فيما يلي الحلقة السابعة من برنامج "بين سام
وعمار"
إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل
الجمعة، 27 أبريل 2018
الجمعة، 20 أبريل 2018
الجمعة، 23 مارس 2018
الاثنين، 6 نوفمبر 2017
نحو مفهوم جديد للأخلاق
الحرة / من زاوية أخرى – عندما تكون النزعة السلوكية متأصلة في النفس البشرية، سواءً على المستوى الفردي أو الجمعي، نتيجة لارتباطها بسمات وراثية معينة و/أو بالشروط الأولية المتعلقة بالبيئة الحاضنة، بما في ذلك طبيعة التركيبة الأسرية ودور الدين والتقاليد في المجتمع وطبيعة النظام السياسي القائم، إلى آخر ما هنالك من شروط، لا يمكن للفكر وحده أن يتغلب عليها ويتجاوزها في لحظة معينة، بل يتطلب الأمر الالتزام بعملية رقابية جادة ومستمرة ومتعددة الأوجه للنفس وللمجتمع وذلك لتجنب الارتكاس إلى السلوكيات القديمة من خلال طرحها ضمن قوالب اجتماعية وسياسية جديدة أو تقديم مبررات فكرية جديدة لها.
على سبيل المثال، يمثل ميل الجماعات والدول إلى فرض نفوذها خارج إطار تواجدها الجغرافي نزعة قديمة ومتأصلة في السلوك الجمعي للبشر، نزعة كانت لها مبرراتها المادية والفكرية في كل مرحلة تاريخية للمسيرة الإنسانية، وفي كل حضارة ومجتمع. لذا، وعلى الرغم من بروز وانتشار أفكار ومفاهيم جديدة في المجتمعات الغربية في القرون الماضية حول حقوق الإنسان والإخوة والعدالة والمساواة، لم تتمكن هذا الظاهرة من لجم النزعة الإمبريالية التوسعية عند هذه المجتمعات، بل، على العكس، فقد ساهمت هذه الأفكار بتزويد مجتمعاتها الحاضنة بمبررات فكرية جديدة لبسط نفوذها خارج حدودها عن طريق الحروب التوسيعية والنشاطات الاستيطانية، مثل مبدأ "المهمة التحضيرية Mission Civilisatrice" و إطروحة "عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden،" كما نوهنا في مقال سابق.
أما على الصعيد الفردي، فقد تعطينا سلوكيات الرجل حيال المرأة مثالاً مناسباً في هذا الصدد، خاصة في هذه اللحظة الحرجة التي تشهد نقاشات متشعبة وحادة حيال قضايا مثل الاغتصاب والتحرش الجنسي في مجتمعات ودول عديدة. إذ لا يمكن للتغيير أن يحدث هنا جراء اقتناع الرجال بوجهة النظر النسوية المنادية بالمساواة الإنسانية والقانونية والاجتماعية وحسب، فغالباً ما تقترن تصرفات هؤلاء الرجال، بصرف النظر عن تصريحاتهم وتأكيداتهم، بتناقضات تنمّ عن عدم قدرتهم على استيعاب المضمون السلوكي الحقيقي لقناعاتهم المعلنة، أو على تمثّله إلى درجة يتلاشى معها البعد الفوقي والوصائي، إن لم نقل الاستغلالي، في تعاملهم مع المرأة.
وليس هذا بالأمر الغريب، وإن كان مستهجناً. ففي الواقع، لا يمكن للتغيرات السلوكية، لا على الصعيد الفردي ولا الجمعي، أن تتحقق دون الاعتراف أولاً بوجود أبعاد ثقافية واجتماعية ونفسية عميقة لها، ودون مراجعة فكرية وسلوكية مستمرة، ودون الالتزام بعمليات دورية من المصارحة والمكاشفة والمساءلة، ودون استعداد لقبول النقد والتصحيح بنسبة معينة من الأريحية.
ولا شك في هذا الصدد في أن المجتمعات الديموقراطية تبقى أكثر قدرة على توفير المناخ الحر اللازم للانخراط في عمليات من هذا النوع. بل بوسعنا الجزم هنا أن هذه العمليات بالذات تمثل مفتاح تقدم هذه المجتمعات ومنبع قوتها الحقيقية، وذلك على الرغم من الأزمات والفضائح التي تفرزها بين الحين والآخر، إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي. إذ تبقى المجتمعات الديموقراطية أكثر قدرة على التأقلم مع الأزمات وتوابعها من خلال التغيرات الدورية للشخصيات الفاعلة في صياغة القرارات فيها، ومن خلال نشاطات المنظمات والناشطين المدنيين والشخصيات الاعتبارية الأخرى من باحثين وأكاديميين وفنانين، ومن خلال تداول السلطة بين التيارات السياسية المختلفة، ومن خلال تغيير هذه التيارات لأولوياتها السياسة بناءً على الضغوط والمساءلة الشعبية من ناحية، وعلى نشاطات مراكز الأبحاث واللوبيات من ناحية أخرى. لا تتوفر هذه المرونة في المجتمعات الاستبدادية والتقليدية، وهذا ما يرشح كل قضية فيها، مهما بدأت جزئية، مثل حق المرأة في التجنيس أو قيادة السيارات أو تولي المناصب العامة، للتحول إلى أزمة وجودية متعددة الأبعاد في حال اختارت بعض القوى السياسية تجييرها لذلك.
لذا، ونظراً لكل ما سبق، يبدو واضحاً أن التغيير المنشود في مجتمعاتنا الشرق أوسطية هو تغيير قيمي وسلوكي بالدرجة الأولى، أي تغيير ناتج عن تحديث مفهومنا للأخلاق ذاته، وهو الأمر الذي يتطلب إفراز طفرة ما في وعينا الفردي والجمعي. وتعلمنا التجربة التاريخية هنا أن طفرة من هذا النوع لا يمكن أن تحدث دون الخوض في آتون تجارب ومحن صعبة من النوع الذي نراه في مجتمعاتنا اليوم.
وفي خضم هذا كله، وكما أكدنا في مقال سابق، "ما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية." ويتطلب هذا الأمر بدوره العمل على التنسيق ما بين النشاطات الرامية إلى تحديث المجتمعات وتلك المنادية بالحريات وبالديموقراطية.
وفي خضم هذا كله، وكما أكدنا في مقال سابق، "ما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية." ويتطلب هذا الأمر بدوره العمل على التنسيق ما بين النشاطات الرامية إلى تحديث المجتمعات وتلك المنادية بالحريات وبالديموقراطية.
الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017
الدولة الحداثية والهوية والحركات الانفصالية
![]() |
أحتفالات في أربيل بنتائج استفتاء الاستقلال - 29 أيلول، 2017 |
الحرة / من زاوية أخرى – إذا عرّفنا الدولة الحداثية على أنها ذلك الكيان الذي يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل من فيه من أفراد ومكونات، فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يتماهى مع الهوية الخاصة بأي من مكوناته المؤسسة، سواء كان الأمر يتعلق بالهوية القومية أو بالانتماء الديني أو بعقيدة سياسية بعينها.
من هذا المنطلق، تمثل المساعي الانفصالية المختلفة والرامية
إلى تأسيس دول جديدة قومية الطابع خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بعمليات التحديث والتطوير
المجتمعي، سواء تجلّت هذه المساعي في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب. والأمر
نفسه في الواقع ينطبق على تلك المساعي الهادفة إلى إعادة تشكيل دول قائمة على أسس دينية
أو أيديولوجية، كالدعوة إلى أسلمة الدول أو تبني الشريعة الإسلامية كقانون ناظم لها.
لكنا سنركز نقاشنا هنا على الحركات القومية بالذات.
لا يعني كلامنا السابق بالضرورة أن كل حركة انفصالية تشكل
بالضرورة حركة رجعية من الناحية الفكرية والقيمية. إن التركيز شبه الحصري على البعد
القومي هو الأمر الإشكالي هنا، وهو ما يسم الكثير من هذه الحركات بصفة الرجعية. والمثير
في الموضوع عند تعاملنا مع هذه الظاهرة هو أن معظم الحركات القومية الانفصالية جاءت
كردة فعل على الاضطهاد الذي تعاني منه قوميات معينة في إطار دول محكومة من قبل أنظمة
وتيارات قومية التوجهات بدورها، أي أن معظم مؤيدي هذه الحركات يدركون تماماً حجم المخاطر
التي غالباً ما تنجم عن تبنّي توجهات قومية في ما يتعلق بتعريف الدولة وحكمها. ومع
ذلك لا يرى أصحاب هذه التيارات أي تناقض ما بين طروحاتهم وتوجهاتهم القومية وبين واقع
الاضطهاد والتهميش الذي يحاولون الهروب منه، على الرغم من أنه سيكون لزاماً عليهم،
فيما لو تكللت مساعيهم الانفصالية بالنجاح، أن يتعاملوا مع تحديات مماثلة، أي تحديات
ناجمة عن وجود قوميات أخرى في إطار "وطنهم القومي" المنشود، قوميات قد يكون
لها رؤية وتفسير مختلفان تماماً للتاريخ وللحدود، علاوة على مخاوفها المشروعة في ما
يتعلق بمستقبلها في هذا الوطن الجديد. هذا ناهيك عن الإشكالية الناجمة عن أن قيام دولة
قومية جديدة غالباً ما يأتي على حساب تفتيت دولة قومية قائمة وبالتالي على حساب الرؤية
القومية الخاصة للتيارات والشرائح النافذة فيها. ولهذا، غالباً ما تؤدي هذه "الإشكالية"
إلى اندلاع حرب ضروس نادراً ما يحسمها قيام هذا الكيان القومي الجديد، حتى في حال حصوله
على اعتراف دولي.
يكمن المخرج من هذه الورطة في التركيز على المطالبة بالعدالة
والحقوق الأساسية والأمان، وفي إدراك أن الانفصال لا يزيد عن كونه مجرد أداة من الأدوات
التي يمكن لها أن تحقق هذه المطالب في بعض الظروف. لكنه يبقى الأداة الأكثر راديكالية،
كما أن قدرته على تحقيق هذه المطالب ليست فورية في معظم الأحيان، كما تدلنا السوابق
التاريخية. لذا، لا ينبغي اللجوء إليه إلا في حال فشل الأدوات الأخرى.
لقد رأينا أية شرور انبثقت من مجرد التلويح بالانفصال في
كل من كوردستان العراق وكاتالونيا، وبوسعنا أن نتابع ما يحدث اليوم في جمهورية جنوب
السودان التي انفصلت ولم يتحقق فيها لا الإمان ولا الاستقرار ولا الحرية، بل لم تنته
مواجهاتها بعد مع النظام في الخرطوم. ورأينا ما حدث في السابق في البلقان الذي ما تزال
الأوضاع الأمنية في دوله الجديدة معرضة للانهيار في أية لحظة.
نعم، لقد تحقق الانفصال في تشيكوسلوفاكيا دون حرب، ولم يسفر
الاستفتاء في استكلندا عن أية اضطرابات أو قلاقل اجتماعية، وما كان من المتوقع له أن
يسفر عن أية ممارسات عنفية حتى في حال جاءت نتيجته بالإيجاب، وكذلك الأمر في ما يتعلق
بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروربي والذي يمثل نوعاً من الانفصال.
وهنا بيت القصيد. لقد لعبت البنية المجتمعية والمنظومة السياسية الخاصة بهذه الدول
دوراً كبيراً في قيادة الحوار وتشكيل الإطار الخاص بالعمليات السياسية المتعلقة بقرار
الانفصال، هذا علاوة على قضية التوقيت وعلى الشروط الإقليمية والدولية الخاصة التي
كانت سائدة في تلك اللحظات الحرجة التي حدثت فيها هذه العمليات وتم فيها اتخاذ القرارات
الحاسمة.
على المطالبين بالانفصال أن يأخذوا كل هذه الأمور والشروط
والسوابق بعين الاعتبار وأن يوازنوا ما بين رغباتهم ومطالبهم الخاصة، مهما بدت لهم
مشروعة، وبين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف السائدة حالياً على الصعيد
الداخلي والإقليمي والدولي. وإذا كانت النخب السياسية المسؤولة عن قيادة الحركات الانفصالية
المختلفة تعاني في هذه المرحلة من خلخلة أو تشرذم ما ومن عدم استعداد للالتزام بشكل
مناسب بالعملية الديموقراطية في عملها بما في ذلك القبول بالمساءلة الشعبية وبقواعد
الشفافية وتداول السلطة والابتعاد عن المحسوبيات، فمن حق المرء، بل يتوجب عليه أن يتساءل
عن طبيعة الدولة المستقلة التي ستديرها هذه النخب.
إن في التركيز على تحقيق الانفصال في هذه المرحلة، بل وعلى
التعامل مع مفهوم الانفصال وكأنه الطرح الأمثل لتحقيق العدالة، تبديدا للطاقات الحيوية
للشعوب المعنية، والتي ستعطي مفعولاً أكبر فيما لو جُيرت للمطالبة بالتزام أكبر من
نخبها السياسية بأسس العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وبالعمل على تحقيق إدارة
أكثر فاعلية لعمليات التنمية المحلية، إلى آخره من تلك القضايا التي يتم التعامل معها
وكأنها مسائل فرعية في حين أنها تشكل حجر الأساس في ما يتعلق بقيام الدول العادلة القادرة
على تحقيق الأمان لشعوبها، ولكل مكون من مكوناتها بصرف النظر عن خلفيته القومية أو
الدينية أو المذهبية.
الاثنين، 23 أكتوبر 2017
خواطر حول التطرف والإرهاب والتغيير

الحرة / من زاوية أخرى
– لا يمكن اختزال مشكلة التطرف الفكري في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة في مسألة
المعتقدات وحدها، فالتطرف ظاهرة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر منها ظاهرة
فكرية ودينية. ولا يشكل وجود سوابق تاريخية وفكرية للتطرف في الإسلام أو نصوصاً إشكالية
في كتبه المقدسة مبرراً لهذا الاختزال أو ظاهرة فريدة في تاريخ الأمم والأديان، فهناك
سوابق لهذا الأمر في معظم الأديان والمجتمعات التقليدية. وغالباً ما يقتصر دور الفكر
والعقائد على التبرير والتحريض والتجييش لخدمة مخططات ومصالح لا علاقة للدين بها لا
من قريب ولا بعيد.
لا
نهدف من خلال هذه الملاحظة إلى التقليل من أهمية البعد العقائدي في ظاهرة التطرف، وبالتالي
إلى التقليل من ضرورة إصلاح الفكر الديني، لكن فهماً أعمق لدور الدين والعقيدة هنا
سيساعدنا بلا شك في ترتيب أولياتنا وفي التعامل مع تحدي الإصلاح الديني بشكل أفضل وأنجع.
فإذا
كان ثمة إشكال في ما يتعلق بالمقدسات والمعتقدات في هذا الأمر فلن نجده في الإسلام كظاهرة استثنائية،
أو في أي دين بعينه إذا ما توخينا الدقة، ولكن في ذلك التناقض ما بين بعض المعتقدات
والنزعات التقليدية من ناحية، وبعض معطيات الحداثة بظروفها وشروطها الموضوعية الخاصة
والقيم الناجمة عنها من ناحية أخرى، وهذا إشكال يواجه كل الأديان والمجتمعات التقليدية
ولا يقتصر على الإسلام والمجتمعات ذات الغالبية المسلمة.
لذا،
يتطلب التعامل الناجع مع قضية التطرف في هذه المجتمعات أن نبتعد عن إغراءات الاختزال
والتبسيط، والتي غالباً ما تنجم عن تعصبات معينة نابعة عن إشكالات الهوية، إثنية كانت
أو مذهبية، فيرى بعض المسيحيين أن مشكلة التطرف توجد في الإسلام ذاته، أو يرى بعض الشيعة
أن المشكلة تقع عند أهل السنة تحديداً، أو العكس، أو يرى بعض الأكراد أن المشكلة تنجم
أساساً عن "العقلية العربية الصحراوية،" إلخ. علينا أن نتجاوز كل هذه النزعات
اللاعقلانية وأن نواجه العوامل الحقيقية وراء ظاهرة التطرف في مجتمعاتنا والتي طالت
كل مكوناتها بلا استثناء، وهي عوامل بنيوية الطابع تبدو أكثر ارتباطاً بالمنظومة الإدارية
والسياسية للدولة وطريقة تعاملها مع مسألة الحكم والهوية منها بالفكر والدين، خاصة
في المراحل التالية للمرحلة التأسيسية للدول في منطقتنا.
