‏إظهار الرسائل ذات التسميات نظام الأسد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نظام الأسد. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 29 أبريل 2016

لم ولن يتساووا


تعدّد القتلة في سوريا لكن لم ولن يتساووا. لماذا؟ لنفس السبب الذي يجعل القانون والمجتمع يفرقان بين من قتل عمداً فرداً، أو حتى مجموعة من الأفراد في ذات العملية، والقاتل المتسلسل الذي يتبنى طقوساً ومنهجية معينة في القتل، ويستمر فيه حتى يموت أو يقبض عليه، أو يتوقف من تلقاء نفسه لتغير ما في مزاجيته المريضة الخاصة. والدافع وراء هذا التمييز هو إدانة العقلية المريضة المسؤولة عن تصرفات القاتل المتسلسل، وإدانة منهجية القتل ذاته: أي تحويله إلى صناعة "طبيعية،" أو نشاط مثل أي نشاط آخر يقوم به الفرد للمتعة أو التنفيث أو التهجد.

لقد أصبح القتل عند نظام الأسد وحلفائه صناعة، ووحدها داعش تتبنى منهجية مماثلة، وإن على نطاق أضيق بكثير لضيق إمكانياتها بالمقارنة مع الإمكانيات المتاحة للنظام وحلفائه.

لا يستوي الارتجال والمنهاج. وكل ما أرجوه اليوم أن لا تحاول بقية أطراف الصراع في سوريا أن تمنهج عملها في هذ الصدد أيضاً، فهناك فرق ما بين تنظيم العمل العسكري، الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط له أيضاً، ومنهجة القتل، التي تتطلب تغييب إنسانية الطرف الآخر، وبالتالي إنسانية الطرف القاتل أيضاً. فالمنهجة إذن تعني أن المرض قد تفشى، وإن الجميع قد خسر، خسروا إنسانيتهم أولاً ثم الحرب، بسبب خياراتهم ذاتها.

ولا ننسى أن مصطلح الإنسانية المستخدم هنا يدل على تطلع داخلي عميق وقديم نحو الأفضل، نحو أن نصبح نحن كبشر: أفضل، أن نكون بطبيعتنا التي سميناها باسمنا: أفضل. إن خسارتنا لهذا التطلع هي خسارتنا لمعركة الوجود ذاته، لأنه سيصبح بعدها بلا معنى، في حين تتجلى الميزة الأساسية للوعي الإنساني في البحث المستمر عن المعنى.



الأحد، 17 أبريل 2016

قصة اغتيال معلن


في مثل هذا الوقت تقريباً من العام الماضي، طرحت رؤية لحل سياسي في سوريا تشمل تأسيس حكومة انتقالية، وعرض رسالة على الأسد مفادها الاستقالة من منصبه مقابل البقاء في سوريا، وتحديداً في المناطق المؤيدة، مع تحييد دور دمشق كونها العاصمة التي ينبغي أن تسمح بتمثيل كل الأطراف فيها. لم أتطرق لموضوع العدالة الانتقالية بشكل مباشر راغباً في أن تقوم الأطراف الدولية باستخدامها كورقة للضغط على الأسد لإقناعه بالقبول بالطرح. كان يمكن لهذا الطرح أن ينفع على الرغم من التدخل الروسي، لكن تعنت الأسد يجعل هذا الطرح مستحيلاً اليوم، بل يبدو من الواضح أن الاغتيال، وعلى أيد صديقة، بات هو الحل الوحيد لمعضلة الأسد.

أنا لا أدعو إلى هذا بالطبع، بل إني أفضل خيار المحكمة الدولية، لأنها تشكل رسالة أقوى إلى المستبدين الآخرين في هذا العالم أن العدالة قادمة لا محالة، لكن الدول الصديقة للأسد هي التي تجد حرجاً في الاحتكام إلى القانون الدولية، وهي التي ستضطر، مقابل الحفاظ على مكاسبها في سوريا، إلى التضحية بالأسد. لأن تعنت الأسد يحرجها بأكثر مما يحرج الأطراف الأخرى، خاصة الولايات المتحدة. إذ ما لم تتمكن من وضع حد لصلفه، بعد كل ما قدمته له من دعم، لا بد وأن تتأثر مصداقيتها عند الأطراف الأخرى، الأمر الذي سيكون له انعكاساته السلبية على ما يجري من حوارات حول حزمة هامة من القضايا العالقة.


الأحد، 3 أبريل 2016

سوريا والحوار المغيَّب حول تفاعلات الهوية والطائفية، والأقليات والأكثرية


أثبت تاريخنا المعاصر أنه لا يمكن للأقليات الدينية أو الطائفية أن تكون حامل العَلمانية في مجتمعاتنا إن إردنا لهذه المجتمعات أن تكون ديموقراطية أيضاً. كما لا يمكن للأكثرية الدينية أو الطائفية في مجتمعاتنا أن تكون ديموقراطية حقاً ما لم تكن عَلمانية أيضاً، لكن، لا يمكن لهذه الأكثرية أن تتبنى العَلمانية ما بقيت الأخيرة تستخدم كمبرر فكري وسياسي لاستبداد الأقليات، وما بقي مفهوم العلمانية بحد ذاته مشوهاً في أذهان الأقليات والأكثريات على حد سواء.

فالنزعات الأصولية المتشددة عند الأقليات في مجتمعاتنا لا تقل في الواقع تشدداً عما نراه عند الأكثريات، وإن اختلفت المظاهر، وأحياناً المسوغات. ففيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية مثلاً، لا يقل رفض الأقليات الدينية لها عنفاً عنه عند الأكثرية المعنية. علاوة على ذلك، تقوم بعض الأقليات باستخدام اختلاف عاداتها وتقاليدها وأعرافها، و/أو مظلوميتها التاريخية الخاصة، كمبرر لازدراء الأكثرية وحقوقها وللتشكيك المستمر بنواياها مستغلين وجود شرائح متشددة في صفوفها، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى نشأة هذه الشرائح، وعن رفض الأكثرية المعنية لها كونها تشكل تهديداً لهذه الأكثرية أيضاً.

ويهيمن عند هذه الشرائح المتشددة في صفوف الأكثرية مفهوم للعلمانية يجعلها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية لهذه الأكثرية، خاصة في تلك الحالات التي تصر فيها النخب الثقافية عند هذه الشرائح على فكرة حصر "الحاكمية" بشرع الله، مما يقتضي أن تقوم الدولة على أساس الدين. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطائفة السنية، فالشيعة أيضاً يعانون منها تحت مسمى ولاية الفقيه، ومسميات أخرى.

لكن، إلى أي حد تمثل هذه الشرائح الأصولية المتشددة الطائفة التي تنتمي إليها، وما هو مدى نفوذها وتأثيرها؟

بصرف النظر عن طبيعة الإجابات التي يمكن أن تنشأ عن التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة، تكمن المشكلة الحقيقية في وجود إجابات مسبقة عليها عند الجماعات الطائفية المختلفة، إجابات لها مصداقية ووقع في نفوس المعنيين بها أكبر من أية معايير موضوعية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد.

ففي سوريا مثلاً، ترى أن وجود هذه الشرائح الأصولية عند أهل السنة يشكل سبباً كافياً عند الأقليات الدينية والطائفية  السورية لعدم الثقة بهم نهائياً فيما يتعلق بإدارة الدولة وأجهزتها الحساسة، خاصة القطاعات العسكرية والأمنية، بصرف النظر عن الحجم الديموغرافي الحقيقي لهذه الشرائح، وحقيقة كونها تشكل أقلية ضمن الأكثرية، وبصرف النظر عن وجود شرائح سنية واسعة حافظت على ولائها للأسد أبان الثورة، وأخرى صامتة. من هذا المنطلق جاء شعار "الأسد أو نحرق البلد،" والشعار الأفصح منه "كس أخت الحرية،" علاوة على هالة القداسة التي أسبغت على البسطار العسكري، لتشكل أصدق وأجلى تعبير عن المخاوف التي تجول في نفوس الأقليات في هذه المرحلة، بحيث يصبح اختيار العيش في ظل الفساد والقمع الممنهجين لنظام الأسد، أو حتى اختيار الفوضى والتفتيت، خير من حكم أهل السنة. وتأتي جهود النخب الأقلوية المثقفة لتقديم الكثير من التحاليل "العقلانية" لتبرير هذا الموقف الشعبي لطوائفهم كمؤشر على الكيفية التي يتم من خلالها تجنيد العقل لخدمة الخوف والعصبوية أولاً وأخيراً. ففي الواقع، هناك تغييب في هذه التحليلات، متعمد عند البعض، لكنه غير واعٍ عند السواد العام، بصرف النظر عن مكانتهم الفكرية، لكل المعطيات التي تناقض افتراضهم الأساسي حول طبيعة الثقافة السنية التي تبقى، من وجهة نظرهم، متعجرفة، وعنصرية، واستبدادية الطابع، وغير قابلة للتحديث، وذلك بخلاف الاعتقادات السائدة لدى معظمهم حيال عقائدهم الخاصة، والتي يخالها الكثير منهم أقرب إلى الحداثة أو  الإصلاح من عقائد أهل السنة. فقبول الشيعة الجعفريين بتساوي حصة المرأة والرجل في الإرث يجعل معتقداتهم أقرب إلى الحداثة، وكون العلويين أقل تعلقاً بمعتقداتهم الدينية يحعلهم أقرب إلى الحداثية، وكون المسيحيين مسيحيين يجعلهم أقرب إلى الحداثة لأنها الغربية المنشأ، والغرب "مسيحي." إن هذه الطروح على سذاجتها الصارخة تعتبر من المسلمات.  


