‏إظهار الرسائل ذات التسميات الواقعية السياسية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الواقعية السياسية. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

الشرق الأوسط والواقعية السياسية: اللحظة الراهنة

الشرق الأوسط



 

الحرة / من زاوية أخرى – تتعامل الكثير من الشعوب اليوم وخاصة الشعوب الشرقأوسطية مع حقها في تشكيل دول سيادية مستقلة من منطلق قانوني صرف، متجاهلة التوابع السياسية والاقتصادية للأمر وتأثيره على التوازنات الإقليمية والدولية القائمة. لكن تأسيس الدول، خاصة في عالمنا المترابط هذا والذي ما فتئنا نتكلم فيه عن المجتمع الدولي والشرعية الدولية، يمثل قضية تفاوضية بالدرجة الأول، وتبقى سيادة الدول في عالمنا المعاصر نسبية، بصرف النظر عن تصريحات القادة السياسيين. على جميع شعوب المنطقة، سواء تلك التي نجحت في تأسيس دول لها أو تلك التي ما زالت تطمح إلى ذلك، أن تأخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار. وفي الواقع، يمكننا الجزم، بناء على مراجعة سريعة للتاريخ المعاصر، أن الأنظمة الحاكمة أكثر إدراكا لهذه الحقيقة ومضامينها من شعوبها، بل ومن النخب الفكرية الأكثر شهرة وتأثيرا على الصعيد الشعبي. لكن فساد هذه الأنظمة وطبيعتها الاستبدادية يمنعانها من التعبير عن هذا الإدراك إلا من خلال اللقاءات والصفقات السرية التي تستغلها الأنظمة للتأقلم مع الواقع ومتغيراته، في حين تصر على التعامل مع الأمور في العلن من منطلق إيديولوجي وعاطفي، وتصر على تربية شعوبها على ثقافة رافضة للمرونة السياسية والواقعية.

لا وجود هنا لقناعة فكرية حقيقية بضرورة التعامل مع الواقع بمرونة من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، بل يهدف أسلوب الأنظمة في التعامل مع الأمور إلى تحقيق مصلحتها الخاصة حصرا وإن تطلب الأمر المساهمة في تجهيل الشعوب واستغلال عواطفها. لكن هناك حدودا لما يمكن إنجازه في السر، إذ لا يسمح هذا الوضع بإيجاد حلول حقيقية للقضايا المصيرية، بما فيها تحديات الحوكمة والتنمية وقضايا أمنية مثل القضية الفلسطينية وقضية مرتفعات الجولان، وغيرها، بل غالبا ما يؤدي إلى عرقلتها وبالتالي إلى استدامة حالة التخلف والصراع، وذلك حتى مجيء تلك اللحظة الحرجة التي تصل فيها الانعاكاسات السلبية لهذه الازدواجية في التعامل حدا يتجاوز قدرة الأنظمة على الحفاظ على الاستقرار القائم من خلال الأساليب القمعية ذاتها، فتندلع الثورات وتسود القلاقل وتأخذ الصراعات طابعا اجتماعيا معقدا، كما حدث في منطقتنا عبر السنين القليلة الماضية.

فإلى أين المضي؟

من الواضح أنه حتى في هذه اللحظة التي غابت فيها السكرة وحضرت الفكرة، تلميحا إلى المثل الشامي المعروف، لا يمكننا التعويل على معظم الأنظمة الحاكمة للمساهمة من تلقاء نفسها في تبني مقاربات أكثر واقعية وشفافية عند التعامل مع المتغيرات، لأن أولوياتها تبقى مختلفة تماما عن الأولويات الوطنية. ويضع هذا الواقع مسؤولية كبيرة على عاتق حركات المعارضة السياسية والنخب الفكرية ومنظمات المجتمع المدني للاستمرار في دفع الأنظمة دفعا نحو التغيير والمضي في الاتجاه الصحيح على الرغم من الصعوبات البالغة والتحديات العملية التي تواجهها. وهذا يحتم على هذه الحركات والمنظمات والنخب أن تجد طريقة للتخلص من تكلسها الخاص، ومن ارتكاسها المستمر إلى الأيديولوجيات العقيمة متبنية مقاربات أكثر مرونة في النشاط والعمل. فهل تنجح في التصدي لهذا التحدي الأساسي أم هل تقع في الفخ ذاته الذي دأبت الأنظمة على الوقوع فيه؟

لا تبشر تجربة السنين الأخيرة بخير في هذا الصدد، فللشعوبية إغراءاتها القوية خاصة في زمن المحن. وعلى الرغم من إدراك النخب الراغبة في التغيير في المنطقة أهمية تبني مقاربات أكثر واقعية، يبدو من الواضح أن رغبتها في الحفاظ على مكانتها الاجتماعية والسياسية وبعض المكتسبات القليلة التي حققتها مؤخرا، مادية كانت أم معنوية، تجعلها ترفض تقديم طروحات فكرية جديدة تتعارض مع ما ألفته الشعوب رغبة منها في تفادي أية ردة فعل سلبية من الشرائح المؤيدة لها. وهكذا، يبدو أن هذه النخب "المعارضة" للأنظمة والداعية للتغيير في خطابها السياسي، لم تتمكن بعد من الانسلاخ عن التركيبة الثقافية التي ينبغي معارضتها وتغييرها، الأمر الذي يسبغ طابعا خلبيا أو زائفا على عملها ونشاطاتها.

لا يمكن لمعارضة من هذا النوع أن تغير شيئا أو تنجح في ما فشلت فيه الأنظمة حتى لو توصلت إلى سدة الحكم. تماما كما لا يمكن لثقافة يتم من خلالها خيانة الواقعية السياسية باسم الواقعية السياسية من قبل معظم القوى الفاعلة فيها أن تفرز حراكا سياسيا واجتماعيا قادرا على قيادة انتقال سلس نحو الديموقراطية. إن خير ما يمكن التوصل إليه في هذه المرحلة هو الكشف على الملأ عن صراع الأضداد هذا الدائر في مجتمعاتنا وقلوبنا منذ عقود طويلة لكي نتحمل تبعاته في العلن، آملين أن يفرز هذا الأمر مع الوقت وعيا جديدة ونخبا فكرية وسياسية واجتماعية أكثر قدرة على تحمل أعباء القيادة.

الأربعاء، 30 مارس 2016

"النصر" و "الهزيمة" في عالمنا المعاصر

لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): عائلة الإمبراطور الفارسي داريوس تركع أمام الإسكندر المقدوني بعد انتصاره. 

النصر بمعناه التقليدي المألوف لدينا من خلال الأساطير و "الحواديت" التاريخية المنتشرة في ثقافتنا يقتضي عادة هزيمة الطرف الآخر بشكل تام وماحق يشمل السيطرة على المناطق التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما بشكل تام، وربط مصيره بمزاجية قائد الجانب المنتصر وحساباته المرحلية الخاصة.

وفقاً لهذا التعريف، ولاستقرائي الخاص للواقع القائم اليوم، بوسعي أن أؤكد أن ما بوسع أي طرف من أطراف النزاع الحالي في سوريا، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين، أن يحقق هذا النصر مهما فعل.

فتحقيق نصر من هذا النوع، وهو الأمر الذي يشتهيه كل طرف محلي، لا يحقق بالضرورة مصالح حلفائه، الإقليميين والدوليين، ولا ينسجم مع متطلبات مصالحهم أو مع حساباتهم الخاصة بالتطورات والتوازنات القائمة في بلدان ومناطق أخرى. إن هذه الاعتبارات تحتم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع السوري القيام بـ "إدارة الصراع" لا محاولة حسمه لحساب أي طرف، لأن الهدف بالنسبة لهم لا يتجاوز إجراء تعديل، أو تعديلات، ما في التوازنات القائمة، لا السعي وراء انهيارها، لما في ذلك من انعكاسات سلبية محتملة على الجميع. علاوة على ذلك، هناك إدراك أعمق عند الكثير من هذه الأطراف، بالمقارنة مع اللاعبين المحليين على الأقل، لحجمهم الحقيقي من الإعراب، سياسياً واقتصادياً وبنيوياً، وبالتالي لأي مدى يمكن لهم المغامرة بالتدخل وقلب الموازين.

من ناحية أخرى، هناك عامل جدي آخر لابد من التنويه إليه هنا لتأثيره المباشر على معظم القرارات المتخذة فيما يتعلق بكيفية إدارة الصراع في سوريا، ألا وهو عامل الثقة، سواء بالنوايا أو بالقدرات. ففي حين يبدو أن بوسع الأطراف الإقليمية والدولية أن تثق ببعضها البعض إلى حد معقول، بسبب التاريخ الطويل لتفاعلاتها المشتركة،  الودية منها والعدوانية، وإدراك معظمها بشكل أو آخر لضرورة الحفاظ على بعض، إن لم نقل معظم، التوازنات القائمة بينها، وتجنب التسرع والتهور في المحاولات الجارية لتعديلها، لا يبدو أن لدى أي من هذه الأطراف ثقة كبيرة بالجهات المحلية التي يدعمها لا من حيث النوايا، ولا من حيث الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها في حال تحقق لها النصر الحاسم والنهائي، ولا من حيث القدرة على تحمل مسؤولية الحكم في المرحلة التالية.

