بالذات ما سيحوّل الثورة إلى حرب أهلية حقيقية فاتحاً
الباب على مصراعيه أمام المزيد من المجازر والتصفيات العرقية من قبل كل الأطراف
وليس فقط من قبل الموالين للنظام كما هو الحال في هذه المرحلة. من هنا، ورغبة في
قطع الطريق أمام تحوّل من هذا النوع، تنبع طروحات المحاصصة الرسمية واللامركزية.
مقدمة
كل
حوار جرى حتى هذه اللحظة بين أطراف المعارضة كان عبارة عن عملية محاصصة غير معلنة
بين الأطياف المختلفة جرت على أساس طائفي وقومي وعشائري ومناطقي. وكل محاصصة حتى
اللحظة فشلت بسب غياب تمثيل واضح للأقليات والمناطق وغياب آليات أخرى لضمان حقوق
الأطياف المختلفة ما خلا المحاصصة ذاتها. لكن السبب الأهم لفشل هذه المحاصصات هو
غياب نظام رسمي ومعلن لها مما ترك المجال مفتوحاً للتلاعب من وراء الكواليس وهذا
ما جرى ويجري باستمرار.
إن
غياب نظام رسمي للمحاصصة في أوساط المعارضة يصبّ في مصلحة الإخوان المسلمين
بالدرجة الأولى بصفتهم الحركة الأكثر تنظيماً على الساحة السياسية الخارجية، لذا
تراهم أكثر الناس عداءاً لموضوع المحاصصة المعلنة والرسمية، لأنهم يدركون أكثر من
غيرهم أن نظاماً كهذا سيحدّ من قدرتهم على التلاعب بالعملية السياسية.
طبعاً
الإخوان ليسوا وحدهم من يعادي تبنّي نظام محاصصة طائفي معلن ورسمي، معظم قوى
المعارضة تعارض تبنّي المحاصصة بهذا الشكل "الفجّ،" كما يرونه، وهذا على
الرغم من ارتكاسهم الدائم إليه خلال نقاشاتهم.
النظام
أيضاً يعادي موضوع المحاصصة المعلنة والرسمية مع أن كل حكومة نصّبت من قبله منذ
مجيئه إلى السلطة جاءت نتيجة محاصصة ما، فغياب نظام رسمي للمحاصصة يترك المجال
مفتوحاً أمام عائلة الأسد لتتلاعب بالعملية كما يحلو لها.
وعادة
ما توصف عملية المحاصصة باللبننة والعرقنة السياسية، لكن، ونظراً لهذا الاصرار على
المحاصصة من الناحية العملية ونظراً لأن كل انقلاب جرى في تاريخ سوريا بل حتى
عمليات الصراع التي تمّت في أوساط حزب البعث كان لها بعد مناطقي وطائفي، ربما كان
تجاوز الاعتراضات النظرية والمثالية على المحاصصة وشرعنتها من خلال الاتفاق على
آلية واضحة ورسمية لها هي الخيار الأفضل للجميع في هذه المرحلة الحاسمة، لأن
مايجري على الأرض في سوريا اليوم هو بالفعل لبننة وعرقنة عسكرية وإدارية، وقد
تتحوّل إلى صوملة وطلبنة ما لم نتدارك الأمور ربما من خلال نظام محاصصة مناطقي
وفئوي رسمي علني وواضح المعالم.
المعارضة
لموضوع اللامركزية، وهي شكل من أشكال المحاصصة المناطقية في الواقع، لاتقلّ حدةّ
في أوساطنا السياسية. فعلى الرغم من تبنّي المصطلح بحد ذاته في بيانات المعارضة،
إلا أن كل محاولة لتوضيحه من خلال طرح أحد أشكاله المعروفة كالحكم الذاتي
والفيدرالية، واجهت اعتراضات واسعة. المصطلح مقبول إذاً طالما بقي ضبابياً، وطالما
بقيت محاولات توضيحه مؤجّلة.
