الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الدولة الحداثية والهوية والحركات الانفصالية

أحتفالات في أربيل بنتائج استفتاء الاستقلال - 29 أيلول، 2017

الحرة / من زاوية أخرى – إذا عرّفنا الدولة الحداثية على أنها ذلك الكيان الذي يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل من فيه من أفراد ومكونات، فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يتماهى مع الهوية الخاصة بأي من مكوناته المؤسسة، سواء كان الأمر يتعلق بالهوية القومية أو بالانتماء الديني أو بعقيدة سياسية بعينها
.

من هذا المنطلق، تمثل المساعي الانفصالية المختلفة والرامية إلى تأسيس دول جديدة قومية الطابع خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بعمليات التحديث والتطوير المجتمعي، سواء تجلّت هذه المساعي في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب. والأمر نفسه في الواقع ينطبق على تلك المساعي الهادفة إلى إعادة تشكيل دول قائمة على أسس دينية أو أيديولوجية، كالدعوة إلى أسلمة الدول أو تبني الشريعة الإسلامية كقانون ناظم لها. لكنا سنركز نقاشنا هنا على الحركات القومية بالذات.

لا يعني كلامنا السابق بالضرورة أن كل حركة انفصالية تشكل بالضرورة حركة رجعية من الناحية الفكرية والقيمية. إن التركيز شبه الحصري على البعد القومي هو الأمر الإشكالي هنا، وهو ما يسم الكثير من هذه الحركات بصفة الرجعية. والمثير في الموضوع عند تعاملنا مع هذه الظاهرة هو أن معظم الحركات القومية الانفصالية جاءت كردة فعل على الاضطهاد الذي تعاني منه قوميات معينة في إطار دول محكومة من قبل أنظمة وتيارات قومية التوجهات بدورها، أي أن معظم مؤيدي هذه الحركات يدركون تماماً حجم المخاطر التي غالباً ما تنجم عن تبنّي توجهات قومية في ما يتعلق بتعريف الدولة وحكمها. ومع ذلك لا يرى أصحاب هذه التيارات أي تناقض ما بين طروحاتهم وتوجهاتهم القومية وبين واقع الاضطهاد والتهميش الذي يحاولون الهروب منه، على الرغم من أنه سيكون لزاماً عليهم، فيما لو تكللت مساعيهم الانفصالية بالنجاح، أن يتعاملوا مع تحديات مماثلة، أي تحديات ناجمة عن وجود قوميات أخرى في إطار "وطنهم القومي" المنشود، قوميات قد يكون لها رؤية وتفسير مختلفان تماماً للتاريخ وللحدود، علاوة على مخاوفها المشروعة في ما يتعلق بمستقبلها في هذا الوطن الجديد. هذا ناهيك عن الإشكالية الناجمة عن أن قيام دولة قومية جديدة غالباً ما يأتي على حساب تفتيت دولة قومية قائمة وبالتالي على حساب الرؤية القومية الخاصة للتيارات والشرائح النافذة فيها. ولهذا، غالباً ما تؤدي هذه "الإشكالية" إلى اندلاع حرب ضروس نادراً ما يحسمها قيام هذا الكيان القومي الجديد، حتى في حال حصوله على اعتراف دولي.

يكمن المخرج من هذه الورطة في التركيز على المطالبة بالعدالة والحقوق الأساسية والأمان، وفي إدراك أن الانفصال لا يزيد عن كونه مجرد أداة من الأدوات التي يمكن لها أن تحقق هذه المطالب في بعض الظروف. لكنه يبقى الأداة الأكثر راديكالية، كما أن قدرته على تحقيق هذه المطالب ليست فورية في معظم الأحيان، كما تدلنا السوابق التاريخية. لذا، لا ينبغي اللجوء إليه إلا في حال فشل الأدوات الأخرى.

لقد رأينا أية شرور انبثقت من مجرد التلويح بالانفصال في كل من كوردستان العراق وكاتالونيا، وبوسعنا أن نتابع ما يحدث اليوم في جمهورية جنوب السودان التي انفصلت ولم يتحقق فيها لا الإمان ولا الاستقرار ولا الحرية، بل لم تنته مواجهاتها بعد مع النظام في الخرطوم. ورأينا ما حدث في السابق في البلقان الذي ما تزال الأوضاع الأمنية في دوله الجديدة معرضة للانهيار في أية لحظة.

