الخميس، 31 أغسطس 2017

الإسلام بين الاستثنائية والموضوعية

مسجد الشيخ زايد - دبي

الحرة / من زاوية أخرى -- سبق وعالجنا في مقال سابق الإشكالية الناجمة عن الاعتقاد بأن للإسلام دوراً استثنائياً في الحياة، خاصة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، داعين إلى ضرورة التفرقة ما بين مفهومي الخصوصية والاستثنائية. فلكل دين ومعتقد خصوصياته من حيث التقاليد والممارسات والمصطلحات، لكن هذه الخصوصيات لا تقتضي وجود فارق جوهري في الدور المجتمعي الذي يلعبه هذا الدين، الإسلام في نقاشنا، بالمقارنة مع ذلك الذي تلعبه معظم الديانات التقليدية الأخرى (المسيحية، البوذية، الهندوسية...) في مجتمعاتها، على الأقل فيما يتعلق بالمجتمعات النامية.

لكن الإشكالية لا تقتـصر على دور الإسلام في المجتمع وحسب بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة تعاليمه كدين ومنهج. فحتى من هذا المنطلق، لا يعد الإسلام ديناً استثنائياً، فثلة الافتراضات التي يقوم عليها لا تختلف نوعياً عن تلك التي قامت أو تقوم عليها المسيحية واليهودية مثلاً، من بين غيرها من الديانات الشرقأوسطية والكثير من الديانات التقليدية الأخرى، من حيث الإيمان بوجود خالق معين (أو أكثر) لهذا الكون ميّز عبر التاريخ بعض الشخصيات والمجتمعات من خلال تواصله معها في محاولة منه لتنظيم العلاقة ما بينه وبين المجتمعات البشرية ككل.

وتنطبق هذه الملاحظة أيضاً على المسلمين عامة، فطالما أن الإسلام ليس ديناً استثنائياً كذلك المسلمون، فهم أيضاً، وعلى اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وقومياتهم، ليسوا شعوباً استثنائية، لا بالمعنى السلبي ولا الإيجابي. بل هم بشر كسائر البشر، عرفوا النصر في تاريخهم وذاقوا الهزيمة، خبروا المجد في بعض الأحيان وتجرّعوا الذل في أخرى، تماماً كباقي الشعوب. وهذا يعني أن للنصر والهزيمة، وللتقدم والتخلف، ولقيام الدولة وسقوطها، شروط ومقومات لا علاقة لها بالدين، حتى لو كان هذا الدين هو الإسلام. فما معنى الإصرار على استثنائية الإسلام ودوره في الحياة إذن؟

قد تبدو هذه التصريحات بدهية للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تتعارض مع الكثير من الطروحات السياسية والفكرية الفاعلة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة (وغيرها) وبالتحديد مع الطروحات الإسلاموية، وهو الأمر الذي يسبغ عليها طابعها الفاشي المميز، لأن الهدف الأساسي وراء الطرح الاستثنائي هنا هو ادعاء التفوق والأفضلية، خاصة في المجال الأخلاقي، بصرف النظر عن أية ظروف أو شروط موضوعية ما خلا ولادة المرء ونشأته في بيئة دينية معينة. في عصر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم تعد هذه الطروحات الاستثنائية مقبولة أو مبررة حتى في إطار الدول القومية.

إذ لا يسبغ كون المرء مسلماً عليه أي تفوق مسبق أخلاقي أو معنوي، ولا ينبغي له أن يمنحه أفضلية في التعامل لا في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة ولا في غيرها. كما لا تلتصق بالمسلم أية دونية أخلاقية أو معنوية نتيجة انتمائه للإسلام، سواء التزم بتعاليمه أم لم يلتزم، وتخطئ كل الدول والمجتمعات، غربية كانت أم شرقية، نامية أم متطورة، ديموقراطية أم استبدادية، التي تفرض قوانين أو تتبنى ممارسات تمييزية ضد المسلمين، بصرف النظر عن المبررات.