معنى
التحاصص
المحاصصة
المناطقية أمر طبيعي ومتعارف عليه في كل دول العالم، فأن يكون لكل بقعة جغرافية
مكونة للدولة عدد معين من الممثلين في البرلمان يتناسب مع حجمها الديموغرافي، هو
أحد أحجار الأساس في الأنظمة الديموقراطية. لكن الأمور تصبح أكثر تعقيداً عند
الكلام عن المحاصصة الفئوية (أي الطائفية والقومية)، فالتمثيل المناطقي لاينسجم
بالضرورة مع التكوين الفئوي أو المصلحة الاقتصادية لبعض الفئات: فبعض الفئات قد
تشكّل أغلبية في مناطق معينة، لكنها أقلية في مناطق أخرى، وليس من المنطقي أو
الإنساني أو العملي مطالبتها بالتجمع في مناطق معينة وحسب. من ناحية أخرى، الحقوق
المناطقية لاتكفي عند التعامل مع أقليات دينية أو عرقية لا يتجاوز حجمها
الديموغرافي أكثر من 10% أو 15%، لأن صغر حجمها الديموغرافي يسهّل تهميشها
سياسياً، وهو أمر له أبعاده وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية السلبية. من هنا تصبح
قضية المحاصصة قضية مصيرية بالنسبة لهذه الأقليات. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار
طبيعة العلاقة القائمة اليوم ما بين الأقليات الدينية والنظام القائم في سوريا
حالياً، تصبح القضية أعقد، فالارتباط بالسلطة يعوّض إلى حدّ كبير عن محدودية الحجم
الديموغرافي وله منافع جمّة اجتماعية واقتصادية (على الأقل فيما يتعلّق بالنخب
الفاعلة والممثلة لهذه الأقليات وبصرف النظر عن لاعدالة عملية التوزيع المتعلّقة
بهذه المنافع في أوساطها). وبالتالي يشكّل فكّ ارتباط هذه الأقليات بالسلطة
تهديداً كبيراً لها من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، علاوة على
التهديد الوجودي النابع من انتشار مفاهيم وعقائد وتعصّبات معينة في أوساط
الأغلبية.
وفي
واقع الأمر، آل المطاف في معظم الدول التي شهدت صراعاً فئوياً دموياً إلى تبنّي
نظاماً ما للمحاصصة الفئوية كجزء من عملية السلام التي أعادت الاستقرار إليها. وإن
كان تبنّي نظاماً للمحاصصة لايشكّل الحلّ الأمثل، لكنه يبقى أفضل من الحرب وأكثر
شفافية من عمليات اللعب والتلاعب من وراء الكواليس التي تفرض نفسها كجزء من عمليات
المحاصصة غير الرسمية.
النقاش
حول هذه الأمور كان سيكون أسهل بالطبع لولا المجازر التي جرت ومازالت تجري اليوم
على أيدي ميليشيات الأسد. لكن وقوع المجازر لاينبغي أن يستخدم لمنع النقاش
حول هذه الأمور، فغياب النقاش يعني استمرار الحرب، وبالتالي استمرار المجازر التي،
كلّما أوغلنا في الصراع، لن تبقى من طرف واحد، مما سيفقد الثورة تفوّقها الأخلاقي.
ومن
الواضح أن الصراع في سوريا لن يحسم عسكرياً لصالح أية فئة، فللنظام مؤيّدوه على
الصعيد الإقليمي والدولي، وقضية الأقليات ستجد متعاطفين لها دائماً على الصعيد
العالمي. فحتى بعد سقوط النظام وإجبار الأسد وكبار رجالات النظام على مغادرة دمشق
أو حتى سوريا نهائياً، ستبقى هناك مناطق وميليشيات موالية غير خاضعة لأي سلطة
مركزية ومتمركزة في مناطق معينة، وليس فقط في الساحل، هذا علاوة على وجود مناطق
أخرى سيكون لها وضعها الخاص، خاصة المناطق ذات الغالبية الكوردية ومحافظة السويداء
ذات الغالبية الدرزية، ومناطق وادي النصارى، ومدن مثل محردة والسلمية، إلخ. لايمكن
إخضاع هذه المناطق أو المليشيات الموالية عن طريق العمل العسكري، ولاينبغي اللجوء
إلى العمل العسكري في هذه الحال لأن هذا بالضبط هو ما سيحوّل الصراع الحالي إلى
نزاع أهلي طويل الأمد. ولاننسى هنا عامل التعقيد الآخر المتمثّل في وجود أسلحة
كيميائية، واحتمالات التمترس في بعض المناطق، ربما بقيادة الأسد نفسه، وهو عامل
التعقيد الأكبر الذي يواجهنا في هذه المرحلة.
من
هذا المنطلق، فأن تأجيل البت في القضايا المتعلّقة بالمحاصصة وحقوق المناطق
والأقليات إلى حين انتخاب برلمان حر، كما ينادي الموقف الرسمي للمجلس الوطني
السوري ومن بعده الإئتلاف الوطني، أمر له انعكاساته السلبية من الناحية العملية.
