‏إظهار الرسائل ذات التسميات سوريا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سوريا. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

عن الإمبريالية والديموقراطية (2)


الحرة / من زاوية أخرى – ناقشنا في المقالة السابقة ظاهرة الإمبريالية التقليدية وكيف اختار الغرب التعامل معها في النصف الثاني من القرن العشرين، ونوهنا إلى تفرد الغرب إلى حد ما في تعامله الأكثر مرونة مع هذه الظاهرة، الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على آليات صنع القرار في الدول الغربية وعلى طبيعة القرارات نفسها، وذلك في ذات الوقت الذي تصر فيه دول مثل روسيا والصين على تبني سياسات إمبريالية الطابع بغرض الحفاظ على إمبراطورياتها الموروثة، بصرف النظر عن إرادة شرائح واسعة من مواطنيها.

ولا تقتصر النزعة الإمبريالية على الدول العظمى فقط. فهي كما نوهنا نابعة من التركيب الجيني للدول والتجمعات البشرية عموماً. بل ما تزال هذه النزعة مسؤولة عن تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للدول في معظم أنحاء العالم، وبوسعنا أن نرى تجليات هذا الوضع في منطقتنا، أي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في الكيفية التي تتعامل بها دول المنطقة مع بعضها البعض، والتي لا تراعي مفهوم السيادة في الكثير من الأحيان، وفي كيفية تعامل السلطات المركزية في بعض الدول مع مناطق وشرائح اجتماعية بعينها. ولهذا بوسعنا أن نتكلم عن مظلومية كوردية في كل من تركيا وإيران، ومظلومية أمازيغية في شمال إفريقيا، ومظلومية أهوازية وبالوشية في إيران، إلخ.

وما بوسعنا أن نتجاهل في هذا الصدد أيضاً أن المملكة العربية السعودية قامت على أساس نجاح تحالف مناطقي/قبائلي معين في فرض إرادته وسيطرته على أراضي قبائل أخرى. ويتوقع بعض الخبراء الدوليين أن تعود هذه القضية المناطقية/القبائلية وتفرض نفسها على الساحة من جديد في المستقبل القريب مؤدية إلى تفتت السعودية وانهيارها إلى خمس دول.

لكن، وبصرف النظر عن مدى صوابية هذه التوقعات، يبقى الهدف من وراء إثارة قضية الإمبريالية هنا التنويه إلى أمرين أساسين، أولهما الطبيعة المعقدة لذلك الجدل الكبير حول ظاهرة الإمبريالية في الغرب الذي ما يزال محتدماً فيه منذ أكثر من قرنين، وما يزال له تأثيره الكبير في تشكيل السياسات الغربية. ولا ننسى في هذا الصدد نجاح المعسكر المناهض للحرب في المملكة المتحدة في إفشال القرار البرلماني بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري عقب الهجمة الكيماوية في الغوطة في آب 2013، وهو الحدث الإشكالي الذي تم فيه الخلط ما بين مفهومي الإمبريالية والتدخل الإنساني، الأمر الذي يكشف لنا مدى تعقيد الجدل الدائر في الغرب في هذا الصدد.

لكن، وفيما يستمر الجدل حول الإمبريالية في دول الغرب، لا يخفى علينا ذلك التغييب المستمر لأي حوار جدي حول هذا الأمر في معظم الدول الأخرى، إلا في ما يتعلق بإدانة بل وتجريم التجربة الغربية. لا وجود هنا لأي بعد أو انعكاسات داخلية لهذا النقاش، أو لأية محاولة لإلقاء الأضواء على الإرث والتجربة التاريخية الوطنية. فالإمبريالية بالنسبة لهذه الدول جريمة تُرتكب بحقها فقط ولا يمكن لها أن تنبع عن ممارساتها وسياساتها، هذا على الرغم من إصرار هذه الدول على الاحتفاء بماضيها الإمبريالي "المجيد" ومحاولتها اليائسة الحفاظ على ما تبقى من "مكتسباته،" مادية كانت أو معنوية.

إنها لثنائية خطيرة بالفعل، لكنها إن دلت على شيء فعلى ضرورة الربط ما بين قضية بث الثقافة الديموقراطية من جهة، وقضية مناهضة الإمبريالية من جهة أخرى. فالإمبريالية على أرض الواقع، وبخلاف الخطاب الإعلامي والثقافي السائد عالمياً، تبقى أكثر ارتباطاً بسياسات الدول الاستبدادية منها بسياسات الدول الديموقراطية. والدليل أن الولايات المتحدة تخطط هي وحلفاؤها لمغادرة العراق منذ اللحظة الأولى لغزوه، في حين جاءت القوات الروسية إلى سوريا وفقاً لاتفاقيات تسمح لها بالبقاء لأجل غير مسمى، بل وبتوسيع قواعدها ونفوذها أيضاً. وتنطبق الملاحظة نفسها على الوجود الإيراني في سورية أيضاً.

علينا أن لا نسمح للأخطاء التي ترتكبها الدول الديموقراطية ولفشلها الحيني في لجم نزعتها الإمبريالية أو العدوانية، بصرف النظر عن الأسباب والمبررات، أن تعمينا عن ضرورة التحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول، وعن ضرورة تبني الثقافة الديموقراطية ككل، في مواجهاتنا المتكررة مع تلك الأنظمة والدول التي ما تزال سياساتها الداخلية والخارجية تنم عن نزعة إمبريالية متجذرة لم تخضع بعد لأي مراجعة فكرية أو أخلاقية.

وما لم يتماش العمل من أجل نشر الديموقراطية مع العمل على مناهضة الإمبريالية التقليدية سنجد أنفسنا نقع مراراً وتكراراً في مطب الخلط ما بين الإمبريالية وبين التدخل الإنساني أو ضرورات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو غيرها من القضايا التي تتطلب بطبيعتها تدخلاً إقليمياً أو دولياً ما، الأمر الذي يؤدي إلى خلق فراغ وتبني سياسات تصب في خاتم المطاف في مصلحة القوى الإمبريالية والاستبدادية في جميع أنحاء العالم. ولنا فيما حدث ويحدث في سورية خير مثال على ذلك.

الجمعة، 29 أبريل 2016

لم ولن يتساووا


تعدّد القتلة في سوريا لكن لم ولن يتساووا. لماذا؟ لنفس السبب الذي يجعل القانون والمجتمع يفرقان بين من قتل عمداً فرداً، أو حتى مجموعة من الأفراد في ذات العملية، والقاتل المتسلسل الذي يتبنى طقوساً ومنهجية معينة في القتل، ويستمر فيه حتى يموت أو يقبض عليه، أو يتوقف من تلقاء نفسه لتغير ما في مزاجيته المريضة الخاصة. والدافع وراء هذا التمييز هو إدانة العقلية المريضة المسؤولة عن تصرفات القاتل المتسلسل، وإدانة منهجية القتل ذاته: أي تحويله إلى صناعة "طبيعية،" أو نشاط مثل أي نشاط آخر يقوم به الفرد للمتعة أو التنفيث أو التهجد.

لقد أصبح القتل عند نظام الأسد وحلفائه صناعة، ووحدها داعش تتبنى منهجية مماثلة، وإن على نطاق أضيق بكثير لضيق إمكانياتها بالمقارنة مع الإمكانيات المتاحة للنظام وحلفائه.

لا يستوي الارتجال والمنهاج. وكل ما أرجوه اليوم أن لا تحاول بقية أطراف الصراع في سوريا أن تمنهج عملها في هذ الصدد أيضاً، فهناك فرق ما بين تنظيم العمل العسكري، الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط له أيضاً، ومنهجة القتل، التي تتطلب تغييب إنسانية الطرف الآخر، وبالتالي إنسانية الطرف القاتل أيضاً. فالمنهجة إذن تعني أن المرض قد تفشى، وإن الجميع قد خسر، خسروا إنسانيتهم أولاً ثم الحرب، بسبب خياراتهم ذاتها.

ولا ننسى أن مصطلح الإنسانية المستخدم هنا يدل على تطلع داخلي عميق وقديم نحو الأفضل، نحو أن نصبح نحن كبشر: أفضل، أن نكون بطبيعتنا التي سميناها باسمنا: أفضل. إن خسارتنا لهذا التطلع هي خسارتنا لمعركة الوجود ذاته، لأنه سيصبح بعدها بلا معنى، في حين تتجلى الميزة الأساسية للوعي الإنساني في البحث المستمر عن المعنى.



الأحد، 17 أبريل 2016

قصة اغتيال معلن


في مثل هذا الوقت تقريباً من العام الماضي، طرحت رؤية لحل سياسي في سوريا تشمل تأسيس حكومة انتقالية، وعرض رسالة على الأسد مفادها الاستقالة من منصبه مقابل البقاء في سوريا، وتحديداً في المناطق المؤيدة، مع تحييد دور دمشق كونها العاصمة التي ينبغي أن تسمح بتمثيل كل الأطراف فيها. لم أتطرق لموضوع العدالة الانتقالية بشكل مباشر راغباً في أن تقوم الأطراف الدولية باستخدامها كورقة للضغط على الأسد لإقناعه بالقبول بالطرح. كان يمكن لهذا الطرح أن ينفع على الرغم من التدخل الروسي، لكن تعنت الأسد يجعل هذا الطرح مستحيلاً اليوم، بل يبدو من الواضح أن الاغتيال، وعلى أيد صديقة، بات هو الحل الوحيد لمعضلة الأسد.