نعم، لقد تحقق الانفصال في تشيكوسلوفاكيا دون حرب، ولم يسفر الاستفتاء في استكلندا عن أية اضطرابات أو قلاقل اجتماعية، وما كان من المتوقع له أن يسفر عن أية ممارسات عنفية حتى في حال جاءت نتيجته بالإيجاب، وكذلك الأمر في ما يتعلق بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروربي والذي يمثل نوعاً من الانفصال. وهنا بيت القصيد. لقد لعبت البنية المجتمعية والمنظومة السياسية الخاصة بهذه الدول دوراً كبيراً في قيادة الحوار وتشكيل الإطار الخاص بالعمليات السياسية المتعلقة بقرار الانفصال، هذا علاوة على قضية التوقيت وعلى الشروط الإقليمية والدولية الخاصة التي كانت سائدة في تلك اللحظات الحرجة التي حدثت فيها هذه العمليات وتم فيها اتخاذ القرارات الحاسمة.

على المطالبين بالانفصال أن يأخذوا كل هذه الأمور والشروط والسوابق بعين الاعتبار وأن يوازنوا ما بين رغباتهم ومطالبهم الخاصة، مهما بدت لهم مشروعة، وبين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف السائدة حالياً على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي. وإذا كانت النخب السياسية المسؤولة عن قيادة الحركات الانفصالية المختلفة تعاني في هذه المرحلة من خلخلة أو تشرذم ما ومن عدم استعداد للالتزام بشكل مناسب بالعملية الديموقراطية في عملها بما في ذلك القبول بالمساءلة الشعبية وبقواعد الشفافية وتداول السلطة والابتعاد عن المحسوبيات، فمن حق المرء، بل يتوجب عليه أن يتساءل عن طبيعة الدولة المستقلة التي ستديرها هذه النخب.

إن في التركيز على تحقيق الانفصال في هذه المرحلة، بل وعلى التعامل مع مفهوم الانفصال وكأنه الطرح الأمثل لتحقيق العدالة، تبديدا للطاقات الحيوية للشعوب المعنية، والتي ستعطي مفعولاً أكبر فيما لو جُيرت للمطالبة بالتزام أكبر من نخبها السياسية بأسس العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وبالعمل على تحقيق إدارة أكثر فاعلية لعمليات التنمية المحلية، إلى آخره من تلك القضايا التي يتم التعامل معها وكأنها مسائل فرعية في حين أنها تشكل حجر الأساس في ما يتعلق بقيام الدول العادلة القادرة على تحقيق الأمان لشعوبها، ولكل مكون من مكوناتها بصرف النظر عن خلفيته القومية أو الدينية أو المذهبية.


الاثنين، 23 أكتوبر 2017

خواطر حول التطرف والإرهاب والتغيير




الحرة / من زاوية أخرى – لا يمكن اختزال مشكلة التطرف الفكري في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة في مسألة المعتقدات وحدها، فالتطرف ظاهرة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر منها ظاهرة فكرية ودينية. ولا يشكل وجود سوابق تاريخية وفكرية للتطرف في الإسلام أو نصوصاً إشكالية في كتبه المقدسة مبرراً لهذا الاختزال أو ظاهرة فريدة في تاريخ الأمم والأديان، فهناك سوابق لهذا الأمر في معظم الأديان والمجتمعات التقليدية. وغالباً ما يقتصر دور الفكر والعقائد على التبرير والتحريض والتجييش لخدمة مخططات ومصالح لا علاقة للدين بها لا من قريب ولا بعيد.

لا نهدف من خلال هذه الملاحظة إلى التقليل من أهمية البعد العقائدي في ظاهرة التطرف، وبالتالي إلى التقليل من ضرورة إصلاح الفكر الديني، لكن فهماً أعمق لدور الدين والعقيدة هنا سيساعدنا بلا شك في ترتيب أولياتنا وفي التعامل مع تحدي الإصلاح الديني بشكل أفضل وأنجع.