فإن كان حلفاء الأسد يريدون له أن يبقى في هذه المرحلة، فهذا لا يعني أنهم يثقون به ويريدون له أن ينتصر. بل هم يفضلون له أن يبقى في حاجة مستمرة إليهم حتى يتعبوا هم منه، ويتمكنوا من إيجاد معادلات أخرى للسيطرة على المناطق التي يرغبون بها في البلد عن طريق شخصيات وتوازنات داخلية أخرى. أي أن الأسد بالنسبة لهم لا يزيد عن كونه ستار يمكن له أن يخفي وراءه أهدافهم الحقيقية ومساعيهم إلى تقسيم سوريا لمناطق نفوذ خاضعة لهم، بشكل أو آخر: المناطق الساحلية لروسيا، والمناطق الجنوبية والوسطى لإيران وميليشياتها الشيعية المتطرفة، بحيث تحظى أخيراً بممر  بري يصل طهران بالبقاع وبيروت، عن طريق بغداد وتدمر وحمص ودمشق، خاضع لسيطرة مباشرة من قبل ميليشياتها الطائفية.

ويمثل الأسد أيضاً ورقة ضغط يمكن استخدامها في العملية التفاوضية للتسويف وللتحصل على تنازلات من حلفاء الجهات المعارضة إلى أن يأتي الوقت المناسب لحرقها. وقد تكون اللحظة قد اقتربت، بالذات لأن الأسد يبدو غير قادر على إدراك ذلك، ومايزال يتكلم ويتصرف وكأنه سيد الموقف. 

أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة، بشكل أو آخر، فإن لم تكن الحقيقة واضحة فيما قبل، فلابد أنها قد أصبحت واضحة اليوم: إن دعم هذه الدول للمعارضة كان دئماً مشروطاً برؤيتها الخاصة للكيفية التي ينبغي من خلالها إدارة الحكم في سوريا في المرحلة التالية.

لوحة للرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (1798-1863): سقوط القسطنطينية على أيدي الصليبيين في 12 نيسان/أبريل، 1204.

إذ سعت كل من تركيا وقطر إلى تحقيق انتقال يضمن استمرار الدولة المركزية لكن تحت سيطرة إخوانية "مدنية"، بحيث لا يتحقق للإكراد ما يريدون، أي دولة لامركزية أو فيدرالية، ولا يتحقق للقوى العلمانية ما تريد: دولة علمانية ديموقراطية. من هذا المنطلق جاءت سياسة العزل التي مارسها الأتراك بحق الضباط المنشقين، العلويين منهم خاصة، بالتوا زي مع محاولاتهم المستمرة لاختيار مَنْ من الضباط السنة يمكن لهم دعمه، أو بالأحرى، مَنْ منهم يبدي انفتاحاً على موضوع التعامل مع الإخوان والقبول بسلطتهم السياسية. ولنا في ما حصل مع الضابط حسين هرموش، مؤسس حركة الضباط الأحرار، خير مثال على الكيفية التي قامت بها السلطات التركية بالتلاعب بالمنشقين وتحييد من لم يرق لها منهم. وإن لم يقدر لهذه المحاولات أن تنجح تماماً، فهي لم تخفق كلية أيضاً.

أما السعودية، فكانت معنية أكثر بدعم التيارات السلفية على حساب حركة الإخوان المسلمين، لا لأسباب دينية، لكن لأن الإخوان، كما أبدوا في مصر، كانوا دائماً على استعداد لإيجاد صيغة تعاونية ما مع إيران من منطلق السياسة الشرعية، أما التيارات السلفية الوهابية فيمكن للسعودية الاعتماد عليها أكثر في هذا الصدد بسبب عدائهم الأعمى للشيعة، مما يضمن قيام حكومة غير مهادنة لإيران بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وهو الهدف الأساسي للسعودية فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، في حين لا تمثل قضية الفدرلة عائقاً كبيراً بالنسبة لحكامها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد أبدت إدارة أوباما تخوفها من الملف السوري منذ اللحظة الأولى، بسبب اهتمامها الأكبر بالمفاوضات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي، ورؤيتها الإيديولوجية التي تصور لها إمكانية إعادة تأهيل إيران كلاعب إقليمي هام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لاعب يمكن التعويل عليه لتحقيق الاستقرار في المنطقة في المستقبل، لاعب لا يمكن لمشاغباته المتكررة أن تكون مصدراً كبيراً للإزعاج، خاصة بعض تجميد وتحجيم برنامجه النووي، لأن صبغته الديموغرافية والسياسية، أي كونه بلداً شيعياً محكوماً من قبل نخبة دينية، ستحد من قدرته على التأثير على الصيرورات المختلفة من حوله، وستمنعه من التحول إلى مصدر للقلق. وفي حال تمردت إيران وأصرت على لعب دور أكبر من حجمها، سيتم تذكيرها بمدى هشاشتها من خلال تقديم دعم حقيقي للمعارضات المختلفة فيها. فإن بدت إيران مستقرة اليوم فذلك بسبب وجود إرادة دولية، غربية بل أمريكية على وجه التحديد، تحبذ ذلك، وليس لأنها تملك مقومات الاستقرار بالضرورة. وهناك ما يكفي من الحصافة عند قادتها ليدركوا حقيقة الأمر. على الأقل، هذه هي رؤية الإدارة الإمريكية الحالية والواقعيين السياسيين للأمور.

من ناحية أخرى، ما كان بوسع الإدارة أن تترك الحكم في بلد محوري مثل سوريا يقع في أيدي معارضة متخبطة كالمعارضة السورية، معارضة لا تملك أية مقومات تؤهلها للتعامل مع الملفات المعقدة المتعلقة بشكل أو آخر بسوريا. لذا، نرى الإدارة مصرة على بقاء مؤسسات الدولة، الذي يستتبع بقاء الكثير من الشخصيات التابعة للنظام في مكانها.

جانب من لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): الإسكندر المقدوني يعاين حال غريمه حاكم مدينة بور أثناء معركة هيداسبيس. 

نظراً لكل هذا، لا شك هناك في لاجدوى الجدال الجاري بين فئات المعارضة حول موضوع طبيعة المرحلة الانتقالية والفدرلة، لأنا ما زلنا في الواقع نرزح تحت "انتداب لين" وغير معلن، بل لا يمكن له أن يعلن، من قبل قوى إقليمية ودولية مختلفة، تتطلب مصالحها ورؤاها الخاصة، المتعارضة في الكثير من الأحيان، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، إجراء بعض التعديلات فيما يتعلق بالحدود وآليات إدارة الدول للحكم، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة. وليس ما يجري من صراعات في سوريا والمنطقة إلا ضرباً من ضروب التفاوض بين هذه القوى.

ويبدو اليوم أن اعتماد النظام الفدرالي في سوريا مع رحيل اللأسد في المستقبل القريب، أو اغتياله، وهو الاحتمال الأكبر، بات يمثل حلاً مقبولاً لهذه القوى.

من أعطى هذه الدول الحق في التصرف هكذا؟ قوتها طبعاً، كما هي العادة. فهناك معادلات موضوعية تحكم تصرفات الدول مع بعضها، سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، علمانية أم دينية، ولا تغير الديموقراطية في هذه الأمر شيئاً إلا من خلال قدرتها على إسباغ نوع من المرونة والحصانة على تلك الدول التي تبنتها بحيث تصبح أكثر قدرة وفعالية في تعاملها مع المتغيرات الدولية، على المديين المتوسط والطويل على الأقل. 

ولن نستطيع كشعوب شرقأوسطية تغيير هذه المعادلات بقوة السلاح، لأن هذه القوى هي مصدر السلاح، ولن تقوم بتسليحنا لنهزم مخططاتها. فعلى الرغم من حالة التنافس القائمة بينها، هناك أيضاً تنسيق كبير لم يجر مثيله خلال الحرب الباردة، لذا لا توجد لدينا اليوم فرصة حقيقية للعب طرف ضد آخر كما فعلت أنظمتنا في السابق. إن هامش المناورة المتاح لدينا اليوم محدود للغاية، ويتطلب تحقيق أي تقدم حكمة ومهارة دبلوماسية وسياسية كبيرة لا يبدو أنها متوفرة اليوم. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهنا: ها نحن نمر بمرحلة حرجة أخرى من تاريخنا المعاصر ولا توجد لدينا، فيما يبدو، لا الشخصيات ولا الخبرات ولا الرؤى المناسبة لإدارتها بحيث نتحصل على بعض المكاسب، أو على الأقل نقلل حجم الخسائر.