لا يترك هذا الأمر  مجالاً كبيراً أمام أهل السنة للدفاع عن أنفسهم أو تبريرها. والواقع أنهم ليسوا أبرياء تماماً، فالسلطة مورست باسمهم في البلاد، أي سوريا الطبيعية، حتى ما قبل تأسيسها في العصر الحديث، على مر قرون من الزمن، ولا شك في أن لهذا الواقع  أثره الكبير على أنماطهم السلوكية والفكرية العامة، أنماط قد تغيب عن انتباههم، لكنها لا تخفى على الأقليات. فـ "نون" الجماعة التي غالباً ما تستخدم في الخطاب السوري الرسمي الموجه للعموم، وفي معرض الكلام العام عن "ثقافتنا" و "قيمنا" و "مبادئنا و "همومنا"... تشير في الواقع إلى الثقافة والقيم والمبادئ والهموم كما يفهمها أهل السنة بالدرجة الأولى، بل المحافظون والمتدينون والمدينييون منهم على وجه الخصوص. ولقد سعى نظام الأسد عن قصد وإدراك وبشكل منهجي إلى تكريس هذا الواقع لما فيه من تهميش لثقافات وقيم وتطلعات الأقليات بالذات، مما لا يترك أمامها إلا خيار الاصطفاف وراءه.

وإن كانت الخيارات الإيديولوجية السياسية للأقليات تعكس إلى درجة ما مخاوفها حيال الأكثرية، أهل السنة في الحالة السورية، فقلما عكست الخيارات السنية، حتى الآونة الأخيرة على الأقل، تفهماً حقيقياً وعميقاً لهموم ومخاوف وتطلعات الأقليات الدينية والطائفية في البلاد، ناهيك عن الأقليات القومية، ولكونها تختلف في جوهرها وفي الكثير من تفاصيلها عن نظائرها عند أهل السنة. وفي هذا الأمر بحد ذاته دلالاته الخاصة التي تسبغ بعض الشرعية على مخاوف وشكوك الأقليات حيال أهل السنة.

لكن المشكلة الأكبر تكمن في رفض الأقليات الدينية والطائفية التعامل الصريح مع هذه القضية حتى اليوم، أي في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من أهل السنة يشعرون بأهمية وحقيقة وخطورة هذه القضية، قضية حقوق الأقليات والترتيبات المتعلقة بحمايتها، وأصبحوا يبدون استعدادهم للتعامل بانفتاح أكبر معها، وإن اختلفت طروحاتهم في هذا الصدد. وربما يكمن السر وراء هذا الرفض الأقلوي لطرح حقوقهم على مائدة البحث بشكل صريح ومن خلال مناقشة ترتيبات بعينها يمكن لها أن تضمن حقوقهم في المستقبل في أن هذا الأمر يشير بوضوح إلى وجود عامل أصولي و "رجعي" في فكر وسلوكيات الأقليات أيضاً، وهو الأمر غير المقبول من قبل النخب المثقفة والسياسية عند الأقليات التي تصر على إلصاق تهمة الأصولية والرجعية بالأكثرية السنية حصراً، في الوقت الذي تطرح فيه هذه الأقليات نفسها، عن طريق نخبها الفكرية والسياسية، كرائدة التطور والتقدم والتحديث في سوريا، بل والمنطقة. لذا، ترفض هذه النخب، في خطابها على الأقل، وبصرف النظر عن طبيعة الممارسات السياسية للنظام الذي حكم سوريا بإسمها وبذريعة ضمان أمنها عبر العقود الماضية، التعامل مع قضية "حقوق الأقليات،" وتصر على اكتفائها بمفاهيم المواطنة والمساواة. ويشكل هذا الإصرار، من الناحية العملية، رفضاً لأي بديل لما هو قائم: نظام استبدادي يحكم باسم الأقليات، ويقمعها أيضاً ليكرس قبضته عليها ويمنعها من إفراز أية بدائل داخلية له، لكنه يختص بالذات ويتفنن في قمع الأكثرية.

لقد ساهم الإحساس بالمظلومية التاريخية حيال أهل السنة في صنع هوية أقلوية معاصرة ترضى لنفسها العيش تحت نير الاستبداد، طالما بقي أهل السنة بعيداً عن سدة الحكم، بصرف النظر عن الاعتبارات الديموغرافية والحقوقية والإنسانية، أو عن بوجود عوامل مشتركة في الهويات الجمعية لدى الجميع.

لقد أصبح شعور الأقليات الدينية والطائفية في سوريا بالأمان مرتبطاً ببقاء أهل السنة في القفص وتحت حكم البسطار العسكري. أضف إلى ذلك، ونظراً للكيفية التي استخدمت بها القوى الخارجية في السابق، واليوم، قضية حقوق الأقليات وحمايتها كمبرر لحملاتها الاستعمارية والاستيطانية في البلد والمنطقة، يبدو من الطبيعي أن تتجنب النخب الممثلة للأقليات أي طرح صريح يمكن أن تشتم منه رائحة التقسيم والسياسيات التفضيلية، إذ لا تريد  هذه النخب أن تتهم بأنها طابور خامس يسعى لخدمة مخططات خارجية. وإن كانت الوقائع منذ بداية الثورة تشير إلى أن من يحكمون سوريا باسم الأقليات كانوا هم السباقين إلى الاستعانة بقوى الخارجية لحمايتهم، وأنهم هم من يخلق وعن قصد واقع التقسيم على الأرض، وهم من قام بحملات تطهير عرقي قبل غيرهم، وعلى نطاق أوسع، وأحرقوا خاصة تلك المناطق من البلاد التي يسكنها أهل السنة، وأنهم هم من سعى ومن اللحظة الأولى لنهجهم القمعي حيال الثورة إلى تأمين تلك المناطق التي تسكنها أقلية بعينها، وتعتبرها موطنها الأصلي. 

هكذا، وبسبب وجود موقف عدائي مسبق من الأغلبية السنية، وبسبب جهل النخب الفكرية والسياسية السنية لهذا الواقع بمضامينه المختلفة، أو تجاهله، وبسبب التبني المسبق من قبل الجميع لنظريات المؤامرة التي، وإن كان لها مبررات تاريخية، ساهمت رؤانا المؤدلجة في تضخيمها إلى درجة لم نعد نعي فيها مقدار مساهمتنا في بناء واقعنا المعيشي والسياسي، وأنا نتحمل القسط الأكبر عما يجري في حياتنا وما يقع علينا من ظلم، كان من السهل على البعض منا تصديق أكاذيب الأسد حول "المندسين" و "المؤمرات الكونية،" ومن السهل على البعض الآخر الإنجرار وراء الأحلام الغيبية والرؤى المتشددة. لقد ساهم انغلاق الأقليات على نفسها لقرون سابقة، نتيجة للنظام المللي العثماني الذي حماها وعزلها في آن، على الأقل في أواخر عقوده، وعلى الرغم من انفتاحها على المستعمر الفرنسي خلال وجوده في البلاد، والذي ترك رحيله عندها إحساساً بالخذلان طالما تجاهلته أدبياتنا، بل على العكس، ظهر تيار فكري وأدبي ركز على تواطئ بعض التجار السنة مع المستعمرين الفرنسيين، فيما تم تجاهل التواطئ الأقلوي الأعمق والأكثر شعبية، ساهم هذا الانغلاق  في تكوين مظلومية حادة عند الإقليات الدينية والطائفية في سوريا مبنية على أساس تراكمي تحكمه المزاجيات والذاكرة الجمعية النفعية والمكرسة للعصوبية الخاصة بكل فريق، أكثر من الحقائق التاريخية والتمحيص والتحليل الموضوعي لها. بمعنى آخر، هناك الكثير من الأوهام إلى جانب الحقائق في إحساس الإقليات بالمظلومية، والكثير من التحامل على فئة مسحوقة مثلهم، حتى وإن كانت تشكل الأكثرية.

ولهذا، لن يقدم ممثلو الأقليات المقبولين شعبياً (إذ لا تهم في إطار هذا التحليل هنا المواقف الفردية لبعض الشخصيات طالما بقي نفوذهم ومصداقيتهم على المستوى الشعبي محدوداً للغاية) أي حل منطقي للأزمة، وسيدأبوا على رفض المقترحات والرؤى الموضوعة من قبل التحالفات التي تشرف عليها الأكثرية، لأنها ستبقى دائماً مقصرة، خاصة وأن الحل المثالي الذي ترتاح إليه الأقليات يبقى مرتهناً، كما نوهنا آنفاً، إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، مهما كانت سيئة. فمن الأسهل على الأقليات من الناحية النفسية أن تتمسك بإيمانها بأنها الضحية الأساسية لأهل السنة ولطموحات الأسد ومن حوله وفسادهم، ولثلة من المؤامرات الخارجية من الدول ذات الأغلبية السنية، مثل تركيا والسعودية وقطر، علاوة على أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من أن تواجه حقيقة مساهمتها الملوسة في صنع هذا الواقع.  باختصار، سيبقى ممثلو الأقليات في خطابهم العام يتمسكون بالوحدة والسيادة الوطنية، لكن ستبقى أفعالهم وخطابهم الداخلي الخاص يمهد للتقسيم والتفتيت والفوضى والإرهاب، حتى ذلك الممارس باسم أهل السنة ونصرتهم، وذلك  من خلال تورط النظام في إنشاء وتشجيع الجماعات الإرهابية. فالخوف هو الحاكم هنا: الخوف من أهل السنة، المضطهِد والظالم والمذنب الأول بحق كل الأقليات، كما يرى السواد الأعظم فيها.


ولقد ساهمت كل هذه الاعتبارات من ناحية، والنزعة أو العقلية "المركزية" عند أهل السنة من ناحية أخرى، والتي تضعهم دائماً، كما هي الحال مع سائر الأكثريات التقليدية، في مركز الصيرورات وعلى قمة الهرم، وهي الحقيقة التي تتجلي دائماً في تصرفاتهم وسلوكياتهم وكيفية اتخاذهم للقرارات التي تنم كلها عن فوقية وعنجهية يشعر بها الجميع ما خلا أصحابها... كل هذه الأمور والاعتبارات ساهمت في تشكيل ذلك الاتفاق الضمني الذي يبدو أن النخب الفكرية السياسية والاجتماعية والدينية التي شاركت في عهد التأسيس لسوريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قد توصلت إليه بطريقة أو أخرى.

