فيما يلي الحلقة التاسعة من برنامج "بين سام
وعمار"
إظهار الرسائل ذات التسميات العولمة. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات العولمة. إظهار كافة الرسائل
الجمعة، 11 مايو 2018
الأربعاء، 15 يوليو 2015
الأزمة اليونانية والنظام العالمي
![]() |
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس في مؤتمر صحفي عقب محادثات |
(1)
بعد
ما تم التوصّل إلى اتفاق بخصوص أزمة الديون اليونانية يبدو جلياً الآن أن الهدف من
كل المناورات والمهاترات التي شهدتها الأشهر والأسابيع الماضية هو التحصّل على
أفضل صفقة ممكنة وفقاً لقواعد اللعبة ذاتها، وليس تغيير قواعد اللعبة.
لا
يوجد ما يعيب في هذا، لكنه يدل على ضرورة التفريق بين ما يُقال وما يُراد. كما يدل
أيضاً على طبيعة التيارات اليسارية التي توجّه خلالها الكثير من الانتقادات إلى
النظام العالمي الحالي، بأبعاده السياسية والمالية والاقتصادية، ويأتي بعضها في
محلّه بالفعل، لكن لا يبدو أنها تملك أية بدائل عملية له. ولاشكّ في أن الكثير من
القيادات اليسارية في اليونان وغيرها يدرك هذا الأمر، لكن أغلب الناس لا يدركونه، وينساقون
بالتالي وراء ما يُقال خالطين بينه وبين ما يُراد، وهنا لبّ المشكلة. إذ عندما لا
يدرك الناس حقيقة ما يجري من حولهم، يصبحون عرضة للتلاعب، خاصة من قبل الشخصيات
والتيارات الوصولية الشعبوية والمتطرّفة حتى العدم.
وتقع
مسؤولية ما حدث في اليونان على عاتق الكثير من الجهات، منها شركة جولدمان ساكس
وصندوق النقد الدولي وعدد من المصارف الأوروبية. لكن المسؤول الأكبر هي في الواقع
الأحزاب السياسية والنخب الاقتصادية اليونانية على اختلاف مشاربها. إذ طالما
تلاعبت هذه الجهات بالحقائق، فأخفت بعضها، وزوّرت أخرى، وكل ذلك بهدف الحفاظ على
نفوذها وخطها السياسي على المدى القصير، دون الانخراط في أية محاولة جدية لتشكيل
رؤى وسياسيات للمدى الطويل. فقد رأت هذه الجهات فيما يبدو في الانخراط في الاتحاد
الأوروبي ومنطقة اليورو فرصة ذهبية بذاتها، وأن مجرّد المشاركة فيهما ستؤدي
تلقائياً إلى إنعاش الاقتصاد وتنمية الدولة والمجتمع. أي أنهم تبنّوا نسخة تنموية
لمبدأ الانتثار الاقتصادي trickledown economics
التي جاء بها الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان والتي تنصّ على أن انخفاض
العبء الضريبي وزيادة الاستثمار الحكومي في المجالات الاقتصادية المختلفة سيساهم
في زيادة إنتاجية قطاع الأعمال، الأمر الذي سيساهم بدوره في زيادة فرص العمل،
علاوة على زيادة أجور العاملين ورواتب الموظّفين. من هذا المنطلق، أهملت الشخصيات
اليونانية النافذة مهمة تطوير برامج عملية للتنمية البشرية والمؤسّساتية، مما أدى
مؤخراً إلى انفجار فقاعة التوقعات التي تم بنائها والركون إليها.
فمما
لاشكّ فيه هنا أن الثقافة الحياتية اليومية في اليونان ماتزال تتمحوّر حول الدولة
ومؤسّساتها، كما هو عليه الحال في الدول الليفانتية الأخرى، ربما باستثناء إسرائيل
نظراً لبعض النشاطات الاقتصادية التي شهدها القطاع الخاص في العقدين الأخيرين. لكن
الاعتماد المستمر والدائم على الدولة في كل صغيرة وكبيرة يتعارض مع طبيعة العمليات
الديموقراطية، من حيث إحباطه لمحاولات القطاع الخاص لتطوير نفسه بحيث يتمكن من
المساهمة في عمليات التنمية المستدامة، فيبقيه في الطور الجنيني إن لم نقل
الطفيلي.
وتهدف
سياسات التقشّف المقترحة من قبل الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، إلى فكّ
الارتباط الوثيق ما بين الشعب والدولة الخانق لكليهما لصالح المجتمع المدني
بمؤسساته المختلفة، بما في ذلك القطاع الخاص، الذي سيصبح مطالباً أكثر من ذي قبل
بتطوير نفسه وقدراته ليصبح قوة قيادية في الدولة والمجتمع. ولأن القطاع الخاص يقوم
أساساً على المؤسّسات الربحية الصغيرة والمتوسطة، لن تؤدي تقويته بالضرورة إلى
استئثار نخبة ما بالنشاطات الأكثر ربحاً وإدارتها خدمة لمصالحها الخاصة على حساب
باقي الشعب. إذ طالما بقيت عمليات صنع القرار في الدولة شفافة الطابع، وقامت
مؤسّسات المجتمع المدني، بما فيها الصحافة والإعلام المرئي، بمتابعة ومراقبة
التطورات يمكن الحدّ من عمليات التلاعب والاستئثار التي تمثّل جزءاً عضوياً من
النشاطات العامة بمختلف أوجهها لأنها انعكاس حتمي لطبيعتنا الإنسانية.
لم
يكن هناك مؤامرة ضد اليونان إذاً، ولايمثل الاتفاق الجديد لحل أزمتها محاولة
لإخضاعها وإذلالها أو للقضاء على ديموقراطيتها، كما يروّج البعض. كل ما في الأمر
أنه ينبغي على الدول أن تدرك أن التعامل مع النظام المالي الدولي بشكل خاص،
والنظام العالمي بشكل عام، يتطلب الالتزام بذات الحكمة القديمة التي يفترض على
المواطن العادي أن يأخذها دائماً بعين الاعتبار: تقع المسؤولية على عاتق المشتري caveat emptor.
(2)
وفي
الواقع، نحن بحاجة ماسة إلى إصلاح تدريجي للنظام العالمي القائم، وليس لعملية
ثورية ضده. إذ لايوجد شيء محدّد هنا ليثور المرء ضده. فما يزال "النظام
العالمي" مجرّد مفهوم غامض في هذه المرحلة، وذلك على الرغم من وجود مؤسّسات
مالية وسياسية وقانونية واقتصادية دولية الطابع تبدو وكأنها دعائم له. فالتخبّط
الحاصل في إدارة هذه المؤسّسات وتوجيهها، خاصة في أوقات الأزمات، يدل على أنها
ماتزال مشاريع قيد التنفيذ أكثر منها دعائم راسخة لنظام بعينه. ولاشك في أن لتعارض
سياسات ومصالح الدول الأساسية الداعمة لهذه المؤسّسات دور كبير في تمييع هويتها
المؤسّساتية وعرقلة مساعيها لخدمة أهدافها والالتزام بمبادئها المعلنة.