ومن
هذه العوامل فشل المنظومة التعليمية الرسمية في ترسيخ المفاهيم والقيم الثقافية الحداثية،
وسوء إدارة عمليات التنمية الوطنية أو إهمالها تماماً، خاصة في مناطق بعينها، وذلك
نتيجة لاعتماد الأنظمة الحاكمة على الولاءات عوضاً عن الكفاءات عند القيام بتوزيع المناصب
والوظائف الرسمية، أو كجزء من سياسة خاصة حيال هذه المناطق استناداً إلى اعتبارات إيديولوجية
أو إثنية أو مذهبية، إلى آخر ما هنالك من عوامل.
وعلينا
التعامل مع مسألة الإرهاب من المنطلق ذاته فنتجاوز إشكالية الاختزال والتبسيط. فالإرهاب
اليوم يمثل ظاهرة إقليمية وعالمية أمنية بامتياز ومرتبطة بدول وأجهزة ومصالح وصراعات
بعينها. إذ لا يمكن للمنظمات الإرهابية أن تتواجد وتنتشر على النطاق الواسع الملحوظ
حالياً من دون دعم مستمر وممنهج من قبل حكومات وجهات أمنية معينة. ولا نشير هنا إلى
الحكومة الأميركية والـ سي. أي. إيه.، كما جرت العادة في أدبياتنا المعاصرة، بقدر ما
نوجه أصابع الاتهام إلى حكوماتنا الإقليمية وأجهزتها الأمنية، والتي انضم إليها الروس
مؤخراً. أي أن دود الخل منه وفيه، كما يقول المثل الشامي.
إن
استغلال الحكومات الإقليمية لسلاح الإرهاب، أولاً تحت مسمى المقاومة، ومن ثم ابتداعها
لقضية محاربة الإرهاب والإرهابيين، وتجيير كلا الأمرين لخدمة مصالحها الفئوية الخاصة،
ولإدارة صراعاتها البينية، ولإحكام قبضتها على المجتمعات المحلية، سبق بعدة عقود إعلان
أميركا لحربها العالمية الخاصة على الإرهاب. ولقد جلب علينا هذا الوضع ويلات أكثر وأكبر
وأخطر وأعمق مما جلبه التدخل الأميركي في العراق والمنطقة عموماً.
إن
الحجم الديموغرافي للمسلمين وانتشارهم في جميع أنحاء العالم علاوة على طريقة تعامل
الإعلام العالمي والإقليمي مع ظاهرة الإرهاب ككل يولد انطباعاً عاماً يحعلها تبدو أكثر
ارتباطاً بالإسلام والمسلمين من غيرهم، وهذا يخدم مصالح الإرهابيين الإسلاميين أنفسهم،
فالإرهابي يريد أن يُعرف لأن هذا الأمر يساعده على الترويج لرسالته وعلى كسب الدعم
والمؤيدين.
لكن
الإرهابي في الواقع ليس سيد نفسه، وغالباً ما يتم استغلاله، بمعرفة عنه أو جهل، لخدمة
مصالح وقوى إقليمية معينة. ولا شك في أن هذا الارتباط ما بين الدول والأنظمة الإقليمية
من ناحية، والإرهاب من ناحية أخرى، يعقد إلى نحو كبير عملية محاربة التطرف في مجتمعاتنا
ويعرقلها. فأنظمتنا السياسية، وبصرف النظر عن ادعائاتها وتبجحاتها المتكررة، بحاجة
دائمة إلى وجود المتطرفين والإرهابيين في أوساطنا كونهم يشكلون أحد أدواتها الأساسية
في الحكم، وستبقى هذه الأنظمة بالتالي الراعي والداعم الأكبر للتطرف والإرهاب في مجتمعاتنا،
ونكاد في تأكيدنا هذا لا نستثني أياً من الأنظمة الحاكمة في منطقتنا.
ومن
هنا بالذات ينبع ذلك الارتباط البيني المصيري لقضايا التوعية والتحديث والدمقرطة والمعارضة
السياسية في مجتمعاتنا. ونظراً لهذا كله، لن يكون التغيير سهلاً أبداً، وليس من الغريب
على الإطلاق أن تجد شعوبنا أنفسها مراراً وتكراراً غارقة في دوامة العنف والقتل والدمار.
سيطول
هذا المخاض.
السبت، 14 أكتوبر 2017
التيارات الديموقراطية الشرقأوسطية وضرورة التحالف مع الغرب
![]() |
ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. |
الحرة / من زاوية أخرى – بدى للكثير من الناس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة عقب ثورات أوروبا الشرقية المخملية في أواخر القرن المنصرم أن ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم أصبحت في طريقها للانقراض، وأن تأسيس نظام عالمي جديد قائم على الديموقراطية والليبرالية، على الأقل في ما يتعلق بمبادئه الاقتصادية، بات أمراً وشيكاً.
من
هذا المنطلق، لا شك أن لعودة روسيا اليوم إلى الساحة السياسية العالمية مصحوبة
بالإنجازات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لإيران، وباستقرار الأوضاع السياسية
والاقتصادية في الصين وتمدد نفوذها عبر العالم، علاوة على نجاح الكثير من الأنظمة
الاستبدادية التقليدية في البلدان النامية في الحفاظ على بقائها في وجه ثلة من
التحديات الداخلية والخارجية وبعد أن بدت آيلة للزوال في تلك الفترة الواعدة، لا
شك أن لهذا كله وقعاً سلبياً كبيراً عند كل من بنى آماله وتوقعاته على انتصار وشيك
للنظام الديموقرطي الليبرالي.
لكن
هذه العودة لقوى الاستبداد والرجعية ليست مفاجئة في الواقع، فهي لم تختف عن الساحة
أساساً، وما كان يمكن للأسباب والعوامل التي أدت إلى ضعفها المرحلي أن تستمر إلى
الأبد أو أن تمهّد الطريق إلى ذلك التغيير الجذري المرجو بالسرعة التي توقعها أو
حلم بها الكثيرون. إذ لا تمثل هذه القوى ظاهرة طارئة في المجتمعات، بل هي في
الواقع امتداد لإرث حضاري تراكمي قديم لا يمكن له أن يتغير أو يتطور إلا من خلال
المرور بذات المراحل التي مرت بها ديموقراطيات الغرب، بما في ذلك من كر وفر، من مد
وجذر، ومن صراعات وانتكاسات.
قد
يرغب البعض في حرق المراحل، عن طريق المواجهات الثورية مع النخب السياسية
والاقتصادية والاجتماعية التقليدية المستفيدة من استمرار الأطر التقليدية مثلاً،
لكن تحديات تشكيل الوعي الجمعي وصياغته لا تسمح بذلك، والثورات الشعبية لا تؤتي
أُكُلها إلا بعد أجيال من النضال والعمل المنظم، وتبقى نتائجها مرتهنة بقدرة النخب
الثورية على الارتقاء إلى التحديات التنظيمية الخاصة بكل مرحلة وكل جيل. فالمعرفة
وحدها لا تكفي هنا، وإطلاع المرء على تجارب التغيير في المجتمعات الأخرى وتبنيه
لأفكار مختلفة عن تلك التي نشأ عليها لا يكفي بالضرورة لإحداث تغيير جذري في
تصرفاته وسلوكياته. والقضية أصعب بكثير على المستوى الجمعي. ولنا في التناقض
الصارخ ما بين أفكار الليبراليين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وتصرفاتهم الشخصية خير
دليل على ذلك، كما سبق ونوهنا في مقال سابق.
لقد
مر أكثر من قرن على دخول الأفكار الحداثية إلى مجتمعاتنا وتغلغلها فيها، ومع ذلك،
وفيما خلا بعض القشور والمظاهر، ما تزال النزعات التقليدية والإيديولوجيات
السياسية المتمحورة حولها أكثر قدرة على تحديد الأنماط السلوكية السائدة في
مجتمعاتنا من الأفكار والقيم الحداثية.
وفي
الواقع، مازالت المجتمعات الغربية نفسها تعاني من هذا التناقض، على الرغم من
أنها تمثل
الحاضنة الأساسية للحداثة. وها نحن نرى كيف تعاني هذه المجتمعات اليوم من عودة
صراعات الهوية إلى الساحة بما في ذلك حنين صريح ومعلن إلى تأكيد الخصوصية القومية
والعرقية والدينية للغرب عموماً، وللمجتمعات المختلفة فيه، وإن أدى ذلك إلى تراجع
في ما يتعلق بالالتزام بالقيم الديموقراطية والليبرالية.