فإذا كان ثمة إشكال في ما يتعلق بالمقدسات والمعتقدات في هذا الأمر فلن نجده في الإسلام كظاهرة استثنائية، أو في أي دين بعينه إذا ما توخينا الدقة، ولكن في ذلك التناقض ما بين بعض المعتقدات والنزعات التقليدية من ناحية، وبعض معطيات الحداثة بظروفها وشروطها الموضوعية الخاصة والقيم الناجمة عنها من ناحية أخرى، وهذا إشكال يواجه كل الأديان والمجتمعات التقليدية ولا يقتصر على الإسلام والمجتمعات ذات الغالبية المسلمة.

لذا، يتطلب التعامل الناجع مع قضية التطرف في هذه المجتمعات أن نبتعد عن إغراءات الاختزال والتبسيط، والتي غالباً ما تنجم عن تعصبات معينة نابعة عن إشكالات الهوية، إثنية كانت أو مذهبية، فيرى بعض المسيحيين أن مشكلة التطرف توجد في الإسلام ذاته، أو يرى بعض الشيعة أن المشكلة تقع عند أهل السنة تحديداً، أو العكس، أو يرى بعض الأكراد أن المشكلة تنجم أساساً عن "العقلية العربية الصحراوية،" إلخ. علينا أن نتجاوز كل هذه النزعات اللاعقلانية وأن نواجه العوامل الحقيقية وراء ظاهرة التطرف في مجتمعاتنا والتي طالت كل مكوناتها بلا استثناء، وهي عوامل بنيوية الطابع تبدو أكثر ارتباطاً بالمنظومة الإدارية والسياسية للدولة وطريقة تعاملها مع مسألة الحكم والهوية منها بالفكر والدين، خاصة في المراحل التالية للمرحلة التأسيسية للدول في منطقتنا.

ومن هذه العوامل فشل المنظومة التعليمية الرسمية في ترسيخ المفاهيم والقيم الثقافية الحداثية، وسوء إدارة عمليات التنمية الوطنية أو إهمالها تماماً، خاصة في مناطق بعينها، وذلك نتيجة لاعتماد الأنظمة الحاكمة على الولاءات عوضاً عن الكفاءات عند القيام بتوزيع المناصب والوظائف الرسمية، أو كجزء من سياسة خاصة حيال هذه المناطق استناداً إلى اعتبارات إيديولوجية أو إثنية أو مذهبية، إلى آخر ما هنالك من عوامل.

وعلينا التعامل مع مسألة الإرهاب من المنطلق ذاته فنتجاوز إشكالية الاختزال والتبسيط. فالإرهاب اليوم يمثل ظاهرة إقليمية وعالمية أمنية بامتياز ومرتبطة بدول وأجهزة ومصالح وصراعات بعينها. إذ لا يمكن للمنظمات الإرهابية أن تتواجد وتنتشر على النطاق الواسع الملحوظ حالياً من دون دعم مستمر وممنهج من قبل حكومات وجهات أمنية معينة. ولا نشير هنا إلى الحكومة الأميركية والـ سي. أي. إيه.، كما جرت العادة في أدبياتنا المعاصرة، بقدر ما نوجه أصابع الاتهام إلى حكوماتنا الإقليمية وأجهزتها الأمنية، والتي انضم إليها الروس مؤخراً. أي أن دود الخل منه وفيه، كما يقول المثل الشامي.

إن استغلال الحكومات الإقليمية لسلاح الإرهاب، أولاً تحت مسمى المقاومة، ومن ثم ابتداعها لقضية محاربة الإرهاب والإرهابيين، وتجيير كلا الأمرين لخدمة مصالحها الفئوية الخاصة، ولإدارة صراعاتها البينية، ولإحكام قبضتها على المجتمعات المحلية، سبق بعدة عقود إعلان أميركا لحربها العالمية الخاصة على الإرهاب. ولقد جلب علينا هذا الوضع ويلات أكثر وأكبر وأخطر وأعمق مما جلبه التدخل الأميركي في العراق والمنطقة عموماً.