ولايمكن
وصف النظام العالمي موضوعياً في هذه المرحلة لا بالديموقراطية ولا بالاستبداد،
ولاوجود هناك لنخبة أو كتلة بعينها قادرة على السيطرة عليه بشكل كلّي، وتجييره
لخدمة مصالحها الخاصة. لكن، لا مفرّ من الاعتراف أيضاً بأن الدول الغربية، خاصة
الولايات المتحدة الأمريكية، ما تزال تلعب الدور الأكبر في بلورة معالمه، وماتزال،
بسبب قوة أنظمتها الديمقراطية، الأكثر قدرة على التأقلم الفعّال مع متغيراته
المستمرة.
وتشكّل
المثابرة على المساعي الرامية لتنظيم آليات عمل المؤسّسات الدولية المختلفة،
وإصلاح أنظمتها الداخلية لتعكس تغير الحقائق على الأرض، ولتصبح أكثر قدرة على
تفعيل وخدمة المبادئ التي أسّست من أجل خدمتها، وسيلة أنجع وأفضل من أية ثورة
عالمية في هذه المرحلة لتحقيق العدالة، إن كانت هي الهدف الحقيقي.
ولاشك
في أن للإعلام المستقل دوره الهام هنا من خلال تغطية نشاطات وفعّاليات هذه
المؤسسات وتببين وقعها على الواقع المُعاش لمختلف الشعوب.
إذن،
يتطلّب تحقيق العدالة على المستوى الدولي استمرار عمليات الدمقرطة والترويج لها،
لأن الدول غير الديمقراطية لن تسعى إلا لتحقيق مصالح النخب المتنفّذة فيها، بصرف
النظر عن مصالح شعوبها. وطالما استمرت عملية تشكيل النظام الدولي من خلال الصراع
النخبوي ما بين قوى ديموقراطية وأخرى غير ديموقراطية، ستبقى المساومات الحاصلة
تتمحور حول المصالح الضيقة للنخب، بصرف النظر عن المبادئ الديموقراطية واعتبارات
العدالة، ولن يكون للمبادئ التي نراها في التشريعات الدولية، مثل "الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان" و"مسؤولية الحماية،" أثر كبير على قرارات
المؤسّسات الدولية، كما هو الحال في معظم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن مثلاً.
كيف
سيكون بوسع الشعوب أن تراقب وتحاسب ممثليها في المؤسّسات الدولية ما لم تكن قادرة
على مراقبة ومحاسبة ممثليها في المؤسسات المحلية والوطنية؟ وكيف يمكن للنظام
الدولي أن يتصرّف بعدالة حيال بعض الشعوب إن كانت مستعبدة وكان ممثلوها في
مؤسّساته ودهاليزه ومؤتمراته مشغولين ليل نهار بإقناع ممثلي الشعوب الحرة بأن شعوبهم
غير جاهزة بعد للحرية؟ وإن كانت الدول الغربية على استعداد دائم لتناسي مبادئها
الإنسانية في تعاملها معنا، وهو أمر من النادر أن تقدم عليه عند تعاملها مع
شعوبها، فذلك لأن حكامنا ونخبنا المتنفّذة قد سبقوها إلى ذلك، فسوّلوا وسهّلوا لها
الأمر. فإن بدا لنا النظام الدولي القائم اليوم غير عادل فربما لأن أنظمتنا
المحلية والوطنية غير عادلة أيضاً.
وإن
كانت العدالة، حتى في المجتمعات الديموقراطية، لا تُؤخذ أو تُصان إلا من خلال
الضغوط الشعبية المباشرة، أو عن طريق مؤسّسات المجتمع المدني، فأي خيار هناك
للشعوب المستعبدة من قبل أنظمتها غير الكفاح؟
والخلاصة: ما لم تتحقق
مصالح الشعوب لن تتحقق العدالة، ولن يتحقق السلام، لكن الشعوب التي لا تناضل من
أجل تحقيق العدالة على الصعيد الداخلي لن يكون بوسعها أن تناضل من أجلها، ومن أجل
مصالحها، على الصعيد الخارجي. وإن كان اليونانيون قد ساهموا في أزمة الديون التي
يمرون اليوم بها، فهم، وعن طريق العملية الديموقراطية، استطاعوا أن يتحصّلوا على
صفقة أفضل من تلك التي طرحت عليهم في بادئ الأمر، وإن كانت مسيرتهم نحو الخروج من
المأزق تماماً ماتزال طويلة وصعبة.
أما
فيما يتعلق بالنظام العالمي بمؤسّساته وعثراته وأطماعه، فالغرب جزء من المشكلة
وليس كلها، ونحن، بأنظمتنا الاستبدادية الفاسدة، وبإيديولوجياتنا العقيمة، وبعقد
الاضطهاد التي ما زلنا نعاني منها، نمثل الجزء الآخر. ولن يكون بوسعنا التعامل
بنجاح مع أية تحديات ناجمة عن مطامح الدول الغربية، ما لم نجد حلولاً لمشاكلنا
الخاصة أولاً، أو، ربما كان علينا أن ننشط على المسارين في آن. أما الاستمرار في
التذمّر والتفكير التآمري فتكريس لعقلية التخاذل والجمود.
الأحد، 3 مايو 2015
ما بعد الإيديولوجيا
1.
السياسة
بمفهومها المعاصر هي فن وعلم إدارة المصالح الجمعية الحيوية. وللمبادئ دورها الهام
هنا، خاصة في المجتمعات الديموقراطية، لكن ليس على حساب المصالح، وهذا سرّ تخبّط
الغرب المستمر في تعامله مع المجتمعات الأضعف والأفقر. إن إغراء استغلال التفوّق
المادي والحضاري لخدمة مصالح جوهرية يبدو أقوى من أي مبدأ.
ومع
ذلك، وخلافاً للاعتقاد السائد في منطقتنا وربما العالم، الأمر ليس بهذه السهولة،
فهناك نقاش جدي يجري في الغرب حول ضرورة وكيفية الموازنة ما بين المبادئ والحقوق
من جهة، والضرورات والمصالح الجمعية الحيوية للدول الغربية والنامية من جهة أخرى.
ولهذا النقاش دور كبير ومتزايد في صنع القرارات المصيرية في الغرب خاص حيالنا.
لكنا وما بقينا ضعفاء ومصرّين على الاصطفاف وراء أنظمة وعقائد بائدة لا تنتج إلا
الموت ولا تستقطب إلاه، لا يمكن لنا أن نضغط على الغرب لتغيير سياساته حيالنا.