ويتجلى هذا الاتفاق في التناسي المنهجـي لطبيعة التحولات السياسية المختلفة التي ساهمت في تشكيل الدولة السورية الحديثة، بما فيها الخلافات والحوارات التي دارت بين النخب السياسية والاجتماعية المختلفة حول طبيعة الدولة، والكيفية التي تم من خلالها الاتفاق على تأسيس دولة واحدة وليس دولتان، أو ثلاث، أو أربع، وتغييب الكثير من الأحداث التي ساهمت في تشكيل الوعي آنذاك، مثل أسباب محاكمة وشنق عضو البرلمان سلمان المرشد، العلوي الأصل والمنشأ، بعد مرور أقل من ثلاث أشهر على إعلان استقلال دولة سوريا بتهمتي الخيانة والردة، ومثل التفاصيل المتعلقة بالإنقلابات العسكرية المختلفة وأسبابها الحقيقة، إلخ. فالكتب المدرسية والجامعية، سواء تلك التي أنتجت في المرحلة البعثية أو التي جاءت قبلها، لم تتعامل أبداً بشكل موضوعي مع المرحلة التأسيسية، هذا علاوة على تغييب أو منع الكتب والمذكرات التي كتبتها الشخصيات السياسية والفكرية التي عاصرت هذه المرحلة الهامة وساهمت في تشكيلها. ومما لا شك فيه أيضاً وقوع الكثير من التزوير والتشويه في بعض هذه الكتابات خاصة تلك التي ما تزال متداولة بشكل مفتوح.

خلاصة الكلام: إن مسألة التنوع الطائفي وحقوق الأقليات، بل حقوق جميع المكونات، الآن وقد أصبح لأهل السنة في سوريا مظلوميتهم الخاصة حيال باقي المكونات، أهم من يتم التعامل معها عن طريق تفادي الغوص في التفاصيل، وتجاهل المظلوميات المتراكمة والانطباعات النمطية الخاطئة، والاصرار على التمظهر بالتمدن من خلال تبني شكلياته وتجاهل فحواه. لن تفيدنا في الفترة القادمة الدساتير والاتفاقيات والوثائق التي تضعها النخب من خلال حوارات ونقاشات مغلقة، نحن بحاجة إلى عقد حوار مفتوح حول مجمل قضايانا، بالتركيز على قضية تنوعنا بالذات، قبل تبني أية وثيقة نهائية. إن أية محاولة لتناسي الإشكالات والعوامل التي ساعدت على اندلاع الحرب الأهلية في ربوعنا، وسمحت بالتدخل الخارجي فيها، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الماضي وبالتالي إلى التمهيد إلى صراع جديد في المستقبل.

وحتى ذلك الحين، علينا أن نحسن التعامل مع عهد الانتداب الجديد والمتنوع، المباشر منه وغير المباشر.

الأربعاء، 30 مارس 2016

"النصر" و "الهزيمة" في عالمنا المعاصر

لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): عائلة الإمبراطور الفارسي داريوس تركع أمام الإسكندر المقدوني بعد انتصاره. 

النصر بمعناه التقليدي المألوف لدينا من خلال الأساطير و "الحواديت" التاريخية المنتشرة في ثقافتنا يقتضي عادة هزيمة الطرف الآخر بشكل تام وماحق يشمل السيطرة على المناطق التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما بشكل تام، وربط مصيره بمزاجية قائد الجانب المنتصر وحساباته المرحلية الخاصة.

وفقاً لهذا التعريف، ولاستقرائي الخاص للواقع القائم اليوم، بوسعي أن أؤكد أن ما بوسع أي طرف من أطراف النزاع الحالي في سوريا، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين، أن يحقق هذا النصر مهما فعل.

فتحقيق نصر من هذا النوع، وهو الأمر الذي يشتهيه كل طرف محلي، لا يحقق بالضرورة مصالح حلفائه، الإقليميين والدوليين، ولا ينسجم مع متطلبات مصالحهم أو مع حساباتهم الخاصة بالتطورات والتوازنات القائمة في بلدان ومناطق أخرى. إن هذه الاعتبارات تحتم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع السوري القيام بـ "إدارة الصراع" لا محاولة حسمه لحساب أي طرف، لأن الهدف بالنسبة لهم لا يتجاوز إجراء تعديل، أو تعديلات، ما في التوازنات القائمة، لا السعي وراء انهيارها، لما في ذلك من انعكاسات سلبية محتملة على الجميع. علاوة على ذلك، هناك إدراك أعمق عند الكثير من هذه الأطراف، بالمقارنة مع اللاعبين المحليين على الأقل، لحجمهم الحقيقي من الإعراب، سياسياً واقتصادياً وبنيوياً، وبالتالي لأي مدى يمكن لهم المغامرة بالتدخل وقلب الموازين.

من ناحية أخرى، هناك عامل جدي آخر لابد من التنويه إليه هنا لتأثيره المباشر على معظم القرارات المتخذة فيما يتعلق بكيفية إدارة الصراع في سوريا، ألا وهو عامل الثقة، سواء بالنوايا أو بالقدرات. ففي حين يبدو أن بوسع الأطراف الإقليمية والدولية أن تثق ببعضها البعض إلى حد معقول، بسبب التاريخ الطويل لتفاعلاتها المشتركة،  الودية منها والعدوانية، وإدراك معظمها بشكل أو آخر لضرورة الحفاظ على بعض، إن لم نقل معظم، التوازنات القائمة بينها، وتجنب التسرع والتهور في المحاولات الجارية لتعديلها، لا يبدو أن لدى أي من هذه الأطراف ثقة كبيرة بالجهات المحلية التي يدعمها لا من حيث النوايا، ولا من حيث الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها في حال تحقق لها النصر الحاسم والنهائي، ولا من حيث القدرة على تحمل مسؤولية الحكم في المرحلة التالية.

فإن كان حلفاء الأسد يريدون له أن يبقى في هذه المرحلة، فهذا لا يعني أنهم يثقون به ويريدون له أن ينتصر. بل هم يفضلون له أن يبقى في حاجة مستمرة إليهم حتى يتعبوا هم منه، ويتمكنوا من إيجاد معادلات أخرى للسيطرة على المناطق التي يرغبون بها في البلد عن طريق شخصيات وتوازنات داخلية أخرى. أي أن الأسد بالنسبة لهم لا يزيد عن كونه ستار يمكن له أن يخفي وراءه أهدافهم الحقيقية ومساعيهم إلى تقسيم سوريا لمناطق نفوذ خاضعة لهم، بشكل أو آخر: المناطق الساحلية لروسيا، والمناطق الجنوبية والوسطى لإيران وميليشياتها الشيعية المتطرفة، بحيث تحظى أخيراً بممر  بري يصل طهران بالبقاع وبيروت، عن طريق بغداد وتدمر وحمص ودمشق، خاضع لسيطرة مباشرة من قبل ميليشياتها الطائفية.

ويمثل الأسد أيضاً ورقة ضغط يمكن استخدامها في العملية التفاوضية للتسويف وللتحصل على تنازلات من حلفاء الجهات المعارضة إلى أن يأتي الوقت المناسب لحرقها. وقد تكون اللحظة قد اقتربت، بالذات لأن الأسد يبدو غير قادر على إدراك ذلك، ومايزال يتكلم ويتصرف وكأنه سيد الموقف. 

أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة، بشكل أو آخر، فإن لم تكن الحقيقة واضحة فيما قبل، فلابد أنها قد أصبحت واضحة اليوم: إن دعم هذه الدول للمعارضة كان دئماً مشروطاً برؤيتها الخاصة للكيفية التي ينبغي من خلالها إدارة الحكم في سوريا في المرحلة التالية.

لوحة للرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (1798-1863): سقوط القسطنطينية على أيدي الصليبيين في 12 نيسان/أبريل، 1204.

إذ سعت كل من تركيا وقطر إلى تحقيق انتقال يضمن استمرار الدولة المركزية لكن تحت سيطرة إخوانية "مدنية"، بحيث لا يتحقق للإكراد ما يريدون، أي دولة لامركزية أو فيدرالية، ولا يتحقق للقوى العلمانية ما تريد: دولة علمانية ديموقراطية. من هذا المنطلق جاءت سياسة العزل التي مارسها الأتراك بحق الضباط المنشقين، العلويين منهم خاصة، بالتوا زي مع محاولاتهم المستمرة لاختيار مَنْ من الضباط السنة يمكن لهم دعمه، أو بالأحرى، مَنْ منهم يبدي انفتاحاً على موضوع التعامل مع الإخوان والقبول بسلطتهم السياسية. ولنا في ما حصل مع الضابط حسين هرموش، مؤسس حركة الضباط الأحرار، خير مثال على الكيفية التي قامت بها السلطات التركية بالتلاعب بالمنشقين وتحييد من لم يرق لها منهم. وإن لم يقدر لهذه المحاولات أن تنجح تماماً، فهي لم تخفق كلية أيضاً.

أما السعودية، فكانت معنية أكثر بدعم التيارات السلفية على حساب حركة الإخوان المسلمين، لا لأسباب دينية، لكن لأن الإخوان، كما أبدوا في مصر، كانوا دائماً على استعداد لإيجاد صيغة تعاونية ما مع إيران من منطلق السياسة الشرعية، أما التيارات السلفية الوهابية فيمكن للسعودية الاعتماد عليها أكثر في هذا الصدد بسبب عدائهم الأعمى للشيعة، مما يضمن قيام حكومة غير مهادنة لإيران بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وهو الهدف الأساسي للسعودية فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، في حين لا تمثل قضية الفدرلة عائقاً كبيراً بالنسبة لحكامها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد أبدت إدارة أوباما تخوفها من الملف السوري منذ اللحظة الأولى، بسبب اهتمامها الأكبر بالمفاوضات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي، ورؤيتها الإيديولوجية التي تصور لها إمكانية إعادة تأهيل إيران كلاعب إقليمي هام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لاعب يمكن التعويل عليه لتحقيق الاستقرار في المنطقة في المستقبل، لاعب لا يمكن لمشاغباته المتكررة أن تكون مصدراً كبيراً للإزعاج، خاصة بعض تجميد وتحجيم برنامجه النووي، لأن صبغته الديموغرافية والسياسية، أي كونه بلداً شيعياً محكوماً من قبل نخبة دينية، ستحد من قدرته على التأثير على الصيرورات المختلفة من حوله، وستمنعه من التحول إلى مصدر للقلق. وفي حال تمردت إيران وأصرت على لعب دور أكبر من حجمها، سيتم تذكيرها بمدى هشاشتها من خلال تقديم دعم حقيقي للمعارضات المختلفة فيها. فإن بدت إيران مستقرة اليوم فذلك بسبب وجود إرادة دولية، غربية بل أمريكية على وجه التحديد، تحبذ ذلك، وليس لأنها تملك مقومات الاستقرار بالضرورة. وهناك ما يكفي من الحصافة عند قادتها ليدركوا حقيقة الأمر. على الأقل، هذه هي رؤية الإدارة الإمريكية الحالية والواقعيين السياسيين للأمور.