أنا لا أدعو إلى هذا بالطبع، بل إني أفضل خيار المحكمة الدولية، لأنها تشكل رسالة أقوى إلى المستبدين الآخرين في هذا العالم أن العدالة قادمة لا محالة، لكن الدول الصديقة للأسد هي التي تجد حرجاً في الاحتكام إلى القانون الدولية، وهي التي ستضطر، مقابل الحفاظ على مكاسبها في سوريا، إلى التضحية بالأسد. لأن تعنت الأسد يحرجها بأكثر مما يحرج الأطراف الأخرى، خاصة الولايات المتحدة. إذ ما لم تتمكن من وضع حد لصلفه، بعد كل ما قدمته له من دعم، لا بد وأن تتأثر مصداقيتها عند الأطراف الأخرى، الأمر الذي سيكون له انعكاساته السلبية على ما يجري من حوارات حول حزمة هامة من القضايا العالقة.


الأحد، 3 أبريل 2016

سوريا والحوار المغيَّب حول تفاعلات الهوية والطائفية، والأقليات والأكثرية


أثبت تاريخنا المعاصر أنه لا يمكن للأقليات الدينية أو الطائفية أن تكون حامل العَلمانية في مجتمعاتنا إن إردنا لهذه المجتمعات أن تكون ديموقراطية أيضاً. كما لا يمكن للأكثرية الدينية أو الطائفية في مجتمعاتنا أن تكون ديموقراطية حقاً ما لم تكن عَلمانية أيضاً، لكن، لا يمكن لهذه الأكثرية أن تتبنى العَلمانية ما بقيت الأخيرة تستخدم كمبرر فكري وسياسي لاستبداد الأقليات، وما بقي مفهوم العلمانية بحد ذاته مشوهاً في أذهان الأقليات والأكثريات على حد سواء.

فالنزعات الأصولية المتشددة عند الأقليات في مجتمعاتنا لا تقل في الواقع تشدداً عما نراه عند الأكثريات، وإن اختلفت المظاهر، وأحياناً المسوغات. ففيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية مثلاً، لا يقل رفض الأقليات الدينية لها عنفاً عنه عند الأكثرية المعنية. علاوة على ذلك، تقوم بعض الأقليات باستخدام اختلاف عاداتها وتقاليدها وأعرافها، و/أو مظلوميتها التاريخية الخاصة، كمبرر لازدراء الأكثرية وحقوقها وللتشكيك المستمر بنواياها مستغلين وجود شرائح متشددة في صفوفها، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى نشأة هذه الشرائح، وعن رفض الأكثرية المعنية لها كونها تشكل تهديداً لهذه الأكثرية أيضاً.

ويهيمن عند هذه الشرائح المتشددة في صفوف الأكثرية مفهوم للعلمانية يجعلها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية لهذه الأكثرية، خاصة في تلك الحالات التي تصر فيها النخب الثقافية عند هذه الشرائح على فكرة حصر "الحاكمية" بشرع الله، مما يقتضي أن تقوم الدولة على أساس الدين. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطائفة السنية، فالشيعة أيضاً يعانون منها تحت مسمى ولاية الفقيه، ومسميات أخرى.

لكن، إلى أي حد تمثل هذه الشرائح الأصولية المتشددة الطائفة التي تنتمي إليها، وما هو مدى نفوذها وتأثيرها؟

بصرف النظر عن طبيعة الإجابات التي يمكن أن تنشأ عن التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة، تكمن المشكلة الحقيقية في وجود إجابات مسبقة عليها عند الجماعات الطائفية المختلفة، إجابات لها مصداقية ووقع في نفوس المعنيين بها أكبر من أية معايير موضوعية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد.

ففي سوريا مثلاً، ترى أن وجود هذه الشرائح الأصولية عند أهل السنة يشكل سبباً كافياً عند الأقليات الدينية والطائفية  السورية لعدم الثقة بهم نهائياً فيما يتعلق بإدارة الدولة وأجهزتها الحساسة، خاصة القطاعات العسكرية والأمنية، بصرف النظر عن الحجم الديموغرافي الحقيقي لهذه الشرائح، وحقيقة كونها تشكل أقلية ضمن الأكثرية، وبصرف النظر عن وجود شرائح سنية واسعة حافظت على ولائها للأسد أبان الثورة، وأخرى صامتة. من هذا المنطلق جاء شعار "الأسد أو نحرق البلد،" والشعار الأفصح منه "كس أخت الحرية،" علاوة على هالة القداسة التي أسبغت على البسطار العسكري، لتشكل أصدق وأجلى تعبير عن المخاوف التي تجول في نفوس الأقليات في هذه المرحلة، بحيث يصبح اختيار العيش في ظل الفساد والقمع الممنهجين لنظام الأسد، أو حتى اختيار الفوضى والتفتيت، خير من حكم أهل السنة. وتأتي جهود النخب الأقلوية المثقفة لتقديم الكثير من التحاليل "العقلانية" لتبرير هذا الموقف الشعبي لطوائفهم كمؤشر على الكيفية التي يتم من خلالها تجنيد العقل لخدمة الخوف والعصبوية أولاً وأخيراً. ففي الواقع، هناك تغييب في هذه التحليلات، متعمد عند البعض، لكنه غير واعٍ عند السواد العام، بصرف النظر عن مكانتهم الفكرية، لكل المعطيات التي تناقض افتراضهم الأساسي حول طبيعة الثقافة السنية التي تبقى، من وجهة نظرهم، متعجرفة، وعنصرية، واستبدادية الطابع، وغير قابلة للتحديث، وذلك بخلاف الاعتقادات السائدة لدى معظمهم حيال عقائدهم الخاصة، والتي يخالها الكثير منهم أقرب إلى الحداثة أو  الإصلاح من عقائد أهل السنة. فقبول الشيعة الجعفريين بتساوي حصة المرأة والرجل في الإرث يجعل معتقداتهم أقرب إلى الحداثة، وكون العلويين أقل تعلقاً بمعتقداتهم الدينية يحعلهم أقرب إلى الحداثية، وكون المسيحيين مسيحيين يجعلهم أقرب إلى الحداثة لأنها الغربية المنشأ، والغرب "مسيحي." إن هذه الطروح على سذاجتها الصارخة تعتبر من المسلمات.  


لا يترك هذا الأمر  مجالاً كبيراً أمام أهل السنة للدفاع عن أنفسهم أو تبريرها. والواقع أنهم ليسوا أبرياء تماماً، فالسلطة مورست باسمهم في البلاد، أي سوريا الطبيعية، حتى ما قبل تأسيسها في العصر الحديث، على مر قرون من الزمن، ولا شك في أن لهذا الواقع  أثره الكبير على أنماطهم السلوكية والفكرية العامة، أنماط قد تغيب عن انتباههم، لكنها لا تخفى على الأقليات. فـ "نون" الجماعة التي غالباً ما تستخدم في الخطاب السوري الرسمي الموجه للعموم، وفي معرض الكلام العام عن "ثقافتنا" و "قيمنا" و "مبادئنا و "همومنا"... تشير في الواقع إلى الثقافة والقيم والمبادئ والهموم كما يفهمها أهل السنة بالدرجة الأولى، بل المحافظون والمتدينون والمدينييون منهم على وجه الخصوص. ولقد سعى نظام الأسد عن قصد وإدراك وبشكل منهجي إلى تكريس هذا الواقع لما فيه من تهميش لثقافات وقيم وتطلعات الأقليات بالذات، مما لا يترك أمامها إلا خيار الاصطفاف وراءه.

وإن كانت الخيارات الإيديولوجية السياسية للأقليات تعكس إلى درجة ما مخاوفها حيال الأكثرية، أهل السنة في الحالة السورية، فقلما عكست الخيارات السنية، حتى الآونة الأخيرة على الأقل، تفهماً حقيقياً وعميقاً لهموم ومخاوف وتطلعات الأقليات الدينية والطائفية في البلاد، ناهيك عن الأقليات القومية، ولكونها تختلف في جوهرها وفي الكثير من تفاصيلها عن نظائرها عند أهل السنة. وفي هذا الأمر بحد ذاته دلالاته الخاصة التي تسبغ بعض الشرعية على مخاوف وشكوك الأقليات حيال أهل السنة.

لكن المشكلة الأكبر تكمن في رفض الأقليات الدينية والطائفية التعامل الصريح مع هذه القضية حتى اليوم، أي في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من أهل السنة يشعرون بأهمية وحقيقة وخطورة هذه القضية، قضية حقوق الأقليات والترتيبات المتعلقة بحمايتها، وأصبحوا يبدون استعدادهم للتعامل بانفتاح أكبر معها، وإن اختلفت طروحاتهم في هذا الصدد. وربما يكمن السر وراء هذا الرفض الأقلوي لطرح حقوقهم على مائدة البحث بشكل صريح ومن خلال مناقشة ترتيبات بعينها يمكن لها أن تضمن حقوقهم في المستقبل في أن هذا الأمر يشير بوضوح إلى وجود عامل أصولي و "رجعي" في فكر وسلوكيات الأقليات أيضاً، وهو الأمر غير المقبول من قبل النخب المثقفة والسياسية عند الأقليات التي تصر على إلصاق تهمة الأصولية والرجعية بالأكثرية السنية حصراً، في الوقت الذي تطرح فيه هذه الأقليات نفسها، عن طريق نخبها الفكرية والسياسية، كرائدة التطور والتقدم والتحديث في سوريا، بل والمنطقة. لذا، ترفض هذه النخب، في خطابها على الأقل، وبصرف النظر عن طبيعة الممارسات السياسية للنظام الذي حكم سوريا بإسمها وبذريعة ضمان أمنها عبر العقود الماضية، التعامل مع قضية "حقوق الأقليات،" وتصر على اكتفائها بمفاهيم المواطنة والمساواة. ويشكل هذا الإصرار، من الناحية العملية، رفضاً لأي بديل لما هو قائم: نظام استبدادي يحكم باسم الأقليات، ويقمعها أيضاً ليكرس قبضته عليها ويمنعها من إفراز أية بدائل داخلية له، لكنه يختص بالذات ويتفنن في قمع الأكثرية.