وسيبقى الغرب يتأرجح ما بين سياسات منفتحة على مصالحنا الجمعية وتلك اللامبالية
بها إلى حين ننجح في خلق توازن تنموي وسياسي معه. وللغرب، ولأمريكا تحديداً، دور
إيجابي محتمل فيما يتعلق في بناء نظام أكثر عدلاً فيما لو عرفنا كيف ندفع في ذلك
الاتجاه عن طريق العمل على بناء شركات مع التيارات المختلفة فيه، عوضاً عن
الانكفاء على أساليب وخطاب الممانعة العدمية.
2.
ولا
نملك في الواقع رفاهية العمل مع تيار سياسي واحد في الغرب، سواء كان يمينياً أم
يسارياً، فمن الواضح أن أولويات هذه التيارات لا علاقة لها باحتياجاتنا، بل
باحتياجات مجتمعاتها المادية والمعنوية، وبرؤى إيديولوجية قد لاتتناسب مع مصالحنا
العميقة. إن انتقادات هذه التيارات لمجتمعاتها حتى فيما يتعلق بالسياسات الخارجية
هو انتقاد داخلي بحت يهدف إلى الكشف عن حقائق وأطراف وعمليات لها علاقة بتحولات
داخلية في هذه المجتمعات وتفعالات مراكز القوى المختلفة فيها. إن استخدام هذه
الانتقادات من قبلنا دون فهم للأبعاد الداخلية المكونّة لها يجعلنا نتعاطى مع
العالم من منظور مشوَّه ومشوِّه.
ودعونا
لا ننسى في هذا الصدد أن هذا النقد الداخلي ليس موضوعياً دائماً، بل غالباً ما
يعكس الصراعات الإيديولوجية والمصلحية الدائرة ما بين القوى المختلفة المشكّلة
للمجتمع، لذا، فغالباً ما يصلنا مشوباً بالأكاذيب والمبالغات والاتهامات المغرضة
التي يصعب تحليلها والتعرّف عليها حتى من قبل أذكى المحللين والخبراء المحليين
ناهيك عنّا بجهلنا المدقع لواقع الحياة السياسية في الغرب، أو للحياة السياسية
بشكل عام. لذا، ترى معظمنا يأخذ من هذه الانتقادات ما يناسب تصوراته المسبقة عن
الغرب وحسب.
3.
لكنا
لا نملك رفاهية الإيديولوجية والتصورات المسبقة، ولا رفاهية الخلط ما بينها وبين
المبادئ المستندة إلى الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. إن الدعوة إلى تعاملنا مع
الأمور من منطلق ذرائعي لن يؤدي إلى التخلي عن المبادئ، كما يروّج البعض، بل هو
انتصار وتفعيل لها. لا ينبغي على الصراعات الداخلية للغرب وللمنظومة السياسية
والأمنية الدولية والإقليمية أن تملي علينا أولوياتنا، بل عليها أن تنبع من
احتياجاتنا الخاصة واستقرائنا لواقعنا المعاش. وأذا اقتضى الأمر من أجل تلبية هذه
الاحتياجات أن نتواصل مع أمريكا أو فرنسا أو حتى إسرائيل فليكن، فالتواصل لا يعني
التنازل عن الحقوق ولايؤدي إليه. إن إعادة بناء أي جزء من سوريا على أية حال،
سيتطلب منا الكثير من التواصل والتنازل في المستقبل. وربما لو عرفنا كيف نتواصل في
الماضي لما وجدنا أنفسنا في هذا الموقف اليوم.
4.
آن
الأوان لندرك أن معظم منتقدي النزعة الإمبريالية عند القوى الغربية لا يسعون في
الواقع إلى وضع حدّ للمغامرات الإمبريالية بشكل عام بل فقط إلى المغامرات الغربية
وذلك لتعارضها مع مغامراتهم الخاصة. لذا، نرى أن انتقاد إيران لإمبريالية أمريكا
والغرب لم يمنعها من الانخراط في مغامرات إمبريالية خاصة بها في لبنان وسوريا
والعراق واليمن، وكذلك نرى أن انتقادات روسيا لأمريكا لم تمنعها عن اجتياح جورجيا
أو القرم أو شرق أوكرانيا.
أما
فيما يتعلق بانتقادات شخصيات يسارية تعيش في الغرب لسياسات الغرب مع امتناعها عن
انتقاد سياسات مثيلة لروسيا وإيران فهي إما ناتجة عن عماء إيديولوجي يرى في
المغامرات الإمبريالية الغربية خطورة أكبر على أمن العالم من تلك التي تقوم بها
روسيا وإيران وغيرها من الدول الاستبدادية، أو محض سذاجة، أو، وبصريح العبارة،
عمالة.
ولنسأل
أنفسنا هنا، وفيما يتعلّق بالثورة السورية تحديداً، هل قدّمت هذه الشخصيات
اليسارية الغربية التي طالما ادعت أنها تدعم قضايانا، وطالما انتقدت المغامرات
الإمبريالية الغربية، والسياسيات الإسرائيلية الصهيونية، أي مقترح منطقي وعملي
لحلّ الأزمة في سوريا؟ وماذا فعلت غير أنها دافعت عن الأسد ونظامه واتهمتنا
وبإصرار بالسذاجة والعمالة، وساهمت بنجاح بتقيّض محاولاتنا للتحصّل على دعم حقيقي للثوار
أو حتى إنشاء منطقة حظر جوي كان يمكن لها فيما لم تم فرضها عندما طالبنا بها في
منتصف 2011 أن تمنع التصعيد الذي نراه الآن، إن لم توقفه؟
إن
في هذه المواقف أكبر دلالة على أننا لا نتعامل مع أشخاص منسجمين مع المبادئ التي
يدّعون الإيمان بها، أو التي نظنّ جهالة منا أنهم يؤمنوا بها، وأن الاتهامات التي
كالوها لنا عبر السنين الماضية ربما انطبقت عليهم أكثر.
لكن
الواقع أن معظم هذه الشخصيات اختارت خوض غمار صراع داخلي لتغيير بنية مجتمعاتها،
مدفوعة إلى ذلك بمزيج من المصالح الطبقية والرؤى الإيديولوجية، وأنها لا تقل استعداداً
للمتاجرة بنا وقضايانا من خصومها الإيديولوجيين، بل هذا ما دأبت عليه عبر العقود
الماضية، لكن معظمنا لم يتنبّه إلى ذلك لأن الأمر كان يتطلّب فهماً أعمق للعالم من
حولنا، بثقافاته المتنوّعة والطبيعة المتشابكة لصيروراته الحقيقية. ولن نتمكن
أبداً من فهم طبيعة هذه الصيرورات طالما أصرّينا على معالجة الأمور من ذات المنظور
الذي أخذناه عن هذه الشخصيات. نحن بحاجة لمعالجة الأمور بتجرّد أكثر، وبعيداً عن
أية أحكام مسبقة.
5.
غالباً
ما تجد الدول القوية وعبر التاريخ نفسها عرضة لإغراء المغامرات الإمبريالية، حتى
دولة ضعيفة مثل سوريا لم تستطع أن تقاوم طويلاً إغراء استغلال الصراع الدائر في
لبنان (الأضعف) في سبعينات القرن الماضي للانخراط في مغامرتها الإمبريالية الخاصة.