من ناحية أخرى، ما كان بوسع الإدارة أن تترك الحكم في بلد محوري مثل سوريا يقع في أيدي معارضة متخبطة كالمعارضة السورية، معارضة لا تملك أية مقومات تؤهلها للتعامل مع الملفات المعقدة المتعلقة بشكل أو آخر بسوريا. لذا، نرى الإدارة مصرة على بقاء مؤسسات الدولة، الذي يستتبع بقاء الكثير من الشخصيات التابعة للنظام في مكانها.

جانب من لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): الإسكندر المقدوني يعاين حال غريمه حاكم مدينة بور أثناء معركة هيداسبيس. 

نظراً لكل هذا، لا شك هناك في لاجدوى الجدال الجاري بين فئات المعارضة حول موضوع طبيعة المرحلة الانتقالية والفدرلة، لأنا ما زلنا في الواقع نرزح تحت "انتداب لين" وغير معلن، بل لا يمكن له أن يعلن، من قبل قوى إقليمية ودولية مختلفة، تتطلب مصالحها ورؤاها الخاصة، المتعارضة في الكثير من الأحيان، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، إجراء بعض التعديلات فيما يتعلق بالحدود وآليات إدارة الدول للحكم، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة. وليس ما يجري من صراعات في سوريا والمنطقة إلا ضرباً من ضروب التفاوض بين هذه القوى.

ويبدو اليوم أن اعتماد النظام الفدرالي في سوريا مع رحيل اللأسد في المستقبل القريب، أو اغتياله، وهو الاحتمال الأكبر، بات يمثل حلاً مقبولاً لهذه القوى.

من أعطى هذه الدول الحق في التصرف هكذا؟ قوتها طبعاً، كما هي العادة. فهناك معادلات موضوعية تحكم تصرفات الدول مع بعضها، سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، علمانية أم دينية، ولا تغير الديموقراطية في هذه الأمر شيئاً إلا من خلال قدرتها على إسباغ نوع من المرونة والحصانة على تلك الدول التي تبنتها بحيث تصبح أكثر قدرة وفعالية في تعاملها مع المتغيرات الدولية، على المديين المتوسط والطويل على الأقل. 

ولن نستطيع كشعوب شرقأوسطية تغيير هذه المعادلات بقوة السلاح، لأن هذه القوى هي مصدر السلاح، ولن تقوم بتسليحنا لنهزم مخططاتها. فعلى الرغم من حالة التنافس القائمة بينها، هناك أيضاً تنسيق كبير لم يجر مثيله خلال الحرب الباردة، لذا لا توجد لدينا اليوم فرصة حقيقية للعب طرف ضد آخر كما فعلت أنظمتنا في السابق. إن هامش المناورة المتاح لدينا اليوم محدود للغاية، ويتطلب تحقيق أي تقدم حكمة ومهارة دبلوماسية وسياسية كبيرة لا يبدو أنها متوفرة اليوم. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهنا: ها نحن نمر بمرحلة حرجة أخرى من تاريخنا المعاصر ولا توجد لدينا، فيما يبدو، لا الشخصيات ولا الخبرات ولا الرؤى المناسبة لإدارتها بحيث نتحصل على بعض المكاسب، أو على الأقل نقلل حجم الخسائر.

ولمن يرى في تسليمنا بهذا الواقع هزيمة، أود تذكيرهم بأن في المقاومة العسكرية هزيمة أكبر، إذ حتى عندما تنجح هذه المقاومة في أيامنا هذه، كما حدث مع الشعوب الأفغانية في مواجهتهم مع الاتحاد السوفييتي، سيأتي هذا النجاح مصحوباً بدمار شامل للدولة والمجتمع، وبنزوح للعقول والمهارات عن البلد، مما يفسح المجال أمام بروز قوى ظلامية متناحرة كالقاعدة، والطالبان، وداعش، أو قوى الحشد الشعبي وغيرها من الميليشات الشيعية المنافحة عن الأسد والمصالح الإيرانية. ولا يمكن لهذه القوى أن تصنع حضارة أو تقود نهضة. ولا شك في أن السماح ببروزها وبتقويتها هو الهزيمة الحقيقية. ولأنها أصبحت هي المسيطر على الساحة اليوم، ينبغي علينا أن نقلل من حجم الخسائر ونسعى إلى اتفاق ينهي حالة النزيف والاستنزاف، ويسمح للقوى الانتدابية بتحويل عملياتها إلى ساحات أخرى للصراع. لقد دفعنا ما يكفي من أثمان باهظة في سوريا. لندع القوى إياها تخطط كما يحلو لها، ولنحاول التحصل على أفضل شروط ممكنة لنا.

لكن، وفي خاتم المطاف، علينا أن نتعامل مع هذه المرحلة مسلحين بإدراك أفضل لطبيعة المتغيرات من حولنا، وبإيمان بقدرتنا في التأثير على الصيرورات مع مرور الوقت من خلال العمل الدبلوماسي والنشاط الفكري والإنساني. هذه هي المقاومة التي نحن بحاجة إليها اليوم، وإن كان ثمة نصر في مستقبلنا فلن يتحقق لنا إلا من خلالها. ولابد أن يؤدي هذا النصر في مرحلة ما إلى تحييد دور شخصيات بعينها، ومحاسبة بعضها، لكنه لا يتطلب هزيمة الطرف الآخر، أو تهديد وجوده، أو وضعه تحت حكم البوط العسكري الطائفي، فالهدف هنا هو الاتفاق على آلية تحقق توازناً جديداً بين الجميع يحافظ على حقوقهم الأساسية، يأخذ بعين الاعتبار توازن القوى العام في الداخل والخارج، مما يسمح لنا بالتعامل على نحو أفضل مع ضغوط وتدخلات القوى الخارجية في المراحل القادمة.


الاثنين، 14 مارس 2016

مضامين القرار الروسي بخصوص الانسحاب من سوريا: قراءة مبدئية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو

القرار الروسي بالنسبة لي لم يكن متوقعاً على الإطلاق، لكنه أيضاً، ومن حيث محتواه، ليس مفاجئاً إلى هذا الحد، ولا يغير، في هذه المرحلة، الحقائق التي أصبحت قائمة على الأرض نتيجة التدخل. فهو، من ناحية، لا يشكل تراجعاً عن الهدف الأساسي الروسي من وراء التدخل، والذي جاء لتأمين القاعدة الروسية في المتوسط وتوسيعها، من خلال مساعدة نظام الأسد على تأمين المناطق الساحلية وبعض المناطق الوسطى، خاصة حمص، والجنوبية، خاصة دمشق، والشمالية، بما في ذلك حلب والرقة.

ولعل توقيت الانسحاب قبل تحقيق المراد في حلب والرقة يأتي كورقة ضغط على نظام الأسد في هذه المرحلة لكي يتفهم الأسد بالذات أن الروس لم يتدخلوا إكراماً له وأنه لا يمكن التعويل عليهم لإعادة بسط سيطرته على كل البلاد، وأن بوسع الأسد أن يستفيد من التدخل الروسي لإنقاذ رأسه ولكن ليس لإنقاذ منصبه، على الأقل، ليس على المدى الطويل.

ولقد سبق ونوهت إلى أن الروس ليسوا متمسكين بالأسد ذاته كقرار نهائي ولكن كورقة تفاوضية مرحلية، بعدها يفقد الأسد قيمته. وها قد وصلنا فيما يبدو إلى هذه المرحلة، ولابما بأسرع مما كنت أتوقع، وقد يعكس هذا الأمر تعنت الأسد وغبائه من جهة، وما يجري من تنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى.

وقد يكون بوسع الأسد التعويل على الدعم الإيراني من جديد في المرحلة التالية، ولكن ضمن حدود. ففي الواقع لم يبقى أمام الأسد من مخرج من أزمته إلا العملية التفاوضية، وذلك لإنقاذ رأسه، وربما تحصين نفسه وعائلته وبعض أزلامه من أية محاسبة مستقبلية. لكن، عليه أن يتصالح مع ضرورة تخليه بشكل أو آخر عن منصبه خلال الشهر الـ 18 القادمة، وإلا فأن رأسه وبعض رؤوس من حلو قد يكون هو الثمن.

ونعم، هناك بعد مادي للقرار الروسي. فروسيا قد خفضت ميزانيتها العسكرية هذا العام بأكثر من 5%، وذلك للمرة الأولى منذ تقلد بوتين سدة الحكم فيها.

لكن، علينا ألا ننسى في غضون هذه التحليلات المبدئية أن روسيا ستتابع عملياتها الجوية في الشمال على الأقل بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

وفي هذه الأثناء، لاشك أن هذا التطور يشكل مغنماً للمعارضة السورية التي أصبح بوسعها أن تفاوض بثقة أكبر في جنيف، ولكن بذكاء وحنكة وبإدراك للحدود المرسومة. نعم لقد أرسل الروس رسالة واضحة إلى الجميع وعلى رأسهم الأسد، حول عدم تمسكهم به لذاته، لكنهم يبقوا فيما يبدو متمسكين بالكيفية التي سيتم من خلالها إزالته، وهي: انتخبات يرشح فيها الأسد نفسه إلى جانب منافسيه. عوضاً عن الإصرار على رفض هذا الأمر بالتحديد، ربما كان على المعارضة أن تصر على ضرورة استقالة الأسد من منصبه قبل موعد انعقاد الانتخبات بعدة أشهر لكي لا يستغل منصبه في الدعاية لنفسه، وضرورة محافظة مؤسسات الدولة على حياديتها خلال الفترة الانتخابية، خاصة وسائل الإعلام الحكومية، وضمان ذلك من خلال إدراتها من قبل لجان انتقالية خاصة تجمع ما بين ممثلين للمولاة والمعارضة والكجتمع الدولي، وغيرها من الخطوات.  

