مسجد الشيخ زايد - دبي |
الحرة / من زاوية
أخرى -- سبق وعالجنا في مقال سابق الإشكالية الناجمة عن الاعتقاد بأن للإسلام دوراً استثنائياً في
الحياة، خاصة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، داعين إلى ضرورة التفرقة ما بين مفهومي
الخصوصية والاستثنائية. فلكل دين ومعتقد خصوصياته من حيث التقاليد والممارسات
والمصطلحات، لكن هذه الخصوصيات لا تقتضي وجود فارق جوهري في الدور المجتمعي الذي
يلعبه هذا الدين، الإسلام في نقاشنا، بالمقارنة مع ذلك الذي تلعبه معظم الديانات
التقليدية الأخرى (المسيحية، البوذية، الهندوسية...) في مجتمعاتها، على الأقل فيما
يتعلق بالمجتمعات النامية.
لكن الإشكالية لا تقتـصر على دور الإسلام في المجتمع
وحسب بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة تعاليمه كدين ومنهج. فحتى من هذا المنطلق، لا يعد الإسلام
ديناً استثنائياً، فثلة الافتراضات التي يقوم عليها لا تختلف نوعياً عن تلك التي قامت
أو تقوم عليها المسيحية واليهودية مثلاً، من بين غيرها من الديانات الشرقأوسطية
والكثير من الديانات التقليدية الأخرى، من حيث الإيمان بوجود خالق معين (أو أكثر) لهذا
الكون ميّز عبر التاريخ بعض الشخصيات والمجتمعات من خلال تواصله معها في محاولة
منه لتنظيم العلاقة ما بينه وبين المجتمعات البشرية ككل.
وتنطبق هذه الملاحظة أيضاً على المسلمين عامة، فطالما أن
الإسلام ليس ديناً استثنائياً كذلك المسلمون، فهم أيضاً، وعلى اختلاف مذاهبهم وأعراقهم
وقومياتهم، ليسوا شعوباً استثنائية، لا بالمعنى السلبي ولا الإيجابي. بل هم بشر
كسائر البشر، عرفوا النصر في تاريخهم وذاقوا الهزيمة، خبروا المجد في بعض الأحيان
وتجرّعوا الذل في أخرى، تماماً كباقي الشعوب. وهذا يعني أن للنصر والهزيمة،
وللتقدم والتخلف، ولقيام الدولة وسقوطها، شروط ومقومات لا علاقة لها بالدين، حتى
لو كان هذا الدين هو الإسلام. فما معنى الإصرار على استثنائية الإسلام ودوره في
الحياة إذن؟
قد تبدو هذه التصريحات بدهية للوهلة الأولى، لكنها في
الواقع تتعارض مع الكثير من الطروحات السياسية والفكرية الفاعلة في المجتمعات ذات
الغالبية المسلمة (وغيرها) وبالتحديد مع الطروحات الإسلاموية، وهو الأمر الذي يسبغ
عليها طابعها الفاشي المميز، لأن الهدف الأساسي وراء الطرح الاستثنائي هنا هو
ادعاء التفوق والأفضلية، خاصة في المجال الأخلاقي، بصرف النظر عن أية ظروف أو شروط
موضوعية ما خلا ولادة المرء ونشأته في بيئة دينية معينة. في عصر الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، لم تعد هذه الطروحات الاستثنائية مقبولة أو مبررة حتى في إطار
الدول القومية.
إذ لا يسبغ كون المرء مسلماً عليه أي تفوق مسبق أخلاقي
أو معنوي، ولا ينبغي له أن يمنحه أفضلية في التعامل لا في المجتمعات ذات الغالبية
المسلمة ولا في غيرها. كما لا تلتصق بالمسلم أية دونية أخلاقية أو معنوية نتيجة
انتمائه للإسلام، سواء التزم بتعاليمه أم لم يلتزم، وتخطئ كل الدول والمجتمعات،
غربية كانت أم شرقية، نامية أم متطورة، ديموقراطية أم استبدادية، التي تفرض قوانين
أو تتبنى ممارسات تمييزية ضد المسلمين، بصرف النظر عن المبررات.
ومرة أخرى نقول: قد تبدو كل هذه التأكيدات والتصريحات منطقية
وبدهية للوهلة الأولى، لكن ثقافاتنا التقليدية تبقى مجبولة بثلة من الممارسات التي
تتناقض معها، كاحتفائنا المستمر بانتماءنا لدين بعينه وإصرارنا على كونه
"الحل" لمشاكلنا حتى في الوقت الذي نبقى فيه غارقين في مستنقع الاستبداد
والتخلف، في حين يبدو واضحاً أن تقدم المجتمعات الأخرى ليس مرتبطاً بعلاقتها مع
الأديان لا من حيث التمسك ولا التخلي.
فمن منطلق موضوعي، يبدو واضحاً أن الخالق (أو الكون) لا
يذلّ أو ينقم على قوم نتيجة سوء التزامهم بدين ما، أو حتى تخليهم عنه، بل تنجم
معاناتهم عن فشلهم بالتعامل مع القوانين الموضوعية للوجود بشكل ناجع. أو لنقل أن
رضى الخالق يبدو أكثر ارتباطاً بقدرة الناس على استيعاب القوانين الموضوعية للوجود
وعلى التعامل الناجع معها منه بمسألة الإلتزام بطقوس أو ممارسات أو شعائر بعينها.
ولهذا، بوسعنا أن نأكد مرة أخرى على أن المسلمين ليسوا شعوباً
استثنائية، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الثقافية، بل ولا من حيث مظلومياتهم
السياسية والاجتماعية المعاصرة، ولا يشكّل إصرارهم على الطروح الاستثنائية من
الناحية العملية إلا استدامة لكل الأمراض التي تعاني مجتمعاتهم منها، ورفضاً
للتغيير، بل مقاومة عدمية له، لأن إصرارهم على التمسك باستثنائيتهم، وضعاً
ومعتقداً، لم يفرز حتى اللحظة حلاً لأي من المشاكل والتحديات التي تواجههم، بل
أصبح من الواضح أنه يمثل عائقاً أساسياً أمام قدرتهم على التعلم من الشعوب الأخرى
وعلى استيعاب القوانين الموضوعية للوجود بمضامينها العميقة التي لا تحابي أحداً
ولاتفرق بين الناس، أفراداً كانوا أو جماعات، إلا بناءاً على طاقاتهم وأعمالهم
وقدراتهم التنظيمية الخاصة.
إن الاصرار على تجاهل هذه المعطيات الموضوعية ينبثق عن
عقلية أو ذهنية معينة وليس فقط عن موقف إيديولوجي، كما نوهنا في مقال آخر،
فعلى الرغم من وجود تيارات فكرية وسياسية ترفض من حيث المبدأ الطروحات القائمة على
الإيمان بالطبيعة الاستثنائية لفكر أو شعب بعينه، غالباً ما تنم تصرفات أتباع هذه
التيارات عن تأثر مستمر وعميق بالطروحات الاستثنائية نتيجة نشأتهم في ثقافة
تقليدية مشبعة بها. ومن هذا المنطلق، لا مفر لمجتمعاتنا وشعوبنا من المرور بمراحل
الغليان التي نعيشها اليوم لأن الوعي، الفردي منه والجمعي، لا يُصاغ ولا يُشكل إلا
من خلال مروره في آتون التجربة.