الإمبريالية إذاً موجودة في البنية الجينية للدول، وعلينا أن نتعامل مع الأمر من
هذا المنطلق. ومن هذا المنطلق، لا يوجد أي مبرر إيديولوجي للعداء مع الغرب، وأفضل
طريقة لمقاومة أي توجه إمبريالي غربي هو السعي إلى تقوية موقفنا التفاوضي معه من
خلال إجراء تحالفات إقليمية مصلحية، ولا تقوم هذه التحالفات إلا على أساس التنمية،
والتبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي والأمني والعسكري، أما قضايا مثل
الانتماءات القومية أو الدينية أو الطائفية فغالباً ما تثبت أنها عوامل
تفتيت وتهديم للتحالفات خاصة في حال تم محاولة استخدامها كحجر أساس لها، وذلك
نظراً للتنوع المدهش الذي تعرفه المنطقة بهذا الخصوص، ونظراً لبروز شرائح اجتماعية
هامة لم تعد ترى في هذه الانتماءات، الديني منها خاصة، طريقة مناسبة للتعريف عن
نفسها وآمالها.
![]() |
الإمبريالية: نهج سياسي يسعى لتوسيع رقعة نفوذ بلد ما من خلال النشاط الدبلوماسي، أو القوة العسكرية لمت في ذلك المغامرات الاستيطانية وتأسيس المستعمرات والتبعيات. |
من
ناحية أخرى، هناك دائماً مجال حقيقي للحوار مع الدول الديموقراطية، خاصة في حال
نجحنا في تقوية موقفنا عن طريق بناء تحالفات إقليمية و/أو من خلال بناء علاقات مع
التيارات السياسية المختلفة في هذه الدول والمؤسسات الفاعلة فيها. لكن هذه الفرصة
غير متاحة فيما يتعلق بالدول ذات الأنظمة الاستبدادية، التي غالباً ما ستصرّ على
تبعية الدول الضعيفة لها، دون أن تترك مجال للحوار إلا فيما يتعلق بطبيعة
الالتزامات الناجمة عن هذه التبعية.
6.
نحن
نعيش هذه الأيام في زمن الشركات العابرة للحدود، وهو الأمر الذي يرى فيه الكثيروا
من منظّري اليسار واليمين شراً مستطيراً. لكن الحقيقة كالمعتاد أعقد من كل
نظرياتهم.
فهذه
الشركات، وإن مثّلت من خلال مجالسها الإدارية مصالح نسبة مئوية محدودة فقط، ربما
أقل من 0.1%، فهي تمثّل، بشكل أو آخر، من خلال مكاتبها ومعاملها وأملاكها الشاسعة
وارتباطاتها بالأسواق المحلية والعالمية مصالح عشرات بل مئات الملايين من الناس.
وقد لا يكون هذا التمثيل عادلاً، لكن العدالة فيه لن تتحقّق من خلال إعلان الحرب
على هذه الشركات والدعوة إلى تدميرها، الأمر الذي سيضرّ بمصالح الفئات الاجتماعية
الأضعف قبل أن يؤثّر على مصالح الفئات النافذة والتي بحكم موضعها ستبقى أكثر قدرة
على المناورة والتأقلم من باقي الفئات.
وهل
سيصبح العالم أفضل فعلاً فيما لو غابت عن الوجود فيه شركات مثل إكزون وشل وتوتال
وبريتيش بتروليوم، وفورد ومرسيدس وتويوتا، وكرافت ونستله وبيبسي كو، وجوجل وأبل
ومايكروسوفت، وجونسون وجونسون وبفيتزر وآسترا زينيكا ونوفارتيس، وغيرها وغيرها؟
وهل أفرز منتقدو هذه الشركات ورأسماليتها "الاحتكارية البغيضة" بدائل
أفضل عنها لإدارة الاقتصاد العالمي وإنتاج وتوزيع الأدوية والأغذية وتحسين حياتنا
المعيشية على مختلف الأصعدة؟ وفي حال توفّر بدائل محلية هنا وهناك، فهل يمكن من
الناحية العملية تصدير هذه البدائل وتفعيلها على المستوى العالمي؟ وهل هناك من
يعمل بجدّ على هذا الأمر؟
من
ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار الشركات النفطية والغذائية والإلكترونية والدوائية
التي تتخذ من الصين وروسيا وغيرها من البلدان مقراً لها بديلاً أفضل عن الشركات
الغربية، على الرغم من أنها تلعب وفق القواعد المبهمة إياها، بل وتستغلّ تواجدها
في بلدان غير ديموقراطية للتلاعب بالسوق والناس بأكثر مما يمكن لنظيراتها العاملة
في الدول الديموقراطية أن تفعل؟
الواقع
أن معظم الانتقادات التي تتعرّض لها الممارسات الرأسمالية والإمبريالية لدول الغرب
بشركاته ومؤسساته، قديمها وجديدها، لا تزيد عن كونها غطاءاً لمخطّطات لا تقلّ في
جوهرها، إن لم يكن في حجمها، رأسمالية وإمبريالية عنها، ون اختلفت هوية اللاعبين
والمستفيدين.
7.
ولا
يتناقض اعترافنا بهذا الواقع مع حاجتنا إلى دفع الشركات العابرة للحدود لتصبح أكثر
شفافية وعدلاً فيما يتعلّق بكيفية إدارة نشاطاتها وتوزيع أرباحها. لكن قدرتنا على
النجاح في هذا المسعى ستبقى مرتبطة وبشكل حميم بمدى ديموقراطية النظم السياسية
التي تنشط فيها هذه الشركات. من هذا المنطلق، فلاشكّ في أن العمل على تسهيل انتشار
الديموقراطية في المزيد من الدول حول العالم سيعطينا فرصة أكبر لإصلاح عمل هذه
الشركات وإعادة هيكليتها بما يتناسب مع تطلّعاتنا إلى عالم أفضل وأكثر عدالة لكل
من فيه. في حين لا يمكن لإعلان الحرب عليها إلا أن يؤدّي إلى انتشار الفوضى. وحدها
المجتمعات التي تحترم الحسّ الإبداعي في كل شيء من الفن إلى إدارة الإعمال يمكن
لها أن تنمو وتنتعش. علينا أن نأخذ هذه الحقيقة بالاعتبار ونحن نطالب بوضع قواعد
ناظمة لعمل المبدعين على اختلاف مشاربهم.
8.
وربما
تواجهنا في الحياة أوقات قد لايكون لدينا فيها رفاهية الخيار، ونضطر فيها إلى
التعامل مع الفوضى بكل مخاطرها، السافرة والكامنة، لكن السعي الواعي والحثيث وراء
الفوضى ظنّاً منّا أنها الحل، أو أنها ستمهّد الطريق إليه، فهو نمط من الفكر لا
ينجم إلا عن عقلية حاقدة وعدمية لا يمكن لها أن تفضي إلا إلى الدمار، والدمار فقط.