باختصار، لقد باتت محادثات جنيف تشكل فرصة حقيقية اليوم للتوصل إلى حل لأزمتنا  السورية لا ينبغي إضاعتها.

من ناحة أخرى، فإن تجنب إدارة أوباما لتقديم إية وعود علنية فيما يتعلق برغبتها في إيجاد حل سياسي في سوريا قبل انتهاء فترة حمكها، لا يعني أنها غير جادة في مساعيها الدبلوماسية في هذا الصدد. إذ لم يعد يغفل على أحد أن المجتمع الدولي، والكثير من القوى السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، من اليمين واليسار، تنحي باللوم على أوباما شخصياً فيما يتعلق بالكارثة السورية. ومهما بلغ الصلف به، فلا شك أن أوباما يدرك ذلك جيداً، ومن هنا رغبته في التوصل إلى حل قبل رحيله.


عن المواطنة والهوية والعَـلمانية

سوريا - حماة، مطلع القرن العشرين: القنصل الروسي يتنزه على نهر العاصي. المسيحيون الأورثوكس في الإمبراطورية العثمانية كانوا تحت حماية الإمبراطور الروسي آنذاك.

يتعامل الكثيرون منا مع فكرة المواطنة على أنها تتعارض مع الانتماء الطائفي أو القومي أو المناطقي، بل يعتبر مثقفونا هذا التعارض من المسلمات والبديهيات التي لا يمكن بل لا يجوز الخوض فيها. لكن الواقع غير ذلك. فالمواطن كفرد له هوية تشكلها مجموعة من العوامل، منها بيئته المحلية التي يبدأ تأثيرها فيه منذ لحظة ولادته ويستمر إلى أن تتحول العلاقة مع الوقت فتصبح أكثر تفاعلية مع تقدم عمره وازدياد خبراته، وبحسب موقعه الاجتماعي وتحصيله العلمي، وكيفية تعامل المجتمع المحلي والدولة مع مسألة الحريات الفردية، إلى آخره من ظروف.

ولا يمكن للفرد أن يشعر بالأمان كمواطن ما لم تتيح له الدولة فرصة التعبير بحرية عن هويته بأبعادها وجزئياتها المختلفة، مثل القدرة على التكلم بلغته الأم وتعليمها لأطفاله، وممارسة الطقوس التي نشأ عليها أو أصبح يؤمن بها، وغيرها من أمور.

إن عادتنا التي نفخر بها في سوريا والمتمثلة في تجاهلنا الحديث علنياً عن جزئيات الهوية، أي من منا السني أو العلوي أو المسيحي أو الكوردي، ليست بالإيجابية التي نعتقد، بل كانت وما تزال تعبيراً عن المشكلة الأساسية التي هيئت الأرضية لظهور نظام الأسد ولما يحصل اليوم من تفتيت: خوفنا من بعضنا البعض وانعدام الثقة ما بيننا. لأن الواثق والآمن لا يخشى أن يعبر بحرية عن أمور تعد جزءاً لا يتجزأ من هوية المرء وانتمائه.

تحتوي المناهج التعليمية في سوريا على حصص خاصة للتربية الدينية، يتم فيها الفصل ما بين الطلاب المسلمين والمسيحيين فيتعلم كل دينه. لكن، الواقع أن منهج التربية الإسلامية يعكس وجهة النظر السنية التقليدية فحسب، فهو يغيب بالتالي كل من الشيعي الجعفري والعلوي والإسماعيلي والدرزي والصوفي وأي آراء وتفسيرات معاصرة وحداثية. ويدعي رجال النظام فيما يتعلق بهذه المسألة، باستخدام الوسائل غير الرسمية بالطبع وذلك لأن نقاش هذه المواضيع لا يتم في العلن، أن لا حيلة للنظام في مسعاه لحماية الأقليات من تقديم هذه التنازلات لأهل السنة الذين لا فرق بينهم عنده. لكن النظام في الواقع هو المستفيد الأكبر من هذه الحال، لأن هذا الواقع يساعده على بسط سيطرته على هؤلاء المغيبين وعلى التلاعب بمشاعرهم ومخاوفهم. ولقد ساهمت النخبة المثقفة لهذه الفئات ولأهل السنة في تكريس هذا الواقع من خلال تبنيها لمفهوم خاطئ للمواطنة، مفهوم يغيب جزئيات الهوية عند كل المكونات ما عدا العرب السنة، ما خلا بعض المظاهر المسيحية.  

كان بوسع نظام الأسد أن يغير هذه المناهج في أية مرحلة، لكنه اختار ألا يفعل، لأن هذا الواقع يخدم مخططه الهادف على اللعب على هاجس الخوف من البعبع السني عند المكونات الأخرى.


في الولايات المتحدة الأمريكية هناك ظاهرة اجتماعية تعرف باسم "امتيازات الرجل الأبيض" في إشارة إلى كيفية تعامل المؤسسات المختلفة في البلاد، العمومية منها والخاصة، مع موظفيها وزبنائها، إذ تتعامل هذه المؤسسات بشكل أفضل مع البيض منها مع السود والأقليات العرقية الأخرى. لكن، معظم البيض لا يدركون ذلك لأنهم ألفوا هذه الطريقة في التعامل، لكن بوسع السود والأقليات العرقية الأخرى، أن يروا هذا الاختلاف في التعامل  بذلك، فهو جزء أساسي من واقعهم اليومي، ومن الطبيعي أن يشعورا بالاضطهاد جراء ذلك. وتؤيد الإحصائيات والدرسات الإكاديمية المستقلة وجهة نظرهم.

في سوريا، نجح نظام الأسد في التأسيس لعلاقات بينية للمكونات المختلفة جعلت كلاً منها يشعر وكأنه العنصر الأقلوي المضطهد في المعادلة، وأنه يواجه تحالفاً بين المكونات الأخرى ضده.  فالعلوي مثلاً يشعر بأنه مضطهد جراء تغييب هويته الدينية، في حين يشعر السني بأنه هو المضطهد بسبب سياسات التوظيف التي تفضل العلويين والأقليات الأخرى على حساب السنة، بصرف النظر عن المؤهلات.

ويشكل تغييب الحوار الصريح حول هذه الأمور تكريساً لهذا الواقع لا حلاً له. وليس بالضرورة على الإطلاق أن يؤدي الحوار الجدي حول هذا الأمور إلى تبني نظام محاصصة طائفي أو إثني قد يخشى الكثيرون. وإذ أدى الحوار في سوريا في هذه المرحلة من الصراع إلى تبني محاصصة من هذا النوع، فيمكن التعلم من النموذج اللبناني كيف نتحاشى مساوئه، مع الاتفاق على طرق لتحديث نظام المحاصصة هذا وتعديله مع الوقت وصولاً إلى إلغائه. فالمواطنة عملية مستمرة الرغبة فيها هي نقطة الإنطلاق، وتحقيقها هو الغاية التي نسعى إليها.

ولا شك في أن العَلمانية هي مكون أساسي من مفهوم المواطنة. وكما هو الحال مع المواطنة، لا يتنافي مفهوم العَلمانية مع كون المرء منتمياً إلى طائفة معينة أو مؤمناً بدين معين.

وفي هذه المرحلة بالذات من تطورنا الاجتماعي، تبقى العَلمانية خياراً فكرياً عقلانياً عند معظم المؤمنين بها أكثر منها عنصراً مشكلاً للهوية، لأنها لم تتأصل في مجتمعاتنا بعد، ولاتشكل جزءاً أساسياً من البيئة المحيطة والموروث لتؤثر بشكل فعال في تشكيل هوية المرء وسلوكياته وعقليته ووجدانه منذ طفولته. وقد يجمعنا الفكر العَلماني على أسس معينة في هذه المرحلة، لكن سيبقى للمؤثرات البيئية التأثير الأكبر على سلوكياتنا وعقلياتنا لعقود قادمة. وتبدو هذه الحقيقة واضحة من خلال معاينة التناقض الظاهر في سلوكيات الكثير من شبابنا ومثقفينا وسياسيينا ممن يدعون "التحرر" والعَلمانية بل والليبرالية من الناحية الاجتماعية، الذين عندما يوضعون على المحك، خاصة فيما يتعلق بتصرفاتهم حيال المرأة، نجدهم وقد ارتكسوا إلى سلوكيات تقليدية نمطية تتناقض تماماً مع ما يدعون. 

على قوانينا الناظمة لحياتنا السياسية والاجتماعية ولمناهجنا التربوية أن تتمتع بالمرونة الكافية للتعامل مع هذا الواقع. ولاشك في أنه سيكون للاتفاق على رؤية واضحة لما نريد للأحوال أن تؤل إليه في المستقبل دور كبير في مساعدتنا في هذا المجال. وقد لا تكون الشروط متوفرة إطلاق عملية سياسية من هذا النوع الآن، لكن طالما وضعنا هذا الأمر نصب أعيينا وطالما سعينا لتمهيد الأرضية له، لابد وأن نتمكن من خلق الفرصة المناسبة.