إن الحجم الديموغرافي للمسلمين وانتشارهم في جميع أنحاء العالم علاوة على طريقة تعامل الإعلام العالمي والإقليمي مع ظاهرة الإرهاب ككل يولد انطباعاً عاماً يحعلها تبدو أكثر ارتباطاً بالإسلام والمسلمين من غيرهم، وهذا يخدم مصالح الإرهابيين الإسلاميين أنفسهم، فالإرهابي يريد أن يُعرف لأن هذا الأمر يساعده على الترويج لرسالته وعلى كسب الدعم والمؤيدين.

لكن الإرهابي في الواقع ليس سيد نفسه، وغالباً ما يتم استغلاله، بمعرفة عنه أو جهل، لخدمة مصالح وقوى إقليمية معينة. ولا شك في أن هذا الارتباط ما بين الدول والأنظمة الإقليمية من ناحية، والإرهاب من ناحية أخرى، يعقد إلى نحو كبير عملية محاربة التطرف في مجتمعاتنا ويعرقلها. فأنظمتنا السياسية، وبصرف النظر عن ادعائاتها وتبجحاتها المتكررة، بحاجة دائمة إلى وجود المتطرفين والإرهابيين في أوساطنا كونهم يشكلون أحد أدواتها الأساسية في الحكم، وستبقى هذه الأنظمة بالتالي الراعي والداعم الأكبر للتطرف والإرهاب في مجتمعاتنا، ونكاد في تأكيدنا هذا لا نستثني أياً من الأنظمة الحاكمة في منطقتنا.

ومن هنا بالذات ينبع ذلك الارتباط البيني المصيري لقضايا التوعية والتحديث والدمقرطة والمعارضة السياسية في مجتمعاتنا. ونظراً لهذا كله، لن يكون التغيير سهلاً أبداً، وليس من الغريب على الإطلاق أن تجد شعوبنا أنفسها مراراً وتكراراً غارقة في دوامة العنف والقتل والدمار.

سيطول هذا المخاض.


السبت، 14 أكتوبر 2017

التيارات الديموقراطية الشرقأوسطية وضرورة التحالف مع الغرب

ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ.



الحرة / من زاوية أخرى – بدى للكثير من الناس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة عقب ثورات أوروبا الشرقية المخملية في أواخر القرن المنصرم أن ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم أصبحت في طريقها للانقراض، وأن تأسيس نظام عالمي جديد قائم على الديموقراطية والليبرالية، على الأقل في ما يتعلق بمبادئه الاقتصادية، بات أمراً وشيكاً.

من هذا المنطلق، لا شك أن لعودة روسيا اليوم إلى الساحة السياسية العالمية مصحوبة بالإنجازات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لإيران، وباستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في الصين وتمدد نفوذها عبر العالم، علاوة على نجاح الكثير من الأنظمة الاستبدادية التقليدية في البلدان النامية في الحفاظ على بقائها في وجه ثلة من التحديات الداخلية والخارجية وبعد أن بدت آيلة للزوال في تلك الفترة الواعدة، لا شك أن لهذا كله وقعاً سلبياً كبيراً عند كل من بنى آماله وتوقعاته على انتصار وشيك للنظام الديموقرطي الليبرالي.

لكن هذه العودة لقوى الاستبداد والرجعية ليست مفاجئة في الواقع، فهي لم تختف عن الساحة أساساً، وما كان يمكن للأسباب والعوامل التي أدت إلى ضعفها المرحلي أن تستمر إلى الأبد أو أن تمهّد الطريق إلى ذلك التغيير الجذري المرجو بالسرعة التي توقعها أو حلم بها الكثيرون. إذ لا تمثل هذه القوى ظاهرة طارئة في المجتمعات، بل هي في الواقع امتداد لإرث حضاري تراكمي قديم لا يمكن له أن يتغير أو يتطور إلا من خلال المرور بذات المراحل التي مرت بها ديموقراطيات الغرب، بما في ذلك من كر وفر، من مد وجذر، ومن صراعات وانتكاسات.