وعلينا لذلك أن نناضل ضدّها كما نناضل ضدّ أية منظومة استبدادية، لأن ما ينتعش في
أوقات الفوضى هو الاستبداد والظلم، لا الحرية والعدالة.
9.
قبل
أن ندعو إلى دمار الشركات الرأسمالية الكبيرة العابرة للحدود، دعونا نسأل أنفسنا
أولاً: هل بنينا بدائل حقيقية عنها قادرة على تمثيل مصالح الملايين من البشر الذين
يعتمدون في معيشتهم عليها؟ وهل يمكننا أن ندّعي فعلاً أننا ندرك بالفعل مدى توغّل
هذه الشركات ومساهمتها في تشكيل حياتنا اليومية، بحاضرها ومستقبلها، بإيجابياتها
وسلبياتها؟
ولايغرنّنا
في تعاملنا مع هذه الشركات تلك القصص التي نسمعها بين الحين والآخر عن مدى فساد
كبار مدرائها ومستثمريها، ومدى غرائبية أولوياتهم الناجمة عن انقطاعهم عن الواقع
المعاش لمعظم البشر. فهذه القصص تنبؤنا أكثر عن حدود النفس البشرية منها عن واقع
عمل هذه الشركات وتأثيرها في حياتنا.
وفي
الحقيقة، تتطلب منا احتياجاتنا اليومية أن نتعامل مع هذه الشركات كما نتعامل مع
أية مؤسّسة تعمل في الفضاء العام وتؤثّر فيه، فهذا بحدّ ذاته يعطينا حقّ مسائلتها
عن طبيعة نشاطاتها، وحقّ تحديد هذه النشاطات، وحقّ محاسبة هذه الشركات وفق
القوانين المتفق عليها في المجتمع. وكلما كان المجتمع حراً وديموقراطياً كلما كانت
فرصنا في مسائلة هذه الشركات ورسم الحدود المناسبة لها ولنا أفضل. أما المبالغة في
العدوانية تجاهها فغالباً ما يجعلنا عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل قوى وجهات
ربما كانت أجنداتها بالنسبة لنا أخطر لأنها تبقى مستبطنة.
وهنا
لبّ المشكلة، فهذه الحرب التي نرى البعض يعلنها على الشركات الكبيرة العابرة
للحدود هي في الواقع حرب كاذبة، زائفة، واهمة وخلّبية، وهي حرب على الشركات
الغربية تحديداً من قبل أخرى طامحة إلى إضعافها وتبادل الموقع معها وحسب. إذ لا
توجد أية نية هنا لتغيير قواعد اللعبة بشكل إيجابي، وكيف يمكن أن يتأتى هذا ومعظم
اللاعبين هنا هم في الواقع ممثّلون للنخب الحاكمة في بلدان استبدادية الطابع مثل
روسيا والصين وإيران. أي أن اللعبة هنا هي مجرّد امتداد للعبة السياسية التي أشرنا
إليها سابقاً، بل هي الدافع الحقيقي وراء اللعبة السياسية.
10.
إن
اليسار الذي نجح في الغرب هو اليسار الذي عمل ضمن الإطار العام لاقتصاد السوق،
فنبذ التوجّهات الإيديولوجية المطّاطة وفضّل التركيز على القضايا التفصيلية مثل
النقابات وحقوق العمال، والرعاية الصحية، والتعليم، وحقوق المرأة، والشؤون
البيئية، وحماية المستهلك، إلخ. إن نسيان أو تناسي هذا الأمر من قبل النخب
اليسارية اليوم سيعيد اليسار عقوداً إلى الوراء، وسيحوّله إلى حركة عدمية مفرزة
للإرهاب على غرار الحركات الفوضوية في مطلع القرن العشرين.
إن
اليسار الذي عاد إلى البروز على الساحة السياسية الغربية اليوم هو يسار زائف
تحركّه أيدي ونوايا وقوى احتكارية استبدادية فاسدة تجعل من انتقاداتنا واعتراضاتنا
على الحكومات والمؤسسات والشركات الغربية تبدو وكأنها شكاوى طفولية. وماعلينا هنا
إلا معاينة سلوكيات الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الروسية والصينية
والإيرانية، وتصرفات كبار مدرائها ومستثمريها لنعرف ما الذي ينتظرنا. أنه ليس
عالماً أفضل وأكثر حرية وشفافية وامتثالاً للمسائلة الشعبية، وأكثر عدلاً فميا
يتعلّق بتعامله مع العامل والفلاح والمدرّس والفنان والمبدع، بل هو عالم أكثر
صلافة فيما يتعلّق باستهتاره بحقوق الناس وقدراتهم واحتياجاتهم الأساسية.
11.
لكن،
ومن الواضح أن اليمين في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، بات يتصرّف بالصلافة
ذاتها، وذلك من خلال تلاعبه بالأنظمة السياسية والقانونية، وسعيه المستمر لإعفاء
الشركات الكبرى ومستثمريها من أية مسائلة، على الرغم من تكاثر فضائحها وتعالي
وتيرة الانتقادات الموجّهة لها فيما يتعلّق بكيفية إدارتها، وأدائها، واعتمادها
المستمر، خاصة في أوقات الأزمة، على الدعم الحكومي. ولقد بات الكثير من
الأكاديميين الغربيين ينظرون إلى بعض هذه الأنظمة السياسية، وخاصة النظام
الأمريكي، على أنها باتت في جوهرها أقرب إلى الأوليجارشية منها إلى الديموقراطية.
في الأمر الكثير من المبالغة بالطبع، خاصة في هذه المرحلة، لكنه جرس الإنذار
يُقرع.
هناك
في الواقع حاجة ملحّة إلى مراجعة الكثير من القواعد والقوانين الناظمة لعمل
الشركات الكبرى في الغرب، والتي بات صلف بعضها يهدّد أمن الغرب ذاته من خلال
تلاعبها بالنظام السياسي والضريبي، والتسهيلات المصرفية التي تقدمها لكثير من
الجهات المريبة (التي ينحدر أغلبها من خارج الغرب)، إلى استعدادها للتعامل مع
الأنظمة المعادية للغرب وتصدير التقنية لها، إلخ.
12.
أما
فيما يتعلّق ببعض القوى الصاعدة والديموقراطية الطابع مثل الهند وجنوب إفريقيا
والبرازيل، فالواقع أنها، وبسبب أنظمتها الديموقراطية، وبصرف النظر عن تصريحات
زعمائها السياسيين والتي غالباً ما تعكس حسابات سياسية داخلية ونادراً ما تؤثر على
السياسات العملية الناظمة لعلاقة هذه الدول مع الدول الغربية، ستبقى تحافظ على
علاقات ودية مع الغرب، وستبقى تتمحور حول البنى العالمية الاقتصادية والمالية
والسياسية والقانونية التي بناها، وجلّ ما ستحاول التوصّل إليه هو بناء شركات أكثر
تكافئاً معه.