ومن الإشكاليات التي تواجهنا في هذا الصدد أيضاً، وجود فئات في مجتمعاتنا، بل وفي معظم المجتمعات هذه الأيام، تشعر بأن الحداثة، بما جلبته من مفاهيم مثل المواطنة والعَلمانية والديموقراطية وحقوق الإنسان، تهدد قيمها وهويتها. إذ لا يكفي هذه الفئات الأصولية أن تحترم الدول حريتها في الاعتقاد والتعبير والتجمع، بل تريد أن تجد طريقة ما، بما في ذلك التلاعب بالعمليات السياسية والثورية، أو الاستيلاء على الحكم بالقوة، لتفرض قيمها الخاصة على المجتمع ككل باسم الأصالة والتراث والحق المقدس، وغيرها من المبررات. ولن يكون التعامل مع هذه الفئات سهلاً على الإطلاق. وفي سوريا بالتحديد، نجد أن معظم هذه الفئات تنحدر من خلفية سنية، وأنها، في هذه المرحلة من الصراع، ونتيجة لظهور مظلومية سنية مشروعة وقوية نظراً لما تعرض له أهل السنة، بصرف النظر عن مدى تعلقهم بالدين، وطبيعة هذا التعلق، من اضطهاد في السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت قادرة على التأثير على شرائح أكبر من السنة قد لا تتفق معها في الرؤية لكنها ترى فيها الحامي الأفضل لها في هذه المرحلة، وهذا بعينه ما يراه الكثير من الجماعات الأقلوية في نظام الأسد إلى هذه اللحظة.

وهنا علينا أن نتعامل مع هذا الإشكال الآخر،  المتمثل في شعور الكثير من أبناء الأقليات الذين قد لا تربطهم بالماضي عقلية أصولية دينية، لكن تربطهم ذاكرة جمعية مؤسسة على الخوف، خاصة من الأغلبية السنية، وهو خوف وجودي الطابع ومتجذر، خوف على الهوية وعلى الذات، لا علاقة له بالحقائق التاريخية أو الوقائع الحاضرة بالضرورة، لكنه أيضاً لم ينبع من فراغ، وهو خوف لم تتمكن النخب السنية من التعامل معه بشكل ناجع، لأنها لم تحس به في العمق. فالمجتمع السوري العاصر مايزال مصبوغاً بمعطيات الهوية السنية (والعربية) إلى درجة كبيرة، والنظام الأسدي، كما ذكرنا سابقاً، أراد أن يبقي هذا الطابع حاضراً ومرأياً بوضوح ليكرس قبضته السياسية والأمنية على الأقليات.   

من هذا المنطلق، لا يمكن أن تكون المواطنة والعَلمانية هما الحل لما نواجهه من إشكاليات سياسية واجتماعية اليوم، ما لم نتعامل معها كصيرورتين أو عمليتين جاريتين تتطلبان منا إدارة حذرة وعقلانية على مدى سنين وعقود من الزمن. إذ لا وجود لمنتج جاهز هو المواطنة والعَلمانية والديموقراطية.


الجمعة، 11 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (3): سوريا والمسألة الفدرالية

التقاسيم الإدارية للإمبراطورية العثمانية

المعارضة في سوريا، ومنذ ربيع دمشق وليس الربيع العربي فحسب، تبدي استعدادها لمناقشة كل القضايا المتعلقة بوطننا ومستقبله، بما في ذلك حقوق المكونات والمناطق، ومسألة الفدرالية، بل وكيفية سقوط نظام الأسد ذاته. لكنها تشترط لهذا الحوار أن لا يجري إلا بعد سقوط النظام. فتأمل يا رعاك الله! على لسان الراحل توفيق البجيرمي.

لكن، وبعيداً عن التهكم والسخرية، ماذا عن الواقع؟ واقع اليوم، والأمس؟

التقسيمات الإدارية للمناطق السورية في مطلع الحرب العالمية الأولى
الواقع أن الحكم المركزي حتى في أيام حافظ الأسد لم يكن مركزياً في كل شيء. فالأسد الأب وضع لكل محافظة معادلة خاصة بها لضمان السيطرة عليها على حدة، وأعطى، ضمن حدود معنية، صلاحيات واسعة للمحافظين الذين عينهم عليها، وللأجهزة الأمنية فيها، صلاحيات واسعة للتصرف ضمن الحدود المرسومة، فالأسد الأب لم يعد معنياً بالتفاصيل الصغيرة بعيد حركته التصحيحية، وكان يفضل أن يتعامل الآخرون من حوله معها. إن اضطرار السكان في المناطق والمدن السورية المختلفة الذهاب إلى العاصمة كلما احتاجوا إلى القيام بمعاملة ما، واضطرار الكثير من السوريين إلى النزوح إلى العاصمة والمدن الكبرى في سوريا لا يتنافيان مع رغبة النظام بل ونجاحه في تشجيع سكان كل محافظة ومنطقة على التقوقع والانغلاق. الحركة في الاتجاه المعاكس، أي من العاصمة والمدن الكبرى إلى الأرياف، ومن المناطق الغربية في سوريا إلى شرقها، كانت شبه معدومة لانعدام الحوافز وضعف التنمية، وبقيت السياحة الداخلية محدودة بأماكن وأنماط معينة، والتجارة الداخلية محصورة في أيد معينة.

المعنى: لم يعرف سكان المحافظات والمناطق المختلفة في سوريا الكثير عن بعضهم البعض، إلا من خلال المسلسلات والإشاعات. ولقد ساهمت المناهج التعليمية في عملية تجهيل هذه، خاصة فيما يتعلق بتعاملها مع تاريخ سوريا الحديث وجغرافيتها البشرية المعاصرة. ولقد كان للنخب الفكرية ايضاً دورها السلبي هنا من خلال طروحاتها الإيديولوجية المختلفة التي رفض معظمها التعامل مع سوريا كواقع قائم وشرعي وضروري بذاته. بالنسبة لهم كانت سوريا دائماً جزءاً من أحجية أكبر وأهم، في نظرهم، من سوريا، بصرفت النظر عن ادعائاتهم. الدليل في السلوكيات والأفعال.

حتى حركات النزوح الداخلي، الممنهج منها وغير الممنهج، لم تؤدي إلى زيادة الاختلاط بالشكل البناء الذي يمكن أن يسمح بنوع من الاندماج السلس الناتج عن التبني الطوعي لقيم حداثية ما. إذ سكن أغلب النازحين مناطق وأحياء معينة في المدن الكبرى، وساهموا في تأسيس العشوائيات. وسادت حالة واضحة من التوتر والتنافر ما بين المكونات المختلفة لتمسك كل منها بسلوكياتها وعقلياتها الأساسية.

إذاً سوريا كانت مفككة حتى في مرحلة ما قبل الثورة. بل، وفي الواقع لقد كانت مفككة حتى في مرحلة ما قبل الأسد، وما قبل الاستعمار الفرنسي. لأن سوريا كما نعرفها اليوم كانت لقرون طويلة عبارة عن مجموعة من المناطق المستقلة إدارياً والخاضعة لقرارات الباب العالي في أستانة. حتى المدن الكبيرة كانت في معظم الأحيان مقسمة إلى مجموعة من الأحياء المتجانسة دينياً وإثنياً تحكمها نخب خاصة من التجار والحرفيين ورجال الدين والقبضايات هم الذين يمثلون هذه الأحياء عند السلطان. إن هذه الحقائق تترك أثراً كبيراً على العقليات والسلوكيات، ولا ينبغي تجاهل ذلك.

إن تجربتنا مع الحكم المركزي في سوريا قصيرة من الناحية التاريخية، واقتصرت في المرحلة الأسدية على الجانب العسكري والأمني، وبعض المسائل الإدارية، الأمر الذي ناسب أولوياتهم  الخاصة ورغبتهم في تسهيل سيطرتهم على البلد.

هذا هو واقع الأمس من الناحية التاريخية.

مناطق السيطرة والنفوذ الفرنسية والبريطانية في الشرق الأوسط في عام 2016

أما اليوم، وبعد خمس سنين ونيف من العنف والعنف المضاد، بصرف النظر عن مدى مشروعية هذا أم ذاك، ونظراً لتدخل قوى خارجية إقليمية ودولية، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى جانب هذا الطرف أم ذاك، ونظراً للتكاثر المطرد لهذه الأطراف، ولسيطرة كل منها على مناطق معينة، فالواقع أن سوريا اليوم أصبحت مقسمة، وما الطرح الفدرالي في هذه المرحلة إلا محاولة للاعتراف بهذا الواقع، ولتجميع بعض ما تبعثر، ولوقف النزيف والدمار، وبتحويل الصراع من نزاع عسكري إلى علمية سياسية.

هل ستؤدي الفدرالية في خاتم المطاف إلى تقسيم نهائي؟ إن حسابات القوى الإقليمية والدولية المتعلقة بهذا الشأن أكثر تعقيداً من أن تسمح بذلك اليوم أو في المستقبل القريب. هذا من ناحية. من ناحية أخرى، وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول التقسيم، هناك مسألة أهم تواجهنا هنا، مسألة تتمحور حول طبيعة العلاقات التي ستسود ما بين المناطق المختلفة في ظل النظام الفدرالي وكيفية تطورها في المستقبل. إذ ما بوسع أحد من الأطراف أن يأخذ أرضه ويرحل، مهما بلغت به كراهيته للطرف الآخر ونفوره منه. هذا البعد للمسألة، علاوة على ثلة من الاعتبارات المتعلقة بالاقتصاد والنظام المالي، والوضع الأمني، وتطوير البنى التحتية وإعادة الإعمار، وحركة السكان، ومسألة العدالة الانتقالية، وإعادة توطين اللاجئين، وأية عملية محتملة لتبادل السكان بين المناطق، إلى آخره من هذه الشؤون العملية، كلها أمور تفتح مجالاً واسعاً للعمل على إعادة بناء جسور الثقة  ما بين المناطق بمكوناتها المختلفة، وبالتالي على بناء تدريجي لدولة أقوى تماسكاً وأكثر عدالة فيما يتعلق بقدرتها على تمثيل طموحات وتطلعات مكوناتها المختلفة، وأكثر قدرة على مراعاة مخاوفهم وهمومهم المتعلقة بسلامتهم وأمنهم الشخصي والجماعي.