فحتى
في الغرب إذن، ما تزال المعركة من أجل الديموقراطية مستمرة، لأنها في جوهرها معركة
ضد نزعات متأصلة في نفوسنا كبشر، ولا يمكن لمعركة كهذه أن تنتهي أبداً، كما لا
يمكن لها أن تُخاض في الغرب وحده. فها نحن نرى كيف سمح التراجع الغربي على الساحة
العالمية إلى عودة روسيا (وغيرها من القوى التقليدية) إليها، بأحلامها الإمبريالية
القديمة إياها، بل، وكيف شجعها هذا التراجع على إعلان الحرب على الديموقراطيات
الغربية من خلال تلاعبها الإلكتروني بالانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية
وعدد من الدول الأوروبية.
من
هنا تنبع حاجة الغرب المستمرة إلى بسط نفوذه خارج حدوده الجغرافية، فهو ما لم يخض
المعركة خارج حدوده سيخوضها داخلها. لذا، وكما عادت روسيا والنظم الاستبدادية
الرجعية إلى الساحة الدولية بعد غياب، لن تطول مرحلة التراجع الغربي التي نشهدها
اليوم.
من
ناحية أخرى، هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في
العالم، ومهما تلكأت الحكومات المعنية هنا فهي لن تتلكأ طويلاً، بل لا يمكن السماح
لها بذلك، ومهما أخطأت في تناولها لملف الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأخفقت في التوفيق
ما بين مصالحها المادية وهذه القضايا، علينا أن لا نسمح لهذه الأخطاء أن تعمينا عن
ضرورة إيجاد طرق للتحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول (راجع مقالي السابق: عن الإمبريالية والديموقراطية – 2)، إذ
ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية
عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. كما لا يمكن لنا أن
ننتصر في مواجهاتنا مع أنظمتنا الرجعية المختلفة دون هذا التحالف، لأن هذه الأنظمة
ومهما تناحرت ما بينها تعرف متى تتحالف مع بعضها البعض في مواجهاتها المستمرة مع
شعوبها.
ويمثل
السعي وراء قيام هذا تحالف القوى الديموقراطية هذا وفي هذا الوقت بالذات التحدي
الحقيقي الذي ينبغي على كل العاملين في مجال الديموقراطية والتنمية في مجتمعاتنا
التصدي له.
الأربعاء، 20 سبتمبر 2017
الحداثة والمواطنة والأخلاق
![]() |
نساء تونسيات يتظاهرن مطالبة بحقوقهن |
الحرة / من زاوية أخرى
-- لم تقتصر الأخلاق يوماً كمفهوم ناظم للسلوكيات الفردية والجمعية على مجتمع دون
آخر أو على دين دون غيره. فعبر التاريخ طور كل مجتمع وكل دين مفهومه الخاص للأخلاق
وللسلوكيات المقبولة والمشروعة فيه، كل وفقاً لظروفه الموضوعية الخاصة بما فيها
طبيعة المحيط البيئي والجغرافي علاوة على تجربته التاريخية والفكرية الخاصة وطبيعة
تفاعلاته مع الأديان والمجتمعات الأخرى، القريب منها والبعيد. من هذا المنطلق، ليس
من المستغرب على الإطلاق أن تظهر نقاط تلاقٍ واختلاف فيما يتعلق ببعض المفاهيم
والممارسات الأخلاقية بين المجتمعات والأديان، وليس من المستغرب أيضاً أن يطرأ
الكثير من التحولات والتطورات على تعريفنا للأخلاق مع تعاقب الأجيال واستمرار
تلاقح الحضارات والثقافات، وأن تبقى الأخلاق كمفهوم عرضة دائماً للتغير والتحول.
ومع دخول المفاهيم الحداثية على الخط واستنادها إلى
معطيات العلوم الموضوعية، وما صحب ذلك من تمكين للأفراد فيما يتعلق بتحديد
خياراتهم وسلوكياتهم الشخصية، تسرعت وتيرة التحولات المتعلقة بالأخلاق وبالممارسات
والسلوكيات المستندة إليها. لكن، وبصرف النظر عن الاعتراضات التي توجهها التيارات
التقليدية من خلال مؤسساتها وشخصياتها، لم يحدث ذلك بشكل اعتباطي أو عبثي، بل جاء
نتيجة تجربة تاريخية طويلة وصعبة شهدت انقلاباً كبيراً في الظروف المعاشية للأفراد
والمجتمعات. ولا يمثل هذا التحول أو الانقلاب، من ناحية أخرى، فلتاناً أو انحلالاً
أخلاقياً، كما يُقال، لكن تأقلماً طبيعياً وضرورياً مع تغيرات اجتماعية وثقافية جذرية
باتت تشكّل ثوابت جديدة للعيش في المجتمعات المعاصرة.
وبناء على ذلك، لم يعد مبرراً في هذه المجتمعات التمييز
ما بين الناس إلا على أساس تصرفاتهم في الفضاء العام المشترك، خاصة في حال انطوت
على تعدّ واضح وصريح على حقوق الآخرين، ولم يعد مبرراً للدولة بالتالي أن تدخل في
خيارات الناس المتعلقة بالملبس والمأكل والمعشر إلا في أضيق الأطر.
فمن الناحية الموضوعية والوضعية، لم يعد ممكناً لا للعرق
ولا للدين ولا للجنس ولا للميول الجنسية أن تشكل أساساً مشروعاً للتمييز القانوني،
خاصة بمفهومه السلبي. فبعد عقود طويلة من الدراسات العلمية، الميدانية والمخبرية،
بات واضحاً عدم وجود أي مبرر علمي لتفضيل عرق على عرق، أو دين على دين، أو جنس على
جنس، أو ميل على ميل. نعم، يحق للناس أن يؤمنوا بما يشاؤون، كأن يرى البعض أن
البيض أكثر ذكاءً من السود، أو أن الإسلام أفضل معتقداً من المسيحية، أو أن الرجال
قوامون على النساء، أو أن المثلية الجنسية جريمة وآفة لابد من مكافحتها، لكن تبقى
هذه الاعتقادات مجرد آراء خاصة لجماعات دون غيرها، وبالتالي لا يمكن للدولة
المعاصرة أن تتبناها كقوانين ناظمة للمجتمع بأسره، أولاً لأن ذلك يشكّل انحيازاً
لفئات بعينها على حساب أخرى وانقلاباً على مفهوم المواطنة والعدالة والمساواة،
وثانياً كونها تتناقض تماماً مع المؤشرات والأدلة العلمية. ففي حال تساوت الشروط
الأولية إلى حد ما، مثل التعليم والقوانين الوضعية والأعراف المحلية، لا يوجد ما
يمنع امرأة مسلمة سوداء مثلية الميول، على سبيل المثال، من أن تتفوق على رجل مسيحي
أبيض غيري في نشاطات ومجالات معينة مثل إدارة شركة، أو النجاح في امتحان
للرياضيات، أو العزف على البيانو. وحدها القوانين والأعراف يمكن لها أن تضع
العراقيل أمام هذه المرأة بسبب جنسها أو لونها أو دينها أو ميولها، لكن لا وجود
لأي سبب عضوي أو جيني للنجاح أو الفشل هنا.
من هذا المنطلق، ومن الناحية الأخلاقية الحداثية، لا
يوجد على الإطلاق ما يبرر للدول استمرارها في تبني قوانين تمييزية قمعية حيال
شرائح اجتماعية بعينها. فإذا كان تغيير الأعراف والتقاليد والمعتقدات أمراً صعباً
لا يتم إلا مع مرور العقود، يمكن في هذه الأثناء لقوانين جديدة أكثر انسجاماً مع
المعطيات الموضوعية المعاصرة وقيم الحداثة أن تساعد على تمهيد الطريق من خلال
تمكين شخصيات وجمعيات معينة على العمل من أجل بث وعي جديد.
ويشكّل قيام تونس مؤخراً بتبني قوانين جديدة ساوت ما بين
حق المرأة والرجل في الميراث وفي اختيار الشريك الحياتي المناسب وفي منح الجنسية
للأولاد مثالاً هاماً في هذا الصدد. وإن لم يكن من المتوقع في هذه المرحلة الباكرة
أن تنجح هذه القوانين الجديدة في وضع حدٍّ نهائي لكل الممارسات المجحفة بحق المرأة
وفي تغيير آراء كل الناس حيال هذه القضايا الخلافية، سواء في تونس أو في غيرها من
دول المنطقة، تبقى تمثل مع ذلك خطوة هامة على الطريق، خطوة ما كان يمكن لها أن
تحدث لولا استنادها إلى سياسات سابقة مرتبطة بعملية التحديث في البلد، ولولا توفر
الإرادة السياسية المناسبة لدى النخب لدفع عملية التحديث نحو الأمام.
ولعل ما يميز هذا التحول في تونس، وهو أمر لفت نظري إليه
الزميل صامويل تادرس في حديث خاص، هو قيام حكومة منتخبة ديموقراطياً بتبني هذه
القوانين، مما يعني أن إرادة التغيير هنا لا تعبر فقط عن توجهات النخب المتنفذة في
المجتمع والدولة، بل يبدو أن الوعي المجتمعي العام في هذا الصدد قد بلغ سوية معينة
سمحت لهذه العملية أن تتم بقدر كبير من التوافق ما بين الشرائح الاجتماعية والقوى
السياسية المختلفة ومابين الشعب وممثليه.
نعم، قد لا يكون ممكناً في هذه المرحلة أن تقوم دول
المنطقة باستنساخ التجربة التونسية، لكن هذه التجربة الفريدة تشير وبوضوح إلى أن
الديموقراطية لن تكون بالضرورة عائقاً أمام عمليات التحديث، كما يخشى البعض. ففي
حال توفرت الإرادة السياسية المناسبة لدى النخب، وفي حال تم التمهيد للخطوات
التحديثية في المجتمع ككل عن طريق التعليم والانفتاح الاقتصادي والتفاعل مع
المجتمعات الأخرى ونشاطات المجتمع المدني، وهذا ما شهدته تونس بشكل أو آخر عبر
العقود الماضية، يمكن لعمليات التحديث أن تمضي قدماً إلى الأمام دون أن تتعارض مع
متطلبات الدمقرطة والشفافية والمسائلة الشعبية.
ولا يحتاج المواطن في المجتمعات الحداثية لأن يكون
مقتنعاً بكل ما جاءت به الحداثة من قيم وأنماط سلوكية ومعيشية جديدة ليكون مواطناً
"صالحاً،" بل يكفيه في هذا الصدد أن يعطي للآخر ذات الحقوق التي يريدها
لنفسه، وأن لا يرى في هذه المساواة تهديداً لهويته فيحاول الالتفاف عليها من خلال
الإصرار على إيجاد وضع قانوني استثنائي خاص يميزه ويفضله عن الآخر.
إن التوصل إلى تشكيل هذه القناعة على المستوى الفكري
والنفسي هو بالذات جوهر التحدي الذي يواجهنا.
الثلاثاء، 12 سبتمبر 2017
المعصية والاستبداد
الحرة / من زاوية
أخرى
-- إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا" مقولة مشهورة ورائجة في المجتمعات العربية
والإسلامية هذه الأيام، يخالها البعض حديثا نبويا وهي ليست كذلك وإن اتفقت من حيث المضمون
مع أحاديث معروفة.
وغالبا
ما تستخدم هذه المقولة كطريقة لشرعنة حالة الازدواجية الأخلاقية التي بات يعيشها كثير
من المسلمين حول العالم من خلال التناقض الصارخ ما بين مبادئهم المعلنة وممارساتهم
الفعلية، علاوة على تجييرها كمقاربة استباقية لمنع التشكيك بالمبادئ ذاتها من خلال
إيجادها آلية للتعايش مع "المعصية" من دون الانخراط في أية محاولة جدية للتدقيق
فيها أو لإعادة التفكير في معناها في ضوء معطيات الواقع المعاصر، واقع القوانين المدنية
ومفاهيم مثل المواطنة والديموقراطية والمساواة ما بين الجنسين، بل والحرية الجنسية.
علاوة
على ذلك، تستخدم المقولة أيضا كأداة في حرب نفسية مستمرة ضد أصحاب الفكر المخالف ووسيلة
لقمع أي حوار جدي حول الأعراف والتقاليد والموروث من خلال تخجيل أصحاب الفكر الجديد
ودفعهم لعدم المجاهرة بآرائهم وفرض حالة من الحصار الاجتماعي عليهم. إنها وسيلة لمحاربة
التغيير من خلال منع طرح الأفكار الجديدة على الساحة وحصار أصحابها وعزلهم عن المشاركة
في الحياة الاجتماعية والفكرية.
المقولة
خطيرة إذن، لكنها لا تعبر عن تطرف في الفكر بقدر ما تنم عن هشاشة في الهوية وعقلية
رافضة للتغيير ومشبعة بالخوف منه، ونفسية غير قادرة على الانتماء إلى العالم المعاصر
لأنها لم تشارك في صنعه أو في تشكيل أدواته، الفكرية منها والمادية. بل تعكس المقولة
حالة من الضياع وانعدام التوازن وتناقضا في الأهواء ما بين الرغبة في الاستفادة من
منجزات العالم المعاصر، بحداثته وقوانينه وحرياته، بل والاستحواذ عليها أو بعضها على
الأقل، ورغبة في الحفاظ على الماضي الذي لا يزال يشكل مصدر الهوية الأساسي وربما الوحيد
عند الشعوب التي تبنّت هذه المقولة.
لكن
هذا الموقف يأتينا كدليل على الاحتضار المستمر لهذه الشعوب حتى بعد مرور عقود على تجارب
التحديث المجتمعي والسياسي والثقافي فيها، فهو من حيث قدرته على التأثير على مجريات
الأمور لا يزيد عن كونه ردة فعل عدمية الطابع على الحضارة المعاصرة، ردة قادرة على
تجميد عمليات التغيير والتحديث المجتمعي وعلى تدمير الشعوب والمجتمعات لكن ليس بوسعها
أن تفرز أية بدائل ناجعة غير ما هو قائم من مؤسسات حضارية معاصرة، بحسناتها وسيئاتها.
ولهذا
الموقف تجلياته في المجتمعات الأخرى بالطبع، فهو موقف نفسي في جوهره أكثر منه دينياً
أو عقائدياً، كونه نابعا عن المنشأ الخارجي للكثير من المفاهيم الحضارية المعاصرة كما
سبق ونوهنا في مقال سابق. لكن وجود حامل ديني وثقافي له في المجتمعات ذات الغالبية
المسلمة، متمثل في المقولة المطروحة هنا، وغيرها، يفرض على مواطني هذه المجتمعات إيجاد
طريقة ما لتفنيده ومعالجة آثاره وتبعاته.
إن
الشعوب الحية هي تلك التي تستمد هويتها من نشاطاتها وإنجازاتها المعاصرة في المجالات
المختلفة وليس من نجاحات الأجداد وأمجاد الماضي، فلكل الشعوب أمجادها وماضيها. إنها
الشعوب القادرة على الانتماء للحاضر وعلى المشاركة في صناعته. إنها الشعوب التي تعطي
للمواطن فيها حق المجاهرة بما يؤمن به، ما لم يدعُ إلى قتل أو سرقة أو أي تعدّ واضح
وصريح على حقوق الآخرين، والتي لا دخل للدولة فيها بتعريف "المعصية"، تاركة
الأمر في هذا الصدد للأفراد وللجماعات الإيمانية المختلفة بما يتناسب مع معتقداتها
الخاصة، ما لم تتعد إحداها على أخرى أو تحرّض عليها.
ولاشك
في أن الجماعات الإيمانية في مجتمعاتنا المعاصرة باتت بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم
المعصية وفي طريقة التعامل معها في ضوء المتغيرات الجمة التي طرأت على الواقع المعاش
خاصة في ما يتعلق بحق الفرد في تقرير سلوكه الشخصي، وربما أصبح لزاماً على المؤسسات
الدينية في هذه المرحلة أن تكتفي بدور الناصح والمرشد وأن تبتعد عن دورها الوصائي التقليدي.
وربما كان إفساح المجال أمام الأفراد للمجاهرة حتى بتلك التصرفات التي تعترض عليها
المؤسسات الدينية يعطيها، والدولة، والمواطنين كافة، فرصة أفضل للتعامل مع الواقع كما
هو بعيداً عن التكهنات والافتراضات.
أما
الإصرار على ثقافة الاستتار فله أبعاد لا تتوقف عند حد المعاصي المتعارف عليها تقليدياً،
فإن اختيار المرء أن يكون شيوعياً أو ليبرالياً مثلاً، ومحاولته التعبير عن توجهاته
وآرائه هذه من خلال تصريحاته وتصرفاته، يعد معصية عند معظم الإسلاميين، بل والمسلمين
عامة، فلا شك في أن بعض الخيارات والسلوكيات المرتبطة بالتوجهات السياسية والاجتماعية
والفكرية المعاصرة، تشكّل معصية وفقاً للمفاهيم والأعراف والشرائع التقليدية، لذا تمثل
الدعوة إلى الاستتار والسترة هنا وسيلة لقمع تيارات سياسية وشرائح اجتماعية بعينها،
وتكريساً أو تأسيساً لأنظمة استبدادية دينية وطائفية الطابع.