ومرة أخرى نقول: قد تبدو كل هذه التأكيدات والتصريحات منطقية وبدهية للوهلة الأولى، لكن ثقافاتنا التقليدية تبقى مجبولة بثلة من الممارسات التي تتناقض معها، كاحتفائنا المستمر بانتماءنا لدين بعينه وإصرارنا على كونه "الحل" لمشاكلنا حتى في الوقت الذي نبقى فيه غارقين في مستنقع الاستبداد والتخلف، في حين يبدو واضحاً أن تقدم المجتمعات الأخرى ليس مرتبطاً بعلاقتها مع الأديان لا من حيث التمسك ولا التخلي.

فمن منطلق موضوعي، يبدو واضحاً أن الخالق (أو الكون) لا يذلّ أو ينقم على قوم نتيجة سوء التزامهم بدين ما، أو حتى تخليهم عنه، بل تنجم معاناتهم عن فشلهم بالتعامل مع القوانين الموضوعية للوجود بشكل ناجع. أو لنقل أن رضى الخالق يبدو أكثر ارتباطاً بقدرة الناس على استيعاب القوانين الموضوعية للوجود وعلى التعامل الناجع معها منه بمسألة الإلتزام بطقوس أو ممارسات أو شعائر بعينها.

ولهذا، بوسعنا أن نأكد مرة أخرى على أن المسلمين ليسوا شعوباً استثنائية، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الثقافية، بل ولا من حيث مظلومياتهم السياسية والاجتماعية المعاصرة، ولا يشكّل إصرارهم على الطروح الاستثنائية من الناحية العملية إلا استدامة لكل الأمراض التي تعاني مجتمعاتهم منها، ورفضاً للتغيير، بل مقاومة عدمية له، لأن إصرارهم على التمسك باستثنائيتهم، وضعاً ومعتقداً، لم يفرز حتى اللحظة حلاً لأي من المشاكل والتحديات التي تواجههم، بل أصبح من الواضح أنه يمثل عائقاً أساسياً أمام قدرتهم على التعلم من الشعوب الأخرى وعلى استيعاب القوانين الموضوعية للوجود بمضامينها العميقة التي لا تحابي أحداً ولاتفرق بين الناس، أفراداً كانوا أو جماعات، إلا بناءاً على طاقاتهم وأعمالهم وقدراتهم التنظيمية الخاصة.   

إن الاصرار على تجاهل هذه المعطيات الموضوعية ينبثق عن عقلية أو ذهنية معينة وليس فقط عن موقف إيديولوجي، كما نوهنا في مقال آخر، فعلى الرغم من وجود تيارات فكرية وسياسية ترفض من حيث المبدأ الطروحات القائمة على الإيمان بالطبيعة الاستثنائية لفكر أو شعب بعينه، غالباً ما تنم تصرفات أتباع هذه التيارات عن تأثر مستمر وعميق بالطروحات الاستثنائية نتيجة نشأتهم في ثقافة تقليدية مشبعة بها. ومن هذا المنطلق، لا مفر لمجتمعاتنا وشعوبنا من المرور بمراحل الغليان التي نعيشها اليوم لأن الوعي، الفردي منه والجمعي، لا يُصاغ ولا يُشكل إلا من خلال مروره في آتون التجربة.


الجمعة، 25 أغسطس 2017

الإسلام ليس المشكلة وليس الحل


الحرة / من زاوية أخرى -- في خضم المواجهات التي يقوم بها المسلمون اليوم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ومشاربهم وتوجهاتهم، مع تحديات العيش في عالمنا "الحديث،" ذلك العالم الذي ماتزال مشاركتهم في بنائه والتأثير على مجرياته هامشية إلى درجة كبيرة، هناك مغالطة كبيرة بات لزاماً عليهم أن يتفادوا ارتكابها لما في ذلك من تبديد لجهودهم وطاقاتهم النفسية والفكرية.