قد يرغب البعض في حرق المراحل، عن طريق المواجهات الثورية مع النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية المستفيدة من استمرار الأطر التقليدية مثلاً، لكن تحديات تشكيل الوعي الجمعي وصياغته لا تسمح بذلك، والثورات الشعبية لا تؤتي أُكُلها إلا بعد أجيال من النضال والعمل المنظم، وتبقى نتائجها مرتهنة بقدرة النخب الثورية على الارتقاء إلى التحديات التنظيمية الخاصة بكل مرحلة وكل جيل. فالمعرفة وحدها لا تكفي هنا، وإطلاع المرء على تجارب التغيير في المجتمعات الأخرى وتبنيه لأفكار مختلفة عن تلك التي نشأ عليها لا يكفي بالضرورة لإحداث تغيير جذري في تصرفاته وسلوكياته. والقضية أصعب بكثير على المستوى الجمعي. ولنا في التناقض الصارخ ما بين أفكار الليبراليين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وتصرفاتهم الشخصية خير دليل على ذلك، كما سبق ونوهنا في مقال سابق.

لقد مر أكثر من قرن على دخول الأفكار الحداثية إلى مجتمعاتنا وتغلغلها فيها، ومع ذلك، وفيما خلا بعض القشور والمظاهر، ما تزال النزعات التقليدية والإيديولوجيات السياسية المتمحورة حولها أكثر قدرة على تحديد الأنماط السلوكية السائدة في مجتمعاتنا من الأفكار والقيم الحداثية.

وفي الواقع، مازالت المجتمعات الغربية نفسها تعاني من هذا التناقض، على الرغم من أنها تمثل الحاضنة الأساسية للحداثة. وها نحن نرى كيف تعاني هذه المجتمعات اليوم من عودة صراعات الهوية إلى الساحة بما في ذلك حنين صريح ومعلن إلى تأكيد الخصوصية القومية والعرقية والدينية للغرب عموماً، وللمجتمعات المختلفة فيه، وإن أدى ذلك إلى تراجع في ما يتعلق بالالتزام بالقيم الديموقراطية والليبرالية.

فحتى في الغرب إذن، ما تزال المعركة من أجل الديموقراطية مستمرة، لأنها في جوهرها معركة ضد نزعات متأصلة في نفوسنا كبشر، ولا يمكن لمعركة كهذه أن تنتهي أبداً، كما لا يمكن لها أن تُخاض في الغرب وحده. فها نحن نرى كيف سمح التراجع الغربي على الساحة العالمية إلى عودة روسيا (وغيرها من القوى التقليدية) إليها، بأحلامها الإمبريالية القديمة إياها، بل، وكيف شجعها هذا التراجع على إعلان الحرب على الديموقراطيات الغربية من خلال تلاعبها الإلكتروني بالانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.

من هنا تنبع حاجة الغرب المستمرة إلى بسط نفوذه خارج حدوده الجغرافية، فهو ما لم يخض المعركة خارج حدوده سيخوضها داخلها. لذا، وكما عادت روسيا والنظم الاستبدادية الرجعية إلى الساحة الدولية بعد غياب، لن تطول مرحلة التراجع الغربي التي نشهدها اليوم.

من ناحية أخرى، هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم، ومهما تلكأت الحكومات المعنية هنا فهي لن تتلكأ طويلاً، بل لا يمكن السماح لها بذلك، ومهما أخطأت في تناولها لملف الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأخفقت في التوفيق ما بين مصالحها المادية وهذه القضايا، علينا أن لا نسمح لهذه الأخطاء أن تعمينا عن ضرورة إيجاد طرق للتحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول (راجع مقالي السابق: عن الإمبريالية والديموقراطية – 2)، إذ ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. كما لا يمكن لنا أن ننتصر في مواجهاتنا مع أنظمتنا الرجعية المختلفة دون هذا التحالف، لأن هذه الأنظمة ومهما تناحرت ما بينها تعرف متى تتحالف مع بعضها البعض في مواجهاتها المستمرة مع شعوبها.

ويمثل السعي وراء قيام هذا تحالف القوى الديموقراطية هذا وفي هذا الوقت بالذات التحدي الحقيقي الذي ينبغي على كل العاملين في مجال الديموقراطية والتنمية في مجتمعاتنا التصدي له.


الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

عن الإمبريالية والديموقراطية (2)


الحرة / من زاوية أخرى – ناقشنا في المقالة السابقة ظاهرة الإمبريالية التقليدية وكيف اختار الغرب التعامل معها في النصف الثاني من القرن العشرين، ونوهنا إلى تفرد الغرب إلى حد ما في تعامله الأكثر مرونة مع هذه الظاهرة، الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على آليات صنع القرار في الدول الغربية وعلى طبيعة القرارات نفسها، وذلك في ذات الوقت الذي تصر فيه دول مثل روسيا والصين على تبني سياسات إمبريالية الطابع بغرض الحفاظ على إمبراطورياتها الموروثة، بصرف النظر عن إرادة شرائح واسعة من مواطنيها.

ولا تقتصر النزعة الإمبريالية على الدول العظمى فقط. فهي كما نوهنا نابعة من التركيب الجيني للدول والتجمعات البشرية عموماً. بل ما تزال هذه النزعة مسؤولة عن تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للدول في معظم أنحاء العالم، وبوسعنا أن نرى تجليات هذا الوضع في منطقتنا، أي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في الكيفية التي تتعامل بها دول المنطقة مع بعضها البعض، والتي لا تراعي مفهوم السيادة في الكثير من الأحيان، وفي كيفية تعامل السلطات المركزية في بعض الدول مع مناطق وشرائح اجتماعية بعينها. ولهذا بوسعنا أن نتكلم عن مظلومية كوردية في كل من تركيا وإيران، ومظلومية أمازيغية في شمال إفريقيا، ومظلومية أهوازية وبالوشية في إيران، إلخ.

وما بوسعنا أن نتجاهل في هذا الصدد أيضاً أن المملكة العربية السعودية قامت على أساس نجاح تحالف مناطقي/قبائلي معين في فرض إرادته وسيطرته على أراضي قبائل أخرى. ويتوقع بعض الخبراء الدوليين أن تعود هذه القضية المناطقية/القبائلية وتفرض نفسها على الساحة من جديد في المستقبل القريب مؤدية إلى تفتت السعودية وانهيارها إلى خمس دول.

لكن، وبصرف النظر عن مدى صوابية هذه التوقعات، يبقى الهدف من وراء إثارة قضية الإمبريالية هنا التنويه إلى أمرين أساسين، أولهما الطبيعة المعقدة لذلك الجدل الكبير حول ظاهرة الإمبريالية في الغرب الذي ما يزال محتدماً فيه منذ أكثر من قرنين، وما يزال له تأثيره الكبير في تشكيل السياسات الغربية. ولا ننسى في هذا الصدد نجاح المعسكر المناهض للحرب في المملكة المتحدة في إفشال القرار البرلماني بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري عقب الهجمة الكيماوية في الغوطة في آب 2013، وهو الحدث الإشكالي الذي تم فيه الخلط ما بين مفهومي الإمبريالية والتدخل الإنساني، الأمر الذي يكشف لنا مدى تعقيد الجدل الدائر في الغرب في هذا الصدد.

لكن، وفيما يستمر الجدل حول الإمبريالية في دول الغرب، لا يخفى علينا ذلك التغييب المستمر لأي حوار جدي حول هذا الأمر في معظم الدول الأخرى، إلا في ما يتعلق بإدانة بل وتجريم التجربة الغربية. لا وجود هنا لأي بعد أو انعكاسات داخلية لهذا النقاش، أو لأية محاولة لإلقاء الأضواء على الإرث والتجربة التاريخية الوطنية. فالإمبريالية بالنسبة لهذه الدول جريمة تُرتكب بحقها فقط ولا يمكن لها أن تنبع عن ممارساتها وسياساتها، هذا على الرغم من إصرار هذه الدول على الاحتفاء بماضيها الإمبريالي "المجيد" ومحاولتها اليائسة الحفاظ على ما تبقى من "مكتسباته،" مادية كانت أو معنوية.