لقد ساهم الإحساس بالمظلومية التاريخية حيال أهل السنة في صنع هوية أقلوية معاصرة ترضى لنفسها العيش تحت نير الاستبداد، طالما بقي أهل السنة بعيداً عن سدة الحكم، بصرف النظر عن الاعتبارات الديموغرافية والحقوقية والإنسانية، أو عن بوجود عوامل مشتركة في الهويات الجمعية لدى الجميع.

لقد أصبح شعور الأقليات الدينية والطائفية في سوريا بالأمان مرتبطاً ببقاء أهل السنة في القفص وتحت حكم البسطار العسكري. أضف إلى ذلك، ونظراً للكيفية التي استخدمت بها القوى الخارجية في السابق، واليوم، قضية حقوق الأقليات وحمايتها كمبرر لحملاتها الاستعمارية والاستيطانية في البلد والمنطقة، يبدو من الطبيعي أن تتجنب النخب الممثلة للأقليات أي طرح صريح يمكن أن تشتم منه رائحة التقسيم والسياسيات التفضيلية، إذ لا تريد  هذه النخب أن تتهم بأنها طابور خامس يسعى لخدمة مخططات خارجية. وإن كانت الوقائع منذ بداية الثورة تشير إلى أن من يحكمون سوريا باسم الأقليات كانوا هم السباقين إلى الاستعانة بقوى الخارجية لحمايتهم، وأنهم هم من يخلق وعن قصد واقع التقسيم على الأرض، وهم من قام بحملات تطهير عرقي قبل غيرهم، وعلى نطاق أوسع، وأحرقوا خاصة تلك المناطق من البلاد التي يسكنها أهل السنة، وأنهم هم من سعى ومن اللحظة الأولى لنهجهم القمعي حيال الثورة إلى تأمين تلك المناطق التي تسكنها أقلية بعينها، وتعتبرها موطنها الأصلي. 

هكذا، وبسبب وجود موقف عدائي مسبق من الأغلبية السنية، وبسبب جهل النخب الفكرية والسياسية السنية لهذا الواقع بمضامينه المختلفة، أو تجاهله، وبسبب التبني المسبق من قبل الجميع لنظريات المؤامرة التي، وإن كان لها مبررات تاريخية، ساهمت رؤانا المؤدلجة في تضخيمها إلى درجة لم نعد نعي فيها مقدار مساهمتنا في بناء واقعنا المعيشي والسياسي، وأنا نتحمل القسط الأكبر عما يجري في حياتنا وما يقع علينا من ظلم، كان من السهل على البعض منا تصديق أكاذيب الأسد حول "المندسين" و "المؤمرات الكونية،" ومن السهل على البعض الآخر الإنجرار وراء الأحلام الغيبية والرؤى المتشددة. لقد ساهم انغلاق الأقليات على نفسها لقرون سابقة، نتيجة للنظام المللي العثماني الذي حماها وعزلها في آن، على الأقل في أواخر عقوده، وعلى الرغم من انفتاحها على المستعمر الفرنسي خلال وجوده في البلاد، والذي ترك رحيله عندها إحساساً بالخذلان طالما تجاهلته أدبياتنا، بل على العكس، ظهر تيار فكري وأدبي ركز على تواطئ بعض التجار السنة مع المستعمرين الفرنسيين، فيما تم تجاهل التواطئ الأقلوي الأعمق والأكثر شعبية، ساهم هذا الانغلاق  في تكوين مظلومية حادة عند الإقليات الدينية والطائفية في سوريا مبنية على أساس تراكمي تحكمه المزاجيات والذاكرة الجمعية النفعية والمكرسة للعصوبية الخاصة بكل فريق، أكثر من الحقائق التاريخية والتمحيص والتحليل الموضوعي لها. بمعنى آخر، هناك الكثير من الأوهام إلى جانب الحقائق في إحساس الإقليات بالمظلومية، والكثير من التحامل على فئة مسحوقة مثلهم، حتى وإن كانت تشكل الأكثرية.

ولهذا، لن يقدم ممثلو الأقليات المقبولين شعبياً (إذ لا تهم في إطار هذا التحليل هنا المواقف الفردية لبعض الشخصيات طالما بقي نفوذهم ومصداقيتهم على المستوى الشعبي محدوداً للغاية) أي حل منطقي للأزمة، وسيدأبوا على رفض المقترحات والرؤى الموضوعة من قبل التحالفات التي تشرف عليها الأكثرية، لأنها ستبقى دائماً مقصرة، خاصة وأن الحل المثالي الذي ترتاح إليه الأقليات يبقى مرتهناً، كما نوهنا آنفاً، إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، مهما كانت سيئة. فمن الأسهل على الأقليات من الناحية النفسية أن تتمسك بإيمانها بأنها الضحية الأساسية لأهل السنة ولطموحات الأسد ومن حوله وفسادهم، ولثلة من المؤامرات الخارجية من الدول ذات الأغلبية السنية، مثل تركيا والسعودية وقطر، علاوة على أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من أن تواجه حقيقة مساهمتها الملوسة في صنع هذا الواقع.  باختصار، سيبقى ممثلو الأقليات في خطابهم العام يتمسكون بالوحدة والسيادة الوطنية، لكن ستبقى أفعالهم وخطابهم الداخلي الخاص يمهد للتقسيم والتفتيت والفوضى والإرهاب، حتى ذلك الممارس باسم أهل السنة ونصرتهم، وذلك  من خلال تورط النظام في إنشاء وتشجيع الجماعات الإرهابية. فالخوف هو الحاكم هنا: الخوف من أهل السنة، المضطهِد والظالم والمذنب الأول بحق كل الأقليات، كما يرى السواد الأعظم فيها.


ولقد ساهمت كل هذه الاعتبارات من ناحية، والنزعة أو العقلية "المركزية" عند أهل السنة من ناحية أخرى، والتي تضعهم دائماً، كما هي الحال مع سائر الأكثريات التقليدية، في مركز الصيرورات وعلى قمة الهرم، وهي الحقيقة التي تتجلي دائماً في تصرفاتهم وسلوكياتهم وكيفية اتخاذهم للقرارات التي تنم كلها عن فوقية وعنجهية يشعر بها الجميع ما خلا أصحابها... كل هذه الأمور والاعتبارات ساهمت في تشكيل ذلك الاتفاق الضمني الذي يبدو أن النخب الفكرية السياسية والاجتماعية والدينية التي شاركت في عهد التأسيس لسوريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قد توصلت إليه بطريقة أو أخرى.

ويتجلى هذا الاتفاق في التناسي المنهجـي لطبيعة التحولات السياسية المختلفة التي ساهمت في تشكيل الدولة السورية الحديثة، بما فيها الخلافات والحوارات التي دارت بين النخب السياسية والاجتماعية المختلفة حول طبيعة الدولة، والكيفية التي تم من خلالها الاتفاق على تأسيس دولة واحدة وليس دولتان، أو ثلاث، أو أربع، وتغييب الكثير من الأحداث التي ساهمت في تشكيل الوعي آنذاك، مثل أسباب محاكمة وشنق عضو البرلمان سلمان المرشد، العلوي الأصل والمنشأ، بعد مرور أقل من ثلاث أشهر على إعلان استقلال دولة سوريا بتهمتي الخيانة والردة، ومثل التفاصيل المتعلقة بالإنقلابات العسكرية المختلفة وأسبابها الحقيقة، إلخ. فالكتب المدرسية والجامعية، سواء تلك التي أنتجت في المرحلة البعثية أو التي جاءت قبلها، لم تتعامل أبداً بشكل موضوعي مع المرحلة التأسيسية، هذا علاوة على تغييب أو منع الكتب والمذكرات التي كتبتها الشخصيات السياسية والفكرية التي عاصرت هذه المرحلة الهامة وساهمت في تشكيلها. ومما لا شك فيه أيضاً وقوع الكثير من التزوير والتشويه في بعض هذه الكتابات خاصة تلك التي ما تزال متداولة بشكل مفتوح.

خلاصة الكلام: إن مسألة التنوع الطائفي وحقوق الأقليات، بل حقوق جميع المكونات، الآن وقد أصبح لأهل السنة في سوريا مظلوميتهم الخاصة حيال باقي المكونات، أهم من يتم التعامل معها عن طريق تفادي الغوص في التفاصيل، وتجاهل المظلوميات المتراكمة والانطباعات النمطية الخاطئة، والاصرار على التمظهر بالتمدن من خلال تبني شكلياته وتجاهل فحواه. لن تفيدنا في الفترة القادمة الدساتير والاتفاقيات والوثائق التي تضعها النخب من خلال حوارات ونقاشات مغلقة، نحن بحاجة إلى عقد حوار مفتوح حول مجمل قضايانا، بالتركيز على قضية تنوعنا بالذات، قبل تبني أية وثيقة نهائية. إن أية محاولة لتناسي الإشكالات والعوامل التي ساعدت على اندلاع الحرب الأهلية في ربوعنا، وسمحت بالتدخل الخارجي فيها، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الماضي وبالتالي إلى التمهيد إلى صراع جديد في المستقبل.

وحتى ذلك الحين، علينا أن نحسن التعامل مع عهد الانتداب الجديد والمتنوع، المباشر منه وغير المباشر.

الخميس، 31 مارس 2016

ملاحظة مختصرة حول مسألة إعادة التوطين

لاجئون سوريون في بلغاريا

من الناحية العملية، تشكل إعادة توطين مئات الألوف من اللاجئين السوريين اعترافاً ضمنياً بالطابع الجديد لبعض المناطق في البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً، وتكريساً لهذا الواقع. لكن الهدف الحقيقي منها هو محاولة تحسين الظروف الإنسانية والمعيشية لهؤلاء اللاجئين. فالمعضلة التي تواجهنا هنا والآن، والتي ستبقى تواجهنا لفترة طويلة كسوريين، تكمن غب أن متطلبات النشاط الإنساني باتت تتعارض في بعض جوانبها مع متطلبات العمل السياسي، وما علينا أن نختار ونحسن الخيار.

بالنسبة لي، أرى أن الاعتبارات الإنسانية أهم في هذه المرحلة، لأنها لن تتعارض مع متطلبات السياسة على المدى الطويل، وذلك في حال نجاحنا في طرح رئاً سياسية مناسبة للمستقبل، وعمّقنا فهمنا للكيفية التي ينبغي علينا أن نعين من خلالها أولوياتنا للعمل في المراحل القادمة. 

الأربعاء، 30 مارس 2016

"النصر" و "الهزيمة" في عالمنا المعاصر

لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): عائلة الإمبراطور الفارسي داريوس تركع أمام الإسكندر المقدوني بعد انتصاره. 

النصر بمعناه التقليدي المألوف لدينا من خلال الأساطير و "الحواديت" التاريخية المنتشرة في ثقافتنا يقتضي عادة هزيمة الطرف الآخر بشكل تام وماحق يشمل السيطرة على المناطق التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما بشكل تام، وربط مصيره بمزاجية قائد الجانب المنتصر وحساباته المرحلية الخاصة.

وفقاً لهذا التعريف، ولاستقرائي الخاص للواقع القائم اليوم، بوسعي أن أؤكد أن ما بوسع أي طرف من أطراف النزاع الحالي في سوريا، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين، أن يحقق هذا النصر مهما فعل.

فتحقيق نصر من هذا النوع، وهو الأمر الذي يشتهيه كل طرف محلي، لا يحقق بالضرورة مصالح حلفائه، الإقليميين والدوليين، ولا ينسجم مع متطلبات مصالحهم أو مع حساباتهم الخاصة بالتطورات والتوازنات القائمة في بلدان ومناطق أخرى. إن هذه الاعتبارات تحتم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع السوري القيام بـ "إدارة الصراع" لا محاولة حسمه لحساب أي طرف، لأن الهدف بالنسبة لهم لا يتجاوز إجراء تعديل، أو تعديلات، ما في التوازنات القائمة، لا السعي وراء انهيارها، لما في ذلك من انعكاسات سلبية محتملة على الجميع. علاوة على ذلك، هناك إدراك أعمق عند الكثير من هذه الأطراف، بالمقارنة مع اللاعبين المحليين على الأقل، لحجمهم الحقيقي من الإعراب، سياسياً واقتصادياً وبنيوياً، وبالتالي لأي مدى يمكن لهم المغامرة بالتدخل وقلب الموازين.

من ناحية أخرى، هناك عامل جدي آخر لابد من التنويه إليه هنا لتأثيره المباشر على معظم القرارات المتخذة فيما يتعلق بكيفية إدارة الصراع في سوريا، ألا وهو عامل الثقة، سواء بالنوايا أو بالقدرات. ففي حين يبدو أن بوسع الأطراف الإقليمية والدولية أن تثق ببعضها البعض إلى حد معقول، بسبب التاريخ الطويل لتفاعلاتها المشتركة،  الودية منها والعدوانية، وإدراك معظمها بشكل أو آخر لضرورة الحفاظ على بعض، إن لم نقل معظم، التوازنات القائمة بينها، وتجنب التسرع والتهور في المحاولات الجارية لتعديلها، لا يبدو أن لدى أي من هذه الأطراف ثقة كبيرة بالجهات المحلية التي يدعمها لا من حيث النوايا، ولا من حيث الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها في حال تحقق لها النصر الحاسم والنهائي، ولا من حيث القدرة على تحمل مسؤولية الحكم في المرحلة التالية.

فإن كان حلفاء الأسد يريدون له أن يبقى في هذه المرحلة، فهذا لا يعني أنهم يثقون به ويريدون له أن ينتصر. بل هم يفضلون له أن يبقى في حاجة مستمرة إليهم حتى يتعبوا هم منه، ويتمكنوا من إيجاد معادلات أخرى للسيطرة على المناطق التي يرغبون بها في البلد عن طريق شخصيات وتوازنات داخلية أخرى. أي أن الأسد بالنسبة لهم لا يزيد عن كونه ستار يمكن له أن يخفي وراءه أهدافهم الحقيقية ومساعيهم إلى تقسيم سوريا لمناطق نفوذ خاضعة لهم، بشكل أو آخر: المناطق الساحلية لروسيا، والمناطق الجنوبية والوسطى لإيران وميليشياتها الشيعية المتطرفة، بحيث تحظى أخيراً بممر  بري يصل طهران بالبقاع وبيروت، عن طريق بغداد وتدمر وحمص ودمشق، خاضع لسيطرة مباشرة من قبل ميليشياتها الطائفية.

ويمثل الأسد أيضاً ورقة ضغط يمكن استخدامها في العملية التفاوضية للتسويف وللتحصل على تنازلات من حلفاء الجهات المعارضة إلى أن يأتي الوقت المناسب لحرقها. وقد تكون اللحظة قد اقتربت، بالذات لأن الأسد يبدو غير قادر على إدراك ذلك، ومايزال يتكلم ويتصرف وكأنه سيد الموقف. 

أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة، بشكل أو آخر، فإن لم تكن الحقيقة واضحة فيما قبل، فلابد أنها قد أصبحت واضحة اليوم: إن دعم هذه الدول للمعارضة كان دئماً مشروطاً برؤيتها الخاصة للكيفية التي ينبغي من خلالها إدارة الحكم في سوريا في المرحلة التالية.

لوحة للرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (1798-1863): سقوط القسطنطينية على أيدي الصليبيين في 12 نيسان/أبريل، 1204.

إذ سعت كل من تركيا وقطر إلى تحقيق انتقال يضمن استمرار الدولة المركزية لكن تحت سيطرة إخوانية "مدنية"، بحيث لا يتحقق للإكراد ما يريدون، أي دولة لامركزية أو فيدرالية، ولا يتحقق للقوى العلمانية ما تريد: دولة علمانية ديموقراطية. من هذا المنطلق جاءت سياسة العزل التي مارسها الأتراك بحق الضباط المنشقين، العلويين منهم خاصة، بالتوا زي مع محاولاتهم المستمرة لاختيار مَنْ من الضباط السنة يمكن لهم دعمه، أو بالأحرى، مَنْ منهم يبدي انفتاحاً على موضوع التعامل مع الإخوان والقبول بسلطتهم السياسية. ولنا في ما حصل مع الضابط حسين هرموش، مؤسس حركة الضباط الأحرار، خير مثال على الكيفية التي قامت بها السلطات التركية بالتلاعب بالمنشقين وتحييد من لم يرق لها منهم. وإن لم يقدر لهذه المحاولات أن تنجح تماماً، فهي لم تخفق كلية أيضاً.

أما السعودية، فكانت معنية أكثر بدعم التيارات السلفية على حساب حركة الإخوان المسلمين، لا لأسباب دينية، لكن لأن الإخوان، كما أبدوا في مصر، كانوا دائماً على استعداد لإيجاد صيغة تعاونية ما مع إيران من منطلق السياسة الشرعية، أما التيارات السلفية الوهابية فيمكن للسعودية الاعتماد عليها أكثر في هذا الصدد بسبب عدائهم الأعمى للشيعة، مما يضمن قيام حكومة غير مهادنة لإيران بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وهو الهدف الأساسي للسعودية فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، في حين لا تمثل قضية الفدرلة عائقاً كبيراً بالنسبة لحكامها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد أبدت إدارة أوباما تخوفها من الملف السوري منذ اللحظة الأولى، بسبب اهتمامها الأكبر بالمفاوضات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي، ورؤيتها الإيديولوجية التي تصور لها إمكانية إعادة تأهيل إيران كلاعب إقليمي هام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لاعب يمكن التعويل عليه لتحقيق الاستقرار في المنطقة في المستقبل، لاعب لا يمكن لمشاغباته المتكررة أن تكون مصدراً كبيراً للإزعاج، خاصة بعض تجميد وتحجيم برنامجه النووي، لأن صبغته الديموغرافية والسياسية، أي كونه بلداً شيعياً محكوماً من قبل نخبة دينية، ستحد من قدرته على التأثير على الصيرورات المختلفة من حوله، وستمنعه من التحول إلى مصدر للقلق. وفي حال تمردت إيران وأصرت على لعب دور أكبر من حجمها، سيتم تذكيرها بمدى هشاشتها من خلال تقديم دعم حقيقي للمعارضات المختلفة فيها. فإن بدت إيران مستقرة اليوم فذلك بسبب وجود إرادة دولية، غربية بل أمريكية على وجه التحديد، تحبذ ذلك، وليس لأنها تملك مقومات الاستقرار بالضرورة. وهناك ما يكفي من الحصافة عند قادتها ليدركوا حقيقة الأمر. على الأقل، هذه هي رؤية الإدارة الإمريكية الحالية والواقعيين السياسيين للأمور.

من ناحية أخرى، ما كان بوسع الإدارة أن تترك الحكم في بلد محوري مثل سوريا يقع في أيدي معارضة متخبطة كالمعارضة السورية، معارضة لا تملك أية مقومات تؤهلها للتعامل مع الملفات المعقدة المتعلقة بشكل أو آخر بسوريا. لذا، نرى الإدارة مصرة على بقاء مؤسسات الدولة، الذي يستتبع بقاء الكثير من الشخصيات التابعة للنظام في مكانها.

جانب من لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): الإسكندر المقدوني يعاين حال غريمه حاكم مدينة بور أثناء معركة هيداسبيس. 

نظراً لكل هذا، لا شك هناك في لاجدوى الجدال الجاري بين فئات المعارضة حول موضوع طبيعة المرحلة الانتقالية والفدرلة، لأنا ما زلنا في الواقع نرزح تحت "انتداب لين" وغير معلن، بل لا يمكن له أن يعلن، من قبل قوى إقليمية ودولية مختلفة، تتطلب مصالحها ورؤاها الخاصة، المتعارضة في الكثير من الأحيان، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، إجراء بعض التعديلات فيما يتعلق بالحدود وآليات إدارة الدول للحكم، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة. وليس ما يجري من صراعات في سوريا والمنطقة إلا ضرباً من ضروب التفاوض بين هذه القوى.

ويبدو اليوم أن اعتماد النظام الفدرالي في سوريا مع رحيل اللأسد في المستقبل القريب، أو اغتياله، وهو الاحتمال الأكبر، بات يمثل حلاً مقبولاً لهذه القوى.

من أعطى هذه الدول الحق في التصرف هكذا؟ قوتها طبعاً، كما هي العادة. فهناك معادلات موضوعية تحكم تصرفات الدول مع بعضها، سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، علمانية أم دينية، ولا تغير الديموقراطية في هذه الأمر شيئاً إلا من خلال قدرتها على إسباغ نوع من المرونة والحصانة على تلك الدول التي تبنتها بحيث تصبح أكثر قدرة وفعالية في تعاملها مع المتغيرات الدولية، على المديين المتوسط والطويل على الأقل. 

ولن نستطيع كشعوب شرقأوسطية تغيير هذه المعادلات بقوة السلاح، لأن هذه القوى هي مصدر السلاح، ولن تقوم بتسليحنا لنهزم مخططاتها. فعلى الرغم من حالة التنافس القائمة بينها، هناك أيضاً تنسيق كبير لم يجر مثيله خلال الحرب الباردة، لذا لا توجد لدينا اليوم فرصة حقيقية للعب طرف ضد آخر كما فعلت أنظمتنا في السابق. إن هامش المناورة المتاح لدينا اليوم محدود للغاية، ويتطلب تحقيق أي تقدم حكمة ومهارة دبلوماسية وسياسية كبيرة لا يبدو أنها متوفرة اليوم. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهنا: ها نحن نمر بمرحلة حرجة أخرى من تاريخنا المعاصر ولا توجد لدينا، فيما يبدو، لا الشخصيات ولا الخبرات ولا الرؤى المناسبة لإدارتها بحيث نتحصل على بعض المكاسب، أو على الأقل نقلل حجم الخسائر.

ولمن يرى في تسليمنا بهذا الواقع هزيمة، أود تذكيرهم بأن في المقاومة العسكرية هزيمة أكبر، إذ حتى عندما تنجح هذه المقاومة في أيامنا هذه، كما حدث مع الشعوب الأفغانية في مواجهتهم مع الاتحاد السوفييتي، سيأتي هذا النجاح مصحوباً بدمار شامل للدولة والمجتمع، وبنزوح للعقول والمهارات عن البلد، مما يفسح المجال أمام بروز قوى ظلامية متناحرة كالقاعدة، والطالبان، وداعش، أو قوى الحشد الشعبي وغيرها من الميليشات الشيعية المنافحة عن الأسد والمصالح الإيرانية. ولا يمكن لهذه القوى أن تصنع حضارة أو تقود نهضة. ولا شك في أن السماح ببروزها وبتقويتها هو الهزيمة الحقيقية. ولأنها أصبحت هي المسيطر على الساحة اليوم، ينبغي علينا أن نقلل من حجم الخسائر ونسعى إلى اتفاق ينهي حالة النزيف والاستنزاف، ويسمح للقوى الانتدابية بتحويل عملياتها إلى ساحات أخرى للصراع. لقد دفعنا ما يكفي من أثمان باهظة في سوريا. لندع القوى إياها تخطط كما يحلو لها، ولنحاول التحصل على أفضل شروط ممكنة لنا.

لكن، وفي خاتم المطاف، علينا أن نتعامل مع هذه المرحلة مسلحين بإدراك أفضل لطبيعة المتغيرات من حولنا، وبإيمان بقدرتنا في التأثير على الصيرورات مع مرور الوقت من خلال العمل الدبلوماسي والنشاط الفكري والإنساني. هذه هي المقاومة التي نحن بحاجة إليها اليوم، وإن كان ثمة نصر في مستقبلنا فلن يتحقق لنا إلا من خلالها. ولابد أن يؤدي هذا النصر في مرحلة ما إلى تحييد دور شخصيات بعينها، ومحاسبة بعضها، لكنه لا يتطلب هزيمة الطرف الآخر، أو تهديد وجوده، أو وضعه تحت حكم البوط العسكري الطائفي، فالهدف هنا هو الاتفاق على آلية تحقق توازناً جديداً بين الجميع يحافظ على حقوقهم الأساسية، يأخذ بعين الاعتبار توازن القوى العام في الداخل والخارج، مما يسمح لنا بالتعامل على نحو أفضل مع ضغوط وتدخلات القوى الخارجية في المراحل القادمة.


الاثنين، 28 مارس 2016

احتضار ثم مخاض


الثورة الشعبية احتضار قبل أن تكون مخاضاً، ومازلنا في سوريا نعيش طور الاحتضار، إذ مايزال القديم الذي ثرنا ضده، برواسبه وتجلياته المختلفة، سواء في صفوف النظام أم المعارضة، يتحكم بالصيرورات العامة والخاصة، مستخدماً وسائله القديمة ذاتها:  شيطنة الآخر، الخطاب الشعاراتي، النزعات الأصولية، الفردانية والشخصنة في العمل السياسي والاجتماعي، الارتجالية، الكذب المنهجي، إلى آخره من وسائل. الدرب الممتد أمامنا إذاً طويل جداً، لكن، لا ضير في ذلك، فالتحولات العميقة قد تبدأ بلحظة، لكنها تتطلب تتابع أجيال عدة قبل أن تأتي بثمارها الأولى. 

الأربعاء، 23 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (5)



| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

إن الولايات المتحدة الأمريكية، بخلاف ما يُشاع، لا تلجأ عادة إلى التآمر فيما يتعلق بالصيرورات الإنسانية العامة، أي بالتطورات العامة في منطقة ما على المديين البعيد أو المتوسط، إذ لا يتسنى هذا الأمر لأحد في الواقع بسبب تشابك وتناقض أجندات القوى الدولية والإقليمية المختلفة من جهة، وبسبب التغيير المستمر الذي يطرأ على الأولويات والرؤى الموجِّهة من إدارة أمريكية لأخرى من جهة أخرى.  إن تورط أمريكا في أحيان كثيرة، وفي إطار تعاملها مع قضايا وتطورات بعينها، في مغامرات تآمرية الطابع، مثل قضية إيران-كونترا وغيرها، يشكل استثناءاً للقاعدة يسعى لتحقيق أهداف معينة قصيرة المدى ومحدودة التأثير. أما على الصعيد الأكبر، فما بوسع أمريكا، وغيرها من الدول المتقدمة والطامحة، إلا أن تقوم بوضع مجموعة من السيناريوهات محتملة تستند على استقراء أقرب ما يكون للموضوعية للوقائع والأوضاع القائمة في مناطق العالم المختلفة، ومن ثم تقوم باقتراح ثلة من المقاربات تهدف لتمكين الإدارات المختلفة من التعامل مع هذه السيناريوهات وإدارتها على نحو يحقق لأمريكا مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، وفقاً للأولويات والرؤى الخاصة للإدارة المعنية. وفي الحقيقة، غالباً ما ترحب الإدارات الأمريكية بمشاركة الدول الأخرى في رسم هذه السيناريوهات والخطط وتنفيذها، إذ يمتلك قادة أمريكا على اختلاف مشاربهم ما يكفي من الثقة بمقدارت بلادهم، وبقدرتها على حماية نفسها ومصالحها، ما يمكنهم من تقديم الكثير من التنازلات بغية تجنب الصراعات وبناء الشراكات. وتكمن المشكلة هنا في تنافي هذا الأسلوب المباشر والصريح في التعامل السياسي مع الثقافة السائدة في منطقتنا ومجتمعاتنا حيال الصيرورات المختلفة، والتي تتصور دائماً وجود دوافع وأهداف أخرى للأمور، مما يجعلها تضيع فرص التعاون وتحتم احتمالات النزاع، سواء في علاقاتها مع أمريكا والغرب، أو في علاقاتها البينية.

وبعد نهاية الحرب الباردة، أقدمت أمريكا على إطلاع الأنظمة الشرقأوسطية المختلفة، من صديقة وعدوة، على هذه السيناريوهات بهدف حثها على تبني الإصلاحات الكفيلة بمساعدتها على تجنب القلاقل الداخلية والصراعات البينية التي تم التنبوء بها، لأن الاستقرار وحل النزاعات بالوسائل الدبلوماسية يبقى أفضل لتحقيق المصالح الأمريكية من الفوضى، حتى الخلاق منها، وذلك بعكس ما يروج له الكثير من المنظرين السياسيين اليساريين، وأحياناً اليمينيين أيضاً. إن كلام الباحثين والمسؤولين الأمريكيين عن الفوضى الخلاقة عبر العقود الماضية لم ينبع من منطلق الرغبة والتخطيط، بل من اعتقاد راسخ مستند إلى استقراء موضوعي للوقائع بحتميته وضرورة التحضير للتعامل معه. ولا يتنافى هذا التأكيد مع سعي أمريكا خاصة أبان الحرب العالمية الباردة، إلى استدامة بعض الصراعات أو إلى ترتيب بعض الانقلابات، لكن هذا المسعى، كما سبق ونوهنا، شكل استثناءاً للفلسفة الأمريكية الحاكمة نجم عن الطبيعة الوجودية للحرب الباردة والتي كان يمكن لها في أية مرحلة أن تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء في حرب نووية شاملة.

وغالباً ما ينسى مؤرخو تلك المرحلة هذا البعد النفسي العميق لها والذي كان له أثره الكبير في تشكيل تصرفات وسياسات القوى المختلفة، خاصة أمريكا. إن رعونة بعض السياسات الأمريكية في تلك المرحلة، وازدواجية معاييرها، جاءت انعكاساً لهذا الضغط النفسي الكبير في معظم الأحيان. وطبعاً بوسعنا أن نؤكد على العامل نفسه قد لعب دوراً كبيراً أيضاً، وربما أكبر، عند صناع القرار في المؤسسة السوفييتية الحاكمة التي كانت تدرك تماماً أن موقفها وقدراتها تبقى أضعف مما هو متوفر لدى أمريكا وحلفائها.


لكن ديموقراطية أمريكا والقوى الغربية الأخرى، والتي تجلت خاصة في طريقتها في التعامل مع مواطنيها واحترامها لحقوقهم الأساسية، ولاشك في أن الأوضاع الحقوقية للمواطنين الغربيين استمرت في التحسن طيلة مرحلة الحرب البادرة بسبب الضغوط الشعبية على الحكومات وذلك على الرغم من مخاطر الحرب النووية، تسبغ على هذه الدول أفضلية معنوية بل أخلاقية بالمقارنة مع المعسكر الشرقي باحتقاره للمفاهيم الديموقراطية وإصرار نخبه السياسية والعسكرية على التفرد بالحكم دون أي قابلية للمسائلة الحقيقة من قبل الشعب. إن انتصار المعسكر الشرقي كان سيؤدي بلا أدنى شك إلى تراجع كبير ليس فقط فيما يتعلق بحقوق الإنسان بل وفي مجال التنمية البشرية ككل، والتقدم العلمي والتقني. فإذاً، وعلى الرغم من قيام كلا المعسكرين بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، وبقيادة مغامرات إمبريالية وكولونيالية الطابع، وبدعم نخب حاكمة فاسدة في عدد من بلدان العالم، لا يتساوى الطرفان لا من حيث الرؤية والمبادئ العامة المؤثرة على سلوكياتهما، شعوباً وحكاماً، ولا من حيث أهمية الانجازات التي قدموها، وما يزال بوسعهما تقديمها، للإنسانية. 

ولا ننسى في هذا الصدد أن أكبر منتقدي السياسات الأمريكية خاصة والغربية عموماً هم من مواطنيها، "الأصليين" منهم والوافدين من دول المعسكر الشرقي والدول الأخرى، وأن معظمهم يعملون في الغالب في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية والغربية، وأن صوتهم ما كان ليسمع لولا تبني الدول المعنية لديموقراطية حقيقية احترمت حياتهم عامة حتى آخر قطرة.  ولها الواقع أهمية أكبر من أن تكون رمزية وحسب.


إن أكاديمياً أمريكياً مثل نعوم تشومسكي قد يملك رفاهية النقد الحاد، بل العدمي أحياناً، لوطنه أمريكا، الذي قد تعكس حديته حقيقة أن النقد أصبح أمراً عادياً ومقبولاً في أمريكا، ولا يعرض صاحبه لأي خطر، وبالتالي قد لا يتميز الإنسان بنقده في هذا المرحلة ما لم يكن هذا النقد حاداً إلى درجة كبيرة، وخارجاً عن المألوف. إن دور البعدين النفسي والإيديولوجي في تشكيل انتقادات تشومسكي حيال أمريكا والغرب أهم بمراحل من دور التحليل الموضوعي للأمور، إذ غالباً ما نراه يغفل دور العوامل المحلية والإقليمية والدولية الأخرى بل والسياق العام للقضايا التي يعالجها في كتاباته.

إن شعوب منطقتنا بالتحديد لن تتعلم شيئاً من التجربة الأمريكية خاصة والغربية عموماً إذا ما اكتفت بالاستماع إلى أصوات نقادها العقائديين أمثال تشومسكي والذين يعكس نقدهم المساحة الكبيرة المتوفرة لديهم للنقد الحاد أكثر من الحاجة الحقيقية إلى هذا النوع منه. ودعونا لا نغفل هنا دور أصحاب هذه النزعة النقدية في الغرب في تشكيل سياسات إدارة أوباما والإدارات الغربية عموماً حيال الأزمة السورية، خاصة دورهم الذي أدى إلى امتناع بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة من التدخل ضد الأسد، من منطلق ترك شعوب المنطقة لتحل مشاكلها بنفسها، في حين تتجلى الترجمة الحقيقية لهذا الموقف في تجاهل حقيقية اختلاف موازين القوة بين الدول المختلفة، وتضارب مصالح النخب الحاكمة فيها، وتدخلها في شؤون بعضها البعض عن طريق تفعيل الصراعات المذهبية والقومية، وما ينتج عن ذلك من تحييد لدور الشرائح الديموقراطية الواعية وتطلعاتها، وتفتيت للمجتمعات المحلية، علاوة على وقوع كوارث إنسانية، وانتهاكات جماعية تصل حد الإبادة الممنهجة، والتشريد، والتجويع، وما لذلك كله من انعكاسات سلبية على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الغرب ذاته، والعالم أجمع في عهد العولمة المفرطة هذا.

أي شيء يمكن لنا أن نتعلمه من رؤية إيديولوجية قاصرة كهذه، رؤية ترفض تحمل مسؤوليات التدخل في منطقتنا، حتى من منطلق إنساني بحت، ولوقف الدمار والنزيف، في وقت ما بوسعها فيه أن تمنع نخبها السياسية والاقتصادية، بل مجتمعاتها ككل، من الانتفاع مما ينجم من مكاسب عن هذا الدمار والنزيف، مثل رخص سعر الوقود إلى درجة تسهل لهذه المجتمعات الانتقال المرتقب إلى مرحلة ما بعد الوقود المستحاثي والذي يفترض حدوثه في عام 2050، من خلال توفيرها للموارد المالية اللازمة لذلك؟

إن هذه الرؤية في جوهرها ما هي إلا تعبير عن عصبية غربية جديدة أصبحت تحتل الساحة، إذ لا مجال فيها للتعبير عن وحدة المصير البشري إلا من خلال الدعاء والصدقة من خلال تقديم بعض الإمدادات الإنسانية للمحتاجين.

والأنكى هنا أن دعاة هذه الرؤية يصرون على أنها يسارية الطابع، والكثير منهم بالفعل يساريون قدامى، وأن مصلحتنا ستتحقق من خلالها على المدى البعيد. لكن تراكم المظلوميات عند شعوب ما تزال لاتحسن إلا اجترارها للعيش لن يؤسس لمستقبل أفضل، بل لصراعات أطول. إن قدرتنا على تمثل الدروس الصحيحة من أزماتنا المتراكمة ما تزال محدودة بالذات بسبب تبني معظم نخبنا لرؤى تبني على إيديولوجيات عقيمة كهذه، باسم الإشتراكية والإسلام.


إن كان ثمن نهضة في مستقبل أيامنا كشعوب ذات تاريخ مشترك ما، وبعض المصالح الأساسية، فلن تأتي إلا من خلال تبني مقاربات براجماتية وعقلانية في الصميم، مقاربات لا علاقة لها لا بالإيديولوجية ولا بالدين ولا بالنزعات القومية، مقاربات قائمة على جملة من الاعتبارات السياسية والأمنية، وبعض المصالح الاقتصادية والتنموية، مقاربات تحسن صياغة الأولويات المناسبة لكل مرحلة، وتسعى لتحقيق توازنات ما بين الأطراف الفاعلة في المنطقة. إن مفتاح الحل لأزمتنا بسيط في جوهره الفكري، إنه التنظيم والعمل الجماعي المؤسساتي، وفهم بل قبول عميق لطبيعة التفاعلات الدولية، خاصة هذه النقاط الأساسية:

·      ما تزال القوة، بأبعادها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والعسكرية، هي العنصر المحرك الأساسي للحضارة والتفاعلات الحضارية
·      لا يمكن للمبادئ والقوانين وحدها أن تقيد الدول القوية وتمنعها من محاولة تحقيق مصالحها وإن على حساب الدول الضعيف وشعوبها
·      تتطلب القدرة على الإلتزام بالمبادئ والقوانين تحقيق توازن قوة معين ما بين الأطراف المتفاعلة المختلفة على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية
·      إن الأنظمة الديموقراطية وحدها القادرة على النهوض بشعوبها بطريقة تحفظ المكاسب والاستقرار على المدى البعيد. في حين لا يمكن للتناقضات الكامنة في الأنظمة الاستبدادية، بصرف النظر عن قدرتها على تحقيق بعض المكاسب على المدى القصير، إلا أن تسفر في مرحلة ما عن صراعات داخلية كفيلة بتدمير كل ما تحقق من انجازات. إن إدراك أمريكا والدول الغربية لهذا الواقع هو ما يجعلها تتنبؤ بانهيار دول تبدو قوية، عسكرياً على الأقل ، مثل روسيا  وإيران. بل حتى الصين. وفي الواقع، إن كل دولة من هذه الدول تعاني من صراعات عديدة مجمدة لكنها بلا حل حتى اللحظة، مثل الصراعات في القفقاس وسيبيريا، ومهاباد والأهواز، والتيبت وشينجيانج. في حين يندر وجود هذه الصراعات في الدول الديموقراطية، وعادة ما يتم التعامل مع هذه الصراعات بالوسائل الديموقراطية السلمية، من قبيل عقد الاستفتاءات والانتخابات الدورية، كما رأينا في اسكتلندا وكاتالونيا. ولقد أدى تبني النظام الفيدرالي في الحكم في دول كثيرة إلى إيجاد حل نهائي لمعظم هذه الصراعات أساساً.
·   إن الحروب، في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الإنسانية، تشكل وسيلة أساسية في أيدي النخب الحاكمة في الدول الاستبدادية للتهرب من استحقاقات التغيير في الداخل، وللتحصل على المكاسب والمغانم، غالباً على حساب بعضها البعض، لكن، أحياناً، على حساب بعض دول الجوار الديموقراطية الطابع لكن الضعيفة من الناحية العسكرية. وتعتقد النخب الحاكمة لأنها بذلك تحمي نفسها من تهديد الغرب الديموقراطي. لكن الديموقراطية فكرة أصبح لها مؤيدوها في كل مكان، وهي إن لم تنتصر نهائياً لن تهزم نهائياً، ما لم يتم تدمير البنية التعليمية للمجتمع ككل، كما حدث في أفغانستان والصومال والكونغو، وكما قد يحدث في سوريا واليمن اليوم في حال استمر الصراع الحالي لسنين قادمة.  عندما تُدمر الحضارة في بلد ما، ويُهجر حاملوها، لا يمكن لها أن تعود إلا بعد مضي عقود بل قرون طويلة من العمل المضني والممنهج.

هذا هو جوهر الخطر الذي نواجهه اليوم في منطقتنا، وهذا ما يتجاهله الواقعيون من يسار ويمين: فنحن، شعوب هذا الشرق الأوسط، وفي هذه المرحلة بالذات التي انضمت فيها العوامل البيئية، مثل الانحباس الحراري، إلى العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياتنا، أصبحنا مؤهلين للخروج من التاريخ نهائياً، ببعده الحضاري.  

إن استدامة حالة الصراع في المنطقة، ومحاولة التشبث بالأنماط التقليدية للحكم، واللجوء الدائم إلى الماضي بمقدساته المتراكمة بحثاً عن حل، هي من العوامل المساهمة في هزيمتنا الحضارية، ولن نتمكن من الخروج من أزمتنا الراهنة ما لم نجد طرق للتعامل معها بشكل مختلف عما سبق. ويقتضي تحقيق هذا الأمر قفزة على مستوى الوعي، الفردي والجمعي. ولايمكن لهذه القفزة أن تتحقق ما لم نعود أنفسنا على التفكير خارج الأنماط المألوفة لنا، وعلى الإستماع إلى الأصوات الناشزة عن الإجماع الثقافي التقليدي. وفي غضون ذلك كله، علينا أن نتعلم عادة العمل الجماعي المؤسساتي الممنهج والمنظم، والمتمحور حول برامج عملية وليس الشعارات أو الأشخاص. فما لم نجترح هذه المعجزة لن نحقق شيئاً.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الاثنين، 14 مارس 2016

مضامين القرار الروسي بخصوص الانسحاب من سوريا: قراءة مبدئية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو

القرار الروسي بالنسبة لي لم يكن متوقعاً على الإطلاق، لكنه أيضاً، ومن حيث محتواه، ليس مفاجئاً إلى هذا الحد، ولا يغير، في هذه المرحلة، الحقائق التي أصبحت قائمة على الأرض نتيجة التدخل. فهو، من ناحية، لا يشكل تراجعاً عن الهدف الأساسي الروسي من وراء التدخل، والذي جاء لتأمين القاعدة الروسية في المتوسط وتوسيعها، من خلال مساعدة نظام الأسد على تأمين المناطق الساحلية وبعض المناطق الوسطى، خاصة حمص، والجنوبية، خاصة دمشق، والشمالية، بما في ذلك حلب والرقة.

ولعل توقيت الانسحاب قبل تحقيق المراد في حلب والرقة يأتي كورقة ضغط على نظام الأسد في هذه المرحلة لكي يتفهم الأسد بالذات أن الروس لم يتدخلوا إكراماً له وأنه لا يمكن التعويل عليهم لإعادة بسط سيطرته على كل البلاد، وأن بوسع الأسد أن يستفيد من التدخل الروسي لإنقاذ رأسه ولكن ليس لإنقاذ منصبه، على الأقل، ليس على المدى الطويل.

ولقد سبق ونوهت إلى أن الروس ليسوا متمسكين بالأسد ذاته كقرار نهائي ولكن كورقة تفاوضية مرحلية، بعدها يفقد الأسد قيمته. وها قد وصلنا فيما يبدو إلى هذه المرحلة، ولابما بأسرع مما كنت أتوقع، وقد يعكس هذا الأمر تعنت الأسد وغبائه من جهة، وما يجري من تنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى.

وقد يكون بوسع الأسد التعويل على الدعم الإيراني من جديد في المرحلة التالية، ولكن ضمن حدود. ففي الواقع لم يبقى أمام الأسد من مخرج من أزمته إلا العملية التفاوضية، وذلك لإنقاذ رأسه، وربما تحصين نفسه وعائلته وبعض أزلامه من أية محاسبة مستقبلية. لكن، عليه أن يتصالح مع ضرورة تخليه بشكل أو آخر عن منصبه خلال الشهر الـ 18 القادمة، وإلا فأن رأسه وبعض رؤوس من حلو قد يكون هو الثمن.

ونعم، هناك بعد مادي للقرار الروسي. فروسيا قد خفضت ميزانيتها العسكرية هذا العام بأكثر من 5%، وذلك للمرة الأولى منذ تقلد بوتين سدة الحكم فيها.

لكن، علينا ألا ننسى في غضون هذه التحليلات المبدئية أن روسيا ستتابع عملياتها الجوية في الشمال على الأقل بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

وفي هذه الأثناء، لاشك أن هذا التطور يشكل مغنماً للمعارضة السورية التي أصبح بوسعها أن تفاوض بثقة أكبر في جنيف، ولكن بذكاء وحنكة وبإدراك للحدود المرسومة. نعم لقد أرسل الروس رسالة واضحة إلى الجميع وعلى رأسهم الأسد، حول عدم تمسكهم به لذاته، لكنهم يبقوا فيما يبدو متمسكين بالكيفية التي سيتم من خلالها إزالته، وهي: انتخبات يرشح فيها الأسد نفسه إلى جانب منافسيه. عوضاً عن الإصرار على رفض هذا الأمر بالتحديد، ربما كان على المعارضة أن تصر على ضرورة استقالة الأسد من منصبه قبل موعد انعقاد الانتخبات بعدة أشهر لكي لا يستغل منصبه في الدعاية لنفسه، وضرورة محافظة مؤسسات الدولة على حياديتها خلال الفترة الانتخابية، خاصة وسائل الإعلام الحكومية، وضمان ذلك من خلال إدراتها من قبل لجان انتقالية خاصة تجمع ما بين ممثلين للمولاة والمعارضة والكجتمع الدولي، وغيرها من الخطوات.  

باختصار، لقد باتت محادثات جنيف تشكل فرصة حقيقية اليوم للتوصل إلى حل لأزمتنا  السورية لا ينبغي إضاعتها.

من ناحة أخرى، فإن تجنب إدارة أوباما لتقديم إية وعود علنية فيما يتعلق برغبتها في إيجاد حل سياسي في سوريا قبل انتهاء فترة حمكها، لا يعني أنها غير جادة في مساعيها الدبلوماسية في هذا الصدد. إذ لم يعد يغفل على أحد أن المجتمع الدولي، والكثير من القوى السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، من اليمين واليسار، تنحي باللوم على أوباما شخصياً فيما يتعلق بالكارثة السورية. ومهما بلغ الصلف به، فلا شك أن أوباما يدرك ذلك جيداً، ومن هنا رغبته في التوصل إلى حل قبل رحيله.


عن المواطنة والهوية والعَـلمانية

سوريا - حماة، مطلع القرن العشرين: القنصل الروسي يتنزه على نهر العاصي. المسيحيون الأورثوكس في الإمبراطورية العثمانية كانوا تحت حماية الإمبراطور الروسي آنذاك.

يتعامل الكثيرون منا مع فكرة المواطنة على أنها تتعارض مع الانتماء الطائفي أو القومي أو المناطقي، بل يعتبر مثقفونا هذا التعارض من المسلمات والبديهيات التي لا يمكن بل لا يجوز الخوض فيها. لكن الواقع غير ذلك. فالمواطن كفرد له هوية تشكلها مجموعة من العوامل، منها بيئته المحلية التي يبدأ تأثيرها فيه منذ لحظة ولادته ويستمر إلى أن تتحول العلاقة مع الوقت فتصبح أكثر تفاعلية مع تقدم عمره وازدياد خبراته، وبحسب موقعه الاجتماعي وتحصيله العلمي، وكيفية تعامل المجتمع المحلي والدولة مع مسألة الحريات الفردية، إلى آخره من ظروف.

ولا يمكن للفرد أن يشعر بالأمان كمواطن ما لم تتيح له الدولة فرصة التعبير بحرية عن هويته بأبعادها وجزئياتها المختلفة، مثل القدرة على التكلم بلغته الأم وتعليمها لأطفاله، وممارسة الطقوس التي نشأ عليها أو أصبح يؤمن بها، وغيرها من أمور.

إن عادتنا التي نفخر بها في سوريا والمتمثلة في تجاهلنا الحديث علنياً عن جزئيات الهوية، أي من منا السني أو العلوي أو المسيحي أو الكوردي، ليست بالإيجابية التي نعتقد، بل كانت وما تزال تعبيراً عن المشكلة الأساسية التي هيئت الأرضية لظهور نظام الأسد ولما يحصل اليوم من تفتيت: خوفنا من بعضنا البعض وانعدام الثقة ما بيننا. لأن الواثق والآمن لا يخشى أن يعبر بحرية عن أمور تعد جزءاً لا يتجزأ من هوية المرء وانتمائه.

تحتوي المناهج التعليمية في سوريا على حصص خاصة للتربية الدينية، يتم فيها الفصل ما بين الطلاب المسلمين والمسيحيين فيتعلم كل دينه. لكن، الواقع أن منهج التربية الإسلامية يعكس وجهة النظر السنية التقليدية فحسب، فهو يغيب بالتالي كل من الشيعي الجعفري والعلوي والإسماعيلي والدرزي والصوفي وأي آراء وتفسيرات معاصرة وحداثية. ويدعي رجال النظام فيما يتعلق بهذه المسألة، باستخدام الوسائل غير الرسمية بالطبع وذلك لأن نقاش هذه المواضيع لا يتم في العلن، أن لا حيلة للنظام في مسعاه لحماية الأقليات من تقديم هذه التنازلات لأهل السنة الذين لا فرق بينهم عنده. لكن النظام في الواقع هو المستفيد الأكبر من هذه الحال، لأن هذا الواقع يساعده على بسط سيطرته على هؤلاء المغيبين وعلى التلاعب بمشاعرهم ومخاوفهم. ولقد ساهمت النخبة المثقفة لهذه الفئات ولأهل السنة في تكريس هذا الواقع من خلال تبنيها لمفهوم خاطئ للمواطنة، مفهوم يغيب جزئيات الهوية عند كل المكونات ما عدا العرب السنة، ما خلا بعض المظاهر المسيحية.  

كان بوسع نظام الأسد أن يغير هذه المناهج في أية مرحلة، لكنه اختار ألا يفعل، لأن هذا الواقع يخدم مخططه الهادف على اللعب على هاجس الخوف من البعبع السني عند المكونات الأخرى.


في الولايات المتحدة الأمريكية هناك ظاهرة اجتماعية تعرف باسم "امتيازات الرجل الأبيض" في إشارة إلى كيفية تعامل المؤسسات المختلفة في البلاد، العمومية منها والخاصة، مع موظفيها وزبنائها، إذ تتعامل هذه المؤسسات بشكل أفضل مع البيض منها مع السود والأقليات العرقية الأخرى. لكن، معظم البيض لا يدركون ذلك لأنهم ألفوا هذه الطريقة في التعامل، لكن بوسع السود والأقليات العرقية الأخرى، أن يروا هذا الاختلاف في التعامل  بذلك، فهو جزء أساسي من واقعهم اليومي، ومن الطبيعي أن يشعورا بالاضطهاد جراء ذلك. وتؤيد الإحصائيات والدرسات الإكاديمية المستقلة وجهة نظرهم.

في سوريا، نجح نظام الأسد في التأسيس لعلاقات بينية للمكونات المختلفة جعلت كلاً منها يشعر وكأنه العنصر الأقلوي المضطهد في المعادلة، وأنه يواجه تحالفاً بين المكونات الأخرى ضده.  فالعلوي مثلاً يشعر بأنه مضطهد جراء تغييب هويته الدينية، في حين يشعر السني بأنه هو المضطهد بسبب سياسات التوظيف التي تفضل العلويين والأقليات الأخرى على حساب السنة، بصرف النظر عن المؤهلات.

ويشكل تغييب الحوار الصريح حول هذه الأمور تكريساً لهذا الواقع لا حلاً له. وليس بالضرورة على الإطلاق أن يؤدي الحوار الجدي حول هذا الأمور إلى تبني نظام محاصصة طائفي أو إثني قد يخشى الكثيرون. وإذ أدى الحوار في سوريا في هذه المرحلة من الصراع إلى تبني محاصصة من هذا النوع، فيمكن التعلم من النموذج اللبناني كيف نتحاشى مساوئه، مع الاتفاق على طرق لتحديث نظام المحاصصة هذا وتعديله مع الوقت وصولاً إلى إلغائه. فالمواطنة عملية مستمرة الرغبة فيها هي نقطة الإنطلاق، وتحقيقها هو الغاية التي نسعى إليها.

ولا شك في أن العَلمانية هي مكون أساسي من مفهوم المواطنة. وكما هو الحال مع المواطنة، لا يتنافي مفهوم العَلمانية مع كون المرء منتمياً إلى طائفة معينة أو مؤمناً بدين معين.

وفي هذه المرحلة بالذات من تطورنا الاجتماعي، تبقى العَلمانية خياراً فكرياً عقلانياً عند معظم المؤمنين بها أكثر منها عنصراً مشكلاً للهوية، لأنها لم تتأصل في مجتمعاتنا بعد، ولاتشكل جزءاً أساسياً من البيئة المحيطة والموروث لتؤثر بشكل فعال في تشكيل هوية المرء وسلوكياته وعقليته ووجدانه منذ طفولته. وقد يجمعنا الفكر العَلماني على أسس معينة في هذه المرحلة، لكن سيبقى للمؤثرات البيئية التأثير الأكبر على سلوكياتنا وعقلياتنا لعقود قادمة. وتبدو هذه الحقيقة واضحة من خلال معاينة التناقض الظاهر في سلوكيات الكثير من شبابنا ومثقفينا وسياسيينا ممن يدعون "التحرر" والعَلمانية بل والليبرالية من الناحية الاجتماعية، الذين عندما يوضعون على المحك، خاصة فيما يتعلق بتصرفاتهم حيال المرأة، نجدهم وقد ارتكسوا إلى سلوكيات تقليدية نمطية تتناقض تماماً مع ما يدعون. 

على قوانينا الناظمة لحياتنا السياسية والاجتماعية ولمناهجنا التربوية أن تتمتع بالمرونة الكافية للتعامل مع هذا الواقع. ولاشك في أنه سيكون للاتفاق على رؤية واضحة لما نريد للأحوال أن تؤل إليه في المستقبل دور كبير في مساعدتنا في هذا المجال. وقد لا تكون الشروط متوفرة إطلاق عملية سياسية من هذا النوع الآن، لكن طالما وضعنا هذا الأمر نصب أعيينا وطالما سعينا لتمهيد الأرضية له، لابد وأن نتمكن من خلق الفرصة المناسبة.

ومن الإشكاليات التي تواجهنا في هذا الصدد أيضاً، وجود فئات في مجتمعاتنا، بل وفي معظم المجتمعات هذه الأيام، تشعر بأن الحداثة، بما جلبته من مفاهيم مثل المواطنة والعَلمانية والديموقراطية وحقوق الإنسان، تهدد قيمها وهويتها. إذ لا يكفي هذه الفئات الأصولية أن تحترم الدول حريتها في الاعتقاد والتعبير والتجمع، بل تريد أن تجد طريقة ما، بما في ذلك التلاعب بالعمليات السياسية والثورية، أو الاستيلاء على الحكم بالقوة، لتفرض قيمها الخاصة على المجتمع ككل باسم الأصالة والتراث والحق المقدس، وغيرها من المبررات. ولن يكون التعامل مع هذه الفئات سهلاً على الإطلاق. وفي سوريا بالتحديد، نجد أن معظم هذه الفئات تنحدر من خلفية سنية، وأنها، في هذه المرحلة من الصراع، ونتيجة لظهور مظلومية سنية مشروعة وقوية نظراً لما تعرض له أهل السنة، بصرف النظر عن مدى تعلقهم بالدين، وطبيعة هذا التعلق، من اضطهاد في السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت قادرة على التأثير على شرائح أكبر من السنة قد لا تتفق معها في الرؤية لكنها ترى فيها الحامي الأفضل لها في هذه المرحلة، وهذا بعينه ما يراه الكثير من الجماعات الأقلوية في نظام الأسد إلى هذه اللحظة.

وهنا علينا أن نتعامل مع هذا الإشكال الآخر،  المتمثل في شعور الكثير من أبناء الأقليات الذين قد لا تربطهم بالماضي عقلية أصولية دينية، لكن تربطهم ذاكرة جمعية مؤسسة على الخوف، خاصة من الأغلبية السنية، وهو خوف وجودي الطابع ومتجذر، خوف على الهوية وعلى الذات، لا علاقة له بالحقائق التاريخية أو الوقائع الحاضرة بالضرورة، لكنه أيضاً لم ينبع من فراغ، وهو خوف لم تتمكن النخب السنية من التعامل معه بشكل ناجع، لأنها لم تحس به في العمق. فالمجتمع السوري العاصر مايزال مصبوغاً بمعطيات الهوية السنية (والعربية) إلى درجة كبيرة، والنظام الأسدي، كما ذكرنا سابقاً، أراد أن يبقي هذا الطابع حاضراً ومرأياً بوضوح ليكرس قبضته السياسية والأمنية على الأقليات.   

من هذا المنطلق، لا يمكن أن تكون المواطنة والعَلمانية هما الحل لما نواجهه من إشكاليات سياسية واجتماعية اليوم، ما لم نتعامل معها كصيرورتين أو عمليتين جاريتين تتطلبان منا إدارة حذرة وعقلانية على مدى سنين وعقود من الزمن. إذ لا وجود لمنتج جاهز هو المواطنة والعَلمانية والديموقراطية.