تنبع المغالطة من الاعتقاد أن للإسلام دوراً استثنائياً في حياتهم: فهو إما المشكلة الأساسية التي ينبغي عليهم مواجهتها ومعالجتها، أو أنه الحل الأمثل والأنجع الذي لا يمكن لغيره أن ينتشلهم مما هم فيه من تخلف وجهل.

لكن الواقع أن تخلف المجتمعات ذات الغالبية المسلمة اليوم ينبع في الدرجة الأولى من غياب الإرادة السياسية في التغيير، والدليل أن دولاً ذات غالبية مسلمة مثل ماليزيا وأندونيسيا وتركيا ومن خلال تبنيها لأنظمة سياسية أكثر انفتاحاً وديموقراطية، على الأقل نسبياً، عما هو سائد في الدول العربية استطاعت أن تحقق درجة جيدة من التنمية والتقدم على الرغم من وجود تيارات محافظة بل ومتشددة فيها.

نعم، ما تزال هذه الدول تعاني من مشاكل جمة تتعلق ببعض العادات والمعتقدات الدينية الإسلامية أو المأسلمة، لكن هذا لا يعني أن الإسلام هو المشكلة الأساسية فيها. لأن ظاهرة الصدام والصراع ما بين قيم الحداثة من جهة والعادات التقليدية السائدة في المجتمعات من جهة أخرى هي ظاهرة عالمية الطابع لا تنجو منها حتى المجتمعات الغربية التي نشأت قيم الحداثة من تفاعلاتها الخاصة.

إذ ماتزال ظاهرة الصراع ما بين قيم الحداثة، تلك القيم التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق القانونية الدولية، وبين العادات والمعتقدات المرتبطة بالديانات التقليدية مثل الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها، تفرز تناقضات كثيرة في كل المجتمعات البشرية، وهذا ما يعطي كل منها خصوصيته الحالية، فنجد دولة مثل الهند تنجح في تطوير تقنيات تمكنها من إطلاق الأقمار الصناعية في ذات الوقت الذي تستمر فيه معاناتها من التبعات الهائلة الاجتماعية والسياسية لنظام الكاست. جاء نجاح الهند نتيجة لوجود قناعة حقيقية بضرورة التغيير والتحديث عند النخب المتنفذة وإرادة سياسية كافية لديها لتبني السياسيات المناسبة لتحقيقه، أما الفشل فيعود لصعوبة تغيير العادات والتقاليد الراسخة والتي يؤمن الكثيرون بقداستها، فالتغيير هنا لا يعتمد على التعليم فقط وتقليص الفجوة التتموية ما بين الريف والمدينة بل على القدرة على إفراز قفزة أو طفرة في الوعي الفردي والجمعي للناس وهو أمر لا يحدث إلا من خلال التجربة والسياق التاريخي على مدى عقود من الزمن ولا يمكن فرضه أو تعجيله بالقوة. ويشكل وجود تيارات سياسية ترى في استغلال المقدسات ومعارضة التغيير وسيلة لتحقيق مآرب بعينها عقبة كبيرة على الطريق. وتوجد هذه التيارات في كل المجتمعات، وعادة ما يطلق عليها في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة التيارات السلفية أو الإسلامية أو الإخوانية.

وتجيد هذه التيارات التلاعب بمشاعر الناس من خلال اللعب على وتر المقدس مع خلطه بالنزعات القومية وصراعات الهوية المحلية، لكن الهدف الأساسي لها يبقى دائماً مرتبطاً باشتهاء السلطة. إن المجازر البشعة التي يقودها الرهبان البوذيون في ميانمار ضد الروهينجا، الأقلية المسلمة في دولتهم، لا تنبع من عداء حقيقي حيال المسلمين بقدر ما تهدف إلى تحسين موقف تيارهم السياسي وتحسين العلاقة بينه وبين القيادات العسكرية التي ماتزال تدير شؤون الدولة من وراء الستار. وربما كان الأمر محاولة لخلق هوية بوذية جامعة لهذه الدولة متعددة القوميات والأعراق التي تؤمن غالبية شعوبها بالديانة البوذية وتنتمي إلى طائفة التيرافادا.

