‏إظهار الرسائل ذات التسميات حقوق الإنسلن. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حقوق الإنسلن. إظهار كافة الرسائل

السبت، 1 ديسمبر 2018

هل سَلِمَ العرب من شر العنصرية؟

تعاملت حلقة "بين سام وعمار" هذا اليوم مع قضية العنصرية خاصة في إطار مجتمعاتنا الشرقأوسطية.



لكن، وكالعادة، بدأت الحلقة بجولة إخبارية سريعة، وفيما المواضيع التي تطرقنا إليها هذه المرة:

المرشح الروسي يفشل في انتخابات الانتربول
الكويت قد تمنح الجنسية لغير المسلمين
تجدد الانتقادات الدولية للمناهج التعليمية في السعودية لبثها روح الكراهية
في السعودية النساء يرتدين العباءة بالمقلوب رفضاً لها
مايكل بلومبرغ يتبرع بـ 1.8 مليار دولار لجامعة جونز هوبكنز
قاض أميركي يعلن أن القانون الفدرالي الذي يُحرّم ختان البنات "غير دستوري"
عائلة الفتاة الباكستانية المسيحية آسيا بيبي تتعرض للتهديد
عيد الشكر – عيد أمريكي بامتياز

فيما يلي الملاحظات التي اعتمدت عليها في إطار تحضيري لهذه الحلقة.

العنصرية – هذا المرض الذي نخر وما يزال الجسد البشري مستغلاً اختلاف هيئاتنا وثقافتنا، وهو المرض الذي غالباً ما يدّعي العرب والمسلمون اليوم بأنهم كانوا وما يزالوا ضحايا للممارسات الناجمة عنه والتي تبنّاها بحقهم الآخرون، وبالذات الشعوب الغربية. لكن، ألا تدل الكثير من الممارسات والمعتقدات المنتشرة في صفوف المسلمين، وطريقة تعاملهم مع بعضهم البعض، ونظرتهم للشعوب الغربية ذاتها، على أنهم بدورهم مصابون بالمرض ذاته؟ 

المحور الأول: تعريف بالمصطلح وبأصول الظاهرة وأسبابها وآثارها

العنصرية – الاعتقاد بأفضلية متأصّلة لعرق على آخر بسبب الفروق البيولوجية بينهما من لون البشرة إلى بعض المواصفات الخلقية مثل شكل وحجم الجمجمة وملامح الوجه. وفي العصر الحديث، أصبح المصطلح يُطلق أيضاً على الممارسات التّمييزيّة المستندة إلى اختلاف الثقافات والأديان، وعلى الاعتقاد بالأفضلية المتأصلة لدين أو ثقافة ما بالمقارنة مع الأديان والثقافات الأخرى. إذ ينجم عن هذا الوضع مجموعة من السياسات التمييزية على الصعيد الاجتماعي والسياسي، كانت العبودية هي أسوأ تجليّاتها، وذلك إضافة إلى ظاهرة الفصل العنصري أو "الأبارتايد"، وظاهرتي "الذميّة" و"المِلّية" في المجتمعات الإسلامية.

قد يقول البعض أن كل الأديان والإيديولوجيات قائمة على الإيمان بصحة معتقدات معينة وأفضليتها على غيرها من المعتقدات، فهل يعني هذا أن كل المتدينين والإيديولوجيين عنصريين؟

من الناحية النظرية نعم، كل فكر مغلق وكل جماعة بشرية مغلقة على نفسها عنصرية بطبيعتها، لكن على الصعيد العملي القضية تتعلق بالخيارات العملية والتصرفات التي يتبناها الناس في إطار تعاملهم مع الآخرين. قد يكون المرء مقتنعاً بصحة معتقده الديني أو الفلسفي أو السياسي الخاص، لكن طالما أصر في تصرفاته على احترام حقوق الآخرين الأساسية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والتجمع، وغيرها، فلا يمكن وصفه بالعنصرية.

بشكل عام، علينا أن نفرق ما بين نوعين من العنصرية: 

1.     هناك عنصرية عقائدية يؤمن أصحابها بالطروحات العنصرية بشكل واضح وصريح ويُبرَرُونها على أُسس دينية أو ثقافية أو حتى "علمية". في أحيان كثيرة عبر التاريخ، كان فكر هذه الجماعات هو السائد على الصعيد الاجتماعي والسياسي.
2.     العنصرية غير المباشرة، وهي العنصرية التي لا يُدرك أصحابها بأنهم عنصريّون أساساً، وأنهم جزء من المشكلة، بل يعترضون على وصفهم بالعنصرية. لكن، ليس من الضروري أن يغير هؤلاء الأشخاص ممارساتهم وتصرفاتهم العنصرية عند تنبيههم إليها، بل قد يسعون لتبريرها بوسائل مختلفة أو محاولة الدفاع عن أنفسهم من خلال اتهام من نبههم إلى إشكالية تصرفاتهم بالعنصرية. هذا النوع من العنصرية هو الأكثر انتشاراً اليوم، وقد يكون التعامل مع هذا النوع من العنصرية هو الأصعب والأكثر تعقيداً.

العنصرية إذن هي الاعتقاد بوجود صفات خلقية موروثة خارجة عن إطار التصرفات والخيارات تميز الجماعات البشرية عن بعضها فتجعل بعضها أفضل من بعض. أي هي الاعتقاد بوجود أفضلية متأصلة غير مكتسبة نتيجة العمل والخيار، بل هي أفضلية نابعة من الولادة والوراثة.

من حيث الممارسة، يمكن للعنصرية أن تتجلى بعدة طريق:

·      سياسات تمييزية واضحة ضد مكون ما (مثل سياسات التعريب التي مورست ضد الأكراد، أو منع المسيحيين من تبوأ مناصب معينة)
·       سياسات تمييزية غير مباشرة (وضع شروط خاصة للتوظيف أو التصويت أو التأجير)
·       علاوة على ممارسات يومية (التعامل الفوقي مع الأشخاص المختلفين، وعدم الاختلاط بهم، استخدام بعض الألفاظ لوصفهم)

يترتب على العنصرية أضرار كبيرة تصيب الأفراد والمجتمعات، فهي نوع من الاضطهاد وتأثر على صحة الضحايا النفسية والمادية، هذا علاوة على خلقها لشروخ اجتماعية قد تضر باستقرار الدولة على المدى المتوسط والبعيد.

لكن، هل يعني انتشار وقِدَم هذا الاعتقاد أن العنصرية حالة طبيعية؟ من أين جاءت هذه النزعة، وماهي مدلولاتها النفسية؟ 

هناك نظريات كثيرة في هذا الصدد: بعض المختصين في علم النفس التطوري Evolutionary Psychology يرون أن العنصرية انتشرت عبر التاريخ لأنها أثبتت "نفعها" للمجتمعات بالذات لأنها بررت استعباد واستغلال الآخرين وتسخيرهم لخدمة المشاريع الخاصة بهذه الجماعات. وأعطتهم أفضلية في تنافسهم مع المجتمعات الأخرى. كما يرى هؤلاء الباحثون أن المجتمعات التي آمنت بتميّزها وتفوّقها على الآخرين كانت أكثر تماسكاً وتعاضداً. بالنسبة لهم إذن، العنصرية كانت الحالة الطبيعية في المجتمعات البشرية لأنها أعطت أفضلية في البقاء والتقدم للمجتمعات البشرية. أي أن العنصرية كانت آلية من آليات البقاء والتطور.