ولمن يرى في تسليمنا بهذا الواقع هزيمة، أود تذكيرهم بأن في المقاومة العسكرية هزيمة أكبر، إذ حتى عندما تنجح هذه المقاومة في أيامنا هذه، كما حدث مع الشعوب الأفغانية في مواجهتهم مع الاتحاد السوفييتي، سيأتي هذا النجاح مصحوباً بدمار شامل للدولة والمجتمع، وبنزوح للعقول والمهارات عن البلد، مما يفسح المجال أمام بروز قوى ظلامية متناحرة كالقاعدة، والطالبان، وداعش، أو قوى الحشد الشعبي وغيرها من الميليشات الشيعية المنافحة عن الأسد والمصالح الإيرانية. ولا يمكن لهذه القوى أن تصنع حضارة أو تقود نهضة. ولا شك في أن السماح ببروزها وبتقويتها هو الهزيمة الحقيقية. ولأنها أصبحت هي المسيطر على الساحة اليوم، ينبغي علينا أن نقلل من حجم الخسائر ونسعى إلى اتفاق ينهي حالة النزيف والاستنزاف، ويسمح للقوى الانتدابية بتحويل عملياتها إلى ساحات أخرى للصراع. لقد دفعنا ما يكفي من أثمان باهظة في سوريا. لندع القوى إياها تخطط كما يحلو لها، ولنحاول التحصل على أفضل شروط ممكنة لنا.

لكن، وفي خاتم المطاف، علينا أن نتعامل مع هذه المرحلة مسلحين بإدراك أفضل لطبيعة المتغيرات من حولنا، وبإيمان بقدرتنا في التأثير على الصيرورات مع مرور الوقت من خلال العمل الدبلوماسي والنشاط الفكري والإنساني. هذه هي المقاومة التي نحن بحاجة إليها اليوم، وإن كان ثمة نصر في مستقبلنا فلن يتحقق لنا إلا من خلالها. ولابد أن يؤدي هذا النصر في مرحلة ما إلى تحييد دور شخصيات بعينها، ومحاسبة بعضها، لكنه لا يتطلب هزيمة الطرف الآخر، أو تهديد وجوده، أو وضعه تحت حكم البوط العسكري الطائفي، فالهدف هنا هو الاتفاق على آلية تحقق توازناً جديداً بين الجميع يحافظ على حقوقهم الأساسية، يأخذ بعين الاعتبار توازن القوى العام في الداخل والخارج، مما يسمح لنا بالتعامل على نحو أفضل مع ضغوط وتدخلات القوى الخارجية في المراحل القادمة.


الأربعاء، 23 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (5)



| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

إن الولايات المتحدة الأمريكية، بخلاف ما يُشاع، لا تلجأ عادة إلى التآمر فيما يتعلق بالصيرورات الإنسانية العامة، أي بالتطورات العامة في منطقة ما على المديين البعيد أو المتوسط، إذ لا يتسنى هذا الأمر لأحد في الواقع بسبب تشابك وتناقض أجندات القوى الدولية والإقليمية المختلفة من جهة، وبسبب التغيير المستمر الذي يطرأ على الأولويات والرؤى الموجِّهة من إدارة أمريكية لأخرى من جهة أخرى.  إن تورط أمريكا في أحيان كثيرة، وفي إطار تعاملها مع قضايا وتطورات بعينها، في مغامرات تآمرية الطابع، مثل قضية إيران-كونترا وغيرها، يشكل استثناءاً للقاعدة يسعى لتحقيق أهداف معينة قصيرة المدى ومحدودة التأثير. أما على الصعيد الأكبر، فما بوسع أمريكا، وغيرها من الدول المتقدمة والطامحة، إلا أن تقوم بوضع مجموعة من السيناريوهات محتملة تستند على استقراء أقرب ما يكون للموضوعية للوقائع والأوضاع القائمة في مناطق العالم المختلفة، ومن ثم تقوم باقتراح ثلة من المقاربات تهدف لتمكين الإدارات المختلفة من التعامل مع هذه السيناريوهات وإدارتها على نحو يحقق لأمريكا مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، وفقاً للأولويات والرؤى الخاصة للإدارة المعنية. وفي الحقيقة، غالباً ما ترحب الإدارات الأمريكية بمشاركة الدول الأخرى في رسم هذه السيناريوهات والخطط وتنفيذها، إذ يمتلك قادة أمريكا على اختلاف مشاربهم ما يكفي من الثقة بمقدارت بلادهم، وبقدرتها على حماية نفسها ومصالحها، ما يمكنهم من تقديم الكثير من التنازلات بغية تجنب الصراعات وبناء الشراكات. وتكمن المشكلة هنا في تنافي هذا الأسلوب المباشر والصريح في التعامل السياسي مع الثقافة السائدة في منطقتنا ومجتمعاتنا حيال الصيرورات المختلفة، والتي تتصور دائماً وجود دوافع وأهداف أخرى للأمور، مما يجعلها تضيع فرص التعاون وتحتم احتمالات النزاع، سواء في علاقاتها مع أمريكا والغرب، أو في علاقاتها البينية.

وبعد نهاية الحرب الباردة، أقدمت أمريكا على إطلاع الأنظمة الشرقأوسطية المختلفة، من صديقة وعدوة، على هذه السيناريوهات بهدف حثها على تبني الإصلاحات الكفيلة بمساعدتها على تجنب القلاقل الداخلية والصراعات البينية التي تم التنبوء بها، لأن الاستقرار وحل النزاعات بالوسائل الدبلوماسية يبقى أفضل لتحقيق المصالح الأمريكية من الفوضى، حتى الخلاق منها، وذلك بعكس ما يروج له الكثير من المنظرين السياسيين اليساريين، وأحياناً اليمينيين أيضاً. إن كلام الباحثين والمسؤولين الأمريكيين عن الفوضى الخلاقة عبر العقود الماضية لم ينبع من منطلق الرغبة والتخطيط، بل من اعتقاد راسخ مستند إلى استقراء موضوعي للوقائع بحتميته وضرورة التحضير للتعامل معه. ولا يتنافى هذا التأكيد مع سعي أمريكا خاصة أبان الحرب العالمية الباردة، إلى استدامة بعض الصراعات أو إلى ترتيب بعض الانقلابات، لكن هذا المسعى، كما سبق ونوهنا، شكل استثناءاً للفلسفة الأمريكية الحاكمة نجم عن الطبيعة الوجودية للحرب الباردة والتي كان يمكن لها في أية مرحلة أن تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء في حرب نووية شاملة.

وغالباً ما ينسى مؤرخو تلك المرحلة هذا البعد النفسي العميق لها والذي كان له أثره الكبير في تشكيل تصرفات وسياسات القوى المختلفة، خاصة أمريكا. إن رعونة بعض السياسات الأمريكية في تلك المرحلة، وازدواجية معاييرها، جاءت انعكاساً لهذا الضغط النفسي الكبير في معظم الأحيان. وطبعاً بوسعنا أن نؤكد على العامل نفسه قد لعب دوراً كبيراً أيضاً، وربما أكبر، عند صناع القرار في المؤسسة السوفييتية الحاكمة التي كانت تدرك تماماً أن موقفها وقدراتها تبقى أضعف مما هو متوفر لدى أمريكا وحلفائها.


لكن ديموقراطية أمريكا والقوى الغربية الأخرى، والتي تجلت خاصة في طريقتها في التعامل مع مواطنيها واحترامها لحقوقهم الأساسية، ولاشك في أن الأوضاع الحقوقية للمواطنين الغربيين استمرت في التحسن طيلة مرحلة الحرب البادرة بسبب الضغوط الشعبية على الحكومات وذلك على الرغم من مخاطر الحرب النووية، تسبغ على هذه الدول أفضلية معنوية بل أخلاقية بالمقارنة مع المعسكر الشرقي باحتقاره للمفاهيم الديموقراطية وإصرار نخبه السياسية والعسكرية على التفرد بالحكم دون أي قابلية للمسائلة الحقيقة من قبل الشعب. إن انتصار المعسكر الشرقي كان سيؤدي بلا أدنى شك إلى تراجع كبير ليس فقط فيما يتعلق بحقوق الإنسان بل وفي مجال التنمية البشرية ككل، والتقدم العلمي والتقني. فإذاً، وعلى الرغم من قيام كلا المعسكرين بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، وبقيادة مغامرات إمبريالية وكولونيالية الطابع، وبدعم نخب حاكمة فاسدة في عدد من بلدان العالم، لا يتساوى الطرفان لا من حيث الرؤية والمبادئ العامة المؤثرة على سلوكياتهما، شعوباً وحكاماً، ولا من حيث أهمية الانجازات التي قدموها، وما يزال بوسعهما تقديمها، للإنسانية. 

ولا ننسى في هذا الصدد أن أكبر منتقدي السياسات الأمريكية خاصة والغربية عموماً هم من مواطنيها، "الأصليين" منهم والوافدين من دول المعسكر الشرقي والدول الأخرى، وأن معظمهم يعملون في الغالب في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية والغربية، وأن صوتهم ما كان ليسمع لولا تبني الدول المعنية لديموقراطية حقيقية احترمت حياتهم عامة حتى آخر قطرة.  ولها الواقع أهمية أكبر من أن تكون رمزية وحسب.