فإذا كان الحل العسكري غير قادر على حسم الصراع إلا في بعض المناطق، فالحل السياسي
هو الأمر الذي سيسرّع من حسم الصراع في المناطق الأخرى وعلى الصعيد الوطني. إن
التوافق على رؤية معينة فيما يتعلّق بقضايا المحاصصة وحقوق المناطق والأقليات هي
الخطوة التي ستعجّل من قدوم تلك اللحظة التي سيتمكّن فيها الشعب السوري بكافة
مكوناته من المشاركة في عملية انتخاب حرة ونزيهة لبرلمان حر.
والسؤال: متى سنبدأ
بالعمل على وضع رؤية مهما كانت أولية في هذا الصدد؟ أكاد أسمع أحزاب المعارضة وهي
تقول: بعد التحرير. والواقع أني بدأت بطرح هذا السؤال في العلن منذ شباط 2011، أي
قبل الثورة، لكن، وحتى اللحظة، لم تقدم فرق المعارضة السياسية إلا هذا الجواب الذي
يمثّل في الحقيقة تهرّباً من المسؤولية ورهاناً تاماً على الحل العسكري فقط، ليس
فقط لإسقاط النظام بل لإخضاع كل منطقة من مناطق سوريا لسلطة جديدة واحدة. لهذا
الرهان أصحابه الصريحين على الساحة مثل جبهة النصرة وغيرها ممن تندمج الرؤى
السياسية والعسكري في أفهامهم، ومما لاشكّ فيه أنهم سيكون المستفيد الأول من
استمرار الرهان على الحل العسكري وحسب. لكن الواقع أن معظم أطراف المعارضة ما تزال
تراهن على حلّ من هذا النوع أيضاً متجاهلين بذلك كل الاحتمالات السيئة التي
سيفرزها هذا الرهان، وإلا لما كل هذا التسويف والمماطلة والرفض تجاه قضية الضمانات
والرؤى المستقبلية؟
هل
يمكن تجاوز نظام المحاصصة بعد تكريسه دستورياً وقانونياً؟
في
الواقع، لكل نظام سياسي فئات عدة من المستفيدين، ولن يكون تجاوز أي نظام بالأمر
السهل، وذلك بصرف النظر عن طبيعة القوانين الموجودة في الكتب، كما بوسعنا أن
نتعلّم مما يحصل اليوم في سوريا. لا، لن يكون من السهل تجاوز نظام المحاصصة سواء
كرّس قانونياً أو لم يكرّس، لكن، وعكساً لما هو رائج في صفوف مفكرينا السياسيين
على اختلاف مشاربهم، ربما يكون تجاوز نظام المحاصصة ممكناً أكثر عندما يصبح رسمياً
ومعلناً. وفي الواقع، إن الحفاظ على نظام المحاصصة بشكله غير الرسمي القائم اليوم
تكريس أكبر له، لأنه يسمح بالتهرّب من أي نقاش علني للموضوع بحجة تجنّب إثارة
النعرات الطائفية أو القومية، ويفتح الباب على مصراعيه أمام قمع ولجم كل من يحاول
طرح الفكرة، تماماً كما حدث ويحدث في ظل حكم الأسد. إن التعامل مع الأمور بشفافية
من خلال نظام محاصصة معلن ورسمي يبقى أفضل ويمثل خطوة أولى وحقيقية نحو التوصّل
إلى حلول فعّالة وناجعة.
ماذا
يعني نظام المحاصصة في السياق السوري؟
المحاصصة
قبل كل شيء وجدت كجزء من النظام البرلماني: وهي تدعو بشكل عام إلى حجز عدد معين من
المقاعد في البرلمان لمنطقة معينة أو لفئة معينة. لكن المعضلة تتجلّى في التوصل
إلى معادلة "عادلة" وعملية تضمن التوازن مابين الاعتبارات المناطقية
والفئوية والحزبية، لأنه ما بوسعنا أن نلغي دور الأحزاب السياسية بعقائدها
المختلفة.