أما
في المجتمعات الحرة فلا حرج على امرئ جاهر بما يؤمن به، حتى وإن اعتبره البعض معصية،
ما لم يدعُ إلى تعدّ صريح وواضح على حقوق الآخرين. أما المشاعر، فحمايتها ليست من مهمة
الدول والحكومات، ولا ينبغي لها أن تكون، بل إنه من النضج أن يقبل الناس في مرحلة من
العمر أن الحياة قد لا تتوافق مع رغباتهم وأهوائهم في الكثير من الأحيان، وأن يتعلموا
كيف يدارون مشاعرهم عندما تتأذى، وأن لا يطالبوا الدولة بذلك، خاصة إذا كان الأمر يستدعي
انتهاك الحقوق الأساسية لمن كان مختلفاُ عنهم في آرائه وتصرفاته.
الخميس، 31 أغسطس 2017
الإسلام بين الاستثنائية والموضوعية
![]() |
مسجد الشيخ زايد - دبي |
الحرة / من زاوية
أخرى -- سبق وعالجنا في مقال سابق الإشكالية الناجمة عن الاعتقاد بأن للإسلام دوراً استثنائياً في
الحياة، خاصة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، داعين إلى ضرورة التفرقة ما بين مفهومي
الخصوصية والاستثنائية. فلكل دين ومعتقد خصوصياته من حيث التقاليد والممارسات
والمصطلحات، لكن هذه الخصوصيات لا تقتضي وجود فارق جوهري في الدور المجتمعي الذي
يلعبه هذا الدين، الإسلام في نقاشنا، بالمقارنة مع ذلك الذي تلعبه معظم الديانات
التقليدية الأخرى (المسيحية، البوذية، الهندوسية...) في مجتمعاتها، على الأقل فيما
يتعلق بالمجتمعات النامية.
لكن الإشكالية لا تقتـصر على دور الإسلام في المجتمع
وحسب بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة تعاليمه كدين ومنهج. فحتى من هذا المنطلق، لا يعد الإسلام
ديناً استثنائياً، فثلة الافتراضات التي يقوم عليها لا تختلف نوعياً عن تلك التي قامت
أو تقوم عليها المسيحية واليهودية مثلاً، من بين غيرها من الديانات الشرقأوسطية
والكثير من الديانات التقليدية الأخرى، من حيث الإيمان بوجود خالق معين (أو أكثر) لهذا
الكون ميّز عبر التاريخ بعض الشخصيات والمجتمعات من خلال تواصله معها في محاولة
منه لتنظيم العلاقة ما بينه وبين المجتمعات البشرية ككل.
وتنطبق هذه الملاحظة أيضاً على المسلمين عامة، فطالما أن
الإسلام ليس ديناً استثنائياً كذلك المسلمون، فهم أيضاً، وعلى اختلاف مذاهبهم وأعراقهم
وقومياتهم، ليسوا شعوباً استثنائية، لا بالمعنى السلبي ولا الإيجابي. بل هم بشر
كسائر البشر، عرفوا النصر في تاريخهم وذاقوا الهزيمة، خبروا المجد في بعض الأحيان
وتجرّعوا الذل في أخرى، تماماً كباقي الشعوب. وهذا يعني أن للنصر والهزيمة،
وللتقدم والتخلف، ولقيام الدولة وسقوطها، شروط ومقومات لا علاقة لها بالدين، حتى
لو كان هذا الدين هو الإسلام. فما معنى الإصرار على استثنائية الإسلام ودوره في
الحياة إذن؟
قد تبدو هذه التصريحات بدهية للوهلة الأولى، لكنها في
الواقع تتعارض مع الكثير من الطروحات السياسية والفكرية الفاعلة في المجتمعات ذات
الغالبية المسلمة (وغيرها) وبالتحديد مع الطروحات الإسلاموية، وهو الأمر الذي يسبغ
عليها طابعها الفاشي المميز، لأن الهدف الأساسي وراء الطرح الاستثنائي هنا هو
ادعاء التفوق والأفضلية، خاصة في المجال الأخلاقي، بصرف النظر عن أية ظروف أو شروط
موضوعية ما خلا ولادة المرء ونشأته في بيئة دينية معينة. في عصر الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، لم تعد هذه الطروحات الاستثنائية مقبولة أو مبررة حتى في إطار
الدول القومية.
إذ لا يسبغ كون المرء مسلماً عليه أي تفوق مسبق أخلاقي
أو معنوي، ولا ينبغي له أن يمنحه أفضلية في التعامل لا في المجتمعات ذات الغالبية
المسلمة ولا في غيرها. كما لا تلتصق بالمسلم أية دونية أخلاقية أو معنوية نتيجة
انتمائه للإسلام، سواء التزم بتعاليمه أم لم يلتزم، وتخطئ كل الدول والمجتمعات،
غربية كانت أم شرقية، نامية أم متطورة، ديموقراطية أم استبدادية، التي تفرض قوانين
أو تتبنى ممارسات تمييزية ضد المسلمين، بصرف النظر عن المبررات.
ومرة أخرى نقول: قد تبدو كل هذه التأكيدات والتصريحات منطقية
وبدهية للوهلة الأولى، لكن ثقافاتنا التقليدية تبقى مجبولة بثلة من الممارسات التي
تتناقض معها، كاحتفائنا المستمر بانتماءنا لدين بعينه وإصرارنا على كونه
"الحل" لمشاكلنا حتى في الوقت الذي نبقى فيه غارقين في مستنقع الاستبداد
والتخلف، في حين يبدو واضحاً أن تقدم المجتمعات الأخرى ليس مرتبطاً بعلاقتها مع
الأديان لا من حيث التمسك ولا التخلي.
فمن منطلق موضوعي، يبدو واضحاً أن الخالق (أو الكون) لا
يذلّ أو ينقم على قوم نتيجة سوء التزامهم بدين ما، أو حتى تخليهم عنه، بل تنجم
معاناتهم عن فشلهم بالتعامل مع القوانين الموضوعية للوجود بشكل ناجع. أو لنقل أن
رضى الخالق يبدو أكثر ارتباطاً بقدرة الناس على استيعاب القوانين الموضوعية للوجود
وعلى التعامل الناجع معها منه بمسألة الإلتزام بطقوس أو ممارسات أو شعائر بعينها.
ولهذا، بوسعنا أن نأكد مرة أخرى على أن المسلمين ليسوا شعوباً
استثنائية، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الثقافية، بل ولا من حيث مظلومياتهم
السياسية والاجتماعية المعاصرة، ولا يشكّل إصرارهم على الطروح الاستثنائية من
الناحية العملية إلا استدامة لكل الأمراض التي تعاني مجتمعاتهم منها، ورفضاً
للتغيير، بل مقاومة عدمية له، لأن إصرارهم على التمسك باستثنائيتهم، وضعاً
ومعتقداً، لم يفرز حتى اللحظة حلاً لأي من المشاكل والتحديات التي تواجههم، بل
أصبح من الواضح أنه يمثل عائقاً أساسياً أمام قدرتهم على التعلم من الشعوب الأخرى
وعلى استيعاب القوانين الموضوعية للوجود بمضامينها العميقة التي لا تحابي أحداً
ولاتفرق بين الناس، أفراداً كانوا أو جماعات، إلا بناءاً على طاقاتهم وأعمالهم
وقدراتهم التنظيمية الخاصة.
إن الاصرار على تجاهل هذه المعطيات الموضوعية ينبثق عن
عقلية أو ذهنية معينة وليس فقط عن موقف إيديولوجي، كما نوهنا في مقال آخر،
فعلى الرغم من وجود تيارات فكرية وسياسية ترفض من حيث المبدأ الطروحات القائمة على
الإيمان بالطبيعة الاستثنائية لفكر أو شعب بعينه، غالباً ما تنم تصرفات أتباع هذه
التيارات عن تأثر مستمر وعميق بالطروحات الاستثنائية نتيجة نشأتهم في ثقافة
تقليدية مشبعة بها. ومن هذا المنطلق، لا مفر لمجتمعاتنا وشعوبنا من المرور بمراحل
الغليان التي نعيشها اليوم لأن الوعي، الفردي منه والجمعي، لا يُصاغ ولا يُشكل إلا
من خلال مروره في آتون التجربة.
الجمعة، 18 أغسطس 2017
الحداثة ما بين القبول والرفض
![]() |
دبي عند الغروب -- الحداثة أكثر من أبنية |
الحرة / من زاوية أخرى -- ليس من الغريب أن تشهد المجتمعات البشرية صراعاً وتنافساً مابين قيم
الحداثة والقيم التقليدية، فالبشر لا يغيرون قيمهم وممارساتهم القائمة عليها بشكل
اعتباطي وفوري، وإن بدا لنا في بعض الحالات الفردية أن شخصاً ما قد غير من
سلوكياته وأفكاره مابين ليلة وضحاها فمرجع ذلك جهلنا بما كان يجري في ذاته من
تفاعلات وحوارات. ففي الواقع، لا يمكن لتغيير قيمي أن يحدث إلا بشكل تدريحي ومن
خلال تفاعلات داخلية وبينية معقدة تلعب فيها المؤسسات السياسية والاقتصادية
والتعليمية والدينية أدوارها الخاصة، حتى في الحالات الفردية.
وللتفاعلات الدولية، السلمي منها والحربي، دورها في توجيه وتشكيل هذه
العملية أيضاً. فعلينا أن لا ننسى في هذا الصدد أن الحداثة بالنسبة للمجتمعات
الشرقية والنامية جاءت نتيجة احتكاكات عنيفة مع المجتمعات الغربية، وأنها تبقى إلى
حد ما "مستوردة" و "خارجة عن السياق،" بمعنى أنها لم تنبع
عضوياً من صيرورات ونقاشات ومواجهات فكرية داخلية، على الأقل في المراحل الأولى
لتغلغلها في هذه المجتمعات، وأنها تبقى وثيقة الارتباط بشخصيات ومؤسسات وأحداث
غربية المنشأ.
وما تزال هذه النشاة الخارجية لقيم الحداثة تستخدم كوسيلة أساسية وفاعلة
لمقاومتها من قبل التيارات الأصولية والمتشددة في المجتمعات الشرقية والنامية، بما
فيها المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من قرن أو
قرنين، بحسب المنطقة الجغرافية قيد الاعتبار، على بداية توغّل هذه القيم فيها،
وعلى الرغم من تبني معظم الشرائح المجتمعية الشرقية والنامية لبعضها، وإن بدرجات
متفاوتة. إذ تبقى النزعة القبلية متجذرة في النفس البشرية، ويبقى كل وافد إليها من
خارجها، شخصاً كان أم فكراً، مشبوهاً.
لكن رفض بعض الشرائح والتيارت السياسية للأفكار والقيم الحداثية ليس ظاهرة حصرية بالمجتمعات ذات الغالبية المسلمة، ولا يشكل إدانة لدين بعينه. بل تكمن المشكلة أساساً في الشرائح الرافضة وفي كيفية تعاملها مع المجتمع من حولها، وكيفية تعامل هذا المجتمع معها، وما يحكم هذه العلاقة التفاعلية من تصورات وآليات ومؤسسات.
وإن كان لمسألة الهوية أثرها في هذه الظاهرة، سنجد عند تحليلنا لها أن
للقضايا التنموية والاقتصادية دورها الذي لا يقل أهمية عنها، خاصة في تلك الحالات
التي تتخذ فيها ظاهرة رفض الحداثة منحاً عنفياً.
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بمسألة الهوية بالذات، فحتى في تلك المجتمعات
التقليدية التي كان للدين فيها الدور الأكبر في تحديد الهوية، تبقى النزعة القبلية
هنا أهم من النزعة العقائدية. إذ لا يتعلق بالضرورة انتماء المرء إلى دين أو طائفة
بعينها بمدى إيمانه والتزامه بتعاليم فئته، خاصة في حال وجود علاقة إشكالية لها مع
الفئات الأخرى نابعة عن طبيعة تعاليمها، أو حجمها الديموغرافي، أو أية ظروف خاصة
أخرى.
وقد يكون الرفض في الكثير من الحالات رفضاً سلوكياً غير مقصود أو واع، بل
قد يتناقض مع المبادئ المعلنة للأفراد والشرائح الرافضة. فالأفكار تتغير بأسرع مما
تتغير به التصرفات والعادات والعقليات. وقد تتغير أفكار المرء دون أن تتغير نفسيته
أو عقليته، سواء استوعى ذلك أم لا. وهذا ما يفسر لنا ذلك التناقض الصارخ في بعض
الأحيان وبعض المجتمعات ما بين سلوكيات وتصرفات أتباع التيارات الحداثية من
ليبراليين ويساريين، على مشاربهم المختلفة، وبين الأفكار والمبادئ المؤسسة
لتياراتهم. ولا يتوقف الأمر على التصرفات والسلوكيات اليومية والقضايا العائلية بل
يتعدى ذلك ليشمل الخيارات السياسية لأتباع هذه التيارات والتي قد يكون لمسألة
الهوية والانتماء القبائلي دور أكبر من المبادئ في تحديدها. ولهذه الظاهرة
تجلياتها حتى في المجتمعات الغربية، لكن تجلياتها في المجتمعات الشرقية والنامية تبقى
أكثر انتشاراً ونفوذاً لأن جذور الحداثة فيها ماتزال أضعف.
تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة
إشكالية حتى بالنسبة لتلك التيارات السياسية والشرائح المجتمعية التي قررت القبول
بها، أو على الأقل التعامل معها بشكل أكثر انفتاحاً وأريحية، ولا تقتصر ظاهرة
الرفض التي تشهدها المجتمعات المختلفة، الشرقية منها والغربية، على الموقف
الإيديولوجي للأفراد أو الجماعات، فهناك أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية تجعلها
خياراً إشكالياً حتى لمن آمن بها. ولعل العنف الذي تلجأ إليه بعض الجماعات كوسيلة
للتعبير عن رفضها لقيم الحداثة يرتبط، بشكل جزئي على الأقل، بذلك التناقض الصارخ
مابين أفكار مدعي الحداثة وبين سلوكياتهم وحساباتهم وخيارتهم السياسية على أرض
الواقع. وما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم
يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع
أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة
على خياراتهم وحساباتهم السياسية.
السبت، 25 يونيو 2016
عن الرِّدة والغَلَبَة وحرية الاعتقاد
أنَّ الرِّدة كمصطلح فقهي إسلامي هي الخروج عن الإسلام بعد الدخول فيه سواء رجع
إلى دينه الأصلي قبل الإسلام أو إلى دين آخر أو أصبح لا دينيًّا أو أصبح ملحدًا، ويجب
أن نعلم أن حرية الاعتقاد شيء وحرية الارتداد شيء آخر؛ لأن المرتد عرف الحق ودخل فيه
ثم أدار ظهره له وخرج إلى شيء آخر، وهذا في حد ذاته انحراف... وتابع: «المرتد قد يشكل
خطراً على المجتمع الإسلامي، لأن تصميمه على الخروج من عباءة الدِّين الذي كان عليه
غالباً ما تصاحبه مشاعر عدائية ضد هذا الدين، لكن قد تكون هناك أزمات فكرية تمر ببعض
الأفراد جعلته لم يعد يؤمن بهذا الدين، سواء تحت إغراءات مادية أو إغراءات فكرية بدين
آخر أو بمذهب آخر، واكتفى بأن يخرج من دينه ويتدين بطريقة أخرى، وهذا لا يشكل خطورة
على المسلمين ولا على المجتمع الإسلامي، لكن فقه القديم كله فيه أن الردة بشكل عام
خطر على الإسلام وخطر على المجتمع الإسلامي.
واختتم شيخ الأزهر حديثه بأن البيئة والمنطلقات والثقافات التي أنتجت حرية الردة وحرية
تغيير الدين وحرية العودة إلى الدين وحرية اللادين، تختلف تمامًا مع الأرضية والثقافة
التي ينشأ فيها حكم إسلامي يتعامل مع الردة، ولذلك من الظلم أن نتحاكم إلى حقوق إنسان
نشأت في بيئة تختلف مع الآخر اختلافًا جذريًّا.
من حق المرء أن يغير رأيه ومعتقده، خاصة فيما يتعلق
بقضايا وجدانية مثل الدين. نعم قد يشكل هذا الأمر تحدياً للمجتمع وقيمه الراسخة كما
حذر الدكتور الطيب، لكن هذا الأمر لا يعطي للمجتمع الحق في تقييد حرية وجدانية كهذه،
بل على المجتمع أن يوجد طرقاً أخرى للتعامل هنا غير الحد من حرية الناس، أفراداً
وجماعات. إذ لم تعد حقيقة نشأة مفهوم حقوق الإنسان في بيئة غير إسلامية بذات
الأهمية التي يخالها الشيخ، فبعد مرور أكثر من قرن على طرحه، وغيره من المبادئ المرتبطة
بالحداثة عموماً، برزت في "ديار الإسلام" شرائح بشرية واسعة تأثرت به وأصبح
لدى مكوناتها قناعة قوية بضرورته في تشكيل مصيرها. من هذا المنطلق، أصبح مفهوم حقوق
الإنسان قضية مصيرية داخلية ولم يعد من الممكن التعامل معه كشأن خارجي أو فرعي.
ولا ننسى هنا أيضاً أن الإسلام نفسه مر بمرحلة من هذا
النوع في بداية ما يسمى بعهد الفتوحات، مرحلة مثّل هو فيها الفكرة غريبة المنشأ في
المجتمعات السورية والمصرية والمغاربية، فكرة فرضت نفسها على الساحة مستفيدة من الفرص
الكثيرة التي أتيحت أمامها جراء ارتباط أصحابها ومعتنقيها بالسلطة السياسية القائمة.
لا، لم يُجبر
الناس في هذه المجتمعات على اعتناق الإسلام، لكنه أصبح واقعاً سلطوياً فيها بقوة
السلاح، ومن خلال سيطرة أصحابه على مؤسسات الدولة ونفوذها، وليس بقوة معتقداته وأفكاره
وحسب. لقد جاء دور الفكر لاحقاً هنا، ولقد كان للشخصيات والنخب الجديدة التي
اعتنقت الإسلام وحاولت التقريب بينه وبين الثقافة السائدة في الأوساط الإجتماعية
والمختلفة، دوراً كبيراً في تسهيل تقبل شرائح واسعة له من خلال محاولاتها تأسيس
مصدر جديد للتشريع في الإسلام، ألا وهو الحديث – ذلك الباب الواسع الذي سمح بإسباغ
غطاء إسلامي على الكثير من الأعراف والتقاليد المحلية المقدسة عن طريق إيجاد، أو
بالأحرى ابتكار، سوابق لها في حياة الرسول وصحبه.
ومع ذلك، وبسبب التعقيدات الناجمة عن الاقتتال الداخلي
بين المسلمين، من الصعب تصور نمو الإسلام ليصبح دين الأغلبية قبل مرور قرنين من الزمن،
لكن يبقى هذا الطرح مجرد افتراض شخصي في هذه المرحلة، ولا شك أن الأمر يتطلب الكثير
من التمحيص قبل البت فيه.
وتكمن القضية الأساسية هنا في أهمية إدراك أن الإسلام
كان لفترة طويلة من الزمن دين الأقلية الحاكمة في معظم الأراضي الواقعة تحت سيطرته،
ومع ذلك، من الواضح أن المسلمين طوّروا نظرتهم وأفكارهم وتشريعاتهم المتعلقة بالسلطة
من منطلق قوة وهيمنة، سمح لهم بتجاهل حجمهم الديموغرافي الأقلوي من جهة، وبتقسيم
العالم إلى دار حرب ودار صلح ودار سلام
من ناحية أخرى.
في عالمنا المعاصر هذا، أصبحت الحياة السياسية
والاجتماعية والاقتصادية قائمة على مبدأ التوازنات، الداخلية منها والخارجية. لقد
أصبح مبدأ الغلبة مرفوضاً بالكامل، ليس من منطلق فكري أخلاقي وحسب، بل من منطلق عملي.
ففي عصر الأسلحة النووية والحروب الشاملة
وتداخل المصالح، بل والعوالم، الافتراضي منها والمادي، وما في ذلك من تمييع لمفهوم
السيادة ومناطق النفوذ، يؤدي التعامل مع المتغيرات استناداً إلى مبدأ الغَلَبَة إلى
استدامة الصراعات ونشر الفوضى في كل مكان. قد يناسب هذا الأمر الحركات الإرهابية،
لكنه لا يمكن أن يمهّد لقيام الدول، ناهيك عن الحضارات.
ولأن المسلمين يتعاملون مع العالم اليوم من واقع قائم على
الضعف والشرذمة يشكّل الإصرار على مبدأ الغَلَبَة تكريساً لهذا الواقع.
لكن الانتقال نحو رؤية مختلفة للأمور يتطلب تحقيق قفزة أو
طفرة على مستوى الوعي، إذ لا يكفي التراكم المعرفي هنا ما لم يؤدي إلى إعادة تشكيل
الحدس ذاته، والدليل تعامل معظم اليساريين والقوميين العلمانيين المسلمين وفقاً
لمنطق الغلبة التقليدي إياه.
من ناحية أخرى، تشكل فكرة رفض الردة من قبل علماء
المسلمين، على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم، بل وتجريمها، تمثلاً داخلياً لمبدأ
الغلبة. ولهذا بالذات، لا يكمن التساهل في تعاملنا معها أو اعتبارها قضية ثانوية،
بل هي القضية الأساس ونقطة الانطلاق نحو إعادة تشكيل وعينا، الفردي منه والجمعي.
ولكي لا نظن أن موضوع الردة قضية تخص الطوائف السنية وحسب، ربما كان من
المفيد الإطلاع على هذه الفتوى من
فتاوى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني:
السؤال: ما هو تعريفكم للمرتد بالتفصيل؟
الجواب: المرتد وهو من خرج عن الاِسلام
واختار الكفر على قسمين: فطري وملّي، والفطري من ولد على اسلام احد ابويه أو كليها
ثم كفر، وفي اعتبار اسلامه بعد التمييز قبل الكفر وجهان اقربهما الاعتبار. وحكم الفطري انه يقتل في الحال، وتبين منه زوجته بمجرد ارتداده وينفسخ نكاحها
بغير طلاق، وتعتد عدة الوفاة ـ على ما تقدم ـ ثم تتزوج ان شاءت، وتُقسّم امواله التي
كانت له حين ارتداده بين ورثته بعد اداء ديونه كالميت ولا ينتظر موته، ولا تفيد توبته
ورجوعه الى الاسلام في سقوط الاحكام المذكورة مطلقاً على المشهور، ولكنه لا يخلو عن
شوب اشكال، نعم لا اشكال في عدم وجوب استتابته. وأما بالنسبة الى ما عدا الاحكام الثلاثة
المذكورات فالاقوى قبول توبته باطناً وظاهراً، فيطهر بدنه وتصح عباداته ويجوز تزويجه
من المسلمة، بل له تجديد العقد على زوجته السابقة حتى قبل خروجها من العدة على القول
ببينونتها عنه بمجرد الارتداد، والظاهر انه يملك الاموال الجديدة باسبابه الاختيارية
كالنجارة والحيازة والقهرية كالارث ولو قبل توبته. واما المرتد الملّي ـ وهو من يقابل
الفطري ـ فحكمه انه يستتاب، فان تاب وإلاّ قتل، وانفسخ نكاح زوجته إذا كان الارتداد
قبل الدخول أو كانت يائسة أو صغيرة ولم تكن عليها عدة، وأما إذا كان الارتداد بعد الدخول
وكانت المرأة في سن من تحيض وجب عليها ان تعتد عدة الطلاق من حين الارتداد، فان رجع
عن ارتداده الى الاسلام قبل انقضاء العدة بقي الزواج على حاله على الاقرب وإلاّ انكشف
انها قد بانت عنه عند الارتداد. ولا تقسم أموال المرتد الملي إلاّ بعد موته بالقتل
أو غيره، وإذا تاب ثم ارتد ففي وجوب قتله من دون استتابة في الثالثة أو الرابعة اشكال.
هذا إذا كان المرتد رجلاً، واما لو كان امرأة فلا تقتل ولا تنتقل اموالها عنها الى
الورثة إلاّ بالموت، وينفسخ نكاحها بمجرد الارتداد بدون اعتداد مع عدم الدخول أو كونها
صغيرة أو يائسة وإلاّ توقف الانفساخ على انقضاء العدة وهي بمقدار عدة الطلاق كما مر
في المسألة (٥٦٣). وتحبس المرتدة ويضيّق عليها وتضرب على الصلاة حتى تتوب فان تابت
قبلت توبتها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون مرتدة عن ملة أو عن فطرة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)