هناك اعتراضات كثيرة على هذه النظرية، فالدراسات الأنثروبولوجية للمجتمعات البدائية التي ما تزال منتشرة في بعض أرجاء المعمورة تدل على وجود نسبة كبيرة من التفاعل الإيجابي من تعاون وتشارك وتجاور سلمي وتزاوج ما بين هذه المجتمعات. مما يعني أن العنصرية لم تكن بالضرورة "الحالة الطبيعية" للمجتمعات البشرية البدائية، وأن هذه المجتمعات كانت تدرك أن التفاعل الإيجابي يعطي أفضلية بدوره لهذه المجتمعات فيما يتعلق بمواجهة تحديات البقاء والتقدم.

التفسير الأفضل لظاهرة العنصرية يبدو أكثر ارتباطاً بالخوف والقلق وعدم الإحساس بالأمان منه بأي أفضلية تطورية متخيلة. هذا على الأقل ما يقوله أصحاب "نظرية إدارة الذعر Terror Management Theory"، بالنسبة لهم، البحث عن الانتماء الجمعي والتميز الاجتماعي والطمع والعدوانية والتعصب كلها نزعات تعبر عن رغبة المرء في تعزيز إحساسه بقيمته في مواجهة الموت والمجهول والآخر.
 
عدم إحساسك بالانتماء والأمان يدفعك إلى الانخراط في جماعة ما، أو التماهي معها، لكن، جماعة قائمة على هذا الأساس غالباً ما تصبح عدوانية تجاه من هم خارجها، ومع الوقت، حتى التعاطف مع الآخرين يصبح مرفوضاً، بل يتم تجريدهم من إنسانيتهم عن طريق النظر إليهم كوحدة متجانسة ودونية، وأخيراً، تسقط الجماعة العنصرية كل نواقصها وعيوبها على الآخرين وتلومهم فيما يتعلق بكل مشاكلها. في صميمها إذن، العنصرية هي عارض لمرض نفسي أو مجموعة من الأمراض النفسية.

المحور الثاني: جذور المشكلة في مجتمعاتنا

سنركز في نقاشنا على موضوع العنصرية في تاريخنا ومجتمعاتنا لأننا غالباً ما نصف أنفسنا كضحايا للعنصرية على الرغم من وجود مؤشرات وأدلة كثيرة على أننا ممارسين للعنصرية بدورنا.

 النظرة العرقية عند عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام: بني أصفر (الفرس وغيرهم) وبني أحمر (الروم)، الأفارقة.
 بعد انتشار الإسلام: ظهرت هناك عدة نزعات عنصرية...

الشعوبية

خلال المرحلة الأموية تعامل العرب مع الحكم على أن الله كرمهم بالإسلام وجعلهم أسياداً على الشعوب الأخرى (العجم)، أسلم أصحابها أم لم يسلموا.

إذا كان الفيلسوف الفرنسي، غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) قد قال يوماً في معرض انتقاده لسياسيات بلاده الاستغلالية في المستعمرات: "لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب". الواقع يقول: لم يعرف التاريخ فاتحاً رحيماً أبداً.

ولم يتغير الوضع كثيراً في العصر العباسي، على الرغم من استغلال الخلفاء العباسيين للغضب عند الشعوب الأخرى، خاصة الفرس، للتوصل إلى الحكم والمحافظة عليه. أدى هذا الوضع مع الوقت إلى انتشار النزعة الشعوبية.

 أول من جاء بالشعوبية كان الخوارج، الذين استندوا إلى الآية القرآنية "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" للرد على ادعاءات قريش المتعلقة بحقها في الخلافة.

 وانتشر المفهوم فيما بعد بمعزل عن الطروحات الخارجية الأخرى، في صفوف الشعوب المغلوبة، الفرس خاصة، ومحاولتها الدفاع عن خصوصيتها وتأكيد هويتها في مواجهة التسلط والعنجهية العربية: (نحن مسلمون لكننا لسنا عرباً، بل، وكنوع من العنصرية المضادة أو إحياء لعنصرية سابقة، ربما كنا أفضل من العرب).

وبعد قرنين، شهد الأندلس حراك شعوبي مشابه في صفوف البربر والأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام، كاحتجاج على ادعاءات العرب. ومن هنا رسالة الكاتب الأندلسي أبو عامر بن غرسية (من أعلام الشعبوية) التي حالت التقليل من شأن العرب أسوة بالأدب الشعوبي الفارسي.

في بعض الأحيان، كان هناك رفض للإسلام ككل أيضاً. تعامل المؤرخون المسلمون مع الثورات التي جرت في بعض المناطق التي خضعت للخلافة الأموية والعباسية وكأنها مجرد تمرد على السلطة، وخروج عن الدين (البابكية) وتجاهلوا البعد التحرري لها وأنها تمثل محاولة طبيعية من قبل الشعوب المغلوبة للدفاع عن خصوصيتها الثقافية والدينية التي وجدت مما قبل الإسلام.

وفي هذا الجو أيضاً انتشرت الأحاديث التي تكلمت عن آخر الساعة وتحدثت عن الاقتتال المحتوم ما بين العرب وما بين بني الأصفر وبني الأحمر، في ربط وخلط ما بين العروبة والإسلام، وتجاهل لانتشار الإسلام في صفوف "بني الأصفر" و"بني الأحمر."

الذمية:

نعم، يمكن التعامل مع الذمية على أنها تعبير عن العنصرية لأنها نزعة مؤسساتية تصر على إسباغ وضع دوني على أتباع الديانات الأخرى في الدولة، خاصة أهل الكتاب. نعم، نحن في هذا نسقط مبادئ العصر الحديث على الماضي، لكن، في ظل إصرار البعض على تنزيه الحضارة الإسلامية بكل ما فيها عن النقد، وطروحات الإسلام السياسي، هذا إسقاط لابد منه.

الذمية تجلت فيما يسمى العهدة العمرية، وهو نظرياً العهد الذي قدمه عمر لبطرق القدس بعد دخول المسلمين إليها. لكن، بحسب دارسات الحديثة، يبدو أنه تم تعديل نص العهدة مع الزمن، خاصة خلال فترة حكم الخليفة الأموي عمر الثاني، وبعده، وإدخال شروط مهينة هدفها تقييد حركة المسيحيين واليهود وطريقة لبسهم ومعيشتهم، كما تم منعهم من بناء معابد جديدة.

في الشرق الأوسط، تطور النظام الذمي إلى النظام المِلّي (The Millet System) في العهد العثماني. لكن تم الاستغناء عن النظام الملي في عهد السلطان عبد المجيد الأول في عام 1856 كجزء من الإصلاحات المعروفة باسم التنظيمات لصالح مبدئ المواطنة. طبعاً كان للضغوط الأوروبية دورها الكبير هنا.

المحور الثالث: الوضع في المنطقة اليوم

"الشعوبية الجديدة" في مواجهة الحراك القومي العربي: نمو النزعات القومية المتشددة عند شعوب المنطقة أسوة بما جرى في أوروبا، وتبني سياسات التتريك من قبل قادة الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين سرّع من وتيرة انهيار الامبراطورية العثمانية من ناحية، وأطلق العنان لصراعات عنصرية جديدة بين شعوب المنطقة من ناحية أخرى.

الحلم القومي العربي وسياسات التعريب التي اتبعت بخصوص الأقليات القومية من ناحية، وطريقة العرب العنصرية في التعامل مع العمال القادمين من الدول الأفريقية والآسيوية، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية، تم مواجهتها بما أسماه بعض الباحثين بنزعة "شعوبية جديدة" – نزعة عنصرية جديدة حيال العرب من قبل القوميات الأخرى.

علاوة على هذا كله، هناك عنصرية بين-عربية أيضاً تتجلى في تعامل الخليجيين مع باقي العرب وتفريقهم ما بين العرب العاربة والمستعربة، وفي نظرة باقي العرب إلى الخليجيين كقبائل بدوية همجية، وهو النقد الذي توجهه القوميات غير العربية إلى العرب عموماً.

من ناحية أخرى، العرب المسيحيون يتهمون العرب المسلمين بأنهم متخلفين وبدو. في المقابل، الإسلاميون يتمسكون بطرح أهل الذمة، وهناك تجليات لهذا الفكر على المستوى الرسمي (هناك حسابات كثيرة تتعلق بوضع المسيحيين في مناصب رسمية، تراخيص بناء الكنائس)، وعلى المستوى الشعبي من خلال التعامل اليومي.

هناك نزعة عنصرية عند العرب أيضاً تجاه ذوي البشرة السوداء، حتى العرب منهم، بل حتى المواطنين. كما هو الحال مع الفلسطينيين السود (غزة) والتونسيين السود أيضاً (القصبة).

النظرة الشعبية تجاه الشعوب الإفريقية عنصرية بشكل عام: ففي الثقافة الشعبية العربية، ارتبط مصطلح العبد بذوي البشرة السوداء (فيروز: "علبوابة في عبدين: الليل وعنتر بن شداد").  وتجلت النزعة أيضاً في الفن: مسلسل سمير غانم الأخير، وغيرها من الأعمال من مسلسلات وأفلام ومسرحيات عبر تاريخ الفن المعاصر في مصر والخليج.

لكن، ليس في الكوميديا فقط، هناك مسلسل "طبول الحرية" (إنتاج ليبي، تمت دبلجته إلى الإنكليزية، ممثلين عرب بيض صبغوا بشرتهم باللون الأسود). بل تم عرض المسلسل في عدد من الدول الإفريقية وقتها واعتبر إيجابياً لأنه دعم النضال الإفريقي، وذلك على الرغم من الاعتراض على قضية صبغ الوجوه:



وهناك أيضاً مسلسل "طرائف أبي دلامة" الذي قام ببطولته الممثل السوري الزيناتي قدسية بعد طلي وجهه لأن أبا دلامة كان من أصول إفريقية. المسلسل كوميدي لكن مرة أخرى الهدف لم يكن السخرية من السود لأن أبا دلامة كان رجلاً شاعراً ذكياً.



ما الهدف إذن من اختيار ممثلين بيض في هذين المسلسلين؟ الهدف ترويجي بحت: لا يوجد ممثلون سود البشرة يتكلمون العربية معرفون في العالم العربي، وأنت تريد للدول العربية أن تشتري المسلسل وأن يتابعه الناس. كان يمكن البحث عن ممثلين سود البشرة، لكن الأمر كان يتطلب أن يكون عند المرء وعي بالبعد العنصري للموضوع، وأن تكون ثقافة الترويج مختلفة، في وقت يمكن فيه للمنتجين في منطقتنا أن يشيروا إلى هوليوود مثلاً ويقولوا: ها هي هوليوود نفسها تختار ممثلاً من أصول صينية ليلعب دور شخصية يابانية في أحد أفلامها لأنه معروف، دون أن يهتموا برأي المشاهد الآسيوي القادر على التمييز بين الياباني والصيني.

والمشكلة الأكبر أن المشاهد الآسيوي قديماً ولأنه اعتاد على هذا الخلط العنصري كان يجد سهولة أكبر بتقبل التأقلم مع الموضوع منه بتحدي الموضوع. اختلف الوضع اليوم، في هوليوود وإلى حد ما في المنطقة أيضاً. لهذا لم يمر إحياء سمير غانم لموضوع صبغ الوجوه في مسلسله الأخير دون انتقادات شديدة، على الأقل على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن، غياب النقاش على الساحة العامة ودفاع المؤلف عن الموضوع، يدل على استمرار عدم الجهل والتعصب في المجتمع ككل.

بل هناك عنصرية في السودان مثلاً في التعامل ما بين الشعوب الناطقة بالعربية والتي تزاوجت مع العرب وأصبح لون بشرتها أقل سواداً (الجنجويد)، والشعوب غير الناطقة بالعربية (الفور والمساليط والزغاوة والنوبيين، إلخ...)، هذا علاوة على الاختلافات في الدين.

وأخيراً، تتجلى النزعة العنصرية عند العرب في تعاملهم مع العمالة الوافدة، ليس فقط في دول الخليج بل في لبنان وسوريا وغيرها من الدول، خاصة مع العمال الآسيويين والأفارقة.

من ناحية أخرى، التعامل مع المهاجرين الأفارقة في ليبيا وكأنهم عبيد رسميين من بيع وشراء، أمر له دلالته.

موقفي من قضية العنصرية في المجتمعات الشرقأوسطية، وخاصة في المجتمعات الناطقة باللغة العربية:

العنصرية داء أصابنا جميعاً، لكن تجاهل شعوب المنطقة لتفشي هذا المرض في صفوفها يكرس حالة الانقسامات والصراعات ويعرقل محاولاتنا إيجاد طرق إيجابية للتعامل مع قضية التنوع. الاعتراف بتفشي مرض العنصرية في صفوفنا هو الخطوة الأولى والأساسية على طريق التغيير والتحضّر.


الجمعة، 25 أغسطس 2017

الإسلام ليس المشكلة وليس الحل


الحرة / من زاوية أخرى -- في خضم المواجهات التي يقوم بها المسلمون اليوم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ومشاربهم وتوجهاتهم، مع تحديات العيش في عالمنا "الحديث،" ذلك العالم الذي ماتزال مشاركتهم في بنائه والتأثير على مجرياته هامشية إلى درجة كبيرة، هناك مغالطة كبيرة بات لزاماً عليهم أن يتفادوا ارتكابها لما في ذلك من تبديد لجهودهم وطاقاتهم النفسية والفكرية.

تنبع المغالطة من الاعتقاد أن للإسلام دوراً استثنائياً في حياتهم: فهو إما المشكلة الأساسية التي ينبغي عليهم مواجهتها ومعالجتها، أو أنه الحل الأمثل والأنجع الذي لا يمكن لغيره أن ينتشلهم مما هم فيه من تخلف وجهل.

لكن الواقع أن تخلف المجتمعات ذات الغالبية المسلمة اليوم ينبع في الدرجة الأولى من غياب الإرادة السياسية في التغيير، والدليل أن دولاً ذات غالبية مسلمة مثل ماليزيا وأندونيسيا وتركيا ومن خلال تبنيها لأنظمة سياسية أكثر انفتاحاً وديموقراطية، على الأقل نسبياً، عما هو سائد في الدول العربية استطاعت أن تحقق درجة جيدة من التنمية والتقدم على الرغم من وجود تيارات محافظة بل ومتشددة فيها.

نعم، ما تزال هذه الدول تعاني من مشاكل جمة تتعلق ببعض العادات والمعتقدات الدينية الإسلامية أو المأسلمة، لكن هذا لا يعني أن الإسلام هو المشكلة الأساسية فيها. لأن ظاهرة الصدام والصراع ما بين قيم الحداثة من جهة والعادات التقليدية السائدة في المجتمعات من جهة أخرى هي ظاهرة عالمية الطابع لا تنجو منها حتى المجتمعات الغربية التي نشأت قيم الحداثة من تفاعلاتها الخاصة.

إذ ماتزال ظاهرة الصراع ما بين قيم الحداثة، تلك القيم التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق القانونية الدولية، وبين العادات والمعتقدات المرتبطة بالديانات التقليدية مثل الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها، تفرز تناقضات كثيرة في كل المجتمعات البشرية، وهذا ما يعطي كل منها خصوصيته الحالية، فنجد دولة مثل الهند تنجح في تطوير تقنيات تمكنها من إطلاق الأقمار الصناعية في ذات الوقت الذي تستمر فيه معاناتها من التبعات الهائلة الاجتماعية والسياسية لنظام الكاست. جاء نجاح الهند نتيجة لوجود قناعة حقيقية بضرورة التغيير والتحديث عند النخب المتنفذة وإرادة سياسية كافية لديها لتبني السياسيات المناسبة لتحقيقه، أما الفشل فيعود لصعوبة تغيير العادات والتقاليد الراسخة والتي يؤمن الكثيرون بقداستها، فالتغيير هنا لا يعتمد على التعليم فقط وتقليص الفجوة التتموية ما بين الريف والمدينة بل على القدرة على إفراز قفزة أو طفرة في الوعي الفردي والجمعي للناس وهو أمر لا يحدث إلا من خلال التجربة والسياق التاريخي على مدى عقود من الزمن ولا يمكن فرضه أو تعجيله بالقوة. ويشكل وجود تيارات سياسية ترى في استغلال المقدسات ومعارضة التغيير وسيلة لتحقيق مآرب بعينها عقبة كبيرة على الطريق. وتوجد هذه التيارات في كل المجتمعات، وعادة ما يطلق عليها في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة التيارات السلفية أو الإسلامية أو الإخوانية.

وتجيد هذه التيارات التلاعب بمشاعر الناس من خلال اللعب على وتر المقدس مع خلطه بالنزعات القومية وصراعات الهوية المحلية، لكن الهدف الأساسي لها يبقى دائماً مرتبطاً باشتهاء السلطة. إن المجازر البشعة التي يقودها الرهبان البوذيون في ميانمار ضد الروهينجا، الأقلية المسلمة في دولتهم، لا تنبع من عداء حقيقي حيال المسلمين بقدر ما تهدف إلى تحسين موقف تيارهم السياسي وتحسين العلاقة بينه وبين القيادات العسكرية التي ماتزال تدير شؤون الدولة من وراء الستار. وربما كان الأمر محاولة لخلق هوية بوذية جامعة لهذه الدولة متعددة القوميات والأعراق التي تؤمن غالبية شعوبها بالديانة البوذية وتنتمي إلى طائفة التيرافادا.

الهدف من وراء هذه الملاحظة هو التنبيه إلى محورية الصراعات والأجندات السياسية فييما يتعلق بكل هذه التطورات، وإلى كون الدين مجرد وسيلة للتعبئة والتجييش. إن التعامل مع الدين على أنه المشكلة الأساسية يخدم قضية من يطرحونه كالحل الوحيد ويسهل عليهم مهمة تصوير خصومهم السياسيين على أنهم أعداء للدين والأمة. ولهذه الظاهرة تجلياتها في كل المجتمعات، وغالباً ما تتخذ هذه التجليات منحاً عنفياً في المجتمعات التي تعاني من مشاكل تنموية عميقة ومن هشاشة بنيتها السياسية مما لا يسمح لها بوقاية نفسها من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية.

لا يشكل الإسلام والمجتمعات الإسلامية إذن حالة استثنائية. نعم، للمجتمعات الإسلامية خصوصياتها من دون شك، لكن الخصوصية شيء والاستثنائية شيء آخر. إن إصرار المتطرفين على التعامل مع وجودهم ومعتقداتهم على أنها استثنائية الطابع يعكس وجود عقد نقص بعينها عندهم كأفراد، وعلى وجود طموحات وأجندات سياسية خاصة عند النخب المؤثرة في صفوفهم، لكن المتشددين في خاتم المطاف لا يملكون حلولاً للمشاكل التنموية والاجتماعية التي تواجها مجتمعاتهم بل هم في الواقع جزء من هذه المشاكل، ولا يمكن لهم أن ينموا كتيارات وجماعات سياسية إلا من خلال استثمارها واستدامتها، مما يجعلهم الوجه الآخر للأنظمة الاستبدادية.

وللحديث بقية.

السبت، 25 يونيو 2016

عن الرِّدة والغَلَبَة وحرية الاعتقاد




أنَّ الرِّدة كمصطلح فقهي إسلامي هي الخروج عن الإسلام بعد الدخول فيه سواء رجع إلى دينه الأصلي قبل الإسلام أو إلى دين آخر أو أصبح لا دينيًّا أو أصبح ملحدًا، ويجب أن نعلم أن حرية الاعتقاد شيء وحرية الارتداد شيء آخر؛ لأن المرتد عرف الحق ودخل فيه ثم أدار ظهره له وخرج إلى شيء آخر، وهذا في حد ذاته انحراف... وتابع: «المرتد قد يشكل خطراً على المجتمع الإسلامي، لأن تصميمه على الخروج من عباءة الدِّين الذي كان عليه غالباً ما تصاحبه مشاعر عدائية ضد هذا الدين، لكن قد تكون هناك أزمات فكرية تمر ببعض الأفراد جعلته لم يعد يؤمن بهذا الدين، سواء تحت إغراءات مادية أو إغراءات فكرية بدين آخر أو بمذهب آخر، واكتفى بأن يخرج من دينه ويتدين بطريقة أخرى، وهذا لا يشكل خطورة على المسلمين ولا على المجتمع الإسلامي، لكن فقه القديم كله فيه أن الردة بشكل عام خطر على الإسلام وخطر على المجتمع الإسلامي. واختتم شيخ الأزهر حديثه بأن البيئة والمنطلقات والثقافات التي أنتجت حرية الردة وحرية تغيير الدين وحرية العودة إلى الدين وحرية اللادين، تختلف تمامًا مع الأرضية والثقافة التي ينشأ فيها حكم إسلامي يتعامل مع الردة، ولذلك من الظلم أن نتحاكم إلى حقوق إنسان نشأت في بيئة تختلف مع الآخر اختلافًا جذريًّا.

من حق المرء أن يغير رأيه ومعتقده، خاصة فيما يتعلق بقضايا وجدانية مثل الدين. نعم قد يشكل هذا الأمر تحدياً للمجتمع وقيمه الراسخة كما حذر الدكتور الطيب، لكن هذا الأمر لا يعطي للمجتمع الحق في تقييد حرية وجدانية كهذه، بل على المجتمع أن يوجد طرقاً أخرى للتعامل هنا غير الحد من حرية الناس، أفراداً وجماعات. إذ لم تعد حقيقة نشأة مفهوم حقوق الإنسان في بيئة غير إسلامية بذات الأهمية التي يخالها الشيخ، فبعد مرور أكثر من قرن على طرحه، وغيره من المبادئ المرتبطة بالحداثة عموماً، برزت في "ديار الإسلام" شرائح بشرية واسعة تأثرت به وأصبح لدى مكوناتها قناعة قوية بضرورته في تشكيل مصيرها. من هذا المنطلق، أصبح مفهوم حقوق الإنسان قضية مصيرية داخلية ولم يعد من الممكن التعامل معه كشأن خارجي أو فرعي.

ولا ننسى هنا أيضاً أن الإسلام نفسه مر بمرحلة من هذا النوع في بداية ما يسمى بعهد الفتوحات، مرحلة مثّل هو فيها الفكرة غريبة المنشأ في المجتمعات السورية والمصرية والمغاربية، فكرة فرضت نفسها على الساحة مستفيدة من الفرص الكثيرة التي أتيحت أمامها جراء ارتباط أصحابها ومعتنقيها بالسلطة السياسية القائمة.

 لا، لم يُجبر الناس في هذه المجتمعات على اعتناق الإسلام، لكنه أصبح واقعاً سلطوياً فيها بقوة السلاح، ومن خلال سيطرة أصحابه على مؤسسات الدولة ونفوذها، وليس بقوة معتقداته وأفكاره وحسب. لقد جاء دور الفكر لاحقاً هنا، ولقد كان للشخصيات والنخب الجديدة التي اعتنقت الإسلام وحاولت التقريب بينه وبين الثقافة السائدة في الأوساط الإجتماعية والمختلفة، دوراً كبيراً في تسهيل تقبل شرائح واسعة له من خلال محاولاتها تأسيس مصدر جديد للتشريع في الإسلام، ألا وهو الحديث – ذلك الباب الواسع الذي سمح بإسباغ غطاء إسلامي على الكثير من الأعراف والتقاليد المحلية المقدسة عن طريق إيجاد، أو بالأحرى ابتكار، سوابق لها في حياة الرسول وصحبه.

ومع ذلك، وبسبب التعقيدات الناجمة عن الاقتتال الداخلي بين المسلمين، من الصعب تصور نمو الإسلام ليصبح دين الأغلبية قبل مرور قرنين من الزمن، لكن يبقى هذا الطرح مجرد افتراض شخصي في هذه المرحلة، ولا شك أن الأمر يتطلب الكثير من التمحيص قبل البت فيه.

وتكمن القضية الأساسية هنا في أهمية إدراك أن الإسلام كان لفترة طويلة من الزمن دين الأقلية الحاكمة في معظم الأراضي الواقعة تحت سيطرته، ومع ذلك، من الواضح أن المسلمين طوّروا نظرتهم وأفكارهم وتشريعاتهم المتعلقة بالسلطة من منطلق قوة وهيمنة، سمح لهم بتجاهل حجمهم الديموغرافي الأقلوي من جهة، وبتقسيم العالم  إلى دار حرب ودار صلح ودار سلام من ناحية أخرى.

في عالمنا المعاصر هذا، أصبحت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قائمة على مبدأ التوازنات، الداخلية منها والخارجية. لقد أصبح مبدأ الغلبة مرفوضاً بالكامل، ليس من منطلق فكري أخلاقي وحسب، بل من منطلق عملي.  ففي عصر الأسلحة النووية والحروب الشاملة وتداخل المصالح، بل والعوالم، الافتراضي منها والمادي، وما في ذلك من تمييع لمفهوم السيادة ومناطق النفوذ، يؤدي التعامل مع المتغيرات استناداً إلى مبدأ الغَلَبَة إلى استدامة الصراعات ونشر الفوضى في كل مكان. قد يناسب هذا الأمر الحركات الإرهابية، لكنه لا يمكن أن يمهّد لقيام الدول، ناهيك عن الحضارات.

ولأن المسلمين يتعاملون مع العالم اليوم من واقع قائم على الضعف والشرذمة يشكّل الإصرار على مبدأ الغَلَبَة تكريساً لهذا الواقع.

لكن الانتقال نحو رؤية مختلفة للأمور يتطلب تحقيق قفزة أو طفرة على مستوى الوعي، إذ لا يكفي التراكم المعرفي هنا ما لم يؤدي إلى إعادة تشكيل الحدس ذاته، والدليل تعامل معظم اليساريين والقوميين العلمانيين المسلمين وفقاً لمنطق الغلبة التقليدي إياه.

من ناحية أخرى، تشكل فكرة رفض الردة من قبل علماء المسلمين، على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم، بل وتجريمها، تمثلاً داخلياً لمبدأ الغلبة. ولهذا بالذات، لا يكمن التساهل في تعاملنا معها أو اعتبارها قضية ثانوية، بل هي القضية الأساس ونقطة الانطلاق نحو إعادة تشكيل وعينا، الفردي منه والجمعي.

ولكي لا نظن أن موضوع الردة قضية تخص الطوائف السنية وحسب، ربما كان من المفيد الإطلاع على هذه الفتوى من فتاوى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني:
  

السؤال: ما هو تعريفكم للمرتد بالتفصيل؟
الجواب: المرتد وهو من خرج عن الاِسلام واختار الكفر على قسمين: فطري وملّي، والفطري من ولد على اسلام احد ابويه أو كليها ثم كفر، وفي اعتبار اسلامه بعد التمييز قبل الكفر وجهان اقربهما الاعتبار. وحكم الفطري انه يقتل في الحال، وتبين منه زوجته بمجرد ارتداده وينفسخ نكاحها بغير طلاق، وتعتد عدة الوفاة ـ على ما تقدم ـ ثم تتزوج ان شاءت، وتُقسّم امواله التي كانت له حين ارتداده بين ورثته بعد اداء ديونه كالميت ولا ينتظر موته، ولا تفيد توبته ورجوعه الى الاسلام في سقوط الاحكام المذكورة مطلقاً على المشهور، ولكنه لا يخلو عن شوب اشكال، نعم لا اشكال في عدم وجوب استتابته. وأما بالنسبة الى ما عدا الاحكام الثلاثة المذكورات فالاقوى قبول توبته باطناً وظاهراً، فيطهر بدنه وتصح عباداته ويجوز تزويجه من المسلمة، بل له تجديد العقد على زوجته السابقة حتى قبل خروجها من العدة على القول ببينونتها عنه بمجرد الارتداد، والظاهر انه يملك الاموال الجديدة باسبابه الاختيارية كالنجارة والحيازة والقهرية كالارث ولو قبل توبته. واما المرتد الملّي ـ وهو من يقابل الفطري ـ فحكمه انه يستتاب، فان تاب وإلاّ قتل، وانفسخ نكاح زوجته إذا كان الارتداد قبل الدخول أو كانت يائسة أو صغيرة ولم تكن عليها عدة، وأما إذا كان الارتداد بعد الدخول وكانت المرأة في سن من تحيض وجب عليها ان تعتد عدة الطلاق من حين الارتداد، فان رجع عن ارتداده الى الاسلام قبل انقضاء العدة بقي الزواج على حاله على الاقرب وإلاّ انكشف انها قد بانت عنه عند الارتداد. ولا تقسم أموال المرتد الملي إلاّ بعد موته بالقتل أو غيره، وإذا تاب ثم ارتد ففي وجوب قتله من دون استتابة في الثالثة أو الرابعة اشكال. هذا إذا كان المرتد رجلاً، واما لو كان امرأة فلا تقتل ولا تنتقل اموالها عنها الى الورثة إلاّ بالموت، وينفسخ نكاحها بمجرد الارتداد بدون اعتداد مع عدم الدخول أو كونها صغيرة أو يائسة وإلاّ توقف الانفساخ على انقضاء العدة وهي بمقدار عدة الطلاق كما مر في المسألة (٥٦٣). وتحبس المرتدة ويضيّق عليها وتضرب على الصلاة حتى تتوب فان تابت قبلت توبتها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون مرتدة عن ملة أو عن فطرة.


الجمعة، 29 أبريل 2016

لم ولن يتساووا


تعدّد القتلة في سوريا لكن لم ولن يتساووا. لماذا؟ لنفس السبب الذي يجعل القانون والمجتمع يفرقان بين من قتل عمداً فرداً، أو حتى مجموعة من الأفراد في ذات العملية، والقاتل المتسلسل الذي يتبنى طقوساً ومنهجية معينة في القتل، ويستمر فيه حتى يموت أو يقبض عليه، أو يتوقف من تلقاء نفسه لتغير ما في مزاجيته المريضة الخاصة. والدافع وراء هذا التمييز هو إدانة العقلية المريضة المسؤولة عن تصرفات القاتل المتسلسل، وإدانة منهجية القتل ذاته: أي تحويله إلى صناعة "طبيعية،" أو نشاط مثل أي نشاط آخر يقوم به الفرد للمتعة أو التنفيث أو التهجد.

لقد أصبح القتل عند نظام الأسد وحلفائه صناعة، ووحدها داعش تتبنى منهجية مماثلة، وإن على نطاق أضيق بكثير لضيق إمكانياتها بالمقارنة مع الإمكانيات المتاحة للنظام وحلفائه.

لا يستوي الارتجال والمنهاج. وكل ما أرجوه اليوم أن لا تحاول بقية أطراف الصراع في سوريا أن تمنهج عملها في هذ الصدد أيضاً، فهناك فرق ما بين تنظيم العمل العسكري، الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط له أيضاً، ومنهجة القتل، التي تتطلب تغييب إنسانية الطرف الآخر، وبالتالي إنسانية الطرف القاتل أيضاً. فالمنهجة إذن تعني أن المرض قد تفشى، وإن الجميع قد خسر، خسروا إنسانيتهم أولاً ثم الحرب، بسبب خياراتهم ذاتها.

ولا ننسى أن مصطلح الإنسانية المستخدم هنا يدل على تطلع داخلي عميق وقديم نحو الأفضل، نحو أن نصبح نحن كبشر: أفضل، أن نكون بطبيعتنا التي سميناها باسمنا: أفضل. إن خسارتنا لهذا التطلع هي خسارتنا لمعركة الوجود ذاته، لأنه سيصبح بعدها بلا معنى، في حين تتجلى الميزة الأساسية للوعي الإنساني في البحث المستمر عن المعنى.



الأحد، 3 أبريل 2016

سوريا والحوار المغيَّب حول تفاعلات الهوية والطائفية، والأقليات والأكثرية


أثبت تاريخنا المعاصر أنه لا يمكن للأقليات الدينية أو الطائفية أن تكون حامل العَلمانية في مجتمعاتنا إن إردنا لهذه المجتمعات أن تكون ديموقراطية أيضاً. كما لا يمكن للأكثرية الدينية أو الطائفية في مجتمعاتنا أن تكون ديموقراطية حقاً ما لم تكن عَلمانية أيضاً، لكن، لا يمكن لهذه الأكثرية أن تتبنى العَلمانية ما بقيت الأخيرة تستخدم كمبرر فكري وسياسي لاستبداد الأقليات، وما بقي مفهوم العلمانية بحد ذاته مشوهاً في أذهان الأقليات والأكثريات على حد سواء.

فالنزعات الأصولية المتشددة عند الأقليات في مجتمعاتنا لا تقل في الواقع تشدداً عما نراه عند الأكثريات، وإن اختلفت المظاهر، وأحياناً المسوغات. ففيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية مثلاً، لا يقل رفض الأقليات الدينية لها عنفاً عنه عند الأكثرية المعنية. علاوة على ذلك، تقوم بعض الأقليات باستخدام اختلاف عاداتها وتقاليدها وأعرافها، و/أو مظلوميتها التاريخية الخاصة، كمبرر لازدراء الأكثرية وحقوقها وللتشكيك المستمر بنواياها مستغلين وجود شرائح متشددة في صفوفها، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى نشأة هذه الشرائح، وعن رفض الأكثرية المعنية لها كونها تشكل تهديداً لهذه الأكثرية أيضاً.

ويهيمن عند هذه الشرائح المتشددة في صفوف الأكثرية مفهوم للعلمانية يجعلها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية لهذه الأكثرية، خاصة في تلك الحالات التي تصر فيها النخب الثقافية عند هذه الشرائح على فكرة حصر "الحاكمية" بشرع الله، مما يقتضي أن تقوم الدولة على أساس الدين. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطائفة السنية، فالشيعة أيضاً يعانون منها تحت مسمى ولاية الفقيه، ومسميات أخرى.

لكن، إلى أي حد تمثل هذه الشرائح الأصولية المتشددة الطائفة التي تنتمي إليها، وما هو مدى نفوذها وتأثيرها؟

بصرف النظر عن طبيعة الإجابات التي يمكن أن تنشأ عن التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة، تكمن المشكلة الحقيقية في وجود إجابات مسبقة عليها عند الجماعات الطائفية المختلفة، إجابات لها مصداقية ووقع في نفوس المعنيين بها أكبر من أية معايير موضوعية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد.

ففي سوريا مثلاً، ترى أن وجود هذه الشرائح الأصولية عند أهل السنة يشكل سبباً كافياً عند الأقليات الدينية والطائفية  السورية لعدم الثقة بهم نهائياً فيما يتعلق بإدارة الدولة وأجهزتها الحساسة، خاصة القطاعات العسكرية والأمنية، بصرف النظر عن الحجم الديموغرافي الحقيقي لهذه الشرائح، وحقيقة كونها تشكل أقلية ضمن الأكثرية، وبصرف النظر عن وجود شرائح سنية واسعة حافظت على ولائها للأسد أبان الثورة، وأخرى صامتة. من هذا المنطلق جاء شعار "الأسد أو نحرق البلد،" والشعار الأفصح منه "كس أخت الحرية،" علاوة على هالة القداسة التي أسبغت على البسطار العسكري، لتشكل أصدق وأجلى تعبير عن المخاوف التي تجول في نفوس الأقليات في هذه المرحلة، بحيث يصبح اختيار العيش في ظل الفساد والقمع الممنهجين لنظام الأسد، أو حتى اختيار الفوضى والتفتيت، خير من حكم أهل السنة. وتأتي جهود النخب الأقلوية المثقفة لتقديم الكثير من التحاليل "العقلانية" لتبرير هذا الموقف الشعبي لطوائفهم كمؤشر على الكيفية التي يتم من خلالها تجنيد العقل لخدمة الخوف والعصبوية أولاً وأخيراً. ففي الواقع، هناك تغييب في هذه التحليلات، متعمد عند البعض، لكنه غير واعٍ عند السواد العام، بصرف النظر عن مكانتهم الفكرية، لكل المعطيات التي تناقض افتراضهم الأساسي حول طبيعة الثقافة السنية التي تبقى، من وجهة نظرهم، متعجرفة، وعنصرية، واستبدادية الطابع، وغير قابلة للتحديث، وذلك بخلاف الاعتقادات السائدة لدى معظمهم حيال عقائدهم الخاصة، والتي يخالها الكثير منهم أقرب إلى الحداثة أو  الإصلاح من عقائد أهل السنة. فقبول الشيعة الجعفريين بتساوي حصة المرأة والرجل في الإرث يجعل معتقداتهم أقرب إلى الحداثة، وكون العلويين أقل تعلقاً بمعتقداتهم الدينية يحعلهم أقرب إلى الحداثية، وكون المسيحيين مسيحيين يجعلهم أقرب إلى الحداثة لأنها الغربية المنشأ، والغرب "مسيحي." إن هذه الطروح على سذاجتها الصارخة تعتبر من المسلمات.  


لا يترك هذا الأمر  مجالاً كبيراً أمام أهل السنة للدفاع عن أنفسهم أو تبريرها. والواقع أنهم ليسوا أبرياء تماماً، فالسلطة مورست باسمهم في البلاد، أي سوريا الطبيعية، حتى ما قبل تأسيسها في العصر الحديث، على مر قرون من الزمن، ولا شك في أن لهذا الواقع  أثره الكبير على أنماطهم السلوكية والفكرية العامة، أنماط قد تغيب عن انتباههم، لكنها لا تخفى على الأقليات. فـ "نون" الجماعة التي غالباً ما تستخدم في الخطاب السوري الرسمي الموجه للعموم، وفي معرض الكلام العام عن "ثقافتنا" و "قيمنا" و "مبادئنا و "همومنا"... تشير في الواقع إلى الثقافة والقيم والمبادئ والهموم كما يفهمها أهل السنة بالدرجة الأولى، بل المحافظون والمتدينون والمدينييون منهم على وجه الخصوص. ولقد سعى نظام الأسد عن قصد وإدراك وبشكل منهجي إلى تكريس هذا الواقع لما فيه من تهميش لثقافات وقيم وتطلعات الأقليات بالذات، مما لا يترك أمامها إلا خيار الاصطفاف وراءه.

وإن كانت الخيارات الإيديولوجية السياسية للأقليات تعكس إلى درجة ما مخاوفها حيال الأكثرية، أهل السنة في الحالة السورية، فقلما عكست الخيارات السنية، حتى الآونة الأخيرة على الأقل، تفهماً حقيقياً وعميقاً لهموم ومخاوف وتطلعات الأقليات الدينية والطائفية في البلاد، ناهيك عن الأقليات القومية، ولكونها تختلف في جوهرها وفي الكثير من تفاصيلها عن نظائرها عند أهل السنة. وفي هذا الأمر بحد ذاته دلالاته الخاصة التي تسبغ بعض الشرعية على مخاوف وشكوك الأقليات حيال أهل السنة.

لكن المشكلة الأكبر تكمن في رفض الأقليات الدينية والطائفية التعامل الصريح مع هذه القضية حتى اليوم، أي في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من أهل السنة يشعرون بأهمية وحقيقة وخطورة هذه القضية، قضية حقوق الأقليات والترتيبات المتعلقة بحمايتها، وأصبحوا يبدون استعدادهم للتعامل بانفتاح أكبر معها، وإن اختلفت طروحاتهم في هذا الصدد. وربما يكمن السر وراء هذا الرفض الأقلوي لطرح حقوقهم على مائدة البحث بشكل صريح ومن خلال مناقشة ترتيبات بعينها يمكن لها أن تضمن حقوقهم في المستقبل في أن هذا الأمر يشير بوضوح إلى وجود عامل أصولي و "رجعي" في فكر وسلوكيات الأقليات أيضاً، وهو الأمر غير المقبول من قبل النخب المثقفة والسياسية عند الأقليات التي تصر على إلصاق تهمة الأصولية والرجعية بالأكثرية السنية حصراً، في الوقت الذي تطرح فيه هذه الأقليات نفسها، عن طريق نخبها الفكرية والسياسية، كرائدة التطور والتقدم والتحديث في سوريا، بل والمنطقة. لذا، ترفض هذه النخب، في خطابها على الأقل، وبصرف النظر عن طبيعة الممارسات السياسية للنظام الذي حكم سوريا بإسمها وبذريعة ضمان أمنها عبر العقود الماضية، التعامل مع قضية "حقوق الأقليات،" وتصر على اكتفائها بمفاهيم المواطنة والمساواة. ويشكل هذا الإصرار، من الناحية العملية، رفضاً لأي بديل لما هو قائم: نظام استبدادي يحكم باسم الأقليات، ويقمعها أيضاً ليكرس قبضته عليها ويمنعها من إفراز أية بدائل داخلية له، لكنه يختص بالذات ويتفنن في قمع الأكثرية.

لقد ساهم الإحساس بالمظلومية التاريخية حيال أهل السنة في صنع هوية أقلوية معاصرة ترضى لنفسها العيش تحت نير الاستبداد، طالما بقي أهل السنة بعيداً عن سدة الحكم، بصرف النظر عن الاعتبارات الديموغرافية والحقوقية والإنسانية، أو عن بوجود عوامل مشتركة في الهويات الجمعية لدى الجميع.

لقد أصبح شعور الأقليات الدينية والطائفية في سوريا بالأمان مرتبطاً ببقاء أهل السنة في القفص وتحت حكم البسطار العسكري. أضف إلى ذلك، ونظراً للكيفية التي استخدمت بها القوى الخارجية في السابق، واليوم، قضية حقوق الأقليات وحمايتها كمبرر لحملاتها الاستعمارية والاستيطانية في البلد والمنطقة، يبدو من الطبيعي أن تتجنب النخب الممثلة للأقليات أي طرح صريح يمكن أن تشتم منه رائحة التقسيم والسياسيات التفضيلية، إذ لا تريد  هذه النخب أن تتهم بأنها طابور خامس يسعى لخدمة مخططات خارجية. وإن كانت الوقائع منذ بداية الثورة تشير إلى أن من يحكمون سوريا باسم الأقليات كانوا هم السباقين إلى الاستعانة بقوى الخارجية لحمايتهم، وأنهم هم من يخلق وعن قصد واقع التقسيم على الأرض، وهم من قام بحملات تطهير عرقي قبل غيرهم، وعلى نطاق أوسع، وأحرقوا خاصة تلك المناطق من البلاد التي يسكنها أهل السنة، وأنهم هم من سعى ومن اللحظة الأولى لنهجهم القمعي حيال الثورة إلى تأمين تلك المناطق التي تسكنها أقلية بعينها، وتعتبرها موطنها الأصلي. 

هكذا، وبسبب وجود موقف عدائي مسبق من الأغلبية السنية، وبسبب جهل النخب الفكرية والسياسية السنية لهذا الواقع بمضامينه المختلفة، أو تجاهله، وبسبب التبني المسبق من قبل الجميع لنظريات المؤامرة التي، وإن كان لها مبررات تاريخية، ساهمت رؤانا المؤدلجة في تضخيمها إلى درجة لم نعد نعي فيها مقدار مساهمتنا في بناء واقعنا المعيشي والسياسي، وأنا نتحمل القسط الأكبر عما يجري في حياتنا وما يقع علينا من ظلم، كان من السهل على البعض منا تصديق أكاذيب الأسد حول "المندسين" و "المؤمرات الكونية،" ومن السهل على البعض الآخر الإنجرار وراء الأحلام الغيبية والرؤى المتشددة. لقد ساهم انغلاق الأقليات على نفسها لقرون سابقة، نتيجة للنظام المللي العثماني الذي حماها وعزلها في آن، على الأقل في أواخر عقوده، وعلى الرغم من انفتاحها على المستعمر الفرنسي خلال وجوده في البلاد، والذي ترك رحيله عندها إحساساً بالخذلان طالما تجاهلته أدبياتنا، بل على العكس، ظهر تيار فكري وأدبي ركز على تواطئ بعض التجار السنة مع المستعمرين الفرنسيين، فيما تم تجاهل التواطئ الأقلوي الأعمق والأكثر شعبية، ساهم هذا الانغلاق  في تكوين مظلومية حادة عند الإقليات الدينية والطائفية في سوريا مبنية على أساس تراكمي تحكمه المزاجيات والذاكرة الجمعية النفعية والمكرسة للعصوبية الخاصة بكل فريق، أكثر من الحقائق التاريخية والتمحيص والتحليل الموضوعي لها. بمعنى آخر، هناك الكثير من الأوهام إلى جانب الحقائق في إحساس الإقليات بالمظلومية، والكثير من التحامل على فئة مسحوقة مثلهم، حتى وإن كانت تشكل الأكثرية.

ولهذا، لن يقدم ممثلو الأقليات المقبولين شعبياً (إذ لا تهم في إطار هذا التحليل هنا المواقف الفردية لبعض الشخصيات طالما بقي نفوذهم ومصداقيتهم على المستوى الشعبي محدوداً للغاية) أي حل منطقي للأزمة، وسيدأبوا على رفض المقترحات والرؤى الموضوعة من قبل التحالفات التي تشرف عليها الأكثرية، لأنها ستبقى دائماً مقصرة، خاصة وأن الحل المثالي الذي ترتاح إليه الأقليات يبقى مرتهناً، كما نوهنا آنفاً، إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، مهما كانت سيئة. فمن الأسهل على الأقليات من الناحية النفسية أن تتمسك بإيمانها بأنها الضحية الأساسية لأهل السنة ولطموحات الأسد ومن حوله وفسادهم، ولثلة من المؤامرات الخارجية من الدول ذات الأغلبية السنية، مثل تركيا والسعودية وقطر، علاوة على أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من أن تواجه حقيقة مساهمتها الملوسة في صنع هذا الواقع.  باختصار، سيبقى ممثلو الأقليات في خطابهم العام يتمسكون بالوحدة والسيادة الوطنية، لكن ستبقى أفعالهم وخطابهم الداخلي الخاص يمهد للتقسيم والتفتيت والفوضى والإرهاب، حتى ذلك الممارس باسم أهل السنة ونصرتهم، وذلك  من خلال تورط النظام في إنشاء وتشجيع الجماعات الإرهابية. فالخوف هو الحاكم هنا: الخوف من أهل السنة، المضطهِد والظالم والمذنب الأول بحق كل الأقليات، كما يرى السواد الأعظم فيها.


ولقد ساهمت كل هذه الاعتبارات من ناحية، والنزعة أو العقلية "المركزية" عند أهل السنة من ناحية أخرى، والتي تضعهم دائماً، كما هي الحال مع سائر الأكثريات التقليدية، في مركز الصيرورات وعلى قمة الهرم، وهي الحقيقة التي تتجلي دائماً في تصرفاتهم وسلوكياتهم وكيفية اتخاذهم للقرارات التي تنم كلها عن فوقية وعنجهية يشعر بها الجميع ما خلا أصحابها... كل هذه الأمور والاعتبارات ساهمت في تشكيل ذلك الاتفاق الضمني الذي يبدو أن النخب الفكرية السياسية والاجتماعية والدينية التي شاركت في عهد التأسيس لسوريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قد توصلت إليه بطريقة أو أخرى.

ويتجلى هذا الاتفاق في التناسي المنهجـي لطبيعة التحولات السياسية المختلفة التي ساهمت في تشكيل الدولة السورية الحديثة، بما فيها الخلافات والحوارات التي دارت بين النخب السياسية والاجتماعية المختلفة حول طبيعة الدولة، والكيفية التي تم من خلالها الاتفاق على تأسيس دولة واحدة وليس دولتان، أو ثلاث، أو أربع، وتغييب الكثير من الأحداث التي ساهمت في تشكيل الوعي آنذاك، مثل أسباب محاكمة وشنق عضو البرلمان سلمان المرشد، العلوي الأصل والمنشأ، بعد مرور أقل من ثلاث أشهر على إعلان استقلال دولة سوريا بتهمتي الخيانة والردة، ومثل التفاصيل المتعلقة بالإنقلابات العسكرية المختلفة وأسبابها الحقيقة، إلخ. فالكتب المدرسية والجامعية، سواء تلك التي أنتجت في المرحلة البعثية أو التي جاءت قبلها، لم تتعامل أبداً بشكل موضوعي مع المرحلة التأسيسية، هذا علاوة على تغييب أو منع الكتب والمذكرات التي كتبتها الشخصيات السياسية والفكرية التي عاصرت هذه المرحلة الهامة وساهمت في تشكيلها. ومما لا شك فيه أيضاً وقوع الكثير من التزوير والتشويه في بعض هذه الكتابات خاصة تلك التي ما تزال متداولة بشكل مفتوح.

خلاصة الكلام: إن مسألة التنوع الطائفي وحقوق الأقليات، بل حقوق جميع المكونات، الآن وقد أصبح لأهل السنة في سوريا مظلوميتهم الخاصة حيال باقي المكونات، أهم من يتم التعامل معها عن طريق تفادي الغوص في التفاصيل، وتجاهل المظلوميات المتراكمة والانطباعات النمطية الخاطئة، والاصرار على التمظهر بالتمدن من خلال تبني شكلياته وتجاهل فحواه. لن تفيدنا في الفترة القادمة الدساتير والاتفاقيات والوثائق التي تضعها النخب من خلال حوارات ونقاشات مغلقة، نحن بحاجة إلى عقد حوار مفتوح حول مجمل قضايانا، بالتركيز على قضية تنوعنا بالذات، قبل تبني أية وثيقة نهائية. إن أية محاولة لتناسي الإشكالات والعوامل التي ساعدت على اندلاع الحرب الأهلية في ربوعنا، وسمحت بالتدخل الخارجي فيها، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الماضي وبالتالي إلى التمهيد إلى صراع جديد في المستقبل.

وحتى ذلك الحين، علينا أن نحسن التعامل مع عهد الانتداب الجديد والمتنوع، المباشر منه وغير المباشر.

الخميس، 17 مارس 2016

حوار مع ناشط صريح


أعجبتني جداً بساطة هذه الأسئلة وطبيعتها الصريحة وغير المتكلفة، لذا قررت نشرها هنا، تاركاً للناشط الخيار فيما إذا أراد التعريف بنفسه أم لا. وراجياً أن تنمّ أجوبتي عن التزام مماثل بالبساطة والصراحة وعدم التكلف، وإن كنت قد قمت بتعديلات بسيطة عليها للتوضيح وتصحيح ما ورد من أغلاط الإملائية.

أستاذ عمار ماهو تعريف الحقيقة بالنسبة لك؟
بحث.

هل ممكن أن تصل لها أو هي تصل لك؟
بشكل نهائي؟ لا أعتقد. لكن يمكن الوصول إلى بعض الحقائق الجزئية بالطرق الموضوعية.

ما هي الطرق الموضوعية؟
العلوم المختلفة.

هل هي شيء حي أو جامد؟
موضوعياً، هي مكونة من الحياة والجماد، علاوة على ما نتوصل إليه من معرفة بخصوصهما، وما ننسج حولهما من خيال.

أستاذ عمار هل لديك فرق بين الخير  والشر في منظار  فرضيتك للحقيقة؟
الانتهاكات المتعمدة لحقوق الناس شر، ما سوى ذلك خير، على الأقل بالمعنى الاجتماعي والقانوني. أما بالمعنى الأخلاقي، فالخير يتمثل في المبادرة المتعمدة المقصود منها خدمة الناس والمجتمع والبيئة المحيطة.

ولكن هل يمكن تحديد معيار جوهري للخير والشر ما لم نكن قد توصلنا للحقيقة أولاً وعرفنها بشكل مطلق؟
لا أعتقد هذا. الشر والخير ينبعان من تصرفاتنا وخياراتنا، ولا علاقة لهما بالمطلق.

هل الحقيقة ثابتة أم تختلف وتتغير من عصر لعصر؟ وهل يوجد بكل عصر أشخاص هم أسياد الحقيقة يقدمون مايحتاجه العصر؟
لا أستطيع أن أتكلم عن الحقيقة المطلقة، فالحقيقة التي أؤمن بها هي عملية بحث واستكشاف مستمرة. وإدراكنا لها يتطور ويتغير مع كل اكتشاف. بل، وبحسب الفيزياء الكمية أو الكوانتية، نحن نقوم بتغيير طبيعة بعض الحقائق عندما نراقبها، فالعلاقة مع الحقيقة على هذا المستوى إذاً هي علاقة تفاعلية. وليس من السهل على الإطلاق أن نعي كنه هذا الأمر ومضامينه الأعمق لأننا نتكلم هنا عن أمور بعيدة عن التصورات المتعلقة بمشاهدات الحياة اليومية. وهذا يعني أن علينا أن نتأقلم مع الشك والحيرى في الحياة.

من ناحية أخرى، فإن للحقائق الموضوعية أسيادها بالفعل، وعلينا أن نحاول النهل من علومهم ما استطعنا. أما الحقائق المتعلقة بتفاعلاتنا كبشر، أي الحقائق بمفهمومها الأخلاقي والآدابي، ففهمها متاح لكل من لم يعم الطمع أو النرجسية أو العقيدة بصيرته، فلا وجود لأسياد هنا، بصرف النظر عن ادعاءات البعض.

شكراً أستاذ عمار.
العفو.