الاثنين، 30 يونيو 2014

عن الدولة الإسلامية

مقاتلو داعش في الرقة يحتفلون بإعلان الخلافة

لا، لم يأتِ إعلان داعش عن قيام الدولة الإسلامية وعن "تعيين" خليفة جديد للمسلمين جميعاً كتطور فريد من نوعه في أزمنتنا الحديثة، لكنه مع ذلك ليس بالتطور العادي، إذ من المتوقع أن يستجيب عدد لابأس به من الحركات الجهادية حول العالم لدعوة داعش لها لإعلان البيعة للخليفة البغدادي، بل لاشك عندي في أن قادتها سيسارعون إلى تقديم فروض السمع والطاعة لـ "أمير مؤمنين" عصرنا هذا، فـ "الانتصارات" التي حققتها الدولة مؤخراً في العراق وسوريا، أو بالأحرى، تلك التي نُسبت إليها، أعطتها زخماً لايُستهان به، وثروة نقدية طائلة سيتم توظيفها ولابد في شراء الولاءات، كما جرت العادة. كل هذا، والأحداث تجري تباعاً في منطقة ذات رمزية تاريخية كبيرة في ذاكرة المسلمين، لا في بقعة نائية من العالم.

لن يقف العالم، بما فيه الولايات المتحدة، موقف المتفرج طويلاً بعد اليوم، هذا إذا ما صدقنا أن التفرج كان هو سيد الموقف أساساً، لكن الحرب ستبقى تُقاد وتُسعّر بالوكالة، جالبة معها المزيد من الدمار، والخراب، والتفكّك... والاحتمالات، تلك الاحتمالات التي ستصبح فرصاً ثمينة للتكسّب بالنسبة للبعض، ومقابر بالنسبة لآخرين. وسنبقى وقوداً في عالم يخبو نوره باستمرار. سنبقى وقوداً طالما بقيت أجوبتنا كلها كامنة في ماضٍ لن تحييه تضحياتنا مهما تكاثرت، وفي تعامٍ مستمر عن طبيعة الواقع الذي نواجهه، واقع لاتعالجه الأماني ولا الترفّع عن الانخراط في المعمعة، ولاتعالجه إيديولوجيات وعقائد عقيمة، وتلك الأجوبة المقولبة الجاهزة إياها التي ما فتئنا نقتات عليها مذ ولدنا، واقع لاينفع معه إلا التجريب المستمر لكل ما هو جديد، مهما كان غريباً ومؤلماً وخارجاً عن مألوفنا.


الأربعاء، 18 يونيو 2014

هل سيأتي ذلك اليوم؟

الدفن الجماعي لضحايا مجزرة الحولة في سوريا، 29 أيار، 2012

هل سيأتي ذلك اليوم الذي سنكون فيه على استعداد لنعمل بالحق ونكفّ عن التشدق به فقط، ولنجعل من قدرتنا على هذا الأمر معياراً مصداقيتنا وتقدمنا؟ 

بعيداً عن كل الاعتبارات السياسية، أجد نفسي ببساطة غير قادر على القبول بأنه، وبعد مرور عشرة آلاف عام على ظهور المدن الأولى، وخمسة آلاف عام على اختراع الأبجدية الأولى ووضع أول مدونة قانونية، وأكثر من ستين عاماً على اعتماد الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وما يقارب العشر أعوام على صياغة قانون "مسؤولية الحماية،" مازال قادة العالم يفتقرون إلى الإرادة السياسية اللازمة للوقوف في وجه القتل الجماعي، ليقولوا "لا،" وليتصرفوا بسرعة للحيلولة دونه عند رؤيتهم للمؤشرات المناسبة، أو ليسعوا إلى إيقافه عند وقوعه وللعمل على تقديم الجناة إلى العدالة.

فالتقدم لا يقاس بقدرتنا على إنتاج "الآيفون" و "الآيباد،" لكن بقدرتنا على الامتناع عن التصرف كحيوانات والتعامل مع بعضنا البعض على هذا الأساس. صحيح أننا نتمتع اليوم بصحة أفضل وأننا قادرون على العيش لفترات أطول، لكننا ما زلنا قادرين أيضاً على قمع وقتل بعضنا البعض على نطاق واسع وبطريقة منهجية، في وقت يراقب فيه معظمنا ما يحدث بلامبالاة، بل أنهم قد يقدمون الأعذار والمبررات له، ويقوم البعض بإيجاد طرق ووسائل للانتفاع مما يحدث.

بالنسبة لي، هناك شيء ما في أعماقي يرفض التعامل مع هذا الواقع كأمر عادي، أو كانعكاس طبيعي لإنسانيتنا. فما الفائدة من بقاء البشرية حتى اللحظة وتعلمها لحقائق كثيرة حول طبيعة وجودها ومحيطها، إذا كانت ماتزال عاجزة عن فرض قطيعة مع طبيعتها الحيوانية وعلى رفض القتل الجماعي والتعامل معه كتعبير طبيعي لحقيقتنا؟ ما هو الهدف من مراكمة المعرفة إذا ما استمرت تفشل في إنتاج قفزة نوعية في وعينا بالأشياء، وفي فرض تحسينات على طبيعتنا الأساسية؟ متى سنصل إلى نقطة التحول في هذا الصدد؟ ألم يحن الوقت بعد لنبدأ بطرح هذه الأسئلة على أنفسنا؟ ألم يحن الوقت بعد لنبدأ بالبحث عن الأجوبة، بشكل جدي ومنهجي؟

فعندما نكون على استعداد لوصف تصرفات وأحداث بعينها بأنها خاطئة، وغير مقبولة، ومشينة، وتستحق الشجب والإدانة، بل وأن تعتبر خرقاً للقوانين الأساسية، ونبقى، مع ذلك كله، غير مستعدين للالتزام بمكافحتها بمثابرة وإخلاص، أي شيء يشي به هذا الموقف عنا كبشر؟


الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الطريق إلى الفوضى!

أوباما والمالكي

في وقت يقوم فيه البلهاء ذاتهم الذين نصحوا أوباما بـ "ضبط النفس" فيما يتعلق بالتدخل في سوريا بتحريضه على توجيه ضربات عسكرية في العراق للدفاع عن حكومة المالكي الطائفية بالتعاون مع إيران، والإنخراط في تحرك ضد قوات التمرد السني، التي لا تشكل فيه داعش إلا جزءاً من تحالف واسع، بخلاف ما يُشاع عبر وكالات الإعلام، من المهم في هذه المرحلة لبعض ما تبقى من أصوات عقلانية على الساحة أن تضغط من أجل صياغة سياسة واضحة الهدف فيما يتعلق بالتطورات الراهنة في المنطقة، بخاصة في سوريا والعراق.

ففي السابق، أدى التقاعس الناجم عن الخوف من العواقب المحتملة إلى تحويل هذه العواقب إلى  نبوءات ذاتية التحقيق (سوريا)، وأدت ردود الأفعال غير المدروسة والضربات التي وجهتها طائرات بدون طيار في غياب عملية سياسية للتعامل مع النتائج إلى تطورات كارثية على الأرض (اليمن، باكستان)، من حيث تعزيز التطرف وتسريع عمليات التفتيت المحلية. لم يعد من الحكمة بمكان للولايات المتحدة أن تثابر على هذا النمط الكارثي للتعامل مع المجريات، إذ لم يعد شعوب المنطقة تحمل المزيد من الآلام الناجمة عن ذلك.

إن تدخل الولايات المتحدة في العراق في هذه المرحلة، ما لم يترافق بإطلاق عملية سياسية إقليمية تهدف إلى معالجة الأوضاع في العراق وسوريا، سيضعها وبشكل مباشر في صف المعسكر الشيعي في المنطقة في معركته المستجدة ضد نظيره السني، وستكون الولايات المتحدة بذلك قد اختارت التدخل في صراع طائفي عنيف لم يبلغ ذروته بعد. ولا يهم في هذه المرحلة إذا كان الجانب المستهدف أولاً هو داعش أو غيرها من المجموعات التابعة لتنظيم القاعدة، فالتدخل العسكري ضد داعش في غياب عملية سياسية تهدف إلى التعامل بشكل فعال مع المظلومية السنية ومخاوفهم الوجودية الحقيقية والبينة أمر سيكون له انعكاسات سلبية كبيرة في المجتمعات السنية في المنطقة، بما فيها الأوساط العلمانية.

ودعونا لا ننسى هنا أن بروز داعش على الساحة ما كان ليحدث بهذه السرعة والقوة لولا دعم نظام الأسد وإيران. نعم، لقد نوهت في السابق أن داعش ليست عميلة للأنظمة الاستخباراتية السورية والإيرانية، كما يدعي البعض، وأنها منظمة مستقلة لها رؤيتها وأهدافها الخاصة، لكني نوهت أيضاً، أنه ومنطلق هذه الرؤية والمصالح، هناك عملية تنسيق واضحة بين داعش والنظامين في سوريا وإيران، وإن التركيز الإعلامي على داعش وتضخيم دورها على الساحة أمر يخدم مصلحة النظامين فيما يتعلق بالتحصل على تعاطف الغرب، ومصلحة داعش كذلك التي تريد أن تفرغ الساحة الثورية لها.

ولقد أكدت مؤخراً أيضاً أن الرئيس أوباما في رأيي على استعداد لرؤية المنطقة بأكملها تذهب إلى الجحيم، بدلاً من التدخل بأي شكل من الأشكال فيما يحدث فيها مرة أخرى، لكن، ونظراً لتزايد الضغوط عليه للتدخل في العراق، وفي مسعى محتمل لإقناع إيران بتقديم بعض التنازلات بخصوص برنامجها النووي، ربما يكون الرئيس أوباما على وشك القيام بتصرف غبي جديد. فتدخل أوباما في العراق بعد تقاعسه في سوريا سيخدم من جديد إيران وحلفائها، أي المعسكر الشيعي في المنطقة. وهكذا، سيكون أوباما، مستخدماً أقل ما يمكن من موارد مادية وبشرية، قد أقحم أمريكا في قلب الأحداث والتطورات المتسارعة في المنطقة، داعماً معسكراً بعينه ضد آخر، متخلياً عن حلفاء قدامى ومحتملين، ومتجاهلاً ما يجري من إبادة جماعية في سوريا، إن لم يكن مساهماً غير مباشر فيها، ومع كل ذلك، يُراد لنا الاعتقاد بأن هذا الموقف يعبر عن سياسات حكيمة ورشيدة.

هناك شيء ما أخرق في هذا كله، شيء يساهم في تمزيق نسيج المنطقة، وتحويلنا إلى وقود، ونحن، على ما يبدو، قد قبلنا هذا الدور.


الاثنين، 16 يونيو 2014

خواطر حول المحنة السورية ومستقبل المنطقة

مشهد من الدمار في حمص


لقد أفرزت الثورة السورية الكبرى في صفوف الثوار وبيئتهم الحاضنة عالماً شديد التنوع من الآراء والرؤى والقوى المتضاربة، وإشكالات لاتعد ولاتحصى حول مفاهيم أساسية مثل الهوية، والانتماء، والحداثة، والأصالة، والتنمية، بل والحرية والعدالة والكرامة، لأنها جاءت كمؤشر على رغبة حقيقية في الحياة والتقدّم.

أما النظام، فهو حتى اللحظة لم يتمكّن من، بل لم يحاول أساساً، تقديم إلا فكرة واحدة فقط، مع بعض التنويعات عليها في الأوساط المختلفة المؤيدة له، خلاصتها أن ما كانت عليه الأمور قبل الثورة يبقى أفضل من كل البدائل التي طرحتها الثورة، وأن محاولة الحفاظ على ما تبقّى من مظاهر ذلك الماضي القريب يبقى أفضل من التغيير، مهما كان الثمن.

هذا الطرح بطبيعته يتطلّب أن تظهر كل البدائل المطروحة على أنها أسوأ بالفعل مما كان قائماً. ولقد سعى النظام إلى تحقيق هذا من خلال استخدام العنف المفرط منذ بدء الثورة، مصحوباً بالتعبئة الشعبية القائمة على الكذب الصريح والتلاعب بالحقائق والمخاوف، ومن ثم السعي إلى فرض العنف على الطرف الآخر، وتحقيق الاختراقات وتقوية القوى المتطرفة في صفوفه، بل والتعامل معها عند الضرورة لإضعاف القوى الوسطية التي يمكن لها أن تجذب بعض مؤيديه.

النظام بمعنى آخر تاجر بالموت بكل أوجهه، سراً وعلناً، وفرضه كخيار وحيد على الجميع: مؤيدين وثوار.

وحتى اللحظة، لا تزيد النقاشات والحوارات الشعبية الجارية في صفوف مؤيدي النظام عن كونها ندباً وشجباً. أما تلك الجارية في صفوف "النخبة،" وخاصة الصف الثاني للتكنوقراط الذي انخرط في صفوف النظام في مرحلة ما قبل الثورة، ويقيم معظم نجومه اليوم خارج سوريا، إما لأن الأوضاع الأمنية المتدهوّرة اضطرتهم إلى الهجرة في مرحلة ما بعد انطلاقة الثورة، أو لأنهم كانوا أساساً من المغتربين العائدين، أما هذه الحوارات، فلا تنمّ إلا عن حنين إلى الماضي القريب، وإلى رؤية للتغيير أقنع هؤلاء أنفسهم بها وساعدوا على طرحها وترويجها، قوامها: أن تطوير وتحديث المجتمع السوري والدولة السورية تحت رعاية القائد الخالد الجديد، بشار الأسد، أمر ليس ممكناً وحسب بل كان قائماً بالفعل، وإن كانت وتيرته بطيئة بعض الشيء. ولقد وجدت هذه الرؤية دلائلها وتجلّياتها الإيجابية في العدد الكبير من المطاعم والفنادق والمراكز التجارية التي تم فتحها في المدن السورية الأساسية في غرب سوريا، خاصة بعد عام 2005.

لكن عملية "التطوير والتحديث" هذه تصاحبت أيضاً ببعض الأوجه السلبية التي غالباً ما يحاول أصحابنا تجاهلها، وتجاهل دورها في إشعال فتيل الثورة حتى اللحظة، تماماً كدأب رؤوس النظام أنفسهم. إذ أدت سياسات اللبرلة والخصخصة ورفع الدعم غير المدروسة والجارية في إطار غياب شبه كامل للاصلاحات السياسية والقانونية والتشريعية التي كان يمكن لها أن تلعب دوراً هاماً في السماح للاحتقانات الشعبية الناجمة عن هذه السياسات بالتعبير عن نفسها من خلال العمليات الانتخابية وما يصاحبها من حوارات شعبية ومظاهر احتفائية واحتجاجية، بل ومن خلال العمليات القضائية أحياناً في محاول للحد من الفساد والمحسوبيات.

لكن تبنّي سياسات اللبرلة في غياب لعمليات المحاسبة وتداول حقيقي للسلطة، حتى على أدنى المستويات التمثيلية، أدى إلى تسريع مفرط في وتيرة التفتيت الطبقي في الكثير من المدن، بل وعبر أنحاء سوريا، عبر المساهمة في ارتفاع نسب الفقر والبطالة، وفي زيادة الهوة التنموية والمعرفية ما بين الريف والمدينة، وفي زيادة نسبة هجرة، بل، في بعض الأحيان، تهجير، أبناء الطبقى الوسطى في الكثير من المدن إلى أطرافها المهملة غالباً، مفسحين المكان لظهور طبقة جديدة من المنتفعين، ولشرائح كبيرة من أصحاب المظلوميات والشكاوى. وزاد من الطين بلة في هذا الصدد، سنوات الجفاف التي شهدتها مناطق شمال الشرق في تلك المرحلة، وما تزال، مما أدى إلى تهجير ما يقارب من مليون مواطن باتجاه مدن الغرب، في غياب شبه مطلق وتام لإجراءات حكومية فعّالة تسعى للتخفيف من معاناة هؤلاء الناس ومن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تسببوا بها للمدن التي آوتهم.

وبسبب سياسة المحسوبيات السائدة، وطريقة النظام في التلاعب بالانتماءات الطائفية، ارتفعت في الوقت ذاته نسبة تواجد أبناء الأقليات في وظائف القطاع العام بشكل كبير، لايتناسب على الإطلاق مع حجمها الديموغرافي، ولايمكن تبريرها بناءاً على القدرات والمهارات. بل زادت حصة الأقليات الطائفية من وظائف القطاع الخاص بشكل ملحوظ أيضاً، بصرف النظر عن خلفية رب العمل الإثنية، نظراً لأن الكثير من أرباب العمل هؤلاء كانوا من الشخصيات لصيقة الارتباط بالنظام وبالعائلة الحاكمة، بشكل أو آخر.

إذاً، لقد اندلعت الثورة السورية في عام 2011، نتيجة عملية التطوير والتحديث الناقصة إياها التي قادها القائد الخالد الجديد بشار الأسد. بل بوسعنا القول أنها ابنته اللاشرعية الناتجة عن اغتصابه وتجاهله لحقوق شرائح اجتماعية واسعة ومن ثم محاولة معالجة الأمر بالتجاهل والتعتيم والقمع.

إن الرغبة بالعودة إلى ما كانت عليه الأوضاع في الماضي القريب لاينمّ عن تعامّ وتجاهل مطلق لمساوئ تلك الفترة الواضحة وللأسباب الكامنة ورائها، وهو الأهم، بل يدلّ أيضاً على وجود عقلية عند مؤيدي الأسد لا تقلّ سلفيتها عن سلفية بعض خصومهم، ولعل في قدرة الكثير منهم على قبول أكاذيب الأسد وتبريرهم للعنف المنهجي المفرط الذي فجّره ضد المحتجّين والثوّار السلميين منذ الأيام والأسابيع الأولى، أفضل دلالة على لاحداثية نفسياتهم وعقلياتهم، بل على كونهم في الواقع، وعلى اختلاف مذاهبهم وأطيافهم، وعلى الرغم من دراسة بعضهم في الغرب أو ولادتهم وتمضيتهم لفترات طويلة من حياتهم هناك، لايختلفون بشكل جوهري عن أتباع داعش والنصرة وغيرها من هذه المجموعات، وإن اختلفت المظاهر. فالحداثة ليست مظاهر وحسب. 

وفي واقع الأمر، لو كان خيار التطوير والتحديث برعاية بشار الأسد طرحاً مقبولاً للجميع لما اندلعت الثورة أساساً، حتى في حال قبلنا بنظرية المؤامرة القائلة بأن كل ثورات الربيع العربي ما هي إلا نتائج لمؤامرة غربية لإعادة تشكيل المنطقة.

ولنفترض لوهلة أن نظرية المؤامرة هذه، بصرف النظر عن تجلّياتها المتناقضة، صحيحة في جوهرها، وأن اندلاع ثورات الربيع العربي جاء نتيجة لتحريض خارجي، فهل يعفي هذا التصور الأنظمة الحاكمة والنخب المثقفة من المسؤولية العملية والأخلاقية والإنسانية، بل والقانونية، عما وقع ويقع من عنف؟

ألم تكن الأنظمة في منطقتنا استبدادية الطابع أساساً؟ أو ليس الاستبداد عيباً؟ أم أنه مرفوض فقط إذا ما مورس من قبل أشخاص ينتمون لعقيدة أو مذهب أو دين دون غيره؟ ألم تكن الطائفية مشكلة أساسية في مجتماعاتنا ناجمة تفاعلات تاريخية أصيلة؟ أو لم تشهد مجتمعاتنا مشكلة حقيقية تتعلّق بحقوق الأقليات القومية؟ ألم تكن التنمية الحقيقية مغيّبة؟ ألم يكن الفساد والمحسوبيات أسياد الموقف؟ ألم تكن جلّ التعيينات الحكومية في دول المنطقة تحدث على أساس الولاء السياسي والفئوي؟ وألم يؤثر ذلك على عمليات التحديث والتطوير والإصلاح في كل مؤسسات الدولة بسبب وجود أشخاص غير مناسبين ومؤهّلين في أماكن صنع القرار؟ ألم يكن الفقر والبطالة والجهل منتشرين في كل مكان، في غياب حقيقي وواضح لأية برامج قادرة على معالجة الموقف؟ ألم يكن قطاع التعليم في حالة تدهور مأساوية؟ ألم تكن المرأة مضطهدة؟ ألم يكن التطرف مستشرياً بسبب هذا كله؟ وألم تثبت الأنظمة الحاكمة عبر تغييبها الممنهج للحقوق وتسويفها المستمر فيما يتعلّق بإطلاق العمليات الإصلاحية القادرة على معالجة هذه التحديات بأنها جزء أساسي من المشكلة التي تواجهنا عوضاً عن كونها جزء من الحل؟

هل كان يمكن لأية قوى خارجية أن تتآمر وتفجّر الثورات لو كان عندنا طبقات ونخب حاكمة قادرة وراغبة على معالجة هذه التحديات؟ هل كان يمكن للثورة في سوريا أن تشتعل لو لم يوجد هناك قمع وظلم وفقر وبطالة وإهمال وفساد؟ ألم يُمنح بشار الأسد بالذات ما يكفي من الوقت لمعالجة هذه التحديات في سوريا؟ ألم تخدم الطريقة التي تصرّف بها منذ بداية الثورة المؤامرة المزعومة، أكثر من أي شيء قام به الثوار أنفسهم؟ 

منذ أكثر من عقدين من الزمن وهناك منّا من يطالب ويدعو إلى إجراء عمليات إصلاح سياسية شاملة في المنطقة للتكيف مع متطلبات العالم الجديد، عالم ما بعد الحرب البادرة، عالم مقدّر له أن يتحوّل بشكل أو آخر، إلى عالم متعدّد الأقطاب. إن مطالبة بعضنا بتبنّي مقاربات ديموقراطية ولامركزية في الحكم لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة إدراك عميق لتمتع الدول الديموقراطية اللامركزية بمرونة كبيرة تسمح للتنافس والصراع فيها أن يتبلور من خلال الأطر السياسية والقانونية والاقتصادية، فلا يأخذ طابعاً عسكرياً. ففي حال أرادت قوى خارجية ما التأثير على الصيرورات فيها، كان بوسعها اللجوء بكل بساطة إلى التعامل مع القوى السياسة المختلفة، عوضاً عن إشعال الثورات والدسائس، إن لم يكن لأسباب إنسانية فلأسباب مادية بحتة.  

وفي الواقع، لا يمكن لدول مثل دولنا، بسوياتها المعرفية والتنموية المتدنية في الوقت الحالي، أن تقف على قدميها في هذه المرحلة التاريخية دون مصانعة القوى الأكبر في المنطقة والعالم. ولايوجد ما يعيب في هذا. العيب كل العيب يكمن في تجاهلنا المستمر لأهمية تبنّي مقاربات موضوعية وطويلة الأمد لعملية التنمية، ولتجاهلنا لضرورة القيام بإصلاحات سياسية شاملة تسمح بتداول السلطة ومحاسبة الفاسدين، وبإقامة حوارات وطنية ضرورية بين الشرائح المختلفة المشكّلة للدول.

إن المساومة لا الممانعة، فيما يتعلّق بعلاقاتنا البينية وبالعلاقات القائمة مع "الخارج،" هي الطريقة المثلى للتعامل مع تحديات التغيير السياسي والبنيوي ومتطلبات التنمية في منطقتنا، وُجدت المؤمرات أم لم توجد. فما السياسات الدولية أساساً إلا عملية تآمر مستمرة وممنهجة. فكفانا ندباً ونعقاً في هذا الصدد. السيادة كانت وستبقى مصطلحاً هلامياً خاضع لأنواع مختلفة من التجاذبات، الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية، ولا يمكن الحفاظ عليها ما لم تُحصّن الأوطان بالتنمية وبالحريات.

إن مطالبة حكامنا لنا بالاصطفاف ورائهم خلال الأزمات بصرف النظر عن مسؤوليتهم الواضحة فيما يتعلّق بافتعالها وتفعيلها، لأمر فيه من الاستخفاف والاستهتار بحقوقنا وعقولنا وأرواحنا ما يكفي لإشعال ألف ثورة. لكن، تثبت المحنة السورية مع ذلك وجود شرائح واسعة في أوساطنا على استعداد دائم للانصياع لرغبات الحكام، وللانجراف ورائهم أينما قادوا. وهذا من أكبر الدلائل على خطورة وحقيقة أزمة الهوية التي نمرّ بها في البلد، والمنطقة ككل. ولايمكن لنا تجاوز هذه الأزمة، لا في سوريا ولا في المنطقة، ما لم تتشكّل قناعة واضحة وعميقة عند القوى الفاعلة في صفوف كل شريحة مجتمعية بأن حلّ مشاكلنا، والوقوف في وجه المؤامرات إن وُجدت، لايكمن بالاصطفاف وراء الحكام بل وراء الحقوق. وإن تأخيرنا المستمر للتعامل مع هذه المسألة، وتسويفنا في هذا الصدد، سيغيّبنا عن التاريخ كله قريباً، إلا كوقود.

إذ على ما يبدو أننا في طريقنا لنضيف أجسادنا وأرواحنا أيضاً إلى تجارتنا المزدهرة بالنفط والغاز لتزويد محرّك الصيرورات التاريخية العالمية بالطاقة اللازمة.

عمار عبد الحميد، كاتب وناشط سوري مقيم في الولايات المتحدة.


الأحد، 15 يونيو 2014

الانتهاكات الممنهجة: خطنا الأحمر الحقيقي


الحقيقة المرّة التي لاينبغي لها أن تغيب لحظة عن عقول وقلوب الناشطين في مجال الدمقرطة وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، تتلخّص بما يلي:

أننا لا نزال نعيش اليوم في عالم لايتردّد فيه صناع القرار كثيراً فيما يتعلّق باستخدام القتل الجماعي كأداة مقبولة لتحقيق مصالحهم، إما عن طريق الانخراط المباشر، أو التلكوء والتجاهل. عالم لا يزال فيه من الممكن التغاضي عن وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إذا ما كان الجناة قادرين على "خلق المشاكل" خارج حدود مناطقهم المعترف بها.

لكن هذا الموقف، ونم الناحية العملية، يجيز استمرار اللجوء إلى القوة الغاشمة والعنف من قبل جميع الأطراف الفاعلة من دون استثناء، لتحقيق أهدافها، وبالتالي فهو يمثل هزيمة فعلية للكثير من الاتفاقات والمعايير الدولية، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تشكل دعائم النظام العالمي الحالي. وهذا أمر لم يتلق الكثير من الاهتمام والتفكير بعد، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، خاصة فيما يتعلّق بانعكاساته على الأمن العالمي وقدرته على تقويض كل الجهود الرامية إلى إنشاء نظام دولي عادل للجميع.

وفي الوقت نفسه، هناك الكثير من الشخصيات والجهات في صفوف الناشطين ممن يصبون اهتمامهم فقط على تلك الانتهاكات والجرائم المرتكبة من قبل أعدائهم الإيديولوجيين مثل أمريكا و/أو إسرائيل، فيما نراهم على استعداد دائم لتقديم آلاف الأعذار لتبرير ذات الانتهاكات عندما تُرتكب من قبل معسكرهم الإيديولوجي الخاص، أو أحد الأطراف المتعاطفين معها لأسباب إيديولوجية. بل إن بعضهم على استعداد للذهاب إلى الخنادق والمتاريس للمشاركة الفعلية في ارتكاب الانتهاكات. ليست الجريمة هي القضية بالنسبة لهؤلاء إذاً، بل هوية الجاني. بؤس هذا النهج وهذه العقلية في التعامل مع قضية هي الأنبل في حياتنا: قضية النضال من أجل كرامة الإنسان وحريته، بل تمثل هذ العقلية جزءاً أساسياً من المشكلة التي تواجهنا.

لكن، وإذا ما كان بوسعنا في هذه المرحلة الاتفاق على إدانة جرائم وانتهاكات أساسية معينة، بغض النظر عن هوية مرتكبيها، ومظلوميتهم المزعومة، ربما يكون بوسعنا عندها، على اختلاف انتماءاتنا التنظيمية والعقائدية، الاتفاق على استراتيجيات وجداول عمل مشتركة.

لا للمزيد من عمليات القتل الجماعي. لا لأي انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان.

هذا هو الهدف الأساسي المشترك الذي ينبغي لنا أن نسعى إلى تحقيقه من خلال الضغط على القوى العالمية للاتفاق على إنشاء مؤسسات وتبني آليات فاعلة بعينها لاستخدامها لمنع وقوع هذه الانتهاكات ولجلب المنتهكين إلى العدالة، وتعويض الضحايا.

علاوة على ذلك، لا ينبغي اعتبار التركيز على تفعيل دور الدول الديموقراطية لتقود الحراك العام لوقف هذه الانتهاكات، وإن من طرف واحد أحياناً، على أنه يمثل استراتيجية غير شرعية أو حكيمة في هذا الصدد، خاصة في وقت يمكن فيه شلّ دور الأمم المتحدة وبسهولة عن طريق استخدام حق النقض من قبل قوى متورطة حتى الصميم في ممارسة انتهاكات جسيمة، بما في ذلك القتل الجماعي، سواء بشكل مباشر أو عن طريق توفير الدعم لحلفائها المنخرطين في حملات من هذا النوع.

وربما آن الآوان بالفعل لكي يقدم الحقوقيون في صفوفنا تصورات جديدة لإعادة هيكلة الأمم المتحدة ذاتها، وآليات صنع القرار فيها، وللعمل على إدارة حوار عالمي مفتوح في هذا الصدد.


داعش الغريبة

داعش في الموصل

تمثل الدولة الإسلامية في العراق والشام منظمة متطورة لها رؤيتها الخاصة لتي تسعى إلى فرضها على سكان بلاد الشام بالحديد والنار، تمااص كمعظم القوى على الساحة. لكن، وبسبب كثرة اللاعبين وتشابك الملفات، يبقى الوضع الحالي في المنطقة وضع سائل جداً وشديد التعقيد، مما يخلق فرصاً كثيرة لظهور أنواع مختلفة من التحالفات الانتقالية الغربية، بصرف النظر عن الطريقة التي يتم بها التفاوض عليها بين الأطراف المختلفة، وبصرف النظر عن العداءات الإيديولوجية، إذ لاتهدف هذه التحالفات إلى إنهاء حالة العداء بين الأطراف، بل إلى تحقيق أهداف قريبة المدى، منها إخلاء الساحة من الخصوم الآخرين، وفي هذه الحالة القوى الأكثر اعتدالاً، وبالتالي قدرة على التواصل مع المجتمع الدولي للتحصّل على دعمه في مرحلة ما.

يمكن لهذه الوقائع والتطورات أن تكون مربكة بالنسبة للكثير من المراقبين، الذي يلجوء بعضهم، في سعيهم لفهم الأشياء، إلى تبني نظريات مثل ضلوع الأجهزة الاستخباراتية في سوريا وإيران بتأسيس وإدارة داعش. هذا لاينفي بالضرورة وجود اختراقات للأجهزة الاستخباراتية التابعة للنظامين في صفوف داعش، فهذا أمر ليس وارداً فقط بل هناك الكثير من الأدلة على وقوعه فعلاً، فهذه هي طبيعة اللعبة في هذه المرحلة، المرشحة للمزيد من التعقيد في المستقبل.

لكن، أحياناً، قد تصبح بعض الأمور أكثر وضوحاً مع مرور الوقت. فهاهي التطورات في العراق تجبر نظام الأسد على قصف مواقع تابعة لوحدات داعش. ولكن وبمجرد إضعاف داعش وعودة بعض التوازن إلى الأوضاع في العراق، كفكّ الضغط على بغداد على الأقل، قد يعود طرفا معادلة التطرف في سوريا: داعش والنظام إلى تنسيق جهودهم ضد الآخرين من جديد مما قد يسبب المزيد من الاستقالات في صفوف القيادات الأكثر اعتدالاً.


السبت، 14 يونيو 2014

بالطبع أوباما هو المسؤول!

بعض أهالي الموصل يغادرونها عقب دخول المتمردين

هل ستتدخل الولايات المتحدة لتنصر المالكي في العراق؟ إذا كان أوباما صادقاً عندما قال، في إشارة إلى الأوضاع في سوريا، أن أمريكا لن تتدخل لتحسم نتائج "حرب الآخرين الأهلية،" فلا يبدو من المحتمل أن تقدم أمريكا دعماً جدياً إلى المالكي.

أما فيما يتعلّق بالغارات الجوية، فأمريكا ستكون بحاجة إلى أهداف واضحة للقيام بذلك، لكن المتمردين السنة في الموصل والبلدان لأخرى أصبحوا اليوم مختلطين مع السكان المحليين، لأن معظمهم عراقيين أساساً، بل ومن سكان المدن المعنية ذاتها، وليسوا مقاتلين أجانب في صفوف داعش، بحسب ما تتناقله وسائل الإعلام.

علاوة على ذلك، وفي الوقت الذي بدأت فيه ساحتا القتال في سوريا والعراق بالاندماج، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتوخى الحذر فيما يتعلّق بموضوع التدخّل في أي من البلدين الآن: إذ لدينا، من جهة، نظامان حاكمان فقدا كلية ما كان لديهما من بقايا شرعية واهية بسبب ارتكاسهما إلى حسابات طائفية صرفة، خاصة نظام الأسد المشغول حالياً بتنفيذ مخطط بشع للإبادة جماعية، ومن ناحية أخرى، هناك داعش وجماعات أخرى تابعة لتنظيم القاعدة. وفي الوسط هناك معظم السكان والثوار المعتدلون.

نعم، لقد خلقت أمريكا لنفسها، ولنا بالطبع، ومن خلال نشاطات وسياسات الإدارتين، السابقة والحالية، وضعاً لا يُحسد أحد عليه.

ونعم، لا يقع اللوم في هذا الصدد على معسكر إيديولوجي بعينه، لأن كل المتورّطين في الأمر من محافظين جدد وليبراليين جدد مواطنون أميركيون، ولقد قام الطرفان عبر السنين الماضية بتوجيه لكمة ثنائية قاضية ضد النظام الإقليمي القائم في الشرق الأوسط. لذا، لاتشكّل المسألة المتعلٌقة بهوية الشخص المقيم حالياً في البيت الأبيض أمراً هاماً بالنسبة للمراقبين على الساحة العالمية، وذلك بصرف النظر عن قناعاته الإيديولوجية، لأن مسؤوليته حيال ما يجري في العراق وسوريا لن تتغير.

لكن، وبالنسبة للمنتمين إلى معسكر أوباما، لابد وأن يكون سعر التباطؤ في التعامل وبحزم مع المجريات في سوريا قد أصبح واضحاً لهم اليوم، لذا عليهم أن يهرعوا الآن لوضع السياسات المناسبة للتعامل مع هذه المستجدات لكي يحتفظوا بما تبقّى لهم من مصداقية وماء وجه كقادة في هذا العالم، إذ ستكون عواقب استمرارهم في التسويف وخيمة للجميع، وليس فقط فيما يتعلّق بالأوضاع في الشرق الأوسط.

وبالطبع، أنا لست ممن ينكر مسؤولية السوريين والعراقيين والإيرانيين، والسعوديين، والقطريين، والكويتيين، والأتراك، والروس وغيرهم، في خلق هذه الفوضى. لكن، ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لعبت دوراً رئيسياً أيضاً، فالحقائق في هذا الصدد جلية جداً. ولا يشكل تبادل اللوم وتوجيه كل معسكر بأصابع الاتهام للآخر استجابة مناسبة للتعامل مع هذه التطورات، ولا يمكن لهذا السلوك أن يساعدنا على احتواء الفوضى التي تلوح في الأفق. أمريكا هي المسؤولة، وهذا يعني أنه ينبغي على إدارة أوباما أن تتحرّك لمعالجة الأمور قبل اندلاع حرب إقليمية.

لذا، أقول للقاطنين في البيت الأبيض، ولكل أعضاء الكونجرس، من رجال ونساء، ونواب وشيوخ، أن يكفّوا عن تبادل اللوم والتصرف كالأطفال المشاغبين، وأن يحاولوا التعامل مع تحديات المرحلة كقادة، بالغين، راشدين، عاقلين، مسؤولين، لأن أمريكا والعالم بحاجة إلى قادة من هذا النوع أكثر من أي وقت مضى. أم هل مايزال هذا المطلب يشكّل تحدياً مستحيلاً في أمريكا حتى وهي قد دخلت وتوغّلت في غمار القرن الحادي والعشرين؟


الخميس، 12 يونيو 2014

ملاحظات حول التطورات الراهنة في العراق

آلاف من العائلات العراقية تغادر الموصل بعد استيلاء تحالف من المتمردين السنة عليها

وحدها إيران وحكومة المالكي الخاضعة لها يريدان لنا أن نصدق أن هناك جهة وحيدة مسؤولة عن الهجوم الحالي في شمال ووسط العراق، والذي أدى إلى سقوط مجموعة هامة من المدن والبلدات العراقية في أيدي المتمردين السنة، ألا وهي الدولة الإسلامية في العراق والشام. لكن الواقع أن الدولة لاتزيد عن كونها جزءاً، وإن كان هاماً، من تحالف سني أوسع يضم قوى أخرى، إسلامية، وقبائلية، وبعثية، همه الأول والأساسي في هذه المرحلة هو الدفاع عن مصالح السنة في العراق عن طريق إخضاع المناطق السنية لسيطرته المباشرة، وذلك بعد سنين طويلة من فشل الحكومة العراقية في التعامل مع الملف السني بتعقّل وحكمة. 

من ناحية أخرى، تبدو الرؤية التي يطرحها البعض حول كون إيران العقل المدبّر الحقيقي لهذا الهجوم، والداعم والمستفيد الأكبر منه، وذلك في إطار محاولتها المزعومة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بالسماح لها بالتدخل مباشرة في العراق ساذجة إلى حد كبير. لأن مثل هذا التدخّل سيكون مكلفاً جداً بالنسبة إيران، التي لاتحتاج إلى إذن أساساً، فهي متورّطة بما يكفي في المستنقعين العراقي والسوري ومنذ سنين، ولا حاجة حقيقية لها للتورّط أكثر من ذلك، خاصة بشكل سافر. وإذا ما قررت إيران التدخّل بشكل سافر بالفعل فيما يجري في العراق حالياً، محاولة رد الهجوم واستعادة ما سقط من المدن، فسيمثّل ذلك سوء التقدير كبير للعواقب المحتملة من جانبها.

إن أفضل ما يمكن أن تفعله إيران في هذه المرحلة هو القيام بمساعدة حكومة المالكي لتأمين والدفاع عن جيب شيعي في جنوب العراق، تماماً كما قامت بمساعدة نظام الأسد على إنشاء جيب موالٍ في الأجزاء الغربية من سوريا، والذي سيكون أكثر تنوّعاً ديموغرافياً من أن يتمّ تعريفه بدقة على أنه جيب علوي، لكن السيطرة الهيكيلية ستكون للعلويين بالفعل، وسيكون صنع القرارات المفصلية دائماً حكراً على عائلة الأسد وعلى حلفائها من الطائفة العلوية، وغيرها من الشرائح والطوائف، ومن خلفهم جميعاً، بل وفوقهم، إيران.

إن التطورات الجارية حالياً في العراق وسوريا هي في الواقع متعلّقة وبشكل واضح بعملية إعادة رسم للحدود وإعادة تصميم للمنطقة. وملا تنتهي مرحلة تأمين الحدود المبدئية لكل طيف، سينخرط كل معسكر في خلافاته الداخلية حول ما يتعلّق بالسيطرة على المناطق المختلفة الواقعة تحت سيطرته، وحول طبيعة النظام الحاكم في كل منها، وبالتحديد درجة أسلمته.

ومن المنطقي في هذه المرحلة أن يسعى الأكراد للاستفادة من هذه التطورات فيحاولوا تأمين وتوسيع الجيوب المختلفة الخاضعة لسيطرتهم في البلدين، وخاصة في العراق. ومن المرجح أن تتمتّع الجيوب ذات الأغلبية الكوردية في العراق بشكل خاص، وربما في محافظة القامشلي في الطرف الشمالي الشرقي من سوريا أيضاً، بقسط أكبر من الأمن والاستقرار بسبب وجود هياكل سياسية وأمنية، وميليشيات مثل البيشمركة، أكثر نضجاً من مثيلاتها في المناطق ذات الأغلبية العربية،  وخاضعة لإدارة أكثر حرفية وانضباطاً منها. وبسبب الطبيعة العلمانية للقوى الحاكمة في المناطق الكوردية، وبصرف النظر عن نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق السورية والمثير دائماً للجدل، من المرجح أن تتلقّى المناطق الكوردية دعماً غربياً أكثر من غيرها مما سيساعدها في الحفاظ على استقرارها، وعلى إدارة عملية التنمية المحلية بشكل أنجع في المستقبل.

لقد كانت الفرصة المتاحة لتجنب وقوع كل هذه التطورات في منطقتنا دائماً محدودة، وتطلّبت وجود نخب سياسية أكثر نضجاً ومعرفة مما كان متاحاً. لكن، فات أوان الوقوف في وجه هذه الصيرورات اليوم. ولقد أصبحت المهمّة الرئيسية للناشطين في مجال حقوق الإنسان والدمقرطة اليوم تتلخّص في محاولة إدارة هذه المرحلة بشكل يسمح بتقليل الخسائر ويفسح المجال لتضميد الجروح ومعالجتها في المستقبل. وما بالوسع في مواجهة هذا كله إلا أن نأمل في أن يكون لدينا ما يكفي من النضج والفهم لنستوعب طبيعة المرحلة القادمة، وطبيعة تحدّياتها، ونهيئ أنفسنا لإدارتها بشكل ناجع.


الأربعاء، 11 يونيو 2014

وقود وضحايا


نحن وقود ليس إلا. وهاقد أصبحت دمائنا وأجسادنا وأرواحنا بمثابة اكتشاف جديد، نفطيّ الطابع، في ربوعنا، اكتشاف سيسمح لنا بتزويد العالم كله بمصدر إضافي للطاقة المتجدّدة، لتشغيل محركات الصيرورات التاريخية الجارية. هكذا، وبهذه الطريقة وحسب، سيشارك معظمنا في صنع المستقبل. إذ لايمكن للإنسانية فيما يبدو، حتى بعد عشرة آلاف عام من الحضارة، كما يزعمون، أن تستمر بلا محارق. ولايمكن لبعض البشر إلا أن يكونوا، وبكل إصرار وتسليم، وقوداً. لقد أصبحت الديموقراطية عالمية بالفعل، فهاهي الضحية تختار، عن طيبة خاطر، جلادها، وتقترع على كيفية النحر.



الخميس، 5 يونيو 2014

هنيئاً لك هذا النصر!


كان بوسعك أن تصبح بطلاً منذ سنين، وبالفعل لا القول، من خلال إصدار جملة من الإصلاحات الحقيقية، إصلاحات تتوّج باستقالتك، لتصبح بعدها أول رئيس في سوريا، منذ عقود، يختار، طوعاً، العودة إلى صفوف الشعب.
نعم، كان هذا بوسعك.

كان بوسعك أن تصبح بعدها مديراً لمركز أبحاث علمية من أهم المراكز في الشرق الأوسط، إن شئت، و/أو أن يكون عندك سلسلة من العيادات الطبية المنتشرة في أنحاء الوطن، تقدّم أفضل رعاية صحية لفقراء الناس، الذين كانوا،أحببت ذلك أم تمنّعت، سيبجّلونك ويسبّحون بحمدك وكأنك قديس أو ربّ. 

نعم، كان هذا بوسعك. 

وكان بوسعك أيضاً أن تبرز على الساحة الدولية كشخصية عالمية، يحتفي الناس بها أينما حلّت في ربوع الأرض، ويشيرون إليها بالبنان، ويتمنّون الاقتداء بها، لأنك، باستقالتك الحكيمة، ستكون قد تمثّلت الجوهر الحقيقي للقيادة الرشيدة، فرأيت أبعادها الأخلاقية والمعنوية، ولم تبق أسير تجلّياتها السياسية والسلطوية فحسب. 

نعم، نعم، نعم. كل هذا كان في متناول يدك، لو أردت. 

لكنّك، ومنذ بداية ظهورك على ساحة وعينا، اخترت، وعن سابق اصرار، نهج القمع. فكان أن "صمدت،" و "قاومت،" و "مانعت،" حتى كان لك ما حقاً أردت، وإليه تطلّعت بكل توق، وصبوت، وصبأت، وشبقت: أن تثبت للجميع أنك بالفعل ابن أبيك، فتحتفظ، وبجدارة، بمنصب الرئاسة والقيادة الذي ورثته عنه، وتكسب ذات الألقاب التي كنا، سابقاً، ولاحقاً، قد أسبغناها عليه: كمثل المجرم والسافل والوغد. 

وإن كان الوطن قد تحوّل بفضل فِعالك إلى مقبرة وخرابة تكاثرت فيها آلام وأحقاد ستبقى تشتعل في العقول والنفوس والأجساد، سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد، إلى ما شاء الدهر، فلا شيء في ذلك عندك يستحق التوقّف عنده، أو التحسّر، أو حتى الندب. لأنك بالفعل ابن أبيك، وكمثله، ليس لك من انتماء إلا إلى رغبتك الدفينة تلك في التحصّل على احترام نابع عن صميم تقبّل ومحبة، لا عن خوف. لكن هيهات لكم هذا، أنت، وهو، وكل من جاء وسيأتي من نسلكم الفكري النفسي السقيم، من المهد إلى اللحد، إذ ستبقى أحقادكم وأطماعكم تعمي أبصاركم عن الدرب. 

فلا يغرنّك رقص مؤيديك في الشوارع لك اليوم، فبالأمس القريب فقط كانت أعدادهم أضعافاً مضاعفة، ثم جاءت لحظة الثورة والصحو، وجاء الوعد، وها أنت قد اضطررت لاستيراد المؤيدين من كل صوب وحدب... تُرى هل سيبقى عندك ما يكفي منهم في الغد؟ وهل يمكن لعددهم أن يكفي يوماً في سدّ ذلك الفراغ في جوف جوفك، في قدس أقداس وجدانك، في صميم إحساسك المستمرّ بالنقص، والعوز، والعجز؟ 

هاقد أصبحت بين الناس كديك على مزبلة، أو طاووس منتوف الريش، أجرب ككلب شريد، أو جرذ في حقل، لايبالي أحد بأناقتك المُكلفة المتكلّفة، وتواضعك الزائف، وزوجتك المستوردة، وحضوركما الباهت والصلف. وأصبحت دمية في أيد، ظاهرة وخفية، من الشرق والغرب، تساوم بك وعليك، ولا ضمانة لبقائك أو رحيلك عندها إلا حسابات لا يمكن لعقلك أن يدركها، ولا يمكن لك التأثير فيها، مهما فعلت... 

فأنت، من تكون أنت بالنسبة لهم بعد انقلابك على شعبك وناسك وطعنك لهم في الظهر؟ من ذا منهم سيحترم أو يكترث بصعلوك وضع نفسه بكل طيبة خاطر في اليد؟ وقبل على نفسه، راغباً، خانعاً، طائعاً، أن يكون لهم عبداً... "إن هم أرادوا هذا العبد؟" هكذا تزلّفت وتذلّلت عندهم، هذا ما قاله لسان حالك لهم، إن تفكّرت. 

لكن، أسالك ثانية، أنت من أنت لتتوقّع منهم، أو أيّ كان، معاملة وأخلاقاً أفضل من تلك التي قدّمت؟ هم يخطّطون لألف عام قادمة لمصلحة شعوبهم، وأنت في يوم قصير دمّرت ما قد يتطلّب إعادة بنائه ألف عام بعد رحيلك، فأيّ شيء تتوقّع؟ أن لا يكون هناك أيّ ثمن لما... "أنجزت؟" 

منذ سنين فقط كان العالم كله بين يديك أنت، وكان بوسعك أن تمشي بين الناس مطمئناً، آمناً، لأنهم اختاروا منحك ثقتهم، لعلّه يكون عندك حسّ ما أو رغبة بالعدل، لكن، هاهي الأيام قد أظهرت لهم، وبالدليل القاطع، كم أنت ضعيف، وتافه، ونذل، فبتّ اليوم حبيس القصر. هنيئاً لك هذا النصر. 

وهنيئاً لكل من راهن عليك ظانّاً، بل طامعاً، في أن ينوبه شيء من هذا الفعل، لأن قادم الأيام لن يبخل عليه في هذا الصدد، فالمعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، ولن يكون لأحد في قريب الغد مأمن أو ملجئ من تبعات ما زُرع اليوم، فهنيئاً لكم جميعاً، من قلب قدّم ما قدّم، وحذّر، ونبّه، وذكّر، حتى بات اليوم مفعماً بلامبالاة حيالكم لايمكن لها أن تنضب أبد الدهر، هنيئاً لكم موسم الحصد.