الهدف من وراء هذه الملاحظة هو التنبيه إلى محورية الصراعات والأجندات السياسية فييما يتعلق بكل هذه التطورات، وإلى كون الدين مجرد وسيلة للتعبئة والتجييش. إن التعامل مع الدين على أنه المشكلة الأساسية يخدم قضية من يطرحونه كالحل الوحيد ويسهل عليهم مهمة تصوير خصومهم السياسيين على أنهم أعداء للدين والأمة. ولهذه الظاهرة تجلياتها في كل المجتمعات، وغالباً ما تتخذ هذه التجليات منحاً عنفياً في المجتمعات التي تعاني من مشاكل تنموية عميقة ومن هشاشة بنيتها السياسية مما لا يسمح لها بوقاية نفسها من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية.

لا يشكل الإسلام والمجتمعات الإسلامية إذن حالة استثنائية. نعم، للمجتمعات الإسلامية خصوصياتها من دون شك، لكن الخصوصية شيء والاستثنائية شيء آخر. إن إصرار المتطرفين على التعامل مع وجودهم ومعتقداتهم على أنها استثنائية الطابع يعكس وجود عقد نقص بعينها عندهم كأفراد، وعلى وجود طموحات وأجندات سياسية خاصة عند النخب المؤثرة في صفوفهم، لكن المتشددين في خاتم المطاف لا يملكون حلولاً للمشاكل التنموية والاجتماعية التي تواجها مجتمعاتهم بل هم في الواقع جزء من هذه المشاكل، ولا يمكن لهم أن ينموا كتيارات وجماعات سياسية إلا من خلال استثمارها واستدامتها، مما يجعلهم الوجه الآخر للأنظمة الاستبدادية.

وللحديث بقية.

الجمعة، 18 أغسطس 2017

الحداثة ما بين القبول والرفض

دبي عند الغروب -- الحداثة أكثر من أبنية

الحرة / من زاوية أخرى -- ليس من الغريب أن تشهد المجتمعات البشرية صراعاً وتنافساً مابين قيم الحداثة والقيم التقليدية، فالبشر لا يغيرون قيمهم وممارساتهم القائمة عليها بشكل اعتباطي وفوري، وإن بدا لنا في بعض الحالات الفردية أن شخصاً ما قد غير من سلوكياته وأفكاره مابين ليلة وضحاها فمرجع ذلك جهلنا بما كان يجري في ذاته من تفاعلات وحوارات. ففي الواقع، لا يمكن لتغيير قيمي أن يحدث إلا بشكل تدريحي ومن خلال تفاعلات داخلية وبينية معقدة تلعب فيها المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والدينية أدوارها الخاصة، حتى في الحالات الفردية.

وللتفاعلات الدولية، السلمي منها والحربي، دورها في توجيه وتشكيل هذه العملية أيضاً. فعلينا أن لا ننسى في هذا الصدد أن الحداثة بالنسبة للمجتمعات الشرقية والنامية جاءت نتيجة احتكاكات عنيفة مع المجتمعات الغربية، وأنها تبقى إلى حد ما "مستوردة" و "خارجة عن السياق،" بمعنى أنها لم تنبع عضوياً من صيرورات ونقاشات ومواجهات فكرية داخلية، على الأقل في المراحل الأولى لتغلغلها في هذه المجتمعات، وأنها تبقى وثيقة الارتباط بشخصيات ومؤسسات وأحداث غربية المنشأ.