الطريقة
الأنجع للتعامل مع هذه التعقيدات هي اعتماد برلمان مؤلف من مجلسين: مجلس نواب
ومجلس شيوخ. التمثيل في مجلس النواب يكون للمناطق والأحزاب السياسية، فيكون لكل
منطقة عدد معيّن من المقاعد يتناسب مع حجمها الديموغرافي، تتنافس على الفوز بها
الأحزاب السياسية المختلفة بفروعها الناشطة في كل منطقة، ويكون الحزب الحاصل على
أغلبية المقاعد هو الحزب الحاكم إذا تحصّل على نسبة تتجاوز 50%، أما إذا كانت
النسب أقل من ذلك، يكلّف الحزب المتحصّل على أغلبية المقاعد بتأليف تحالف مع أحزاب
أخرى لتأسيس تحالف حاكم.
وعادة
ما يلعب رئيس الجمهورية دوراً هاماً فيما يتعلّق بتشكيل التحالفات في الأنظمة
البرلمانية من خلال قيامه بدور الوسيط ما بين الأحزاب المختلفة إذا ما دعت الحاجة.
لكن الحاكم الفعلي للبلاد في الأنظمة البرلمانية هو رئيس الحزب أو التحالف الحاكم
الذي يحوز أيضاً على منصب رئيس الوزراء.
أما
في مجلس الشيوخ فيتم التمثيل بناءاً على الخلفية المناطقية والفئوية: فيتم حجز عدد
معين لكل منطقة، ومن ثم تخصيص عدد معين من هذه المقاعد لكل فئة في المنطقة. ويتم
التنافس على هذه المقاعد وفقاً لانتخابات حرة. لكن، وهنا مربط الخيل، ليس من
الضرورة أن يعتمد عدد المقاعد التي يتم حجزها لكل منطقة وفئة على حجمها
الديموغرافي.
والسؤال
هنا: ماهي النسبة المناسبة لكل منطقة وفئة في سوريا اليوم في سياق ما مررنا ونمر
به من تجارب منذ بروز سوريا كدولة في مطلع القرن العشرين؟ هذه هي إحدى المسائل
الرئيسية التي ينبغي أن نتفاوض عليها قريباً.
يتمتع
مجلس الشيوخ بحق مراجعة القوانين الصادرة عن مجلس النواب والقيام باقتراح تعديلات
ومن ثم إعادتها من جديد إلى مجلس النواب للتصويت من جديد وهكذا إلى أن يتم التوافق
على صيغة نهائية ما بين المجلسين.
ولن
نكون مضطرين في حال اعتمادنا لهذا النظام البرلماني إلى لبننة الوضع فيما يتعلّق
بتوزيع المناصب الحكومية لأن القرارت الحكومية الأساسية لن يتم اعتمادها دون
موافقة البرلمان، مما يفسح مجالاً كافياً للحفاظ على التوازنات الاجتماعية. لكن
ربما نضطر إلى إصدار قوانين تتعلّق بنسبة تمثيل الأقليات في الوظائف الحكومية.
وهذه قضية تفاوضية أخرى.
هناك
من سيقول معترضاً بالطبع بأن ترتيبات من هذا النوع تعد مخالفة للديموقراطية لأن
الديموقراطية هي حكم الأغلبية، لكن هذا الكلام غير دقيق. الديمقراطية التي نراها
في المجتمعات الغربية عموماً هي نظام حكم الأغلبية السياسية مع
الحفاظ على حقوق الأقلية السياسية، أي هي ديمقراطية أحزاب
بالدرجة الأولى وليست ديموقراطية طوائف وقوميات. لكن، وفي مجتمعات يسود فيها فهم
طائفي أو فئوي لمصطلحي الأغلبية والأقلية، ربما كان النظام الديموقراطي الأكثر
مناسبة هو ما يعرف باسم الديموقراطية التوافقية consociational democracy، إذ
يسمح هذ النظام الديموقراطي لحكم الأغلبية السياسية (في مجلس النواب) لكنه يستدعي
وجود آلية ضبط معينة من خلال مجلس الشيوخ للحفاظ على مصالح الأقليات غيرالسياسية
(دينية، طائفية، عرقية، عشائرية، إلخ).
هناك
الكثير من التفاصيل المتعلّقة بهذا القضية، لكن لامجال للدخول فيها الآن، المهم
هنا أن نكسر تابو الكلام في قضية المحاصصة، لأن رفضنا الدخول في هذه الحيثيات
سيطيل أمد الصراع.
العلمانيون
والمحاصصة
طرح
المحاصصة حتى اللحظة لم يتناول إلا موضوع الأقليات المتعارف عليها في المفهوم
العام، لكن، هناك فرقة أخرى في سوريا، لاندري في الواقع إن كانت أقلية أو أكثرية،
لم يتم التعامل بشكل واضح مع حقوقها الأساسية بعد، وهي فرقة مهدّدة وجودياً أيضاً
من خلال عملية التغيير القائمة، أي الثورة وتوابعها، مع أنها مشاركة وبقوة في
العملية، سواء من خلال دعم والمشاركة في الثورة، أو من خلال تأييد النظام، أو من
خلال الحياد. الكلام هنا عن علمانيي الطائفة السنية.
على
الرغم من التناقض المفترض في مصطلح علماني سني (أو علماني مسيحي أو علوي)، لكن
الواقع (في سوريا، ولبنان والعراق، وغيرها من دول المنطقة) ينبؤنا بأن هذا الكائن
الغريب موجود، وهو مهدّد بالفعل خاصة في جو تعاظم الوجود الإسلامي والجهادي على
الساحة.
وربما
كان الحل هنا هو أن يطرح العلمانيون أنفسهم كطائفة مستقلة يكون لها حصتها
الخاصة من المقاعد في مجلس الشيوخ، وهذا يعني اعتماد خانة جديدة في سجلات (قيد
النفوس) للعلمانيين، علاوة على اعتماد قوانين خاصة مدنية فيما يتعلّق بالأحوال
الشخصية يجري تطبقها في حالة العلمانيين فقط، وآلية قانونية التي يمكن من خلالها
أن يسجّل المرء نفسه على أنه علماني.
عماد
هذه الطائفة الجديدة سيكون من العرب السنة في الأغلب، إذ من المرجح أن يستمر
علمانيي الطوائف والقوميات الأخرى في التعريف على أنفسهم في العملية السياسية من
منطلق طائفي وقومي رغبة في الحفاظ على وجودهم التاريخي وعدم تذويب هويتهم.
وقد
يستدعي الأمر القيام بإحصاء خاص للتأكد من نسبة العلمانيين الراغبين في الانتماء
إلى هذه الطائفة الجديدة.
وسيفتح
اعتراف من هذا النوع الباب أمام العلمانيين لإقامة مدارسهم العلمانية، ونواديهم
الاجتماعية الخاصة، مما سيخفّف من مخاوفهم إزاء النفوذ المتعاظم للحركات
الإسلامية. هذا الأمر لايلغي ضرورة التوصّل إلى اتفاق واضح المعالم وتفصيلي فيما
يتعلّق بالحريات الشخصية بين الفئات المختلفة، لكنه يمكن أن يعتمد لمرحلة
انتقالية لحين يتم الاتفاق على الأساسيات في هذا الصدد، وهي عملية مرشّحة
للاستمرار لسنن عدة.
كل
هذه المقترحات ستلقى بلا أدنى شك معارضة شديدة في أوساطنا السياسية، لكن الأهم من
الاعتراض هو تقديم بدائل واضحة للتعامل مع القضايا المذكورة، وعدم الاستمرار في
تسويف النقاش في هذه التفاصيل بحجة أن هذا ليس هو الوقت المناسب للنقاش، أو أن
الخارج ليس هو المكان المناسب للنقاش. فأولاً، التوصّل إلى رؤى واتفاقيات واضحة في
هذا الصدد قد يسرّع عملية حسم الصراع لصالح قوى التغيير، وثانياً، كل النقاشات ستجري
في العلن ويمكن للداخل المشاركة بها بأكثر من وسيلة: من خلال مواقع التواصل على
الإنترنيت، ومن خلال إرسال ممثلين إلى الخارج، وهذا مايحدث باستمرار، وثالثاً،
الاتفاقيات النهائية ستعرض على الناس من خلال استفتاء عام، فلن يتمكّن أحد من
مصادرة القرار الشعبي.
ثم،
علينا أن لا ننسى السياق الداخلي والدولي الذي نتعامل معه هنا: أن وجود طروحات من
هذا النوع على طاولة المباحثات قد تسرّع من عملية التجميع السياسية وتقصّر من أمد
الصراع، خاصة في المرحلة التالية لسقوط الأسد أو رحيله من دمشق، والتي ستجلب معها
تحديات كثيرة وقد لا تمهّد بالضرورة إلى نهاية الصراع خاصة في غياب رؤى سياسية
مرنة وبراغماتية.
الثروات
الطبيعية
أحد
القضايا التي قد ينبغي التعامل معها أيضاً فيما يتعلّق بالمحاصصة، هي المحاصصة
المتعلّقة بميزانية الدولة: فمسألة إعادة الإعمار تتطلّب تكريس ميزانية أكبر
للمناطق المتضرّرة بغض النظر عن الكثافة السكانية. مسألة الإهمال والتهميش الذي
تعرّضت له مناطق بعينها خلال حكم البعث قد تقتضي ذلك أيضاً.
لكن
القضية الأهم هي قضية الثروات الطبيعية المركّزة في مناطق أكثر من أخرى. إذ قد
يقتضي الأمر هنا ولمرحلة معينة استثمار القسم الأكبر من ميزانية الدولة في مناطق
غير دمشق وحلب، مثل الجزيرة وحوران. لكن، وبناءاً على ما سبق من تاريخ طويل في
الإهمال والتهميش لهذه المناطق بالذات، قد يتطلّب الأمر الاتفاق على ضمانات
دستورية وقانونية واضحة، بمعنى أن يتضمن الدستور الجديد مادة أو مواد تكفل استثمار
نسبة معينة (تمثل الحد الأدنى) من الثروات الطبيعية في المناطق التي يتم استخراجها
منها. أما كيفية توزيع ما تبقى على بقية المناطق فهذه قضايا يتم الجوار حولها في
البرلمان المنتخب.
المحاصصة
واللامركزية
الطرح
اللامركزي هو أيضاً جزء من عملية المحاصصة، وبالذات المحاصصة المناطقية. لأن
اللامركزية تفسح المجال أمام مشاركة أوسع من قبل سكان المناطق المختلفة في صنع
القرارات المصيرية وذات الأثر المباشر على حياتهم. ولعل الطريقة الأنجع لضمان
مشاركة محلية أوسع في صنع القرارات الوطنية في سوريا المستقبل يكمن في الاتفاق على
تقسيمات إدارية جديدة تكون فيه المكونات المناطقية المشاركة في الانتخابات
البرلمانية أصغر حجماً من المحافظات القائمة حالياً. إذ قد يفسح الاتفاق على تقسيم
إداري جديد لسوريا تمثيلاّ أفضل لمكوناتها المختلفة للمشاركة في صنع
القرارات الوطنية. من ناحية أخرى فإن اعتماد نظام انتخابي فيما يتعلّق باختيار
حكام هذه المناطق عوضاً عن نظام التعيين القائم حالياً سيكون له أثره الإيجابي
أيضاً من حيث مساهمته في فرز قيادات محلية أكثر تفهّماً للاحتياجات المحلية وقدرة
على التعامل معها.
إن
مفاهيم مثل الحكم الذاتي والفيدرالية هي مصطلحات توصيفية لأنماط معينة من
اللامركزية، غالباً ما يتم طرحها في سوريا من قبل الأحزاب الكوردية في حين تلقى
رفضاً واضحاً من قبل الأحزاب القومية العربية والإسلامية. وفي الواقع ،غالباً ما
تتعامل الأحزاب العقائدية المنبثقة عن الأغلبية العددية مع الطرح اللامركزي من منطلق
التشكيك والرفض، لأنها ترى في هذا الطرح إضعافاً وانتهاكاً لسلطتها بل لرؤيتها
العقائدية الخاصة. فالأحزاب العقائدية (بصرف النظر عما إذا كانت هذه الأحزاب
حالياً في السلطة أم ما تزال منخرطة في صفوف المعارضة) تريد للدولة أن تتمحور حول
عقيدتها، لذلك هي ترى في أي طرح يضعف دور الدولة المركزي في صنع القرارات لصالح
الأطراف إضعافاً من دورها القيادي (الحقيقي أو المنشود) وبالتالي من عقيدتها
الحزبية الخاصة. ولأن معظم أحزاب المعارضة التقليدية في سوريا قومية أو إشتراكية
أو إسلامية، أي عقائدية الطابع، فمن الطبيعي أن القبول بالطرح اللامركزي يبقى حتى
اللحظة في إطار العموميات مع رفض أية محاولة للخوض في التفاصيل من خلال مناقشة
الطرح الفيدرالي أو موضوع الحكم الذاتي، لأن هذا الطرح يخرجنا من إطار العموميات
والغموض إلى إطار الاتفاقيات المحددة التي ستشمل تنازلات معينة حقيقية على أرض
الواقع. لكن أحزابنا تعوّدت على وضع العربة قبل الحصان: وهي تحلم بممارسة السلطة
أولاً قبل السياسة، وهنا لبّ المشكلة.