إنها لثنائية خطيرة بالفعل، لكنها إن دلت على شيء فعلى ضرورة الربط ما بين قضية بث الثقافة الديموقراطية من جهة، وقضية مناهضة الإمبريالية من جهة أخرى. فالإمبريالية على أرض الواقع، وبخلاف الخطاب الإعلامي والثقافي السائد عالمياً، تبقى أكثر ارتباطاً بسياسات الدول الاستبدادية منها بسياسات الدول الديموقراطية. والدليل أن الولايات المتحدة تخطط هي وحلفاؤها لمغادرة العراق منذ اللحظة الأولى لغزوه، في حين جاءت القوات الروسية إلى سوريا وفقاً لاتفاقيات تسمح لها بالبقاء لأجل غير مسمى، بل وبتوسيع قواعدها ونفوذها أيضاً. وتنطبق الملاحظة نفسها على الوجود الإيراني في سورية أيضاً.

علينا أن لا نسمح للأخطاء التي ترتكبها الدول الديموقراطية ولفشلها الحيني في لجم نزعتها الإمبريالية أو العدوانية، بصرف النظر عن الأسباب والمبررات، أن تعمينا عن ضرورة التحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول، وعن ضرورة تبني الثقافة الديموقراطية ككل، في مواجهاتنا المتكررة مع تلك الأنظمة والدول التي ما تزال سياساتها الداخلية والخارجية تنم عن نزعة إمبريالية متجذرة لم تخضع بعد لأي مراجعة فكرية أو أخلاقية.

وما لم يتماش العمل من أجل نشر الديموقراطية مع العمل على مناهضة الإمبريالية التقليدية سنجد أنفسنا نقع مراراً وتكراراً في مطب الخلط ما بين الإمبريالية وبين التدخل الإنساني أو ضرورات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو غيرها من القضايا التي تتطلب بطبيعتها تدخلاً إقليمياً أو دولياً ما، الأمر الذي يؤدي إلى خلق فراغ وتبني سياسات تصب في خاتم المطاف في مصلحة القوى الإمبريالية والاستبدادية في جميع أنحاء العالم. ولنا فيما حدث ويحدث في سورية خير مثال على ذلك.

الاثنين، 2 أكتوبر 2017

عن الإمبريالية والديموقراطية (1)


الحرة / من زاوية أخرى -- على الرغم من أن مصطلح الإمبريالية غالباً ما يستخدم هذه الأيام عند الكلام عن الحروب التوسعية التي شنتها الأمم الغربية خصوصاً على حساب الدول والممالك الأخرى، فإن الظاهرة بحد ذاتها، أي ظاهرة الحروب التوسعية الرامية إلى احتلال أراضي الغير وضمها إلى دولة أو مملكة بعينها بصرف النظر عن رغبة سكانها الأصليين، ظاهرة قديمة قدم التاريخ وطالت كل المجتمعات والدول، وماتزال. إذ يبدو أن النزعة الإمبريالية/الاستيطانية توجد متجذرة في التركيب البنيوي أو الجيني ذاته للدول والجماعات. فإن كانت الشعوب قد أدركت ومنذ آلاف السنين أن احتلال أراضي الغير واستيطانها يعد عملاً مستنكراً وفعلاً شنيعاً، لم يكن من الممكن لهذا الإدراك بحد ذاته أن يلغي الدوافع والمصالح الكامنة وراء المطامح الإمبريالية، العقلاني منها، أي ذلك المرتبط بتحقيق مصالح مادية واقتصادية واستراتيجية معينة، والذاتي، أي ذلك المتعلق بشخصية الحاكم أو النخب الحاكمة، واقتصر دوره على "إجبار" القوى الإمبريالية على تبرير حملاتها الاستعمارية بوسائل مختلفة بما في ذلك: إنكار إنسانية الغير ككل، كما كان دأب قبائل ما قبل التاريخ بحسب بعض الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، أو اعتبارهم أدنى شأناً لاختلاف ما في الدين أو العرق أو اللغة أو الثقافة، أو إسباغ دوافع نبيلة على الحروب التوسعية مثل الادعاء أننا "جئنا لنخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام،" كما فعل المسلمون الأوائل، أو الاعتقاد بأن القدر ألقى على عاتقنا عبء القيام بـ "مهمة نشر الحضارة Mission Civilisatrice" أو "عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden،" كما أدعى المستعمرون الأوروبيون في القرون السابقة.