إن أكاديمياً أمريكياً مثل نعوم تشومسكي قد يملك رفاهية النقد الحاد، بل العدمي أحياناً، لوطنه أمريكا، الذي قد تعكس حديته حقيقة أن النقد أصبح أمراً عادياً ومقبولاً في أمريكا، ولا يعرض صاحبه لأي خطر، وبالتالي قد لا يتميز الإنسان بنقده في هذا المرحلة ما لم يكن هذا النقد حاداً إلى درجة كبيرة، وخارجاً عن المألوف. إن دور البعدين النفسي والإيديولوجي في تشكيل انتقادات تشومسكي حيال أمريكا والغرب أهم بمراحل من دور التحليل الموضوعي للأمور، إذ غالباً ما نراه يغفل دور العوامل المحلية والإقليمية والدولية الأخرى بل والسياق العام للقضايا التي يعالجها في كتاباته.

إن شعوب منطقتنا بالتحديد لن تتعلم شيئاً من التجربة الأمريكية خاصة والغربية عموماً إذا ما اكتفت بالاستماع إلى أصوات نقادها العقائديين أمثال تشومسكي والذين يعكس نقدهم المساحة الكبيرة المتوفرة لديهم للنقد الحاد أكثر من الحاجة الحقيقية إلى هذا النوع منه. ودعونا لا نغفل هنا دور أصحاب هذه النزعة النقدية في الغرب في تشكيل سياسات إدارة أوباما والإدارات الغربية عموماً حيال الأزمة السورية، خاصة دورهم الذي أدى إلى امتناع بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة من التدخل ضد الأسد، من منطلق ترك شعوب المنطقة لتحل مشاكلها بنفسها، في حين تتجلى الترجمة الحقيقية لهذا الموقف في تجاهل حقيقية اختلاف موازين القوة بين الدول المختلفة، وتضارب مصالح النخب الحاكمة فيها، وتدخلها في شؤون بعضها البعض عن طريق تفعيل الصراعات المذهبية والقومية، وما ينتج عن ذلك من تحييد لدور الشرائح الديموقراطية الواعية وتطلعاتها، وتفتيت للمجتمعات المحلية، علاوة على وقوع كوارث إنسانية، وانتهاكات جماعية تصل حد الإبادة الممنهجة، والتشريد، والتجويع، وما لذلك كله من انعكاسات سلبية على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الغرب ذاته، والعالم أجمع في عهد العولمة المفرطة هذا.

أي شيء يمكن لنا أن نتعلمه من رؤية إيديولوجية قاصرة كهذه، رؤية ترفض تحمل مسؤوليات التدخل في منطقتنا، حتى من منطلق إنساني بحت، ولوقف الدمار والنزيف، في وقت ما بوسعها فيه أن تمنع نخبها السياسية والاقتصادية، بل مجتمعاتها ككل، من الانتفاع مما ينجم من مكاسب عن هذا الدمار والنزيف، مثل رخص سعر الوقود إلى درجة تسهل لهذه المجتمعات الانتقال المرتقب إلى مرحلة ما بعد الوقود المستحاثي والذي يفترض حدوثه في عام 2050، من خلال توفيرها للموارد المالية اللازمة لذلك؟

إن هذه الرؤية في جوهرها ما هي إلا تعبير عن عصبية غربية جديدة أصبحت تحتل الساحة، إذ لا مجال فيها للتعبير عن وحدة المصير البشري إلا من خلال الدعاء والصدقة من خلال تقديم بعض الإمدادات الإنسانية للمحتاجين.

والأنكى هنا أن دعاة هذه الرؤية يصرون على أنها يسارية الطابع، والكثير منهم بالفعل يساريون قدامى، وأن مصلحتنا ستتحقق من خلالها على المدى البعيد. لكن تراكم المظلوميات عند شعوب ما تزال لاتحسن إلا اجترارها للعيش لن يؤسس لمستقبل أفضل، بل لصراعات أطول. إن قدرتنا على تمثل الدروس الصحيحة من أزماتنا المتراكمة ما تزال محدودة بالذات بسبب تبني معظم نخبنا لرؤى تبني على إيديولوجيات عقيمة كهذه، باسم الإشتراكية والإسلام.


إن كان ثمن نهضة في مستقبل أيامنا كشعوب ذات تاريخ مشترك ما، وبعض المصالح الأساسية، فلن تأتي إلا من خلال تبني مقاربات براجماتية وعقلانية في الصميم، مقاربات لا علاقة لها لا بالإيديولوجية ولا بالدين ولا بالنزعات القومية، مقاربات قائمة على جملة من الاعتبارات السياسية والأمنية، وبعض المصالح الاقتصادية والتنموية، مقاربات تحسن صياغة الأولويات المناسبة لكل مرحلة، وتسعى لتحقيق توازنات ما بين الأطراف الفاعلة في المنطقة. إن مفتاح الحل لأزمتنا بسيط في جوهره الفكري، إنه التنظيم والعمل الجماعي المؤسساتي، وفهم بل قبول عميق لطبيعة التفاعلات الدولية، خاصة هذه النقاط الأساسية:

·      ما تزال القوة، بأبعادها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والعسكرية، هي العنصر المحرك الأساسي للحضارة والتفاعلات الحضارية
·      لا يمكن للمبادئ والقوانين وحدها أن تقيد الدول القوية وتمنعها من محاولة تحقيق مصالحها وإن على حساب الدول الضعيف وشعوبها
·      تتطلب القدرة على الإلتزام بالمبادئ والقوانين تحقيق توازن قوة معين ما بين الأطراف المتفاعلة المختلفة على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية
·      إن الأنظمة الديموقراطية وحدها القادرة على النهوض بشعوبها بطريقة تحفظ المكاسب والاستقرار على المدى البعيد. في حين لا يمكن للتناقضات الكامنة في الأنظمة الاستبدادية، بصرف النظر عن قدرتها على تحقيق بعض المكاسب على المدى القصير، إلا أن تسفر في مرحلة ما عن صراعات داخلية كفيلة بتدمير كل ما تحقق من انجازات. إن إدراك أمريكا والدول الغربية لهذا الواقع هو ما يجعلها تتنبؤ بانهيار دول تبدو قوية، عسكرياً على الأقل ، مثل روسيا  وإيران. بل حتى الصين. وفي الواقع، إن كل دولة من هذه الدول تعاني من صراعات عديدة مجمدة لكنها بلا حل حتى اللحظة، مثل الصراعات في القفقاس وسيبيريا، ومهاباد والأهواز، والتيبت وشينجيانج. في حين يندر وجود هذه الصراعات في الدول الديموقراطية، وعادة ما يتم التعامل مع هذه الصراعات بالوسائل الديموقراطية السلمية، من قبيل عقد الاستفتاءات والانتخابات الدورية، كما رأينا في اسكتلندا وكاتالونيا. ولقد أدى تبني النظام الفيدرالي في الحكم في دول كثيرة إلى إيجاد حل نهائي لمعظم هذه الصراعات أساساً.
·   إن الحروب، في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الإنسانية، تشكل وسيلة أساسية في أيدي النخب الحاكمة في الدول الاستبدادية للتهرب من استحقاقات التغيير في الداخل، وللتحصل على المكاسب والمغانم، غالباً على حساب بعضها البعض، لكن، أحياناً، على حساب بعض دول الجوار الديموقراطية الطابع لكن الضعيفة من الناحية العسكرية. وتعتقد النخب الحاكمة لأنها بذلك تحمي نفسها من تهديد الغرب الديموقراطي. لكن الديموقراطية فكرة أصبح لها مؤيدوها في كل مكان، وهي إن لم تنتصر نهائياً لن تهزم نهائياً، ما لم يتم تدمير البنية التعليمية للمجتمع ككل، كما حدث في أفغانستان والصومال والكونغو، وكما قد يحدث في سوريا واليمن اليوم في حال استمر الصراع الحالي لسنين قادمة.  عندما تُدمر الحضارة في بلد ما، ويُهجر حاملوها، لا يمكن لها أن تعود إلا بعد مضي عقود بل قرون طويلة من العمل المضني والممنهج.

هذا هو جوهر الخطر الذي نواجهه اليوم في منطقتنا، وهذا ما يتجاهله الواقعيون من يسار ويمين: فنحن، شعوب هذا الشرق الأوسط، وفي هذه المرحلة بالذات التي انضمت فيها العوامل البيئية، مثل الانحباس الحراري، إلى العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياتنا، أصبحنا مؤهلين للخروج من التاريخ نهائياً، ببعده الحضاري.  

إن استدامة حالة الصراع في المنطقة، ومحاولة التشبث بالأنماط التقليدية للحكم، واللجوء الدائم إلى الماضي بمقدساته المتراكمة بحثاً عن حل، هي من العوامل المساهمة في هزيمتنا الحضارية، ولن نتمكن من الخروج من أزمتنا الراهنة ما لم نجد طرق للتعامل معها بشكل مختلف عما سبق. ويقتضي تحقيق هذا الأمر قفزة على مستوى الوعي، الفردي والجمعي. ولايمكن لهذه القفزة أن تتحقق ما لم نعود أنفسنا على التفكير خارج الأنماط المألوفة لنا، وعلى الإستماع إلى الأصوات الناشزة عن الإجماع الثقافي التقليدي. وفي غضون ذلك كله، علينا أن نتعلم عادة العمل الجماعي المؤسساتي الممنهج والمنظم، والمتمحور حول برامج عملية وليس الشعارات أو الأشخاص. فما لم نجترح هذه المعجزة لن نحقق شيئاً.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الأحد، 20 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (4)

لقاء ما بين وفدي الخارجية الأمريكية والخارجية الإيرانية في مدينة لوزان، سويسرا في 28 أذار/مارس 2015

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

يتبين لنا عند معاينتنا للسياسات الأمريكية عبر السنين الخمس عشر الماضية، حيال منطقة الشرق الأوسط خاصة، تعاقب تيارين فكريين في تشكيلها: تيار المحافظين الجدد، وحلفائهما من الليبراليين التدخليين، الذين أسسو لسياسات جورج و. بوش الخارجية في الفترة التالية لهجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية وحتى نهاية عام 2007، وتيار الواقعيين الليبراليين، وحلفائهم من المحافظين والليبرتاريين الانعزاليين،الذين ساهموا في توجيه سياسات الرئيس الحالي باراك أوباما منذ بداية عهده وحتى الحظة، وخاصة في الفترة التي أعقبت ظاهرة الربيع العربي.

لكن، وقبل أن نتكلم عن نقطة الخلاف الأساسية ما بين التيارين، ينبغي أن نشير إلى اتفاقهما أولاً فيما يتعلق في استقرائهما للموقف، فكلاهما مقتنع بحتمية التحول إلى عالم متعدد الأقطاب وحتمية انتشار الفوضى خلال المرحلة الانتقالية، وثانياً فيما يتعلق بالهدف الأساسي: أن تبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى عالمياً.

أما الفرق الأساسي بين التيارين فيتجلي في الرؤية وفي الأسلوب. فالمحافظون الجدد يرون أن للولايات المتحدة دور أساسي وضروري في قيادة عملية التحول وتوجيهها لضمان المصالح الأمريكية والتي، في رؤيتهم، تتطلب نشر الديموقراطية في معظم دول العالم بغية تحقيق سلام دائم، مع الاستمرار في عزل بعض الدول المشاغبة، أو القلقة والمقلقلة، مثل إيران وكوريا الشمالية والسودان وغيرها. ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الرؤية الإقدام على التدخل العسكري في بعض المناطق والدول لتغيير بعض الأنظمة وللحد من نفوذ أخرى، ولنصرة قوى التغيير المنفتحة على التعاون مع أمريكا والغرب، والتي يتوقع لها المحافظون أن تكون ديموقراطية أو قابلة للدمقرطة.

وتختلف رؤية الواقعيين للأمور كلية، فالواقعيون يرون أنه، وبسبب حتمية الطبيعة العنفية للتغيير القادم، ينبغي على الولايات المتحدة أن تخفف من تواجدها المباشر في الأحداث العالمية في الفترة القادمة لتفادي الوقوع في أخطاء ومصائب، كما حدث في العراق، بل وأفغانستان، وتفادي دفع تكاليفها المادية والمعنوية الباهظة. أن الواقعيين يفضلون أن تكتفي الولايات المتحدة في المرحلة القادمة بالدفاع عن نفسها ومصالحها الضيقة وتترك باقي ما تبقى من دول في هذا العالم، بما في ذلك حلفاؤها، حتى الأوروربيين منهم بل والمشاركين في حلف الناتو، ليقوموا بفرز أنفسهم. وفي هذه الأثناء تقوم الحكومات الأمريكية بالتعامل مع القوى الجديدة والقديمة القادرة على فرض نفسها على الساحة بقوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية لتتعاون معها في بناء نظام عالمي جديد وإعادة بعض الاستقرار العالم. ولا مانع عند الواقعيين حتى ذلك الحين من التلاعب بالقوى الإقليمية الصاعدة من بعيد لتحقيق بعض المصالح، فأمريكا تبقى قادرة على ذلك. أو على الأقل، هذا ما يحاول الواقعيون إقناع أنفسهم والآخرين به.

كولاج لمجموعة من اللقاءات التي عقدها أعضاء المجلس الوطني الإيراني-الأمريكي، وهو واحد من أهم مجموعات الضغط الإيرانية الناشطة في الولايات المتحدة، مع أعضاء في الكونجرس الأمريكي لدعم الاتفاق النووي مع إيران 

ومن الدول التي يبشر الواقعيون بضرورة التعامل معها في منطقتنا: إيران، التي سبق وكانت حليفة للولايات المتحدة، والتي نجحت القوى الأكاديمية اليسارية والتي تضم مجموعة كبيرة من المغتربين الإيرانيين ممن دفعهم مزيج فريد من الإيديولوجية والحنين والشعور القومي إلى الدفاع عن نظام لا يرضى معظمهم في العيش في ظلاله لكنهم يتأملون في إصلاحه، أو في قدرته على إصلاح نفسه. فمنذ تسعينات القرن العشرين وحتى اللحظة، نجحت هذه المجموعة من خلال نشاطها الأكاديمي والبحثي المكثف ولجوء بعض أعضائها إلى تشكيل جماعات ضغط والاستعانة بشركات العلاقات العامة، في إقناع عدد كبير من المنتمين إلى المعسكري الديموقراطي الليبرالي والإشتراكي بإمكانية وضرورة التوصل إلى سلسلة من الاتفاقات مع إيران تسمح لها بتبوء "مكانها الطبيعي" في المنطقة كقوة عقلانية براجماتية ومهنية قادرة على تحقيق الاستقرار.

وترافق هذا الانفتاح على إيران بعداء واضح حيال السعودية ودول الخليج الأخرى، وتركيا. ولا تكفي الإيديولوجية تفسيراً لهذه النزعة، لأن كل الاعتراضات التي يمكن سوقها ضد هذه الدول من الناحية الإيديولوجية يمكن أن تستخدم أيضاً فيما يتعلق بإيران. وفي الواقع، يبدو أن دور الأكاديميين الإيرانيي الأصل كان له أثره هنا، وكذلك، دور الأكاديميين العَلمانيين اليساريين المنحدرين من أصول إسلامية والذين يلومون السعودية ودول الخليج على كل المشاكل التي تواجهها بلادهم الأم، وربما يكون بعضهم قد تعرض لمعاملة الخليجيين العنصرية حيال سائر المسلمين والتي تتخذ من العروبة مبرراً لها. وفي الحقيقة، للعنصرية دورها هنا، فيما يتعلق بالشعور تجاه العرب، وفيما يتعلق بالإسلام السياسي بشقه السني الذي تجعله تعددية مراجعه أكثر خطورة من نظام الملالي في طهران في نظر الواقعيين. وبهذا، يكون الاستشراق قد عاد إلى الساحة عن طريق اليساريين أكبر منتقد للنزعة الاستشراقية التقليدية، متجلياً في نزعة عدوانية وعنصرية تجاه العرب خاصة، والمسلمين السنة عموماً، المتهمين بالتعصب دائماً، إلا من ثبت ولائه للتيار الواقعي.

وما إدارة أوباما وسياساتها الشرقأوسطية إلا تعبيراً عن هذا الواقع بما فيه من تناقضات.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |


الخميس، 10 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (2)

الرئيس الأمريكي جورج بوش يخاطب المشاركين في افتتاح مؤتمر مدريد للسلام في 30 تشرين الأول، 1991
| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

لم تعد الولايات المتحدة الجهة الوحيدة في هذا العالم المهيئة دائماً للتعامل الفعّال مع التطورات الواقعة على الساحة الدولية والإقليمية بناءاً على سيناريوهات وخطط جهزتها منذ سنين وعقود. فمنذ بدأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد انتهاء الحرب الباردة بإطلاع الأطراف الدولية والإقليمية على السيناريوهات المستقبلية المختلفة التي سبق ووضعتها، وكثفت من اعتمادها على مشاركة خبراء ومسؤولين من كافة أنحاء العالم فيما يتعلق بتحديثها، إن عن طريق المؤتمرات وورشات العمل، السري منها والعلني، أو عن طريق المناورات المشتركة وتأسيس أقنية خاصة لتبادل المعلومات والبيانات الأمنية، بدأت قوى أخرى، مثل إيران وتركيا وروسيا والصين والهند وغيرها، بصياغة سياساتها واستراتيجياتها الخاصة للتعامل مع التطورات والاحتمالات المختلفة التي تتنبؤ بها هذه السيناريوهات، تماماً كما تفعل أمريكا، وإن اختلفت الأهداف والمصالح والرؤى الناظمة لهذه العمليات.

في البداية، نظرت الأطراف الأقليمية إلى هذه السيناريوهات على أنها مخططات تهدف إلى زعزعة الاستقرار فيها، فقامت بالتالي بوضع خطط للتعامل معها من منطلق أمني بحت. فعلى الرغم من تنبؤ هذه السيناريوهات بوقوع القلاقل في المنطقة نتيجة لحزمة من العوامل الموضوعية منها: الانفجار السكاني، وافتقار الأنظمة إلى خطط تنموية مناسبة، وضعف الأنظمة التعليمية، وندرة المراكز البحثية، وانتشار البطالة بين الشباب، وتحجر الأنظمة السياسية ومقاومتها للأفكار الإصلاحية، وتفشي الفساد، وانتشار النزعات الأصولية، إلى آخره من عوامل.


ولقد سعى البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة في مطلع هذا القرن إلى إصدار عدة تقارير من وضع باحثين عرب نوه فيها إلى هذا العوامل بالتفصيل وحث الحكومات العربية إلى تبني إصلاحات جذرية لمواجهة هذه التحديات قبل فوات الأوان، وتم تجاهل هذه التوصيات أيضاً من قبل معظم الأنظمة.

إذ تعاملت دول المنطقة مع السيناريوهات الأمريكية والأممية على أنها مخططات تآمرية تهدف إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة وقلب الأنظمة وإعادة رسم الحدود. مسلحة بهذه القناعة، قامت الأجهزة الاستخباراتية المختلفة، في أوقات مختلفة، بوضع عدد من المخططات الأمنية هدفها الأساسي قمع أي حراك شعبي، سلمي كان أم مسلح، يطالب بالإصلاح. وما يزال هذا المنطق يوجه سياسات معظم الأنظمة الإقليمية اليوم، خاصة الدول العربية.

ولقد شكل إطلاق ودعم عملية السلام العربي الإسرائيلي واتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد حرب الخليج الأول محاولة لتقديم مغريات وحوافز للأنظمة العربية لتقوم بالإصلاحات المناسبة التي يمكن أن تساعدها على تجنب الاضطرابات الداخلية المتوقعة، وتكسبها المزيد من الشرعية في العالم الغربي مما سيؤدي إلى المزيد من الانفتاح الاقتصادي عليها. من هذا المنطلق، جاء رفض وتعنت الأنظمة في هذا الصدد كمؤشر على حتمية وقوع الانفجارات وقرب موعدها.

ولقد وضع تمسك الأنظمة الحاكمة في المنطقة بأساليبها القديمة في الحكم الغرب، بقيادة أمريكا أمام خيارين: التدخل المباشر لفرض عملية التغيير، وهو الخيار الذي تبنته إدارة جورج و. بوش، أو التخلي عن أية محاولة للتدخل في المنطقة إلا في الحدود الدنيا مثل مكافحة الإرهاب والحفاظ على أمن السوق النفطي العالمي، وهو الخيار الذي انكفئت إليه إدارة أوباما بعد متابعتها لفشل التدخل الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق.

إذاً، وكخلاصة أولى، لم تأت الانفجارات التي شهدتها المنطقة في السنين الخمس الأخيرة نتيجة افتعال طرف خارجي لها، بل كانت الدول الغربية، المتهمة دائماً عند وقوع هذه الحوادث، لأسباب أصبحت إيديولوجية في هذه المرحلة أكثر منها تاريخية وموضوعية،  تفضل تجنبها كلية واستبدالها بمجموعة من العمليات السياسية الداخلية والإقليمية المنظمة، ولقد فعلت ما بوسعها وعبر ما يقارب العقدين من الزمن لتحقيق هذا.

من ناحية أخرى، لم يشكل وقوع هذه الانفجارات مفاجأة تامة لأي طرف خارجي أو داخلي، بل تمثلت المفاجأة الفعلية الوحيدة هنا في مجيء الشرارة الأولى من تونس، ذلك البلد الصغير والآمن الذي لم تشر إليه معظم السيناريوهات بشكل مباشر، واكتفت بالتعامل معه كجزء صغير من معادلة التغيير في منطقة شمال إفريقيا. أما مسألة التوقيت، فكانت دائماً في علم الغيب، ولم يكن بوسع واضعي السيناريوهات التكهن بها بأكثر من تأكيدهم على أن البداية ستكون في السنين الأخيرة من القرن المنصرم أو الربع الأول من القرن الحالي. ولقد كان.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |


الثلاثاء، 8 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (1)



| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

لا يهدف النشاط العسكري الأمريكي في شمال-شرق سوريا، وبصرف النظر عن محاولة البنتاجون تمييع الأخبار في هذا الصدد، إلى بناء قواعد جوية لمحاربة داعش فحسب، بل هناك حسابات أخرى أهم وأطول أمداً، على رأسها الاستعداد للانفجارات المحتملة في المستقبل القريب في كل من آسيا الوسطى والقفقاز ودول الخليج، خاصة السعودية، وربما في تركيا وإيران أيضاً. إن وجود قواعد عسكرية في تلك المنطقة بالذات يعطي أمريكا خيارات أكثر وأفضل مما هو متاح الآن للتعامل مع هذه المتغيرات واستثمارها لخدمة مصالحها. وتأتي هذه الخطوة وفقاً لسيناريوهات تم وضعها منذ عقود، وتم تحديث تفاصيلها بشكل دوري لتعكس التغيرات الإقليمية والدولية المتعاقبة.

وبسبب وجود هذه المخططات من ناحية، نلمس تلكؤاً واضحاً لدى إدارة أوباما فيما يتعلق بمحاربة داعش، فبناء القواعد المنشودة وتجهيزها بشكل يتناسب مع احتياجات الاستخدام المستدام يتطلب بعض الوقت، ربما سنتين أو ثلاث أو أكثر. من ناحية أخرى، فلدى البنتاجون وإدارة أوباما حزمة من المخاوف المشروعة فيما يتعلق بالمواجهة مع داعش في هذه المرحلة، خاصة من حيث قدرتها على التصعيد من خلال تدمير الجسور والمنشآت النفطية الرئيسية الواقعة تحت سيطرتها، وذلك في حال قررت قياداتها أن المواجهة أصبحت خاسرة، وأن الأوان قد آن لتفعيل خيار شمشون الشهير: "علي وعلى أعدائي." إذ سيكون لهذا التطور، في حال وقوعه، تبعات خطيرة جداً على شرائح واسعة من السوريين والعراقيين، وقد يؤدي إلى مقتل مئات الألوف من الناس خلال ساعات قليلة فقط، علاوة على تشريد الملايين، وانقطاع الطاقة الكهربائية في معظم المدن الرئيسية لفترة قد تمتد لأشهر، وهي فترة كافية لتفعيل انهيار كارثي في الاقتصديات والأوضاع المحلية وعلى المستوى الوطني. لذا، تتطلب المواجهة مع داعش في هذه المرحلة وضع استراتيجيات دقيقة لتجنب وقوع هذه الاحتمالات الأسوأ، وللتعامل الفاعل معها في حال وقوعها، ومعظم هذه اللاسترتيجيات تتطلب أن تكون المواجهة مع داعش في هذه المرحلة الحساسة استنزافية الطابع، في حين يتم التحضير لسلسلة سريعة من عمليات خاطفة تهدف إلى استعادة السيطرة على معظم المنشآت الحيوية في فترة قصيرة، أو لعملية كبيرة واحدة تهدف إلى استعادة السيطرة على هذه المنشآت بالتزامن.

ومن الأسباب الأخرى وراء الطريقة الحذرة التي تتعامل بها إدارة أوباما مع داعش، والتي لا تقل أهمية عما سبق ذكره، وجود لاعبين آخرين على الساحة يقومون باستغلال داعش وتجييرها بأساليب مختلفة لخدمة مصالحهم، ونخص بالذكر هنا إيران التي كانت وراء قرار الجيش العراقي التخلي عن الموصل والانسحابات التي تلت ذلك، والتي هدفت من خلال ذلك إلى إيجاد ساحة أخرى للتعاون والتقارب مع إدارة أوباما، بعدما أدركت إيران طبيعة الخطوط الحمر الحقيقية لها.


إذ يخطأ هنا من يسند كل تحليلاته على ثبات الموقف الإيراني حيال الولايات المتحدة ودورها في الشرق المتوسط. ففي الواقع، بدأ قادة إيران في المرحلة الأخيرة يدركون مدى استحالة طرد الولايات المتحدة من المنطقة كلية ومدى حماقة معاداتها بشكل أعمى. قد لا يكون بوسع القادة الإيرانيون التخلي نهائياً عن نزعاتهم الإيديولوجية الإسلاموية الطابع في هذه المرحلة، أو في أي وقت، لكنهم، كالصين من قبلهم، والروس اليوم، باتوا يدركون وجود إمكانية للتعاون مع عدوهم الأول في بعض الأمور، مع استمرار التنافس بل الصراع في أمور أخرى. هذا هو جوهر الاعتدال الإيراني الذي تتكلم عنه إدارة أوباما ومؤيدوها من أتباع الواقعية السياسية  اليوم. إنه اعتدال فيما يتعلق بالتعامل مع الولايات المتحدة خصوصاً، والغرب عموماً، ومصالحهما في المنطقة والعالم، ولا علاقة له بأية نزعات إصلاحية داخلية.

إن استجرار إيران للولايات المتحدة إلى الساحة العراقية من جديد إذاً ساهم في شرعنة وجودها ونفوذها ليس فقط في العراق بل وفي سوريا ولبنان (من خلال حزب الله) واليمن وأفغانستان أيضاً. ولا ننسى قيام الإدارة في مثل هذا الوقت من العام الماضي بشطب اسم حزب الله اللبناني من لائحة المنظمات الإرهابية. وتكللت هذه الخطوات من قبل الطرفين بتوقيع الاتفاق حول برنامج إيران النووي، وهو الاتفاق الذي يكتفي بتأخير البرنامج لمدة عشر أعوام، يسعى خلالها الطرفان إلى بناء المزيد من الثقة بينهما.


على المدى الطويل، قد تدفع إيران غالياً ثمن هذه الخطوة، لكنها، وفي هذه المرحلة على الأقل، تبقى هي المستفيد الأكبر بالمقارنة مع القوى الإقليمية الأخرى ماخلا روسيا. فإيران اليوم باتت ترسم سياساتها وتحركاتها بحرفية ودقة أكبر من تلك التي نراها عند الأتراك أو السعوديين اللذين ما تزال سياساتهم في هذه المرحلة تتميز بالتخبط والارتجالية. 

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الثلاثاء، 19 يناير 2016

ملاحظات حول القهقرى السياسية الأمريكية

تشريح لمفهوم الواقعية السياسية الأمريكية من خلال تحليل موقف أتباعها حيال الصراع السعودي-الإيراني


يمثل النفاق المتجلي في الحملة الإعلامية المكثفة التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية في الأوساط الغربية هذه الأيام، وخاصة الأمريكية، والتي تتخذ من سياسات المملكة الداخلية والخارجية الإشكالية، كما يصفها أصحاب الحملة، ذريعة ومبرراً لها، مؤشراً على وجود أجندة ما لديهم لا علاقة لها بالمسوغات العلنية للحملة، وذلك نظراً لامتناعهم عن شن حملة مماثلة ضد إيران التي لا تقل سياساتها "إشكالية."

فكلا الطرفان، أي السعودية وإيران، متورط في بث وتشجيع النزعات الطائفية في المجتمعات الإسلامية حول العالم، وفي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ليس فقط في أرض الوطن بل في دول الجوار أيضاً، وفي دعم الإرهاب العالمي، وفي الاستعانة بشركات علاقات عامة وجماعات ضغط لتمثيل مصالحهما في الغرب ولتحسين صورتهما فيه (وإن كانت إيران قد لاقت نجاحاً أكثر في هذا الصدد عبر العقدين الماضيين نظراً لنجاحها في تجنيد عملاء لها في صفوف المغتربين). علاوة على هذا يتميز كلا الطرفان بعقلية عنصرية صارخة فيما يتعلق بالآخرين (فوحدهم الأغبياء يخلطون هنا ما بين نزعة حسن الضيافة والتعامل اللبق مع الأجانب السائدة في هذين المجتمعين، وبين إيمان مزعوم حقيقي بالمساواة ما بين البشر، الأمر الذي لا ينسجم مع الممارسات الفعلية المنتشرة على الصعيدين النخبوي والشعبي لدى الطرفين).

من هذا المنطلق، كيف يمكن لأي عاقل أن يتوسم القدرة عند أي من هذين الطرفين وفي هذه المرحلة الحرجة بالذات على إعادة الاستقرار للمنطقة؟ فما لم يتبنى الطرفان إصلاحات حقيقية، سياسية واجتماعية، عميقة، لا يمكن لأيّ منهما أن يلعب دوراً جاداً في العمل على هذا المنحى. ولقد علمتنا التجربة التاريخية أن تغييراً من هذا النوع يتطلّب تلاقٍ وتكاملِ في الضغوط الداخلية الشعبية والخارجية الرسمية لينجح. فنظراً لتشنجها العقائدي، ولفسادها، لا يمكن للنخب الحاكمة في هاتين الدولتين أن تقوم بتبني الإصلاحات المناسبة من تلقاء نفسها وفي غياب الضغوط والمطالبات.

لكن، وحتى اللحظة، وعوضاً عن الضغط في هذا الاتجاه، يبدو واضحاً أن أتباع المنهج الواقعي في أمريكا (والغرب عموماً) يرون في الانحياز لطرف معين، وبالتحديد إيران، على حساب الآخر، الخيار الأنسب لبلدانهم، لأنه يشكل الخيار الأسهل من حيث قبوله بالأمر الواقع عوضاً عن محاولة تغييره. ويتجلى هذا الواقع في تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب انحسار نظيره السعودي، وذلك لأسباب موضوعية متعلقة بطبيعة التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كلتا الدولتين، وطبيعة التفاعلات الداخلية فيها، علاوة على طبيعة تفاعلاتها مع العالم من حولها وتطوره عبر العقود الماضية.

ولا يلقي الواقعيون هنا أي بال للثمن الذي تدفعه شعوب المنطقة، خاصة السوريون والعراقيون واللبنانيون واليمنيون، نتيجة هذا الانقلاب الإقليمي، وهذه السياسة الواقعية، "الحيادية" نظرياً، والمنحازة لإيران (وروسيا، وكل ذي سلطان) عملياً.

ويبدو أن الواقعيين، ومن خلال احتفائهم بطرف بعينه بذريعة أنه يمثل الخيار "الأفضل حضارياً،" كما يرون، وتشويه صورة الآخر، "المتخلّف حضارياً" في نظرهم، والذي يتوقعون سقوطه في أي يوم، يبدو أنهم مشغولون في تحضير أنفسهم للتعامل مع هذا السقوط بطريقة تسمح لهم بالتنصل تدريجياً من أية وعود سبقوا أن قدموها، أو أية عقود واتفاقيات سبق ووقعوها. ويتجاهل الواقعيون في مسعاهم هذا التداعيات الخطيرة لهذا الانقلاب في المنطقة، بل والعالم أجمع، ويتركون التعامل مع تبعات هذا الأمر للشعوب المعنية، دون أن يشرحوا لنا كيف يمكن للقوى الصاعدة والساعية لملئ الفراغ الذي يخلفه التراجع الأمريكي، قوى مثل إيران وروسيا والصين وغيرها، والتي تحتقر الديموقراطية في الصميم، ولا تتوانى عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو عن دعم عمليات القتل الجماعي والإرهاب، أن تمهّد الطريق لعالم آمن؟ 

مشهد من مؤتمر فيينا (1814-15)
لكن الواقعيين لا يرون في بناء عالم آمن مهمة أساسية أو مناسبة للولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة القادمة، إذ يؤمن معظمهم بحتمية الطبيعة العنفية لهذه المرحلة ويفضلون أن ينأوا ببلادهم عنها، حاصرين مسؤولياتها السياسية المستقبلية في الدفاع عن أمن ومصالح أراضيها ومجتمعاتها، وذلك وفقاً للمنطق السياسي الذي حكم العلاقات الدولية منذ هزيمة نابليون في معركة "ووترلو" وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبهذه الطريقة يفسح الواقعيون المجال لظهور لاعبين جدد على الساحة الدولية، ويعطونهم فرصة لتحديد مناطق نفوذهم الخاصة. إذ لا يرى الواقعيون في هذه الظاهرة تهديداً لأمريكا أو لمصالحها لاقتناعهم التام بأن تفوق أمريكا العسكري والاقتصادي كفيل بمساعدتها على التأقلم مع كل هذه المتغيرات، وعلى حماية مصالحها بل وتوسيع رقعة نفوذها في العالم من خلال الدبلوماسية الذكية وبناء تحالفات جديدة.

وهنا مربط الفرس، فالهدف الأكبر للواقعيين يكمن في إفساح المجال أمام أمريكا لإعادة النظر في كل علاقاتها وتحالفاتها الحالية، بما في ذلك علاقاتها مع الدول الغربية الأخرى، سعياً لبناء تحالفات جديدة أكثر جدوى وأقل عبئاً. إذ يؤمن الكثير من الواقعيين باحتمال انهيار الاتحاد الأوروبي وحلف ناتو ذاته، مما يفسح المجال أمام الولايات المتحدة لبناء تحالفات جديدة قد لا تشمل بعض حلفائها التقليديين لاعتبارات اقتصادية وسياسية وعسكرية متنوعة.

لكن المشكلة في مل هذه الحسابات، والتي لا تأخذ القضايا الإنسانية بعين الاعتبار، كما سبق ونوهنا، أنها تتجاهل طبيعة عالمنا المعاصر بترابطه الشديد والذي أصبح بوسعنا فيه أن نتكلم بجدية عن وجود "بيئة" أو "مناخ" بشري عالمي لا يختلف كثيراً عن البيئة الطبيعية، إذ يمكن لـ "تلوث" بقعة أو إقليم فيه، عن طريق اندلاع الصراعات أو وقوع الكوارث، أن يؤثر على باقي المناطق والأقاليم، تماماً كما يؤثر انتاج بعض الدول لغازات بعينها أن تفعل ظاهرة الاحتباس الحراري مؤثرة على حال الكرة الأرضية بأسرها.  

فالواقع أنه في عالمنا هذا، الذي تتزايد فيه الروابط ما بين الأنظمة الاستبدادية وبين الحركات الإرهابية ومؤسسات الجريمة المنظمة، بل وبعض الشركات والمؤسسات والمصارف العالمية، لا وجود لأزمات محلية بالمعنى التقليدي للمفهوم، إذ أصبح بوسع أية أزمة، مهما بدت صغيرة أو قابلة للاحتواء في بداياتها، أن تتطور بسرعة لتصبح أزمة ذات أبعاد دولية خطيرة، ما لم يتم التعامل معها في الوقت المناسب. ولنا في الأزمة السورية خير مثال على ذلك، فهي، ومن خلال إفرازها لأزمة اللاجئين، ساهمت في ضعضعة كيان الاتحاد الأوروبي، وفي توسيع شروخه، علاوة على تسهيلها لعودة التيارات اليمينية المتطرفة بقوة على الساحة السياسية، ليس في أوروبا وحدها وحسب بل في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول أيضاً.

إضافة إلى ذلك، وبخلاف ما يأمل ويدعي أصحاب الواقعية السياسية، فإن السياسات التي طرحوها وأملت عليهم تحركاتهم عبر السنين الماضية، والتي يمكن لها أن تستمر في التأثير على السياسات المستقبلية في أمريكا، فيما لو جرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة على النحو الذي يريدون، لم تعوض على الإطلاق عن الأخطاء التي اقترفها المحافظون الجدد في مطلع قرننا الحالي، بل، على العكس من ذلك، فقد قامت بتضخيم وقعها والزيادة عليها، وهو الأمر الذي تثبته حقيقة مواجهتنا اليوم للمزيد من العنف والفوضى في الشرق الأوسط وحول العالم بالمقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع قبل ثمانية أعوام.

لكن الواقعيين يحجمون عن استخدام معيار موضوعي كهذا لقياس مدى التقدم المحرز، فهم يعتقدون أن المستقبل هو الذي سيثبت مدى صوابية سياساتهم وطروحاتهم، وما على ملايين السوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم في هذه الأثناء إلا الصبر والسلوان في وجه البؤس والمآسي الناجمة عن دبلوماسية الواقعيين المظفرة هذه. لكن المستقبل قد يجلب معه، وبأقرب مما نتصور، إثباتات وشواهد كثيرة تدل على أن ثمن التدخل المدروس في المناطق الساخنة، بالتعاون مع حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا، وشركاء محليين، أقل بكثير من كلفة الارتكاس إلى السياسات النفعية البحتة غيرالملائمة لعصرنا هذا. وقد لا يقتنع الواقعيون أنفسهم بهذه الشواهد، فالإيديولوجيا تعمي الأبصار، لكنهم في خاتم  المطاف لا يزيدون عن كونهم تيار سياسي صادف أن تناغمت رؤيته للأمور مع المزاج الشعبي في هذه المرحلة لأسباب عدة، ويمكن لهذا المزاج أن يتغير من خلال التطورات القادمة، ومن خلال طرح رؤى جديدة توضح للشرائح الأوسع من الناخبين أهمية التدخل الإنساني وارتباطه الوثيق في هذه المرحلة بالجهود الرامية لتعزيز الأمن العالمي من تداعيات العولمة الجارية للإستبداد والفساد والجريمة والإرهاب.  

ولأن الموضوع لا يتعلق بمستقبل الولايات المتحدة ومصالحها وحسب، فمن الضرورة بمكان أن تشارك الجماعات والمؤسسات الممثلة لدول مثل سوريا واليمن والعراق ومصر وغيرها في إعادة تشكيل الرأي العام في أمريكا عن طريق المساهمة في طرح رؤى بديلة عما يسمى بالمقاربة الواقعية.

السبت، 14 يونيو 2014

بالطبع أوباما هو المسؤول!

بعض أهالي الموصل يغادرونها عقب دخول المتمردين

هل ستتدخل الولايات المتحدة لتنصر المالكي في العراق؟ إذا كان أوباما صادقاً عندما قال، في إشارة إلى الأوضاع في سوريا، أن أمريكا لن تتدخل لتحسم نتائج "حرب الآخرين الأهلية،" فلا يبدو من المحتمل أن تقدم أمريكا دعماً جدياً إلى المالكي.

أما فيما يتعلّق بالغارات الجوية، فأمريكا ستكون بحاجة إلى أهداف واضحة للقيام بذلك، لكن المتمردين السنة في الموصل والبلدان لأخرى أصبحوا اليوم مختلطين مع السكان المحليين، لأن معظمهم عراقيين أساساً، بل ومن سكان المدن المعنية ذاتها، وليسوا مقاتلين أجانب في صفوف داعش، بحسب ما تتناقله وسائل الإعلام.

علاوة على ذلك، وفي الوقت الذي بدأت فيه ساحتا القتال في سوريا والعراق بالاندماج، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتوخى الحذر فيما يتعلّق بموضوع التدخّل في أي من البلدين الآن: إذ لدينا، من جهة، نظامان حاكمان فقدا كلية ما كان لديهما من بقايا شرعية واهية بسبب ارتكاسهما إلى حسابات طائفية صرفة، خاصة نظام الأسد المشغول حالياً بتنفيذ مخطط بشع للإبادة جماعية، ومن ناحية أخرى، هناك داعش وجماعات أخرى تابعة لتنظيم القاعدة. وفي الوسط هناك معظم السكان والثوار المعتدلون.

نعم، لقد خلقت أمريكا لنفسها، ولنا بالطبع، ومن خلال نشاطات وسياسات الإدارتين، السابقة والحالية، وضعاً لا يُحسد أحد عليه.

ونعم، لا يقع اللوم في هذا الصدد على معسكر إيديولوجي بعينه، لأن كل المتورّطين في الأمر من محافظين جدد وليبراليين جدد مواطنون أميركيون، ولقد قام الطرفان عبر السنين الماضية بتوجيه لكمة ثنائية قاضية ضد النظام الإقليمي القائم في الشرق الأوسط. لذا، لاتشكّل المسألة المتعلٌقة بهوية الشخص المقيم حالياً في البيت الأبيض أمراً هاماً بالنسبة للمراقبين على الساحة العالمية، وذلك بصرف النظر عن قناعاته الإيديولوجية، لأن مسؤوليته حيال ما يجري في العراق وسوريا لن تتغير.

لكن، وبالنسبة للمنتمين إلى معسكر أوباما، لابد وأن يكون سعر التباطؤ في التعامل وبحزم مع المجريات في سوريا قد أصبح واضحاً لهم اليوم، لذا عليهم أن يهرعوا الآن لوضع السياسات المناسبة للتعامل مع هذه المستجدات لكي يحتفظوا بما تبقّى لهم من مصداقية وماء وجه كقادة في هذا العالم، إذ ستكون عواقب استمرارهم في التسويف وخيمة للجميع، وليس فقط فيما يتعلّق بالأوضاع في الشرق الأوسط.

وبالطبع، أنا لست ممن ينكر مسؤولية السوريين والعراقيين والإيرانيين، والسعوديين، والقطريين، والكويتيين، والأتراك، والروس وغيرهم، في خلق هذه الفوضى. لكن، ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لعبت دوراً رئيسياً أيضاً، فالحقائق في هذا الصدد جلية جداً. ولا يشكل تبادل اللوم وتوجيه كل معسكر بأصابع الاتهام للآخر استجابة مناسبة للتعامل مع هذه التطورات، ولا يمكن لهذا السلوك أن يساعدنا على احتواء الفوضى التي تلوح في الأفق. أمريكا هي المسؤولة، وهذا يعني أنه ينبغي على إدارة أوباما أن تتحرّك لمعالجة الأمور قبل اندلاع حرب إقليمية.

لذا، أقول للقاطنين في البيت الأبيض، ولكل أعضاء الكونجرس، من رجال ونساء، ونواب وشيوخ، أن يكفّوا عن تبادل اللوم والتصرف كالأطفال المشاغبين، وأن يحاولوا التعامل مع تحديات المرحلة كقادة، بالغين، راشدين، عاقلين، مسؤولين، لأن أمريكا والعالم بحاجة إلى قادة من هذا النوع أكثر من أي وقت مضى. أم هل مايزال هذا المطلب يشكّل تحدياً مستحيلاً في أمريكا حتى وهي قد دخلت وتوغّلت في غمار القرن الحادي والعشرين؟