13.
إن
سرد بعض الحقائق مثل كون نصف الثروة المالية في العالم مملوكاً من قبل أقل من 80
شخصاً قد يبدو وكأنه إدانة واضحة للرأسمالية، لكن التدقيق في الأسماء يوضح مدى
تعقيد القضية، فالائحة تشمل شخصيات مثل بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، ومارك
زكربيرج، مؤسس شركة فيسبوك، ولاري بيج وسيرجي برين، مؤسسي شركة جوجل، وغيرهم. أي
أننا نتعامل هنا ليس فقط مع شخصيات قد يكون لبعضها ارتباطات ونشاطات مشبوهة
(ومعظم هذه الشخصيات بالمناسبة تقطن دولاً غير ديموقراطية، مثل روسيا والصين
والسعودية، أو دولاً ما تزال عمليات التنمية والتحديث فيها متأخرة مثل الهند
والمكسيك ونيجيريا)، بل مع الكثير من الشخصيات الإبداعية التي لعبت وماتزال أدوراً
إيجابية في حياتنا عن طريق الشركات التي أسّستها. ليس من العدل أو الحكمة أن
نتعامل مع كل هذه الشخصيات وكأنها مجبولة من عجينة واحدة.
لكن،
ما بوسعنا إنكار الإشكالية المتمثّلة في ظاهرة الثراء الفاحش، لأن الثراء نفوذ ذو
تجليات سياسية واجتماعية جمّة ومتشابكة، بل مستترة، وبصرف النظر عن النوايا، وهنا
لبّ المشكلة. من ناحية أخرى، لا يمكننا تجريم الإبداع، أو التعامل معه بكثير من
الارتياب، أو وضع حدود غير مدروسة لمدى قدرة المرء على تحويل إبداعه إلى ثروة.
الواقع
أن الثروة، كما الإبداع، مسؤولية والتزام، أي قضية ذات أبعاد سياسية واجتماعية
وأخلاقية، لكن التعامل مع القضية من هذا المنطلق يتطلّب خطاباً أقل عدوانية وأكثر
عقلانية من الخطاب السائد حالياً في الأوساط اليسارية التقليدية.
14.
إن
استغلال الشركات الغربية للعمالة الرخيصة في مجموعة من الدول النامية يستحق
الإدانة في بعض تجلّياته المتمثّلة في عمالة الأطفال وعدم احترام القواعد
المتعلّقة بشروط العمل الآمنة والعادلة، لكن الإدانة العامة للظاهرة تتجاهل الدور
الإيجابي لهذه الشركات في تحسين الشروط المعاشية للمجتمعات المحلية عند توفر
الرقابة المناسبة بالطبع. وعلينا أن لا ننسى هنا مسؤولية الدول المضيفة في الإشراف
على نشاطات هذه الشركات، ولاشك في أن العمل على تقوية المجتمعات المدنية المحلّية
وعلى زيادة نسبة الانفتاح السياسي في البلاد المضيفة سيلعب دوراً هاماً وفاعلاً
فيما يتعلّق بقضية الرقابة.
15.
إخفاقاتنا
المتكرّرة في تحقيق أهدافنا ليست مفاجأة، وعليها أن لا تثبط من عزائمنا، فنحن ومنذ
ولدنا نعمل في الزمن الضائع في وجه تحدّيات شبه مستحيلة، لكن نجاحاً واحداً قد
يكفي لقلب المعادلة، وهو لن يتحقّق من خلال العمل ضمن القوالب المعهودة. نحن لسنا
بحاجة لأفكار جديدة وحسب، بل إلى طرق وأنماط جديدة للتفكير والتحليل لكي نتمكّن من
تحقيق النجاح المنشود.
16.
علينا
أن نضع الإنسان قبل أي اعتبار أو مفهوم سياسي في حساباتنا، بما في ذلك مفاهيم
كالسيادة والحدود، فهذه الأمور كانت وستبقى دائماً عرضة للتغير، وحده الإنسان هو
الثابت هنا، والتنمية هي الضرورة الحقيقية التي تواجهنا، لأنها مفتاح تحقيق
التوازن الذي قد يسمح لنا بالحفاظ على وجودنا في خضم صراعات لم نختارها لكننا،
شئنا أم أبينا جزء منها، وسنبقى.
17.
نحن
لا نمثّل لا الأمويين ولا العباسيين ولا العرب ولا المسلمين، بل ولا أحد من الشعوب
الماضية أو الحاضرة، لا أحد ما خلا أنفسنا. وإذا كانت هويتنا كسوريين بحدّ ذاتها
ما تزال مائعة بحيث أخفقت في منع اندلاع هذه الحرب التي نخوضها اليوم، فكيف لنا أن
نفكّر بما هو أكبر منها؟ نحن بحاجة إلى بداية جديدة، ولا يمكن لهذه البداية أن
تبدأ من دون نقاش مفتوح حول هويتنا المعاصرة.
من
نحن؟ لا، لسنا بحاجة للاتفاق على جواب واحد واضح لهذا السؤال، بل على طريقة تسمح
لنا بتقديم إجابات مختلفة دون أن ننقلب على بعضنا البعض ونمعن تخويناً وتكفيراً
وتقتيلاً في أنفسنا، نحن بحاجة للاتفاق على كيفية مناسبة لرسم الحدود ما بين
فضائاتنا الحيوية المختلفة لكي نعيش، ونحسن العيش، فننمو وننضج.
18.
نحن
لسنا مسؤولين أمام آبائنا وأجدادنا بقدر ما نحن مسؤولون أمام أبنائنا وأحفادنا.
رأي السلف فينا لا يقدم ولايؤخّر، لأنه لا يمكن لنا إلا التكهّن حول طبيعته وحسب.
أما رأي أبنائنا وأحفادنا فينا، فمعظمنا سيسمعه قبل موته، ولا أعتقد، نظراً
لواقعنا المعاش، أنه سيكون إيجابياً بمجمله، فمن كان أكثر اهتماماً بما ومن مضى
منه بما ومن سيأتي لن يزرع ما يكفي من المحبة والاستحقاق في حاضره ليكترث به ذلك
الأتي.
نحن
نحصد اليوم كشعب أو شعوب ذات اللامبالاة التي زرعناها في أنفسنا بالأمس القريب،
وسيبقى حالنا كذلك حتى نتّخذ أولادنا وأحفادنا غايات سامية تستحقّ منّا كلّ تضحية،
ونتوقّف عن استخدامهم كوسائل وأدوات لخدمة نرجسياتنا، وقرابين وأضاحيّ لها.
19.
لقد
جاءت ثورات الربيع العربي بالنسبة للكثير منا كثأر للماضي واستجرار لآلامه أكثر
منها انفتاحاً على المستقبل وعلى التغيير الذي لابد له أن يجلبه في طياته، ولهذا
فشلت، على الأقل في مراحلها الأولى هذه، فهي في الواقع ما تزال
مستمرة. والأمر نفسه بالنسبة ينطبق على من عارض الثورات ووالى الأنظمة، فولا
تغلغل الماضي في وعيهم وذواتهم، لأبصروا الاحتمالات الإيجابية التي يمكن للتغيير
أن يجلبها لهم فيما لو شاركوا في تشكيله.
السبت، 15 مارس 2014
أزمتنا اليوم
هناك
الكثير من الخبراء العقلانيين من صفوف اليمين واليسار ممن تتميّز تحليلاتهم
السياسية للأزمات المختلفة التي تجري من حولنا بالذكاء في معظم الأحيان، ومع ذلك،
يبدو أن معظمهم يغفل لسبب أو آخر التعامل مع القضية المحورية التي تواجهنا اليوم
وتلك النزعة التي تحرّك كل الأحداث في هذه المرحلة: حقيقة أنه عندما تقوم نخبة
حاكمة في مكان ما بارتكاب جرائم وانتهاكات كبيرة دون أن تتعرّض للمسائلة والعقاب
في هذه المرحلة من صيرورتنا التاريخية، فأن هذا الواقع سيمهّد مع الوقت طريقنا إلى
فوضى واسعة النطاق قدارة على تشكيل تهديد وجودي للبشرية جمعاء.
إذ
لايمكن لأساليب إدارة الأزمات التي استخدمناها في القرون الماضية، بما فيها القرن
الثامن عشر والتاسع عشر وحتى القرن العشرين، أن تساعدنا على التعامل بشكل ناجع
وفعّال مع التحديات التي نواجهها اليوم. لا وجود لأمم حصينة اليوم، ولا يمكن لأي
شعب أن يحمي نفسه من تبعات بعض الأزمات التي قد تبدو لوهلة محلية الطابع. لا وجود
في عالمنا اليوم لأزمات محلية إلا فيما ندر، لقد أضحت معظم الأزمات التي ينبغي
علينا التعامل معها اليوم عالمية الوقع والتبعات، لأن الإنسانية، وعلى الرغم من كل
الحدود الكائنة وتلك التي يتمّ تصنيعها بشكل أو آخر، أضحت متوحّدة الحال، خاصة
فيما يتعلّق بالتطلّعات والرغبات الأساسية للشعوب والمجموعات والأفراد المكونيين لها.
لقد أضحت أقدارنا أكثر ترابطاً وتخالطاً مما كانت عليه في أي وقت مضى. هذه هي
النتيجة الطبيعية لعولمة بدأت مذ بدأت الخليقة.
لهذا
نجد أنفسنا اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى تكوين رؤية عالمية ونظام عالمي
عادل وواضح المعالم ليساعدنا على إدارة شؤوننا من خلال مؤسّسات عالمية تعمل وفقاً
لإطر ديموقراطية وشفافة لتحقيق التطلّعات ولحفظ النظام في كل زاوية وبقعة. لقد آن
أوان البدء بالتفكير وبشكل جدّي بكيفية إنشاء حكومة عالمية تساعدنا على إدارة
التحديات التي تواجهنا اليوم والذي لم نعد نملك فيه رفاهية التعامل مع طرح هذا
النوع من خلال قصص الخيال العلمي وحسب، لإن كل أزمة تواجها اليوم من صراع الهويات،
إلى سياسات الطاقة، وتجارة المخدرات والرقيق، والكوارث البيئية المختلفة، تشير
بوضوح إلى العجز ذاته: غياب المؤسّسات الحاكمة والعادلة التي يمكننا اللجوء إليها
وقت الأزمات أو لكي نتجنّب الوقوع في الأزمات أساساً. لكن لا يمكن للأفكار التي
لاتجد من يتبنّاها أن تزدهر، وهذا هو مصدر تشاؤمي في هذه المرحلة، إذ ما
زالت النخب السياسية الحالية الفاعلة على الساحة الدولية اليوم غير راغبة في
مواجهة حقيقية الأزمة التي نمرّ بها، وبالتالي سنبقى نتصارع ونتخبّط، دون هوادة أو
وجهة.
الخميس، 9 يناير 2014
عن الفوضى الخلّاقة والحِراك الشعبي في منطقة الشرق الأوسط الكبير
قامت
مجموعة كبيرة من الباحثين الغربيين في العقد الأخير من القرن الماضي بطرح نظرية
الفوضى الخلّاقة كوسيلة للدول الغربية للتعامل مع مجموعة من الصيرورات الموضوعية
التي دلّت دراساتهم المختلفة أنها ستطرأ خاصة فيما يعرف عندهم باسم منطقة الشرق
الأوسط الكبير. ولم يدعوا الباحثون إلى تفعيل هذه الفوضى بالضرورة، كما يزعم
البعض، لكنهم وضعوا مجموعة من التصوّرات والسيناريوهات المختلفة بهدف مساعدة
حكوماتهم على التعامل معها بطريقة تسمح لهم بتحقيق مصالح شعوبهم. الموضوع إذاً
موضوع تخطيط وليس تآمر، وشتّان ما بين المفهومين.
جاءت
نبوءات أصحاب نظرية الفوضى الخلّاقة بناءاً على استقرائهم للظروف الموضوعية
السائدة في المنطقة ولاستخدامهم لمقاربات مقارنة سمحت لهم بالتنبؤ وبدقة عالية
بالمجريات المحتملة للأحداث بناءاً على تطورات مماثلة حدثت في مناطق أخرى من
العالم في فترات سابقة. كما أنهم لجؤوا إلى استخدام نظريات رياضية مثل "نظرية
اللعب"Game
Theory والتي وجد لها علماء الاجتماع تطبيقات عملية هامة فيما يتعلّق
باستقراء التطورات السياسية والمجتمعية في مختلف أنحاء العالم.
لكن
هذه المقاربة العلمية للأمور لا تعني أن الخطط التي وضعت لا تعكس في بعض الأحيان
تصورات ومفاهيم ثقافية خاطئة عن شعوب المنطقة موجودة في أذهان الخبراء والباحثين
الذين شاركوا في وضعها، وأن العنصرية المتضمنة في نظرتهم ورغباتهم الشخصية
المرتبطة بها لم تؤثّر على استنتاجاتهم. إن المقاربة العلمية شيء وصوابية القرارات
والخطط المتخذة من منطلق علمي وأخلاقي وقانوني شيء آخر.
ومن
الظروف الموضوعية العضوية التي بنى عليها أصحاب الفوضى الخلّاقة نظرياتهم
ونبوءاتهم:
لم يكن من الصعب بالنظر إلى هذه الظروف التنبّؤ بأن المنطقة ستشهد مرحلة من الفوضى العارمة قد تستمر عقوداً من الزمن، وليس من المستغرب في هذه الحال أن تقوم دول الغرب بوضع مجموعة من السيناريوهات للتعامل مع هذه المرحلة. طبعاً، كانت خيارات الدول الغربية فيما يتعلّق بهذه السيناريوهات دائماً مرهونة بالظروف السياسية الاقتصادية التي ستكون سائدة عندما انطلاق شرارة التغيير في المنطقة، وهو الأمر الذي ما كان بوسع أحد التنبّؤ به بدقة.
* تكلّس النخب السياسية
الحاكمة في المنطقة وعدم قدرتها على تطوير مجتمعاتها أو توفير قيادة فعّالة
للتعامل مع التحديات التنموية التي تواجهها.
*الانفجار السكاني الهائل
الذي شهدته وتشهده المنطقة والذي أنتج شريحة واسعة من الشباب لها تطلّعات
واحتياجات معينة لا يمكن لأي من دول المنطقة أن تلبّيها دون القيام بعمليات
إصلاحية شاملة للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية السائدة، وهو
الأمر الذي يتطلّب وجود قيادات سياسية مرنة في سدة الحكم، ممّا يعيدنا إلى النقطة
السابقة.
* لجوء الأنظمة الحاكمة
المستمر إلى منهجية فرّق تسد في الحكم ممّا كرّس الانتماءات الفئوية في المنطقة
على حساب تنمية انتماء وطني جامع في معظم دولها.
* انهيار مؤسّسات المجتمع
المدني تحت وطأة الاضطهاد السياسي من جهة والضغوط الاجتماعية المتزايدة من قبل
التيارات الدينية المتشدّدة من جهة أخرى، وهي تيارات غالباً ما اختارت الأنظمة
الحاكمة مهادنتها مجتمعياً مقابل تحييدها سياسياً.
* عدم قدرة الأنظمة
الاقتصادية السائدة على التأقلم مع متطلّبات التنمية والتحديث وانعدام الرؤى
الإصلاحية المناسبة عند الفئات الحاكمة.
* زيادة وعي الناس بالغبن
الذي يعانون منهم في ظل الأنظمة الحاكمة وذلك نتيجة انتشار الفضائيات ودخول
الإنترنيت إلى المجتمعات المحلية.
* انتشار التيارات المتطرّفة
نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة.
* اشتداد حدّة التنافس
الإقليمي ما بين مجموعة من دول المنطقة منها السعودية وإيران وتركيا ومصر في ظلّ
غياب آليات ومؤسّسات إقليمية فاعلة للوساطة وفضّ النزاعات.
* تشير السوابق التاريخية في
المنطقة، خاصّة في لبنان والسودان والصومال وسوريا في العقود الثلاث الأخيرة من
القرن العشرين، أن قابلية الارتكاس إلى الانتماءات الطائفية والفئوية عند شعوب
المنطقة، بما فيها نخبها الفكرية والسياسية، ما تزال كبيرة مما يدلّ على أنها
ستلعب دوراً هاماً في تحديد طبيعة ومسارات العملية الانتقالية القادمة.
لم يكن من الصعب بالنظر إلى هذه الظروف التنبّؤ بأن المنطقة ستشهد مرحلة من الفوضى العارمة قد تستمر عقوداً من الزمن، وليس من المستغرب في هذه الحال أن تقوم دول الغرب بوضع مجموعة من السيناريوهات للتعامل مع هذه المرحلة. طبعاً، كانت خيارات الدول الغربية فيما يتعلّق بهذه السيناريوهات دائماً مرهونة بالظروف السياسية الاقتصادية التي ستكون سائدة عندما انطلاق شرارة التغيير في المنطقة، وهو الأمر الذي ما كان بوسع أحد التنبّؤ به بدقة.
المشكلة
إذاً لا تكمن في تآمر الدول الغربية علينا، بل في إخفاقنا المستمر كشعوب ودول في
مواجهة التحدّيات التنموية في مجتمعاتنا، وفي إخفاق نخبنا الفكرية والسياسية على
إدارة عملية التحديث والعصرنة بشكل فعّال وناجع يسمح لشعوبنا أن تحقّق مصالحها وأن
تتجاوب بشكل فعّال وخلاّق مع مصالح القوى الفاعلة على الساحة السياسية والاقتصادية
العالمية. وفي الحقيقة من الصعب على نخب ماتزال غير قادرة على التمييز ما بين
التخطيط والتآمر وما بين المصالح والإيديولوجيا أن تكون مهيّئة للضلوع بأيّ دور
قيادي إيجابي في عملية التغيير الحاصلة، وستبقى سلوكياتها خاضعة لنبوءات أصحاب
نظرية الفوضى الخلّاقة، أي أنها ستبقى، على المدى المنظور على الأقل، عاملاً
مكرّساً للصراع بما فيه من تفتيت وعنف وضياع وفوضى ولن تكون جزءاً من الحلّ. وهذه
مشكلة لا علاج لها إلّا السعي لتنشئة جيل جديد من المثقّفين الشباب من مختلف
الأطياف قادرين على التفكير بحرية وخارج الأطر والأنماط التقليدية المتعارف عليها
في مجتمعاتنا.
قصتنا
طويلة إذاً ومعقّدة، ولا يشكّل الالتفاف وراء النخب والقيادات السياسية الموجودة
حالياً، والتي مهّدت الطريق بجشعها وتعصّباتها وسوء إدارتها للكوارث والأزمات التي
تشهدها منطقتنا اليوم، إلّا دلالة جديدة على قلّة الوعي والحيلة عند شعوبنا في هذه
المرحلة. ومع ذلك، مع كل ذلك، يبقى الحِراك الشعبي الذي تشهده المنطقة حالياً، حتى
في تجلّياته الأكثر المأساوية، وبكل ما فيه من أخطاء وآلام، وكلّ ما جرّه على
الناس من ويلات، يبقى خطوة ضرورية على الطريق نحو بناء أطر سياسية واجتماعية
واقتصادية أفضل لتمثيل شعوب المنطقة بآمالهم وتطلّعاتهم وطموحاتهم، هذا فيما لو
تمّ التعامل معه بشكل إيجابي من قبل بعض الشرائح على الأقل. فلقد كسر هذا الحِراك
أخيراً حالة الجمود المجتمعي التي سادت لعقود طويلة وكشف بذلك المستور فيها بحيث
لم يعد بوسعنا إنكار أزمة الهوية التي نعاني منها اليوم. فنحن شعوب ما زالت تبحث
عن هويتها الحضارية، شعوب ما زالت بحاجة لأن تتصالح في مرحلة ما مع فكرة كون البحث
ذاته مصدراً مناسباً وكافٍ للهوية، وأن تعدّد الهويات الفردية والمجتمعية يمكنه،
من خلال تبنّي هياكل سياسية مناسبة، أن يكون مصدر قوة وثروة، لا مصدر ضعف وشقاء
كما هو اليوم.
لا
يواسي هذا الكلام أحداً ولا يعزّيه في مصابه، لكنه يأتي بمثابة محاولة موضوعية
لاستقراء الأحداث والصيرورات الحالية، وربّما كان يستحق أن نوليه قدراً من
الاهتمام.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)