وقد يسرع البعض هنا ليضيف المساعي الحينية (أي المتفرقة) للولايات المتحدة الأميركية لنشر الديموقراطية إلى اللائحة السابقة، لكن ينبغي توخي الحذر هنا، فهناك فرق كبير ما بين الترويج لفكر سياسي معين، وبين السعي لضم واحتلال أراضي الآخرين. فمن الواضح لمن يتابع التاريخ الأميركي المعاصر والمشهد السياسي الأميركي أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية، لم تهدف أبداً إلى التوسع والاستيطان أو بناء المستعمرات بل إلى تحقيق مكاسب معينة مرتبطة بالمواجهة مع الاتحاد السوفييتي أبان الحرب الباردة وبالحرب على الإرهاب العالمي مؤخراً. ولا يشرعن تأكيدنا هذا التدخل الأميركي في أي من الدول، ولا يبرره، فليست هذه القضية المطروحة هنا، كما أنه لا ينفي وجود نزعة إمبريالية مستحدثة ومستبطنة مختلفة عما عهدناه سابقاً، نزعة نابعة من مطامح ومصالح وحسابات القوى المتدخِّلة والتي قد لا تنسجم بالضرورة مع مصالح شعوب الدول المستقبلة لهذا التدخل.

وهنا بيت القصيد.

لقد قامت الإمبرطوريات الغربية عبر العقود الماضية بتفكيك نفسها وبوضع قيود جديدة على تصرفاتها في مجال السياسة الخارجية جعلت من الارتكاس إلى النزعة الإمبريالية التقليدية أمراً في غاية الصعوبة، إذ لم يعد تقديم المسوغات والمبررات أمراً كافياً لتبرير التدخل في شؤون الدول الأخرى، بل أصبح من الضروري وضع ضوابط معينة له ولأدواته، بما في ذلك: بناء التحالفات الإقليمية والدولية لشرعنة التدخل، وتحديد الأهداف المزمع تحقيقها، ووضع جدول زمني ما لذلك، إلى آخر ما هنالك من قيود وشروط. وإن كانت هذه الخطوات تبقى قاصرة في ما يتعلق بمقاومة النزعات الإمبريالية عند الدول، لا ينفي هذا القصور أنها ساهمت، على عواهنها، في تغيير قواعد اللعبة على نحو جذري.

هناك ثلاثة أسباب أساسية وراء هذا القرار الغربي بالتخلي عن النزعة الإمبريالية: أولاً، رغبة القوى العظمى في تحقيق توازنات جديدة تجنبها مغبة الاقتتال البيني، ثانياً، رغبة الشعوب التي كانت خاضعة للاحتلال الغربي في تقرير مصيرها وسعيها لتحرير أنفسها، ثالثاً، الحوار الداخلي الطويل والصعب الذي شهدته المجتمعات الغربية حول حقوق الإنسان والشعوب، وبالتالي حول مدى شرعية النزعات الإمبريالية وجدواها الاقتصادية والسياسية.

لم تتبن كل الإمبراطوريات التقليدية هذه المقاربة الغربية، فالاتحاد الروسي مثلاً، وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي، ما يزال يشكل في بنيته وجوهره إمبراطورية إمبريالية تقليدية قائمة على احتلال أراضي الغير واستيطانها واستغلال ثرواتها الطبيعية لصالح سكان المركز، وعلى قمع حقوق السكان الأصليين بمختلف الوسائل، سواء في القفقاس أو الفولغا أو الأورال أو سيبيريا.

وتسري هذه الملاحظة أيضاً على جمهورية الصين المصرة بدورها ومن خلال تواجدها في شينشيانغ والتبت على تجاهل حقوق السكان الأصليين وإرادتهم، بل تسعى جاهدة إلى تحويلهم إلى أقلية مهمشة من خلال سياسات التهجير والتوطين.

والغريب هنا أننا نادراً ما نسمع أي انتقاد لهذا الوضع من قبل الدول والقوى التي تدعي أنها مناهضة للإمبريالية في العالم، في حين لا تتوقف وسائل إعلامها وتعليمها عن انتقاد التجربة الاستعمارية الغربية على الرغم من أنها انتهت منذ عقود.