سوريا في مطلع الانتداب الفرنسي

وفي حال تزامنت هذه العملية مع عملية سياسية أكبر تقوم من خلالها الدول الإقليمية المعنية على الاتفاق على معادلة جديدة للتعاون الإقليمي في مجالات عدة، على غرار ما تم اقتراحه في مطلع عام 2003 في بيان ثروة مثلاً، فقد تتمكن دول المنطقة من تجنب الدخول في صراعات مأساوية وعدمية على غرار ما يجري في سوريا حالياً، وقد يتمكن السوريون أنفسهم من خلال تبنيهم لطرح من هذا النوع من التسامي فوق آلام هذه المرحلة وتحويلها إلى انتصار معنوي وأخلاقي وفكري لهم، بكل مكوناتهم، وقد يجدون في هذه الرؤية دافعاً كبيراً للعمل على مواجهة التحديات الهائلة لمرحلة إعادة الإعمار.


إن رفض الطروح الفدرالية في هذه المرحلة يشكل، من الناحية العملية، استدامة للصراع في سوريا. فمهما كانت إرادتنا حديدية الجوهر ما بوسع أحدنا منع وقوع شيء قد وقع: إذ أصبح التفتيت واقعنا المعاش، ولا يمكننا إعادة البناء في لحظة، أو على أسس تتجاهل تماماً كيف وصلنا، وأُوصِلنا، إلى ما نحن عليه اليوم.  كل ما بوسعنا أن نفعله هو أن نتعامل مع نتائج ما وقع بأكبر قدر ممكن من العقلانية، بعيداً عن الإيديولوجيات والرومانسيات. فالواقع بشع، ما في ذلك من شك، وإعادة البناء صعبة جداً، وطويلة، ومضنية، والخسائر التي تكبدناها، والخيبات التي واجهناها، تكاد لا توصف أو تصدق. ومع ذلك، مع كل ذلك، ورغماً عنه، علينا أن نقبل ما هو كائن ونفهم طبيعته لنعمل على تغييره. ولعل نجاحنا في تبني رؤية أوضح لما نريد بناءه يعطينا القوة والأمل الذين نجد أنفسنا اليوم، في وسط هذا الخراب، بأمس الحاجة إليهما.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الأحد، 28 فبراير 2016

الشاهدة

هنا، في جحيم العار والنسيان، في هذا الركن المهجور منه، يرقد بشار الأسد، القائد الدمية، عادى شعبه، وقتله حلفاؤه. مات، كما عاش، مبتسماً ومعجباً بنفسه، لأنه، حتى جاءه حتفه، بقي أغبى من أن يدرك حقيقة ما اقترفته يداه. مات خاذلاً ومخذولاً، قاتلاً ومقتولاً، غافلاً ومغفّلاً. مات. رحل. واندثر ذكره، ما خلا هذه الشاهدة المنسية. فيما بقي شعبه يشارك في صنع التاريخ أينما حلّ، جماعات وأفراد.   

الثلاثاء، 9 فبراير 2016

"لا تفاوضوا، لا تشرعنوا" – غُلُوٌّ ولَغَطٌ ولَغُوُ كَلَام

جانب من مظاهرة في لندن معارضة للتدخل البريطاني ضد الأسد جرت في 31 آب/أغسطس 2013
يخطئ من يقول ويعتقد أن المحادثات اليوم تشرعن ما يجري من إجرام بحق السوريين، فالعالم سيبقى منقسماً حول هذا الأمر، وسيبقى حلفاء النظام يشرعنون له ما يفعل، وسيبقى خصومه يلعنونه، وأن لم تتجاوز أفعالهم اللعن في معظم الأحوال. الشرعنة لم تعد هي المشكلة اليوم، ولم تكن. بل تكمن المشكلة في الانهيار المستمر للبلد، وللتدهور المستمر في الأحوال المعيشية للسوريين في الداخل، بل وللكثير من اللاجئين أيضاً، وهي أمور تتطلب الانخراط في أنواع  مختلفة من الحوارات واللقاءات والمشاورات والمفاوضات، ومع كل الأطراف المسؤولة عن هذا الوضع الذي توصلنا إليه.  

فأي فائدة ترجى من ساسة يجدون حرجاً في الكلام والتفاوض، بل يفتقرون إلى أساليبه الأساسية، ويتنصلون من مسؤوليتهم حياله. الكلام سلاح الساسة، وعليهم أن يحسنوا استخدامه، وما الأمر بمستحيل، فالممارسة مفتاح الإتقان لمن فتح عقله.

فاوضوا وإن من باب رفع العتب، فاوضوا وإن لمجرد إحراج الطرف الآخر، فاوضوا لكي لا تتركوا الساحة فارغة فيحتلها المنافقون والوصوليون، فاوضوا لكي تُعرفوا ويألفكم العدو قبل الصديق، فهذه الألفة قد تفتح أبواباً وتخلق احتمالات ما كان يمكن لها أن تخطر على بال أحد، فاوضوا لتفضحوا ما يجري من جرائم أمام شعوب العالم، فتحرجوا ممثليها على الساحة الدولية، فاوضوا لكي تطلعوا الناس على حقيقية ما يجري كل لحظة في سوريا، ولتفضحوا الأكاذيب التي يروج لها الآخرون، فالناس، خلاف ما تعتقدون، لا يدرون شيئاً، وغالباً ما ينسون، أو ينساقون وراء تصريحات ساستهم التي تهدف لتجنب التدخل من أساسه.  فلا رغبة عند الشعوب الغربية عموماً في التدخل في شؤون الآخرين، وما لم يبرر لها حكامها هذا التدخل، سواء عن طريق سرد الحقائق كما هي أو عن طريق تشويهها بل تزويرها في بعض الأحيان، لن تدعم هذه الشعوب التدخل، بل سترى فيه اعتداءاً سافراً على الآخرين، وستدينه كما يدينه من عانوا منه.

إن الشعوب الغربية اليوم والشعب الأمريكي بالذات، وعلى اختلاف مشاربهم السياسية، تعارض وبشدة التدخل في سوريا، ولا ننسى هنا أن البريطانيين صوتوا ضد هذا التدخل في عام 2013 على الرغم من استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، ولقد كان لهذا الموقف أثره الكبير على قرار أوباما في هذا الصدد أيضاً.  ونعم، يمكننا أن ننحي بالكثير من اللوم هنا على أداء المعارضة السياسية الهزيل منذ بداية الثورة حتى اللحظة.

إن تغييب شخصيات بعينها بسبب ميولها الأقرب إلى الليبرالية والبراجماتية، أو محاولة استقطابها من باب رفع العتب ومع الاصرار على تقليم أجنحتها واستخدامها كمجرد ديكور، كما حدث مع البعض، كان أكبر خطأ ارتكبته المعارضة، لأن هذه الشخصيات بحكم علاقاتها الدبلوماسية الواسعة، وفهمها الأعمق لطبيعة وكيفية عمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الغربية والدولية، ومعرفة بعضها بخبايا النظام وآلية عمله، بسبب ارتباطها به سابقاً، وإتقانها لعدد من اللغات الأجنبية، يجعلها أكثر قدرة من غيرها على إدارة هذه المرحلة. لكن الاعتبارات الإيديولوجية للمعارضة، التي يطغى عليها المكونين الإسلامي واليساري، علاوة على الحساسيات الشخصية والنرجسية، كانت وماتزال أقوى من أي اعتبار وطني.

ولا أتكلم هنا عن نفسي بالضرورة، فأنا أدرك تماماً أني شخصية إشكالية، لكني لا أجد سبباً مقنعاً لتحييد دور شخصيات مثل جهاد المقدسي، أو سمير التقي، أو عبد الله الدردري، أو بسمة قضماني، أو شادي الخش، أو سمير سعيفان، أو أيمن عبد النور، أو سامي الخيمي، أو ريم علاف، أو ريم التركماني، أو رضوان زيادة، أو نجيب غضبان، أو مصطفى إسماعيل، إلخ. قد أكون قد انتقدت أداء بعض هذه الشخصيات في السابق، لكن النقد ليس رفضاً أو دعوة إلى التهميش والإقصاء.

هذه هي الشخصيات التي كان يجب أن تتصدر العمل المعارض في السابق والتي ينبغي أن تتصدره الآن، وفي حال حدوث ذلك، سيكون بوسع هذه الشخصيات استقطاب الكثير من الشخصيات التكنوقراطية الأخرى المتاجدة في الوطن وفي المهجر/المنفى.

علاوة على ذلك، هناك دور استشاري هام أيضاً لبعض الشخصيات الفكرية، مثل صادق جلال العظم، وياسين الحاج صالح، وسلام كواكبي، وأدونيس، وبرهان غليون، وشخصيات دينية مثل الشيخ معاذ الخطيب، و الشيخ مراد الخزنوي، والشيخ سارية الرفاعي، والأب فيكتور حنا، وغيرهم.

نعم، هناك الكثير من الأسماء الغائبة هنا، شخصيات لها تاريخها الكبير في العمل المعارض، لكن المناصب السياسية لا تمثل تكريماً أو اعترافاً بأفضلية معنوية أو أخلاقية ما، فالتكريم يأتي لاحقاً، بعد تحقيق الاستقرار، وسيأتي من خلال خطوات رمزية معينة مثل إسباغ الأوسمة الوطنية أو إعادة تسمية بعض الصروح والمنشآت الوطنية، لكنه لن يأتي، ولا ينبغي له أن يأتي، من خلال العمل السياسي بشكل عام، والعمل السياسي في المرحلة التفاوضية بشكل خاص. فنحن، في هذه المرحلة، بأمس الحاجة إلى اختيار شخصيات تكنوقراطية قادرة على التفاوض وعلى التفاعل الفعال مع المجتمع الدولي بمؤسساته المختلفة، ومع وسائل الإعلام العربية والأجنبية.

من الناحية الأخرى، ليس من الضروري أن تمثل الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها كافة مكونات الشعبي السوري بشكل عادل، لأن التمثيل الفئوي في هذه المرحلة ليس هو الأساس، وصلاحيات الحكومة الانتقالية تبقى محدودة في إطار الإشراف على إدارة العملية الانتقالية بالتعاون مع المجتمع الدولي ووفق خطة تم الاتفاق عليها من بين الأطراف المتنازعة، خطة تهدف إلى تمهيد الطريق لانتخابات تشريعية رئاسية هي التي يفترض أن يتم من خلالها حل القضايا المتعلقة بالتمثيل الفئوي والمناطقي للبلد.

إذاً، وخلاصة القول، لكل مرحلة نمر بها تحدياتها الخاصة، والشخصيات التي نوهت إليها هي أعلاه، في رأيي، هي الشخصيات الأنسب لقيادة هذه المرحلة الحرجة، وكل ما يحول بينها وبين ذلك هي نرجسيات البعض وعقدهم الإيديولوجية، لأني أعتقد أن الحسابات الخاصة للدول الداعمة للمعارضة لا تتعارض مع اختيار هذه الشخصيات، خاصة في هذه المرحلة.

الأحد، 7 فبراير 2016

عن الحسابات السياسية للمعارضة السورية في المرحلة القادمة

1.

الهدف الأساسي من المشاركة في محادثات جنيف كان تجنب أن يقع اللوم على المعارضة، لكن انسحاب المعارضة من المحادثات، الأمر الذي أدى إلى تجميدها، سمح لوزير الخارجية الأمريكي بإلقاء اللوم على المعارضة، وهو تطور مؤسف. لماذا؟ لأن إدارة أوباما تسعى، وبكل الوسائل، في هذه المرحلة، إلى تبرير سياساتها التراجعية فيما يتعلق بالملف السوري، على الرغم من كل المآسي التي أدى إليها هذا التراجع. لوم المعارضة يحقق لها هذا الأمر أكثر مما يحققه لوم روسيا أو إيران. من هذا المنطلق كان علينا أن نذهب إلى جنيف ونبذل ما بوسعنا لكي نبدو بمظهر المتجاوب على الرغم من كل تعنت الطرف الآخر، تآمر روسيا وإيران مع الأسد، وتخاذل الأطراف الدولية التي تدعي دعم الثورة. ولقد كان موقفنا قوياً في هذا الصدد، وكان كل المطلوب منا هو الإصرار على مواصلة اللقاءات مع ديمستورا حتى في حال اضطرارنا إلى تكرير ذات الكلام في كل لقاء.

لأن هدفنا كمعارضة في هذه المرحلة، ونظراً لأهمية ومحورية الدور الأمريكي، عجبنا هذا الأمر أم لا، يكمن في تمهيد نمهد الطريق للضغط على الإدارة القادمة من أجل أن ندفعها باتجاه تبني موقف مختلف حيال الصراع في سوريا، وهذا الأمر يتطلب منا اليوم تجريد إدارة أوباما من أي مسوغ أو عذر لتبرير سياستها. لن يؤدي نجاح المعارضة في هذا الصدد إلى أي تغيير في موقف الإدارة، لكنه قد يؤدي إلى كسبنا لتعاطف المزيد من مؤيدي سياسة النأي بالنفس على المستوى الشعبي، وهو الأمر الذي سيساعدنا مستقبلاً في الضغط على الإدارة الجديدة، سواء كانت ديموقراطية أو جمهورية. نعم، هذا حساب بعيد الأمد نسيباً، وهو بالضبط نوع الحسابات التي ينبغي علينا أن ننخرط بها، والتي كان علينا أن ننخرط بها منذ البداية. فما استمرت حساباتنا السياسية بالتمحور حول الرغبة في التحصل على مكاسب عاجلة، مهما بدت لنا هذه المكاسب مستحقة وعادلة، سنبقى غارقين في إطار ردود الأفعال، ولن نتمكن من التأثير على أي قرار دولي فيما يتعلق بقضايانا، وستبقى العدالة بالنسبة لنا أمراً مؤجلاً إلى ما لا نهاية.

2.

على المعارضة في هذه المرحلة أيضاً أن تسعى للتواصل المباشر مع الطرفين الروسي والإيراني وكل الأطراف الدولية الداعمة للأسد، لأن الكثير من الحسابات السياسية لهذه الأطراف قد تتغير مع الاحتكاك المستمر. ولا ينبغي على ما تقوم به هذه القوى من مجازر في هذه المرحلة أن يضعف من رغبتنا في التواصل معها، بل عليه أن يغذي هذه الرغبة، خاصة في حال روسيا وإيران، بالذات لأن وجودهما في سوريا بات يمثل احتلالاً. ألم نتحاور مع المحتل الفرنسي في السابق؟ وهل كان يمكن لنا دون اقتران المقاومة بالحوار أن نتوصل إلى الاستقلال؟ علينا أن نحسن كيف نتعامل مع الواقع الذي تم فرضه علينا، لكي نتوصل إلى أساليب جديدة لتغييره.

فالكرامة في هذه المرحلة تكمن في استمرار النضال، لكن للنضال أوجه وأطوار مختلفة، وما لم ندرك ذلك، سنخسر الحرب كلها، وليس مجرد معركة.

3.

أما فيما يتعلق بمسألة التدخل السعودي-التركي، فنحن نسمع هذا الكلام منذ أشهر، ولا ندري مدى جديته، لكن، وعلى افتراض جديته، فمن المستبعد أن يكون الهدف منه هو الدخول في حالة صدام مباشرة مع الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً وروسياً، وقد لا يؤثر على الأوضاع إلا في منطقتي دير الزور الرقة وبعض مناطق الحسكة وشمال اللاذقية وحلب. وقد يؤدي إلى رفع الحصار على حلب في حال وقوعه في الأسابيع القادمة. وربما أدى إلى دعم الثوار في إدلب وبعض المناطق الوسطى أيضاً. أما في دمشق وجنوب سوريا، فقد لا يؤدي إلا إلى تجميد الأوضاع. ويبقى الهدف هنا هو التمهيد لمباحثات أكثر جدية بين الأطراف في جينيف أو فيينا. هذا هو السيناريو المثالي للتدخل، إذا حدث، وهو يقوم على افتراض أن إيران وروسيا سيفضلا تجنب التصعيد، وسيرضيا إلى حد ما بالواقع الجديد الذي سيفرضه هذا التدخل. وقد لا يكون هذا الافتراض في محله على الإطلاق.

وفي حال اختار الطرفان التصعيد، فالمنطقة قد تتجه تدريجياً نحو صراع طائفي شامل، قد يكون التعويل فيه على تدخل أمريكي أو حتى أوروبي إلى جانب المحور السني أمراً غير مضمون. في حال أصر الغرب على النأي بالنفس، فأن توازنات القوى ترجح انتصار المحور الروسي-الإيراني، بصرف النظر عن الحسابات الديموغرافية، فهناك أكثر من طريقة لتطويع  الأغلبيات الهلامية، كما هو الحال مع الأغلبية السنية العربية، التي لا يمكن لها في الواقع أن تتحول إلى حقيقة سياسية تحت هذا العنوان.

من هذا المنطلق، ولأن حسابات القوى الأخرى أكبر من سوريا، في حين لا يخدم استمرار الصراع على أرضنا مصلحة السوريين على اختلاف خلفياتهم، على المعارضة السورية أن تدرك أن دورها في المرحلة القادمة يهدف إلى إيجاد توازن ما لمصالح كل الأطراف المتناحرة على أرضها، وأن تكون صانع سلام أكثر من كونها طرفاً في النزاع. لا أحد يلعب هذا الدور حالياً، ولن يلعبه أحد أفضل من طرف سوري يتكلم مع الجميع ولا يرهن حساباته السياسية بمصالح أي طرف ما خلا الشعب السوري بكل مكوناته، طرف ثار أساساً لتحقيق مصلحة الوطن ضد طغمة لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الخاصة وإن على حساب الوطن.

إن تبني النظام وأتباعه لشعار "الأسد أو نحرق البلد" قد يصلح لهم، ويتناسب مع عقليتهم ومخاوفهم، لكنه لا يسوغ للثوار تبني عقلية مماثلة، عقلية شعارها العملي، وإن بقي غير منطوق، "الثورة أو نحرق البلد." لم تكن الثورة أبداً هدفاً بذاته بالنسبة لمن قاموا بها، ولا ينبغي لها أن تكون، إنما هي أداة من أدوات النضال المختلفة من أجل تحقيق التغيير الديموقراطي المنشود، والتوصل إلى مجتمع الحقوق المتساوية. والعمل السياسي وجه آخر من هذا النضال. ولن تأتي تسوياته وتنازلاته، كما يتوقع البعض، على حساب الهدف الأساسي، لكن الفرج والعدالة لا يأتيان دفعة واحدة دائماً، بل لا يتحققان في معظم الأحيان إلا بالتدريج.

لقد أصبحت عودة الاستقرار إلى سوريا في هذه المرحلة ضرورة كبيرة، وقد يتطلب الأمر قبولنا بتنازلات ما كنا نتوقعها منذ عام أو أكثر، لكن الواقع أن موازين القوى حالياً ليست في صالحنا. وفي حال وقع التدخل السعودي-التركي، فهذا لا يعني تجميد العمل السياسي، بل على العكس، على المعارضة وقتها أن تستغل وقوعه، وهو الأمر الذي سيصب في مصلحتها في المرحلة الأولى، لتكثيف العمل السياسي بغية تجنب تصعيد روسي-إيراني. وقد تكون التنازلات المطلوبة في هذه الحال أقل إيلاماً، لكن، علينا أن لا نغامر في المراهنة على حل عسكري بالكامل، كما يفعل الروس والإيرانيون اليوم. لأن ثمن الخسارة سيدفعه الشعب السوري أولاً.

باختصار، علينا أن لا نمتنع عن العودة إلى المحادثات في آخر شباط، إن تم عقدها، لكن علينا أن ندرك أن صنع السلام هو الهدف الحقيقي لنا في هذه المرحلة. لأن عودة السلام ستسمح لنا في مرحلة قريبة بمتابعة النضال من أجل بناء مجتمع ديموقراطي، مهما كانت الظروف الصعبة. وفي هذه الأثناء، على المعارضة أن تواصل تفاعلها مع القوى السياسية المختلفة، ولا تكتفي بالانتظار.