وما تزال هذه النشاة الخارجية لقيم الحداثة تستخدم كوسيلة أساسية وفاعلة لمقاومتها من قبل التيارات الأصولية والمتشددة في المجتمعات الشرقية والنامية، بما فيها المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من قرن أو قرنين، بحسب المنطقة الجغرافية قيد الاعتبار، على بداية توغّل هذه القيم فيها، وعلى الرغم من تبني معظم الشرائح المجتمعية الشرقية والنامية لبعضها، وإن بدرجات متفاوتة. إذ تبقى النزعة القبلية متجذرة في النفس البشرية، ويبقى كل وافد إليها من خارجها، شخصاً كان أم فكراً، مشبوهاً.

لكن رفض بعض الشرائح والتيارت السياسية للأفكار والقيم الحداثية ليس ظاهرة حصرية بالمجتمعات ذات الغالبية المسلمة، ولا يشكل إدانة لدين بعينه. بل تكمن المشكلة أساساً في الشرائح الرافضة وفي كيفية تعاملها مع المجتمع من حولها، وكيفية تعامل هذا المجتمع معها، وما يحكم هذه العلاقة التفاعلية من تصورات وآليات ومؤسسات.

وإن كان لمسألة الهوية أثرها في هذه الظاهرة، سنجد عند تحليلنا لها أن للقضايا التنموية والاقتصادية دورها الذي لا يقل أهمية عنها، خاصة في تلك الحالات التي تتخذ فيها ظاهرة رفض الحداثة منحاً عنفياً.

من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بمسألة الهوية بالذات، فحتى في تلك المجتمعات التقليدية التي كان للدين فيها الدور الأكبر في تحديد الهوية، تبقى النزعة القبلية هنا أهم من النزعة العقائدية. إذ لا يتعلق بالضرورة انتماء المرء إلى دين أو طائفة بعينها بمدى إيمانه والتزامه بتعاليم فئته، خاصة في حال وجود علاقة إشكالية لها مع الفئات الأخرى نابعة عن طبيعة تعاليمها، أو حجمها الديموغرافي، أو أية ظروف خاصة أخرى.

وقد يكون الرفض في الكثير من الحالات رفضاً سلوكياً غير مقصود أو واع، بل قد يتناقض مع المبادئ المعلنة للأفراد والشرائح الرافضة. فالأفكار تتغير بأسرع مما تتغير به التصرفات والعادات والعقليات. وقد تتغير أفكار المرء دون أن تتغير نفسيته أو عقليته، سواء استوعى ذلك أم لا. وهذا ما يفسر لنا ذلك التناقض الصارخ في بعض الأحيان وبعض المجتمعات ما بين سلوكيات وتصرفات أتباع التيارات الحداثية من ليبراليين ويساريين، على مشاربهم المختلفة، وبين الأفكار والمبادئ المؤسسة لتياراتهم. ولا يتوقف الأمر على التصرفات والسلوكيات اليومية والقضايا العائلية بل يتعدى ذلك ليشمل الخيارات السياسية لأتباع هذه التيارات والتي قد يكون لمسألة الهوية والانتماء القبائلي دور أكبر من المبادئ في تحديدها. ولهذه الظاهرة تجلياتها حتى في المجتمعات الغربية، لكن تجلياتها في المجتمعات الشرقية والنامية تبقى أكثر انتشاراً ونفوذاً لأن جذور الحداثة فيها ماتزال أضعف.

تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة إشكالية حتى بالنسبة لتلك التيارات السياسية والشرائح المجتمعية التي قررت القبول بها، أو على الأقل التعامل معها بشكل أكثر انفتاحاً وأريحية، ولا تقتصر ظاهرة الرفض التي تشهدها المجتمعات المختلفة، الشرقية منها والغربية، على الموقف الإيديولوجي للأفراد أو الجماعات، فهناك أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية تجعلها خياراً إشكالياً حتى لمن آمن بها. ولعل العنف الذي تلجأ إليه بعض الجماعات كوسيلة للتعبير عن رفضها لقيم الحداثة يرتبط، بشكل جزئي على الأقل، بذلك التناقض الصارخ مابين أفكار مدعي الحداثة وبين سلوكياتهم وحساباتهم وخيارتهم السياسية على أرض الواقع. وما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية.