‏إظهار الرسائل ذات التسميات النظام العالمي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات النظام العالمي. إظهار كافة الرسائل

السبت، 14 أكتوبر 2017

التيارات الديموقراطية الشرقأوسطية وضرورة التحالف مع الغرب

ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ.



الحرة / من زاوية أخرى – بدى للكثير من الناس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة عقب ثورات أوروبا الشرقية المخملية في أواخر القرن المنصرم أن ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم أصبحت في طريقها للانقراض، وأن تأسيس نظام عالمي جديد قائم على الديموقراطية والليبرالية، على الأقل في ما يتعلق بمبادئه الاقتصادية، بات أمراً وشيكاً.

من هذا المنطلق، لا شك أن لعودة روسيا اليوم إلى الساحة السياسية العالمية مصحوبة بالإنجازات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لإيران، وباستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في الصين وتمدد نفوذها عبر العالم، علاوة على نجاح الكثير من الأنظمة الاستبدادية التقليدية في البلدان النامية في الحفاظ على بقائها في وجه ثلة من التحديات الداخلية والخارجية وبعد أن بدت آيلة للزوال في تلك الفترة الواعدة، لا شك أن لهذا كله وقعاً سلبياً كبيراً عند كل من بنى آماله وتوقعاته على انتصار وشيك للنظام الديموقرطي الليبرالي.

لكن هذه العودة لقوى الاستبداد والرجعية ليست مفاجئة في الواقع، فهي لم تختف عن الساحة أساساً، وما كان يمكن للأسباب والعوامل التي أدت إلى ضعفها المرحلي أن تستمر إلى الأبد أو أن تمهّد الطريق إلى ذلك التغيير الجذري المرجو بالسرعة التي توقعها أو حلم بها الكثيرون. إذ لا تمثل هذه القوى ظاهرة طارئة في المجتمعات، بل هي في الواقع امتداد لإرث حضاري تراكمي قديم لا يمكن له أن يتغير أو يتطور إلا من خلال المرور بذات المراحل التي مرت بها ديموقراطيات الغرب، بما في ذلك من كر وفر، من مد وجذر، ومن صراعات وانتكاسات.

قد يرغب البعض في حرق المراحل، عن طريق المواجهات الثورية مع النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية المستفيدة من استمرار الأطر التقليدية مثلاً، لكن تحديات تشكيل الوعي الجمعي وصياغته لا تسمح بذلك، والثورات الشعبية لا تؤتي أُكُلها إلا بعد أجيال من النضال والعمل المنظم، وتبقى نتائجها مرتهنة بقدرة النخب الثورية على الارتقاء إلى التحديات التنظيمية الخاصة بكل مرحلة وكل جيل. فالمعرفة وحدها لا تكفي هنا، وإطلاع المرء على تجارب التغيير في المجتمعات الأخرى وتبنيه لأفكار مختلفة عن تلك التي نشأ عليها لا يكفي بالضرورة لإحداث تغيير جذري في تصرفاته وسلوكياته. والقضية أصعب بكثير على المستوى الجمعي. ولنا في التناقض الصارخ ما بين أفكار الليبراليين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وتصرفاتهم الشخصية خير دليل على ذلك، كما سبق ونوهنا في مقال سابق.

لقد مر أكثر من قرن على دخول الأفكار الحداثية إلى مجتمعاتنا وتغلغلها فيها، ومع ذلك، وفيما خلا بعض القشور والمظاهر، ما تزال النزعات التقليدية والإيديولوجيات السياسية المتمحورة حولها أكثر قدرة على تحديد الأنماط السلوكية السائدة في مجتمعاتنا من الأفكار والقيم الحداثية.

وفي الواقع، مازالت المجتمعات الغربية نفسها تعاني من هذا التناقض، على الرغم من أنها تمثل الحاضنة الأساسية للحداثة. وها نحن نرى كيف تعاني هذه المجتمعات اليوم من عودة صراعات الهوية إلى الساحة بما في ذلك حنين صريح ومعلن إلى تأكيد الخصوصية القومية والعرقية والدينية للغرب عموماً، وللمجتمعات المختلفة فيه، وإن أدى ذلك إلى تراجع في ما يتعلق بالالتزام بالقيم الديموقراطية والليبرالية.

فحتى في الغرب إذن، ما تزال المعركة من أجل الديموقراطية مستمرة، لأنها في جوهرها معركة ضد نزعات متأصلة في نفوسنا كبشر، ولا يمكن لمعركة كهذه أن تنتهي أبداً، كما لا يمكن لها أن تُخاض في الغرب وحده. فها نحن نرى كيف سمح التراجع الغربي على الساحة العالمية إلى عودة روسيا (وغيرها من القوى التقليدية) إليها، بأحلامها الإمبريالية القديمة إياها، بل، وكيف شجعها هذا التراجع على إعلان الحرب على الديموقراطيات الغربية من خلال تلاعبها الإلكتروني بالانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.

من هنا تنبع حاجة الغرب المستمرة إلى بسط نفوذه خارج حدوده الجغرافية، فهو ما لم يخض المعركة خارج حدوده سيخوضها داخلها. لذا، وكما عادت روسيا والنظم الاستبدادية الرجعية إلى الساحة الدولية بعد غياب، لن تطول مرحلة التراجع الغربي التي نشهدها اليوم.

من ناحية أخرى، هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم، ومهما تلكأت الحكومات المعنية هنا فهي لن تتلكأ طويلاً، بل لا يمكن السماح لها بذلك، ومهما أخطأت في تناولها لملف الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأخفقت في التوفيق ما بين مصالحها المادية وهذه القضايا، علينا أن لا نسمح لهذه الأخطاء أن تعمينا عن ضرورة إيجاد طرق للتحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول (راجع مقالي السابق: عن الإمبريالية والديموقراطية – 2)، إذ ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. كما لا يمكن لنا أن ننتصر في مواجهاتنا مع أنظمتنا الرجعية المختلفة دون هذا التحالف، لأن هذه الأنظمة ومهما تناحرت ما بينها تعرف متى تتحالف مع بعضها البعض في مواجهاتها المستمرة مع شعوبها.

ويمثل السعي وراء قيام هذا تحالف القوى الديموقراطية هذا وفي هذا الوقت بالذات التحدي الحقيقي الذي ينبغي على كل العاملين في مجال الديموقراطية والتنمية في مجتمعاتنا التصدي له.


السبت، 25 يونيو 2016

عن الرِّدة والغَلَبَة وحرية الاعتقاد




أنَّ الرِّدة كمصطلح فقهي إسلامي هي الخروج عن الإسلام بعد الدخول فيه سواء رجع إلى دينه الأصلي قبل الإسلام أو إلى دين آخر أو أصبح لا دينيًّا أو أصبح ملحدًا، ويجب أن نعلم أن حرية الاعتقاد شيء وحرية الارتداد شيء آخر؛ لأن المرتد عرف الحق ودخل فيه ثم أدار ظهره له وخرج إلى شيء آخر، وهذا في حد ذاته انحراف... وتابع: «المرتد قد يشكل خطراً على المجتمع الإسلامي، لأن تصميمه على الخروج من عباءة الدِّين الذي كان عليه غالباً ما تصاحبه مشاعر عدائية ضد هذا الدين، لكن قد تكون هناك أزمات فكرية تمر ببعض الأفراد جعلته لم يعد يؤمن بهذا الدين، سواء تحت إغراءات مادية أو إغراءات فكرية بدين آخر أو بمذهب آخر، واكتفى بأن يخرج من دينه ويتدين بطريقة أخرى، وهذا لا يشكل خطورة على المسلمين ولا على المجتمع الإسلامي، لكن فقه القديم كله فيه أن الردة بشكل عام خطر على الإسلام وخطر على المجتمع الإسلامي. واختتم شيخ الأزهر حديثه بأن البيئة والمنطلقات والثقافات التي أنتجت حرية الردة وحرية تغيير الدين وحرية العودة إلى الدين وحرية اللادين، تختلف تمامًا مع الأرضية والثقافة التي ينشأ فيها حكم إسلامي يتعامل مع الردة، ولذلك من الظلم أن نتحاكم إلى حقوق إنسان نشأت في بيئة تختلف مع الآخر اختلافًا جذريًّا.

من حق المرء أن يغير رأيه ومعتقده، خاصة فيما يتعلق بقضايا وجدانية مثل الدين. نعم قد يشكل هذا الأمر تحدياً للمجتمع وقيمه الراسخة كما حذر الدكتور الطيب، لكن هذا الأمر لا يعطي للمجتمع الحق في تقييد حرية وجدانية كهذه، بل على المجتمع أن يوجد طرقاً أخرى للتعامل هنا غير الحد من حرية الناس، أفراداً وجماعات. إذ لم تعد حقيقة نشأة مفهوم حقوق الإنسان في بيئة غير إسلامية بذات الأهمية التي يخالها الشيخ، فبعد مرور أكثر من قرن على طرحه، وغيره من المبادئ المرتبطة بالحداثة عموماً، برزت في "ديار الإسلام" شرائح بشرية واسعة تأثرت به وأصبح لدى مكوناتها قناعة قوية بضرورته في تشكيل مصيرها. من هذا المنطلق، أصبح مفهوم حقوق الإنسان قضية مصيرية داخلية ولم يعد من الممكن التعامل معه كشأن خارجي أو فرعي.

ولا ننسى هنا أيضاً أن الإسلام نفسه مر بمرحلة من هذا النوع في بداية ما يسمى بعهد الفتوحات، مرحلة مثّل هو فيها الفكرة غريبة المنشأ في المجتمعات السورية والمصرية والمغاربية، فكرة فرضت نفسها على الساحة مستفيدة من الفرص الكثيرة التي أتيحت أمامها جراء ارتباط أصحابها ومعتنقيها بالسلطة السياسية القائمة.

 لا، لم يُجبر الناس في هذه المجتمعات على اعتناق الإسلام، لكنه أصبح واقعاً سلطوياً فيها بقوة السلاح، ومن خلال سيطرة أصحابه على مؤسسات الدولة ونفوذها، وليس بقوة معتقداته وأفكاره وحسب. لقد جاء دور الفكر لاحقاً هنا، ولقد كان للشخصيات والنخب الجديدة التي اعتنقت الإسلام وحاولت التقريب بينه وبين الثقافة السائدة في الأوساط الإجتماعية والمختلفة، دوراً كبيراً في تسهيل تقبل شرائح واسعة له من خلال محاولاتها تأسيس مصدر جديد للتشريع في الإسلام، ألا وهو الحديث – ذلك الباب الواسع الذي سمح بإسباغ غطاء إسلامي على الكثير من الأعراف والتقاليد المحلية المقدسة عن طريق إيجاد، أو بالأحرى ابتكار، سوابق لها في حياة الرسول وصحبه.

ومع ذلك، وبسبب التعقيدات الناجمة عن الاقتتال الداخلي بين المسلمين، من الصعب تصور نمو الإسلام ليصبح دين الأغلبية قبل مرور قرنين من الزمن، لكن يبقى هذا الطرح مجرد افتراض شخصي في هذه المرحلة، ولا شك أن الأمر يتطلب الكثير من التمحيص قبل البت فيه.

وتكمن القضية الأساسية هنا في أهمية إدراك أن الإسلام كان لفترة طويلة من الزمن دين الأقلية الحاكمة في معظم الأراضي الواقعة تحت سيطرته، ومع ذلك، من الواضح أن المسلمين طوّروا نظرتهم وأفكارهم وتشريعاتهم المتعلقة بالسلطة من منطلق قوة وهيمنة، سمح لهم بتجاهل حجمهم الديموغرافي الأقلوي من جهة، وبتقسيم العالم  إلى دار حرب ودار صلح ودار سلام من ناحية أخرى.

في عالمنا المعاصر هذا، أصبحت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قائمة على مبدأ التوازنات، الداخلية منها والخارجية. لقد أصبح مبدأ الغلبة مرفوضاً بالكامل، ليس من منطلق فكري أخلاقي وحسب، بل من منطلق عملي.  ففي عصر الأسلحة النووية والحروب الشاملة وتداخل المصالح، بل والعوالم، الافتراضي منها والمادي، وما في ذلك من تمييع لمفهوم السيادة ومناطق النفوذ، يؤدي التعامل مع المتغيرات استناداً إلى مبدأ الغَلَبَة إلى استدامة الصراعات ونشر الفوضى في كل مكان. قد يناسب هذا الأمر الحركات الإرهابية، لكنه لا يمكن أن يمهّد لقيام الدول، ناهيك عن الحضارات.

ولأن المسلمين يتعاملون مع العالم اليوم من واقع قائم على الضعف والشرذمة يشكّل الإصرار على مبدأ الغَلَبَة تكريساً لهذا الواقع.

لكن الانتقال نحو رؤية مختلفة للأمور يتطلب تحقيق قفزة أو طفرة على مستوى الوعي، إذ لا يكفي التراكم المعرفي هنا ما لم يؤدي إلى إعادة تشكيل الحدس ذاته، والدليل تعامل معظم اليساريين والقوميين العلمانيين المسلمين وفقاً لمنطق الغلبة التقليدي إياه.

من ناحية أخرى، تشكل فكرة رفض الردة من قبل علماء المسلمين، على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم، بل وتجريمها، تمثلاً داخلياً لمبدأ الغلبة. ولهذا بالذات، لا يكمن التساهل في تعاملنا معها أو اعتبارها قضية ثانوية، بل هي القضية الأساس ونقطة الانطلاق نحو إعادة تشكيل وعينا، الفردي منه والجمعي.

ولكي لا نظن أن موضوع الردة قضية تخص الطوائف السنية وحسب، ربما كان من المفيد الإطلاع على هذه الفتوى من فتاوى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني:
  

السؤال: ما هو تعريفكم للمرتد بالتفصيل؟
الجواب: المرتد وهو من خرج عن الاِسلام واختار الكفر على قسمين: فطري وملّي، والفطري من ولد على اسلام احد ابويه أو كليها ثم كفر، وفي اعتبار اسلامه بعد التمييز قبل الكفر وجهان اقربهما الاعتبار. وحكم الفطري انه يقتل في الحال، وتبين منه زوجته بمجرد ارتداده وينفسخ نكاحها بغير طلاق، وتعتد عدة الوفاة ـ على ما تقدم ـ ثم تتزوج ان شاءت، وتُقسّم امواله التي كانت له حين ارتداده بين ورثته بعد اداء ديونه كالميت ولا ينتظر موته، ولا تفيد توبته ورجوعه الى الاسلام في سقوط الاحكام المذكورة مطلقاً على المشهور، ولكنه لا يخلو عن شوب اشكال، نعم لا اشكال في عدم وجوب استتابته. وأما بالنسبة الى ما عدا الاحكام الثلاثة المذكورات فالاقوى قبول توبته باطناً وظاهراً، فيطهر بدنه وتصح عباداته ويجوز تزويجه من المسلمة، بل له تجديد العقد على زوجته السابقة حتى قبل خروجها من العدة على القول ببينونتها عنه بمجرد الارتداد، والظاهر انه يملك الاموال الجديدة باسبابه الاختيارية كالنجارة والحيازة والقهرية كالارث ولو قبل توبته. واما المرتد الملّي ـ وهو من يقابل الفطري ـ فحكمه انه يستتاب، فان تاب وإلاّ قتل، وانفسخ نكاح زوجته إذا كان الارتداد قبل الدخول أو كانت يائسة أو صغيرة ولم تكن عليها عدة، وأما إذا كان الارتداد بعد الدخول وكانت المرأة في سن من تحيض وجب عليها ان تعتد عدة الطلاق من حين الارتداد، فان رجع عن ارتداده الى الاسلام قبل انقضاء العدة بقي الزواج على حاله على الاقرب وإلاّ انكشف انها قد بانت عنه عند الارتداد. ولا تقسم أموال المرتد الملي إلاّ بعد موته بالقتل أو غيره، وإذا تاب ثم ارتد ففي وجوب قتله من دون استتابة في الثالثة أو الرابعة اشكال. هذا إذا كان المرتد رجلاً، واما لو كان امرأة فلا تقتل ولا تنتقل اموالها عنها الى الورثة إلاّ بالموت، وينفسخ نكاحها بمجرد الارتداد بدون اعتداد مع عدم الدخول أو كونها صغيرة أو يائسة وإلاّ توقف الانفساخ على انقضاء العدة وهي بمقدار عدة الطلاق كما مر في المسألة (٥٦٣). وتحبس المرتدة ويضيّق عليها وتضرب على الصلاة حتى تتوب فان تابت قبلت توبتها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون مرتدة عن ملة أو عن فطرة.


الأربعاء، 23 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (5)



| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

إن الولايات المتحدة الأمريكية، بخلاف ما يُشاع، لا تلجأ عادة إلى التآمر فيما يتعلق بالصيرورات الإنسانية العامة، أي بالتطورات العامة في منطقة ما على المديين البعيد أو المتوسط، إذ لا يتسنى هذا الأمر لأحد في الواقع بسبب تشابك وتناقض أجندات القوى الدولية والإقليمية المختلفة من جهة، وبسبب التغيير المستمر الذي يطرأ على الأولويات والرؤى الموجِّهة من إدارة أمريكية لأخرى من جهة أخرى.  إن تورط أمريكا في أحيان كثيرة، وفي إطار تعاملها مع قضايا وتطورات بعينها، في مغامرات تآمرية الطابع، مثل قضية إيران-كونترا وغيرها، يشكل استثناءاً للقاعدة يسعى لتحقيق أهداف معينة قصيرة المدى ومحدودة التأثير. أما على الصعيد الأكبر، فما بوسع أمريكا، وغيرها من الدول المتقدمة والطامحة، إلا أن تقوم بوضع مجموعة من السيناريوهات محتملة تستند على استقراء أقرب ما يكون للموضوعية للوقائع والأوضاع القائمة في مناطق العالم المختلفة، ومن ثم تقوم باقتراح ثلة من المقاربات تهدف لتمكين الإدارات المختلفة من التعامل مع هذه السيناريوهات وإدارتها على نحو يحقق لأمريكا مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، وفقاً للأولويات والرؤى الخاصة للإدارة المعنية. وفي الحقيقة، غالباً ما ترحب الإدارات الأمريكية بمشاركة الدول الأخرى في رسم هذه السيناريوهات والخطط وتنفيذها، إذ يمتلك قادة أمريكا على اختلاف مشاربهم ما يكفي من الثقة بمقدارت بلادهم، وبقدرتها على حماية نفسها ومصالحها، ما يمكنهم من تقديم الكثير من التنازلات بغية تجنب الصراعات وبناء الشراكات. وتكمن المشكلة هنا في تنافي هذا الأسلوب المباشر والصريح في التعامل السياسي مع الثقافة السائدة في منطقتنا ومجتمعاتنا حيال الصيرورات المختلفة، والتي تتصور دائماً وجود دوافع وأهداف أخرى للأمور، مما يجعلها تضيع فرص التعاون وتحتم احتمالات النزاع، سواء في علاقاتها مع أمريكا والغرب، أو في علاقاتها البينية.

وبعد نهاية الحرب الباردة، أقدمت أمريكا على إطلاع الأنظمة الشرقأوسطية المختلفة، من صديقة وعدوة، على هذه السيناريوهات بهدف حثها على تبني الإصلاحات الكفيلة بمساعدتها على تجنب القلاقل الداخلية والصراعات البينية التي تم التنبوء بها، لأن الاستقرار وحل النزاعات بالوسائل الدبلوماسية يبقى أفضل لتحقيق المصالح الأمريكية من الفوضى، حتى الخلاق منها، وذلك بعكس ما يروج له الكثير من المنظرين السياسيين اليساريين، وأحياناً اليمينيين أيضاً. إن كلام الباحثين والمسؤولين الأمريكيين عن الفوضى الخلاقة عبر العقود الماضية لم ينبع من منطلق الرغبة والتخطيط، بل من اعتقاد راسخ مستند إلى استقراء موضوعي للوقائع بحتميته وضرورة التحضير للتعامل معه. ولا يتنافى هذا التأكيد مع سعي أمريكا خاصة أبان الحرب العالمية الباردة، إلى استدامة بعض الصراعات أو إلى ترتيب بعض الانقلابات، لكن هذا المسعى، كما سبق ونوهنا، شكل استثناءاً للفلسفة الأمريكية الحاكمة نجم عن الطبيعة الوجودية للحرب الباردة والتي كان يمكن لها في أية مرحلة أن تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء في حرب نووية شاملة.

وغالباً ما ينسى مؤرخو تلك المرحلة هذا البعد النفسي العميق لها والذي كان له أثره الكبير في تشكيل تصرفات وسياسات القوى المختلفة، خاصة أمريكا. إن رعونة بعض السياسات الأمريكية في تلك المرحلة، وازدواجية معاييرها، جاءت انعكاساً لهذا الضغط النفسي الكبير في معظم الأحيان. وطبعاً بوسعنا أن نؤكد على العامل نفسه قد لعب دوراً كبيراً أيضاً، وربما أكبر، عند صناع القرار في المؤسسة السوفييتية الحاكمة التي كانت تدرك تماماً أن موقفها وقدراتها تبقى أضعف مما هو متوفر لدى أمريكا وحلفائها.


لكن ديموقراطية أمريكا والقوى الغربية الأخرى، والتي تجلت خاصة في طريقتها في التعامل مع مواطنيها واحترامها لحقوقهم الأساسية، ولاشك في أن الأوضاع الحقوقية للمواطنين الغربيين استمرت في التحسن طيلة مرحلة الحرب البادرة بسبب الضغوط الشعبية على الحكومات وذلك على الرغم من مخاطر الحرب النووية، تسبغ على هذه الدول أفضلية معنوية بل أخلاقية بالمقارنة مع المعسكر الشرقي باحتقاره للمفاهيم الديموقراطية وإصرار نخبه السياسية والعسكرية على التفرد بالحكم دون أي قابلية للمسائلة الحقيقة من قبل الشعب. إن انتصار المعسكر الشرقي كان سيؤدي بلا أدنى شك إلى تراجع كبير ليس فقط فيما يتعلق بحقوق الإنسان بل وفي مجال التنمية البشرية ككل، والتقدم العلمي والتقني. فإذاً، وعلى الرغم من قيام كلا المعسكرين بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، وبقيادة مغامرات إمبريالية وكولونيالية الطابع، وبدعم نخب حاكمة فاسدة في عدد من بلدان العالم، لا يتساوى الطرفان لا من حيث الرؤية والمبادئ العامة المؤثرة على سلوكياتهما، شعوباً وحكاماً، ولا من حيث أهمية الانجازات التي قدموها، وما يزال بوسعهما تقديمها، للإنسانية. 

ولا ننسى في هذا الصدد أن أكبر منتقدي السياسات الأمريكية خاصة والغربية عموماً هم من مواطنيها، "الأصليين" منهم والوافدين من دول المعسكر الشرقي والدول الأخرى، وأن معظمهم يعملون في الغالب في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية والغربية، وأن صوتهم ما كان ليسمع لولا تبني الدول المعنية لديموقراطية حقيقية احترمت حياتهم عامة حتى آخر قطرة.  ولها الواقع أهمية أكبر من أن تكون رمزية وحسب.


إن أكاديمياً أمريكياً مثل نعوم تشومسكي قد يملك رفاهية النقد الحاد، بل العدمي أحياناً، لوطنه أمريكا، الذي قد تعكس حديته حقيقة أن النقد أصبح أمراً عادياً ومقبولاً في أمريكا، ولا يعرض صاحبه لأي خطر، وبالتالي قد لا يتميز الإنسان بنقده في هذا المرحلة ما لم يكن هذا النقد حاداً إلى درجة كبيرة، وخارجاً عن المألوف. إن دور البعدين النفسي والإيديولوجي في تشكيل انتقادات تشومسكي حيال أمريكا والغرب أهم بمراحل من دور التحليل الموضوعي للأمور، إذ غالباً ما نراه يغفل دور العوامل المحلية والإقليمية والدولية الأخرى بل والسياق العام للقضايا التي يعالجها في كتاباته.

إن شعوب منطقتنا بالتحديد لن تتعلم شيئاً من التجربة الأمريكية خاصة والغربية عموماً إذا ما اكتفت بالاستماع إلى أصوات نقادها العقائديين أمثال تشومسكي والذين يعكس نقدهم المساحة الكبيرة المتوفرة لديهم للنقد الحاد أكثر من الحاجة الحقيقية إلى هذا النوع منه. ودعونا لا نغفل هنا دور أصحاب هذه النزعة النقدية في الغرب في تشكيل سياسات إدارة أوباما والإدارات الغربية عموماً حيال الأزمة السورية، خاصة دورهم الذي أدى إلى امتناع بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة من التدخل ضد الأسد، من منطلق ترك شعوب المنطقة لتحل مشاكلها بنفسها، في حين تتجلى الترجمة الحقيقية لهذا الموقف في تجاهل حقيقية اختلاف موازين القوة بين الدول المختلفة، وتضارب مصالح النخب الحاكمة فيها، وتدخلها في شؤون بعضها البعض عن طريق تفعيل الصراعات المذهبية والقومية، وما ينتج عن ذلك من تحييد لدور الشرائح الديموقراطية الواعية وتطلعاتها، وتفتيت للمجتمعات المحلية، علاوة على وقوع كوارث إنسانية، وانتهاكات جماعية تصل حد الإبادة الممنهجة، والتشريد، والتجويع، وما لذلك كله من انعكاسات سلبية على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الغرب ذاته، والعالم أجمع في عهد العولمة المفرطة هذا.

أي شيء يمكن لنا أن نتعلمه من رؤية إيديولوجية قاصرة كهذه، رؤية ترفض تحمل مسؤوليات التدخل في منطقتنا، حتى من منطلق إنساني بحت، ولوقف الدمار والنزيف، في وقت ما بوسعها فيه أن تمنع نخبها السياسية والاقتصادية، بل مجتمعاتها ككل، من الانتفاع مما ينجم من مكاسب عن هذا الدمار والنزيف، مثل رخص سعر الوقود إلى درجة تسهل لهذه المجتمعات الانتقال المرتقب إلى مرحلة ما بعد الوقود المستحاثي والذي يفترض حدوثه في عام 2050، من خلال توفيرها للموارد المالية اللازمة لذلك؟

إن هذه الرؤية في جوهرها ما هي إلا تعبير عن عصبية غربية جديدة أصبحت تحتل الساحة، إذ لا مجال فيها للتعبير عن وحدة المصير البشري إلا من خلال الدعاء والصدقة من خلال تقديم بعض الإمدادات الإنسانية للمحتاجين.

والأنكى هنا أن دعاة هذه الرؤية يصرون على أنها يسارية الطابع، والكثير منهم بالفعل يساريون قدامى، وأن مصلحتنا ستتحقق من خلالها على المدى البعيد. لكن تراكم المظلوميات عند شعوب ما تزال لاتحسن إلا اجترارها للعيش لن يؤسس لمستقبل أفضل، بل لصراعات أطول. إن قدرتنا على تمثل الدروس الصحيحة من أزماتنا المتراكمة ما تزال محدودة بالذات بسبب تبني معظم نخبنا لرؤى تبني على إيديولوجيات عقيمة كهذه، باسم الإشتراكية والإسلام.


إن كان ثمن نهضة في مستقبل أيامنا كشعوب ذات تاريخ مشترك ما، وبعض المصالح الأساسية، فلن تأتي إلا من خلال تبني مقاربات براجماتية وعقلانية في الصميم، مقاربات لا علاقة لها لا بالإيديولوجية ولا بالدين ولا بالنزعات القومية، مقاربات قائمة على جملة من الاعتبارات السياسية والأمنية، وبعض المصالح الاقتصادية والتنموية، مقاربات تحسن صياغة الأولويات المناسبة لكل مرحلة، وتسعى لتحقيق توازنات ما بين الأطراف الفاعلة في المنطقة. إن مفتاح الحل لأزمتنا بسيط في جوهره الفكري، إنه التنظيم والعمل الجماعي المؤسساتي، وفهم بل قبول عميق لطبيعة التفاعلات الدولية، خاصة هذه النقاط الأساسية:

·      ما تزال القوة، بأبعادها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والعسكرية، هي العنصر المحرك الأساسي للحضارة والتفاعلات الحضارية
·      لا يمكن للمبادئ والقوانين وحدها أن تقيد الدول القوية وتمنعها من محاولة تحقيق مصالحها وإن على حساب الدول الضعيف وشعوبها
·      تتطلب القدرة على الإلتزام بالمبادئ والقوانين تحقيق توازن قوة معين ما بين الأطراف المتفاعلة المختلفة على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية
·      إن الأنظمة الديموقراطية وحدها القادرة على النهوض بشعوبها بطريقة تحفظ المكاسب والاستقرار على المدى البعيد. في حين لا يمكن للتناقضات الكامنة في الأنظمة الاستبدادية، بصرف النظر عن قدرتها على تحقيق بعض المكاسب على المدى القصير، إلا أن تسفر في مرحلة ما عن صراعات داخلية كفيلة بتدمير كل ما تحقق من انجازات. إن إدراك أمريكا والدول الغربية لهذا الواقع هو ما يجعلها تتنبؤ بانهيار دول تبدو قوية، عسكرياً على الأقل ، مثل روسيا  وإيران. بل حتى الصين. وفي الواقع، إن كل دولة من هذه الدول تعاني من صراعات عديدة مجمدة لكنها بلا حل حتى اللحظة، مثل الصراعات في القفقاس وسيبيريا، ومهاباد والأهواز، والتيبت وشينجيانج. في حين يندر وجود هذه الصراعات في الدول الديموقراطية، وعادة ما يتم التعامل مع هذه الصراعات بالوسائل الديموقراطية السلمية، من قبيل عقد الاستفتاءات والانتخابات الدورية، كما رأينا في اسكتلندا وكاتالونيا. ولقد أدى تبني النظام الفيدرالي في الحكم في دول كثيرة إلى إيجاد حل نهائي لمعظم هذه الصراعات أساساً.
·   إن الحروب، في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الإنسانية، تشكل وسيلة أساسية في أيدي النخب الحاكمة في الدول الاستبدادية للتهرب من استحقاقات التغيير في الداخل، وللتحصل على المكاسب والمغانم، غالباً على حساب بعضها البعض، لكن، أحياناً، على حساب بعض دول الجوار الديموقراطية الطابع لكن الضعيفة من الناحية العسكرية. وتعتقد النخب الحاكمة لأنها بذلك تحمي نفسها من تهديد الغرب الديموقراطي. لكن الديموقراطية فكرة أصبح لها مؤيدوها في كل مكان، وهي إن لم تنتصر نهائياً لن تهزم نهائياً، ما لم يتم تدمير البنية التعليمية للمجتمع ككل، كما حدث في أفغانستان والصومال والكونغو، وكما قد يحدث في سوريا واليمن اليوم في حال استمر الصراع الحالي لسنين قادمة.  عندما تُدمر الحضارة في بلد ما، ويُهجر حاملوها، لا يمكن لها أن تعود إلا بعد مضي عقود بل قرون طويلة من العمل المضني والممنهج.

هذا هو جوهر الخطر الذي نواجهه اليوم في منطقتنا، وهذا ما يتجاهله الواقعيون من يسار ويمين: فنحن، شعوب هذا الشرق الأوسط، وفي هذه المرحلة بالذات التي انضمت فيها العوامل البيئية، مثل الانحباس الحراري، إلى العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياتنا، أصبحنا مؤهلين للخروج من التاريخ نهائياً، ببعده الحضاري.  

إن استدامة حالة الصراع في المنطقة، ومحاولة التشبث بالأنماط التقليدية للحكم، واللجوء الدائم إلى الماضي بمقدساته المتراكمة بحثاً عن حل، هي من العوامل المساهمة في هزيمتنا الحضارية، ولن نتمكن من الخروج من أزمتنا الراهنة ما لم نجد طرق للتعامل معها بشكل مختلف عما سبق. ويقتضي تحقيق هذا الأمر قفزة على مستوى الوعي، الفردي والجمعي. ولايمكن لهذه القفزة أن تتحقق ما لم نعود أنفسنا على التفكير خارج الأنماط المألوفة لنا، وعلى الإستماع إلى الأصوات الناشزة عن الإجماع الثقافي التقليدي. وفي غضون ذلك كله، علينا أن نتعلم عادة العمل الجماعي المؤسساتي الممنهج والمنظم، والمتمحور حول برامج عملية وليس الشعارات أو الأشخاص. فما لم نجترح هذه المعجزة لن نحقق شيئاً.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الأحد، 20 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (4)

لقاء ما بين وفدي الخارجية الأمريكية والخارجية الإيرانية في مدينة لوزان، سويسرا في 28 أذار/مارس 2015

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

يتبين لنا عند معاينتنا للسياسات الأمريكية عبر السنين الخمس عشر الماضية، حيال منطقة الشرق الأوسط خاصة، تعاقب تيارين فكريين في تشكيلها: تيار المحافظين الجدد، وحلفائهما من الليبراليين التدخليين، الذين أسسو لسياسات جورج و. بوش الخارجية في الفترة التالية لهجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية وحتى نهاية عام 2007، وتيار الواقعيين الليبراليين، وحلفائهم من المحافظين والليبرتاريين الانعزاليين،الذين ساهموا في توجيه سياسات الرئيس الحالي باراك أوباما منذ بداية عهده وحتى الحظة، وخاصة في الفترة التي أعقبت ظاهرة الربيع العربي.

لكن، وقبل أن نتكلم عن نقطة الخلاف الأساسية ما بين التيارين، ينبغي أن نشير إلى اتفاقهما أولاً فيما يتعلق في استقرائهما للموقف، فكلاهما مقتنع بحتمية التحول إلى عالم متعدد الأقطاب وحتمية انتشار الفوضى خلال المرحلة الانتقالية، وثانياً فيما يتعلق بالهدف الأساسي: أن تبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى عالمياً.

أما الفرق الأساسي بين التيارين فيتجلي في الرؤية وفي الأسلوب. فالمحافظون الجدد يرون أن للولايات المتحدة دور أساسي وضروري في قيادة عملية التحول وتوجيهها لضمان المصالح الأمريكية والتي، في رؤيتهم، تتطلب نشر الديموقراطية في معظم دول العالم بغية تحقيق سلام دائم، مع الاستمرار في عزل بعض الدول المشاغبة، أو القلقة والمقلقلة، مثل إيران وكوريا الشمالية والسودان وغيرها. ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الرؤية الإقدام على التدخل العسكري في بعض المناطق والدول لتغيير بعض الأنظمة وللحد من نفوذ أخرى، ولنصرة قوى التغيير المنفتحة على التعاون مع أمريكا والغرب، والتي يتوقع لها المحافظون أن تكون ديموقراطية أو قابلة للدمقرطة.

وتختلف رؤية الواقعيين للأمور كلية، فالواقعيون يرون أنه، وبسبب حتمية الطبيعة العنفية للتغيير القادم، ينبغي على الولايات المتحدة أن تخفف من تواجدها المباشر في الأحداث العالمية في الفترة القادمة لتفادي الوقوع في أخطاء ومصائب، كما حدث في العراق، بل وأفغانستان، وتفادي دفع تكاليفها المادية والمعنوية الباهظة. أن الواقعيين يفضلون أن تكتفي الولايات المتحدة في المرحلة القادمة بالدفاع عن نفسها ومصالحها الضيقة وتترك باقي ما تبقى من دول في هذا العالم، بما في ذلك حلفاؤها، حتى الأوروربيين منهم بل والمشاركين في حلف الناتو، ليقوموا بفرز أنفسهم. وفي هذه الأثناء تقوم الحكومات الأمريكية بالتعامل مع القوى الجديدة والقديمة القادرة على فرض نفسها على الساحة بقوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية لتتعاون معها في بناء نظام عالمي جديد وإعادة بعض الاستقرار العالم. ولا مانع عند الواقعيين حتى ذلك الحين من التلاعب بالقوى الإقليمية الصاعدة من بعيد لتحقيق بعض المصالح، فأمريكا تبقى قادرة على ذلك. أو على الأقل، هذا ما يحاول الواقعيون إقناع أنفسهم والآخرين به.

كولاج لمجموعة من اللقاءات التي عقدها أعضاء المجلس الوطني الإيراني-الأمريكي، وهو واحد من أهم مجموعات الضغط الإيرانية الناشطة في الولايات المتحدة، مع أعضاء في الكونجرس الأمريكي لدعم الاتفاق النووي مع إيران 

ومن الدول التي يبشر الواقعيون بضرورة التعامل معها في منطقتنا: إيران، التي سبق وكانت حليفة للولايات المتحدة، والتي نجحت القوى الأكاديمية اليسارية والتي تضم مجموعة كبيرة من المغتربين الإيرانيين ممن دفعهم مزيج فريد من الإيديولوجية والحنين والشعور القومي إلى الدفاع عن نظام لا يرضى معظمهم في العيش في ظلاله لكنهم يتأملون في إصلاحه، أو في قدرته على إصلاح نفسه. فمنذ تسعينات القرن العشرين وحتى اللحظة، نجحت هذه المجموعة من خلال نشاطها الأكاديمي والبحثي المكثف ولجوء بعض أعضائها إلى تشكيل جماعات ضغط والاستعانة بشركات العلاقات العامة، في إقناع عدد كبير من المنتمين إلى المعسكري الديموقراطي الليبرالي والإشتراكي بإمكانية وضرورة التوصل إلى سلسلة من الاتفاقات مع إيران تسمح لها بتبوء "مكانها الطبيعي" في المنطقة كقوة عقلانية براجماتية ومهنية قادرة على تحقيق الاستقرار.

وترافق هذا الانفتاح على إيران بعداء واضح حيال السعودية ودول الخليج الأخرى، وتركيا. ولا تكفي الإيديولوجية تفسيراً لهذه النزعة، لأن كل الاعتراضات التي يمكن سوقها ضد هذه الدول من الناحية الإيديولوجية يمكن أن تستخدم أيضاً فيما يتعلق بإيران. وفي الواقع، يبدو أن دور الأكاديميين الإيرانيي الأصل كان له أثره هنا، وكذلك، دور الأكاديميين العَلمانيين اليساريين المنحدرين من أصول إسلامية والذين يلومون السعودية ودول الخليج على كل المشاكل التي تواجهها بلادهم الأم، وربما يكون بعضهم قد تعرض لمعاملة الخليجيين العنصرية حيال سائر المسلمين والتي تتخذ من العروبة مبرراً لها. وفي الحقيقة، للعنصرية دورها هنا، فيما يتعلق بالشعور تجاه العرب، وفيما يتعلق بالإسلام السياسي بشقه السني الذي تجعله تعددية مراجعه أكثر خطورة من نظام الملالي في طهران في نظر الواقعيين. وبهذا، يكون الاستشراق قد عاد إلى الساحة عن طريق اليساريين أكبر منتقد للنزعة الاستشراقية التقليدية، متجلياً في نزعة عدوانية وعنصرية تجاه العرب خاصة، والمسلمين السنة عموماً، المتهمين بالتعصب دائماً، إلا من ثبت ولائه للتيار الواقعي.

وما إدارة أوباما وسياساتها الشرقأوسطية إلا تعبيراً عن هذا الواقع بما فيه من تناقضات.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |


الأربعاء، 15 يوليو 2015

الأزمة اليونانية والنظام العالمي

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس في مؤتمر صحفي عقب محادثات

(1)

بعد ما تم التوصّل إلى اتفاق بخصوص أزمة الديون اليونانية يبدو جلياً الآن أن الهدف من كل المناورات والمهاترات التي شهدتها الأشهر والأسابيع الماضية هو التحصّل على أفضل صفقة ممكنة وفقاً لقواعد اللعبة ذاتها، وليس تغيير قواعد اللعبة.

لا يوجد ما يعيب في هذا، لكنه يدل على ضرورة التفريق بين ما يُقال وما يُراد. كما يدل أيضاً على طبيعة التيارات اليسارية التي توجّه خلالها الكثير من الانتقادات إلى النظام العالمي الحالي، بأبعاده السياسية والمالية والاقتصادية، ويأتي بعضها في محلّه بالفعل، لكن لا يبدو أنها تملك أية بدائل عملية له. ولاشكّ في أن الكثير من القيادات اليسارية في اليونان وغيرها يدرك هذا الأمر، لكن أغلب الناس لا يدركونه، وينساقون بالتالي وراء ما يُقال خالطين بينه وبين ما يُراد، وهنا لبّ المشكلة. إذ عندما لا يدرك الناس حقيقة ما يجري من حولهم، يصبحون عرضة للتلاعب، خاصة من قبل الشخصيات والتيارات الوصولية الشعبوية والمتطرّفة حتى العدم.

وتقع مسؤولية ما حدث في اليونان على عاتق الكثير من الجهات، منها شركة جولدمان ساكس وصندوق النقد الدولي وعدد من المصارف الأوروبية. لكن المسؤول الأكبر هي في الواقع الأحزاب السياسية والنخب الاقتصادية اليونانية على اختلاف مشاربها. إذ طالما تلاعبت هذه الجهات بالحقائق، فأخفت بعضها، وزوّرت أخرى، وكل ذلك بهدف الحفاظ على نفوذها وخطها السياسي على المدى القصير، دون الانخراط في أية محاولة جدية لتشكيل رؤى وسياسيات للمدى الطويل. فقد رأت هذه الجهات فيما يبدو في الانخراط في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فرصة ذهبية بذاتها، وأن مجرّد المشاركة فيهما ستؤدي تلقائياً إلى إنعاش الاقتصاد وتنمية الدولة والمجتمع. أي أنهم تبنّوا نسخة تنموية لمبدأ الانتثار الاقتصادي trickledown economics  التي جاء بها الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان والتي تنصّ على أن انخفاض العبء الضريبي وزيادة الاستثمار الحكومي في المجالات الاقتصادية المختلفة سيساهم في زيادة إنتاجية قطاع الأعمال، الأمر الذي سيساهم بدوره في زيادة فرص العمل، علاوة على زيادة أجور العاملين ورواتب الموظّفين. من هذا المنطلق، أهملت الشخصيات اليونانية النافذة مهمة تطوير برامج عملية للتنمية البشرية والمؤسّساتية، مما أدى مؤخراً إلى انفجار فقاعة التوقعات التي تم بنائها والركون إليها.

فمما لاشكّ فيه هنا أن الثقافة الحياتية اليومية في اليونان ماتزال تتمحوّر حول الدولة ومؤسّساتها، كما هو عليه الحال في الدول الليفانتية الأخرى، ربما باستثناء إسرائيل نظراً لبعض النشاطات الاقتصادية التي شهدها القطاع الخاص في العقدين الأخيرين. لكن الاعتماد المستمر والدائم على الدولة في كل صغيرة وكبيرة يتعارض مع طبيعة العمليات الديموقراطية، من حيث إحباطه لمحاولات القطاع الخاص لتطوير نفسه بحيث يتمكن من المساهمة في عمليات التنمية المستدامة، فيبقيه في الطور الجنيني إن لم نقل الطفيلي.

وتهدف سياسات التقشّف المقترحة من قبل الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، إلى فكّ الارتباط الوثيق ما بين الشعب والدولة الخانق لكليهما لصالح المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة، بما في ذلك القطاع الخاص، الذي سيصبح مطالباً أكثر من ذي قبل بتطوير نفسه وقدراته ليصبح قوة قيادية في الدولة والمجتمع. ولأن القطاع الخاص يقوم أساساً على المؤسّسات الربحية الصغيرة والمتوسطة، لن تؤدي تقويته بالضرورة إلى استئثار نخبة ما بالنشاطات الأكثر ربحاً وإدارتها خدمة لمصالحها الخاصة على حساب باقي الشعب. إذ طالما بقيت عمليات صنع القرار في الدولة شفافة الطابع، وقامت مؤسّسات المجتمع المدني، بما فيها الصحافة والإعلام المرئي، بمتابعة ومراقبة التطورات يمكن الحدّ من عمليات التلاعب والاستئثار التي تمثّل جزءاً عضوياً من النشاطات العامة بمختلف أوجهها لأنها انعكاس حتمي لطبيعتنا الإنسانية.

لم يكن هناك مؤامرة ضد اليونان إذاً، ولايمثل الاتفاق الجديد لحل أزمتها محاولة لإخضاعها وإذلالها أو للقضاء على ديموقراطيتها، كما يروّج البعض. كل ما في الأمر أنه ينبغي على الدول أن تدرك أن التعامل مع النظام المالي الدولي بشكل خاص، والنظام العالمي بشكل عام، يتطلب الالتزام بذات الحكمة القديمة التي يفترض على المواطن العادي أن يأخذها دائماً بعين الاعتبار: تقع المسؤولية على عاتق المشتري caveat emptor.

(2)


وفي الواقع، نحن بحاجة ماسة إلى إصلاح تدريجي للنظام العالمي القائم، وليس لعملية ثورية ضده. إذ لايوجد شيء محدّد هنا ليثور المرء ضده. فما يزال "النظام العالمي" مجرّد مفهوم غامض في هذه المرحلة، وذلك على الرغم من وجود مؤسّسات مالية وسياسية وقانونية واقتصادية دولية الطابع تبدو وكأنها دعائم له. فالتخبّط الحاصل في إدارة هذه المؤسّسات وتوجيهها، خاصة في أوقات الأزمات، يدل على أنها ماتزال مشاريع قيد التنفيذ أكثر منها دعائم راسخة لنظام بعينه. ولاشك في أن لتعارض سياسات ومصالح الدول الأساسية الداعمة لهذه المؤسّسات دور كبير في تمييع هويتها المؤسّساتية وعرقلة مساعيها لخدمة أهدافها والالتزام بمبادئها المعلنة.

ولايمكن وصف النظام العالمي موضوعياً في هذه المرحلة لا بالديموقراطية ولا بالاستبداد، ولاوجود هناك لنخبة أو كتلة بعينها قادرة على السيطرة عليه بشكل كلّي، وتجييره لخدمة مصالحها الخاصة. لكن، لا مفرّ من الاعتراف أيضاً بأن الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ما تزال تلعب الدور الأكبر في بلورة معالمه، وماتزال، بسبب قوة أنظمتها الديمقراطية، الأكثر قدرة على التأقلم الفعّال مع متغيراته المستمرة.

وتشكّل المثابرة على المساعي الرامية لتنظيم آليات عمل المؤسّسات الدولية المختلفة، وإصلاح أنظمتها الداخلية لتعكس تغير الحقائق على الأرض، ولتصبح أكثر قدرة على تفعيل وخدمة المبادئ التي أسّست من أجل خدمتها، وسيلة أنجع وأفضل من أية ثورة عالمية في هذه المرحلة لتحقيق العدالة، إن كانت هي الهدف الحقيقي.

ولاشك في أن للإعلام المستقل دوره الهام هنا من خلال تغطية نشاطات وفعّاليات هذه المؤسسات وتببين وقعها على الواقع المُعاش لمختلف الشعوب.

إذن، يتطلّب تحقيق العدالة على المستوى الدولي استمرار عمليات الدمقرطة والترويج لها، لأن الدول غير الديمقراطية لن تسعى إلا لتحقيق مصالح النخب المتنفّذة فيها، بصرف النظر عن مصالح شعوبها. وطالما استمرت عملية تشكيل النظام الدولي من خلال الصراع النخبوي ما بين قوى ديموقراطية وأخرى غير ديموقراطية، ستبقى المساومات الحاصلة تتمحور حول المصالح الضيقة للنخب، بصرف النظر عن المبادئ الديموقراطية واعتبارات العدالة، ولن يكون للمبادئ التي نراها في التشريعات الدولية، مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و"مسؤولية الحماية،" أثر كبير على قرارات المؤسّسات الدولية، كما هو الحال في معظم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن مثلاً.

كيف سيكون بوسع الشعوب أن تراقب وتحاسب ممثليها في المؤسّسات الدولية ما لم تكن قادرة على مراقبة ومحاسبة ممثليها في المؤسسات المحلية والوطنية؟ وكيف يمكن للنظام الدولي أن يتصرّف بعدالة حيال بعض الشعوب إن كانت مستعبدة وكان ممثلوها في مؤسّساته ودهاليزه ومؤتمراته مشغولين ليل نهار بإقناع ممثلي الشعوب الحرة بأن شعوبهم غير جاهزة بعد للحرية؟ وإن كانت الدول الغربية على استعداد دائم لتناسي مبادئها الإنسانية في تعاملها معنا، وهو أمر من النادر أن تقدم عليه عند تعاملها مع شعوبها، فذلك لأن حكامنا ونخبنا المتنفّذة قد سبقوها إلى ذلك، فسوّلوا وسهّلوا لها الأمر. فإن بدا لنا النظام الدولي القائم اليوم غير عادل فربما لأن أنظمتنا المحلية والوطنية غير عادلة أيضاً.

وإن كانت العدالة، حتى في المجتمعات الديموقراطية، لا تُؤخذ أو تُصان إلا من خلال الضغوط الشعبية المباشرة، أو عن طريق مؤسّسات المجتمع المدني، فأي خيار هناك للشعوب المستعبدة من قبل أنظمتها غير الكفاح؟

والخلاصة: ما لم تتحقق مصالح الشعوب لن تتحقق العدالة، ولن يتحقق السلام، لكن الشعوب التي لا تناضل من أجل تحقيق العدالة على الصعيد الداخلي لن يكون بوسعها أن تناضل من أجلها، ومن أجل مصالحها، على الصعيد الخارجي. وإن كان اليونانيون قد ساهموا في أزمة الديون التي يمرون اليوم بها، فهم، وعن طريق العملية الديموقراطية، استطاعوا أن يتحصّلوا على صفقة أفضل من تلك التي طرحت عليهم في بادئ الأمر، وإن كانت مسيرتهم نحو الخروج من المأزق تماماً ماتزال طويلة وصعبة.


أما فيما يتعلق بالنظام العالمي بمؤسّساته وعثراته وأطماعه، فالغرب جزء من المشكلة وليس كلها، ونحن، بأنظمتنا الاستبدادية الفاسدة، وبإيديولوجياتنا العقيمة، وبعقد الاضطهاد التي ما زلنا نعاني منها، نمثل الجزء الآخر. ولن يكون بوسعنا التعامل بنجاح مع أية تحديات ناجمة عن مطامح الدول الغربية، ما لم نجد حلولاً لمشاكلنا الخاصة أولاً، أو، ربما كان علينا أن ننشط على المسارين في آن. أما الاستمرار في التذمّر والتفكير التآمري فتكريس لعقلية التخاذل والجمود.

الأحد، 12 يوليو 2015

المصلحة والنظام الدولي بين البارحة واليوم

تصوير فني لمفهوم الإمبريالية الأوروبية

(1)

من بين المصطلحات الشائعة في القاموس العربي المعاصر مصطلحا الإمبريالية والكولونيالية، وهما مصطلحان حديثان نسبياً بدأ استخدامهما في مطلع القرن التاسع عشر لوصف مساعي الدول الغربية لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على العالم مستغلّة قوتها العسكرية. لكن الظاهرة بحد ذاتها، أي محاولة بسط النفوذ بالقوة، ظاهرة موغلة في القدم، بدأت مع انطلاقة المغامرة الإنسانية على سطح هذه المعمورة، ولم تقتصر أبداَ على دولة أو حضارة أو شعب أو دين بعينه. بل يمكن قراءة قصة الحضارة الإنسانية ككل على أنها سلسلة مستمرة من الغزوات والحروب والمحاولات الاستيطانية، كما فعل معظم المؤرخين القدماء والتقليديين، على اختلاف مشاربهم وحضاراتهم.

وتشكّل محاولة ابن خلدون من خلال مقدمته المعروفة استثناءً هاماً وثورياً لهذه القاعدة. ولهذا، ما يزال علماء الاجتماع والسياسة المعاصرون يتداولونها ويشيرون إليها في كتاباتهم حتى اللحظة. ومايزال لمفهوم "العصبية" الذي اقترحه ابن خلدون دور كبير في محاولاتنا العصرية لفهم وتفسير كيفية تعامل شعوب منطقتنا بالذات مع مسألة الهوية.

وعادة ما يستخدم الباحثون الإسلاميون، القدامى منهم والمعاصرون، مصطلح "الفتوحات" عند تعاملهم مع العمليات الإمبريالية والكولونيالية الطابع التي أسّس المسلمون من خلالها حضارتهم القديمة. وهو مصطلح احتفائي بالطبع كما يدلّنا التحليل اللغوي والتفسير العقائدي له. فما دامت الجهة المحتلّة والمستيطنة إسلامية المعتقد، لم يكن عند علماء وجهابذة الإسلام اعتراض عليها.

كما يستخدم الإسلاميون أحياناً مصطلح "الغزوات،" الذي قد يبدو للوهلة الأولى، من الناحية اللغوية على الأقل، أكثر "موضوعية" من مصطلح الفتوحات. لكن توخّي الموضوعية لم يكن الهدف من وراء طرح هذا المصطلح في الواقع، بل الرغبة في الإشارة إلى المعارك الصغيرة التي انخرط بها المسلمون ضد "أعدائهم" عبر التاريخ. إذ لا يجد المسلمون حتى اللحظة أيّ إشكالٍ في إصرارهم على التعامل مع الحروب التي شنّوها، أو شُنّت باسمهم، عبر التاريخ، من منظور احتفائي بحت.

الفتوحات


(2)

ويقابل مصطلحي الفتوحات والغزوات عند الغربيين مصطلحات متعدّدة، لا تقلّ عنها احتفائية، استخدمت لتبرير وتسويغ الحملات الإمبريالية والمغامرات الكولونيالية للغربيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك باستثناء أشهرها، أي مصطلح "الحروب الصليبية،"  الذي برز على الساحة الفكرية في القرون الوسطى.

أما والمصطلحات المعاصرة فمنها: "عبء الرجل الأبيض" White Man’s Burden، الذي تبنّاه المنظّرون البريطانيون في أواخر القرن التاسع عشر، وهو بالأساس عنوان قصيدة للشاعر والروائي البريطاني رديارد كبلينج Rudyard Kipling. و "البعثة التحضيرية La Mission Civilisatrice " الذي استخدمه الفرنسيون، في حين لجأ الأمريكيون إلى استخدام مصطلح "القدر الجليّ Manifest Destiny" لتبرير توسّعهم عبر القارة الأمريكية وتهميشهم للسكان الأصليين ومحاولاتهم الفاشلة لاحتلال المسكيك.

أما الروس، وهو الشعب الذي مايزال اليسار العالمي يصرّ على تجاهل مغامراته الإمبريالية أو تبريرها على أنها استراتيجية استباقية للدفاع عن النفس والوطن، فقاموا بإطلاق مغامرتهم الإمبريالية المعاصرة، والأكبر في تاريخهم، تحت الشعار الماركسي "يا عمال العالم اتحدوا،" وغيره من الشعارات الشيوعية والسوفييتية.

في حين استخدم الصينيون، ومازالوا، مفهوم السابقة التاريخية (في إشارة إلى سيطرتهم في مرحلة تاريخية ما على المنطقة قيد البحث) ورغبتهم في مساعدة الشعوب المتخلّفة ي منطقتهم على تنمية نفسها لتبرير احتلالهم للتيبت وكشغر (شينشيانج)، وفي مطالباتهم الحالية فيما يتعلق بالجزر الواقعة في بحر الصين الجنوبي.

لاننسى طبعاً الألمان ومصطلح "المجال الحيوي lebensraum" الذي استخدموه لتبرير محاولتهم الفاشلة لإنشاء إمبراطورية عالمية جديدة هي الرايخ الثالث.

أوروبا تحت الاحتلال النازي

أما المغامرة الصهيونية، فتتفرّد وتتميّز عن المغامرات الإمبريالية والاستيطانية المعاصرة من حيث نشأتها كمحاولة يهودية لإيجاد حلّ لـِ "المسألة اليهودية" في الغرب وإنقاذ اليهود من خلال تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين. أي أن تحقيق المجد، وهو الأمر الذي غالباً ما يلعب دوراً هاماً في المغامرات الإمبريالية والكولونيالية التقليدية، لم يكن عاملاً في هذه المغامرة. أما فيما يتعلّق بتجاهل الحركة الصهيونية لحقوق الشعب الفلسطيني، فلا يعدّ هذا الأمر استثنائياً بحدّ ذاته، وإن بقي مداناً من منطلق إنساني وحقوقي، لأن محاولة شعب ما حلّ مشاكله أو تحقيق طموحاته على حساب شعب آخر هو جوهر النزعة الإمبريالية، والحركة الصهوينية إذاً لم تأت كاستثناءٍ لقاعدة الفعل الإمبريالي بل استمرار وتكريس له مع اختلاف هوية الجهة الفاعلة. ولاننسى هنا أنه عندما كان لليهود دولة ومجد في الماضي، سواء في فلسطين أوالخزر، لم تغب النزعة الإمبريالية عن ممارساتهم وكرهم. وفكرة أن اليهود هم "شعب الله المختار،" استخدم كمبرر لها بالطبع.

(3)

لكن هناك فرق هام حالياً ما بين الشعوب الغربية والشعوب الأخرى فيما يتعلّق بتعاملها مع المسألة الإمبريالية يتجلّى في المساعي الأكاديمية الغربية المستمرة لمراجعة المفاهيم المستخدمة لتبرير الإمبريالية وتبيان مغالطاتها ووجه النفاق فيها، ولاننسى في هذا الصدد أن أشهر مفكري ومنظّري اليسار العالمي هم من الغرب، وإن كانت مراجعة اليساريين لهذه الظاهرة إيديولوجية الطابع، مما يجعلها تركّز على البعد الأخلاقي والقانوني للظاهرة وعلى ممارستها من قبل الغربيين حصراً، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

وتؤثر هذه النزعة الإيديولوجية سلبياً على معظم تحليلات اليسار في هذا الصدد، خاصة من خلال تصويرها للآخرين كضحايا، وتبريرها أو تجاهلها لممارساتهم المماثلة. وأثناء ذلك يتم تغييب السياق التاريخي للظاهرة وارتباطها اللصيق بالطبيعة الإنسانية ومفهوم "المجموعة" المتميّزة عن الآخريات (قبيلة، عشيرة، قوم، دين) و مفهوم "الدولة." فحتى ما قبل تأسيس المدن والدول، كانت المجموعات تغير على أراضي بعضها البعض، وتحتلّها أو تستوطنها، وتستعبد أوتبيد سكانها الأصليين.

من ناحية أخرى، لابد من الإشارة إلى غياب أية محاولة جديّة لمراجعة المفاهيم والمصطلحات التاريخية من قبل الشعوب غير الغربية. ولهذا التقصير مدلولات أخطر من استمرار الغرب في محاولته لبسط نفوذه على العالم، لأنها فيها تجاهلاً لسرّ تفوّقه في اللعبة أساساً وهو: انفتاح شعوبه الكبير على النقد والتجديد وعلى نحو يسمح لها بإجراء تعديلات مستمرة على حسها بالهوية  الانتماءهويته. لقد أصبحت الهوية بالنسبة للشعوب الغربية عملية تفاعلية وليست إرثاً جامداً غير قابل للتعديل.

وفي هذه الأثناء تستمر المعركة، ومحاولات تبريرها. إذ راجت في الغرب والعالم في العقدين الماضيين مصطلحات مثل "العولمة،" و"صراع الحضارات،" و"الفوضى الخلاقة،"  و"ترويج الديموقراطية،" التي يرى الكثيرون فيها محاولة مستمرة لتسويغ إمبريالية جديدة والتي يرى البعض في تطورات مثل توسيع الناتو تعبيراً عنها.

الدول العضوة في حلف الناتو

ويقابل هذه المصطلحات في المعسكر الروسي مفاهيم مثل "تصحيح لخطأ تاريخي،" الذي استخدم لتبرير احتلال القرم، والدفاع عن "السيادة الوطنية" وحقوق المكون الروسي، وهما من الأعذار التي استخدمت لتبرير التدخّل في شرق أوكرانيا. بل تم استخدام مفهوم السيادة الوطنية أيضاً لتبرير دعم روسيا لنظام بشار الأسد.

بينما تسعى إيران اليوم إلى بسط نفوذها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا تحت عنوان "المقاومة" و"الممانعة،" ولقد سبق للنظام السوري أن استخدم هذين المصطلحين لتبرير احتلاله للبنان.

في المقابل تبنّت دول الخليج مهمة الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية (السنّية) من الهجوم "الشيعي الصفوي،" الأمر الذي مهّد الطريق أمام تدخّل سعودي سافر في كل من البحرين واليمن، وغير مباشر في سوريا والعراق ولبنان، بالتعاون مع دول الخليج الأخرى علاوة على مصر والأردن وتركيا.

وهناك من يرى أن "الربيع العربي" مصطلحا مخترعاً جاء لتبرير ثورات مصطنعة هدفها تحقيق مصالح عربية معينة. لكن المشكلة في هذا الطرح تكمن في تجاهله التامّ لدور الظروف الموضوعية في الأمر مثل الانفجار السكاني الذي تشهده المنطقة منذ عقود، وشحّ الموارد الطبيعية في بعض الدول، وتفشّي بعض الظواهر البيئية كالجفاف والتصحر، هذا علاوة على الممارسات الاستبدادية والفاسدة والفئوية لمعظم الأنظمة الحاكمة، ورغبة بعض القوى الإقليمية في تجيير المتغيرات الحاصلة لخدمة مصالحها الخاصة. ككما لاينبغي هنا إنكار مشروعية وجدية وأصالة المطالب الشعبية بالإصلاح وبالتحرّر من نير الاستبداد، حتى في واقع تخوّف بعض الشرائح والمكوّنات المشروع من عملية التغيير خشية أن يؤدي هذا الأمر إلى قمعها وتهميشها.

ومن الواضح، لمن لا يعاني من ظاهرة العمى الإيديولوجي، أن كل هذه الأطراف إنما تسعى وببساطة إلى تبرير ذات الظاهرة: النزعة الإمبريالية المتأصّلة في مفهوم الدولة والجماعة ذاته.

(4)

لذا، وإذا ما أردنا بالفعل أن نضع حداً لظاهرة الإمبريالية، فعلينا أن لا نقصر نقدنا على هذه الدولة أو تلك، بل علينا أن نبدأ بتحليل ونقد الظاهرة ذاتها بقواعدها المعروفة في محاولة لطرح بديل ناجع لكيفية تفاعل الشعوب والدول مع بعضها، بديل يمكن من خلاله تعزيز التعاون، وترشيد التنافس، وإيجاد وسائل سلمية لحلّ الخلافات والنزعات. لأن المشكلة هنا لا تكمن في سلوكيات بلد أو شعب بعينه، بل في السلوكيات التي دأب الأقوياء بشكل عام على تبنّيها عبر التاريخ حيال الآخرين، بصرف النظر عن المبادئ التي جاؤوا وادّعوا التمسّك بها. ففي غياب توازن مناسب للقوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، ستبقى عملية تفعيل وتطبيق المبادئ خاضعة لتلاعب الأطراف الأقوى.

جزر سبراتلي والباراسيل المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي

فلا يكفي لمحاربة هذه الظاهرة إذاً أن نكتفي بانتقاد الغرب وأمريكا، لأن تفوّق الغرب في هذا المجال مرتبط بشكل وثيق بتفوّقه في المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والمعرفية. أي أنه، ومن منطلق خضوع الجميع من الناحية العملية لقانون الغاب الذي مايزال يتحكّم في العلاقات الدولية، لا يرتكب أية جريمة هنا، ولا تشكّل سلوكياته استثناءاً للقاعدة بل تمثّلاً فاعلاً وخلّاقاً لها.

وفي الواقع، يشير التحليل الموضوعي لسلوكيات الدول اليوم، على اختلاف قدراتها، إلى غياب أية رغبة حقيقية عند النخب الحاكمة والمتحكّمة في  صنع القرار في كل دول العالم، والنخب الفكرية الخاضعة لها أو الواقعة، كلياً أو جزئياً، تحت تأثير إعلامها وأكاذيبها، في تغيير قواعد وطبيعة اللعبة. على العكس، فالكل يقبل باللعبة وقواعدها كما هي، والكل يشارك بها، والكل يسعى إلى التفوّق من خلالها لا على حسابها. ولا يوجد ما يثير الدهشة في هذا الوضع، فالرؤى الضيقة للنخب الحاكمة تجعلها غير قادرة على تخيّل وتشكيل البدائل، كما أن مخزوننا المعرفي والنفسي بتراكماته الهائلة ما زال يسوّغ لها الاستمرار في اللعبة كخيار أضمن وأكثر واقعية وعقلانية من المغامرة بتجريب وتفعيل مقاربات جديدة تماماً.

كما يشكّل غياب حسّ هذه النخب بالانتماء لأيّ شيء خارج الأطر والدوائر الضيقة التي بنوها من حولهم، وتحصّنوا وراء أسوارها، عاملاً إضافياً هاماً لتمسّكها باللعبة كما هي. وإذا كان بوسعنا أن نلحظ وجود هذه النزعة عند النخب الفاعلة في الدول الديموقراطية، فما بالك بالواقع المعاش في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية؟

(5)

وبسبب الطغيان الإيديولوجي على الفكر العالمي في هذه المرحلة، والانتشار الواسع للتحليلات المجتزأة، بل والمأجورة في الكثير من الأحيان، وهي ظاهرة لم تنجو منها حتى الأوساط الأكاديمية في الجامعات العالمية الأكثر شهرة ورقياً، قلة هم اليوم أولئك الأشخاص الذين يدركون الطبيعة الحقيقية وغير المنمّقة لما يجري من حولهم من تطورات، ويحاولون تحليل الأمور بالموضوعية والعقلانية الملائمة.

ومن هذا المنطلق، مانزال نجد أعضاء اليسار العالمي مصرّين على الاستمرار في نقد تصرفات أمريكا والغرب وحسب، في حين يدافع أغلبهم عن تصرفات مماثلة لروسيا وإيران والصين وغيرها من الدول، بل وعن تصرّفات طغاة من أمثال الراحل صدام حسين وذلك الآخر الذي اختار المشي في خطاه، بشار الأسد، ويبرّرونها، هذا إن لم ينكروها جملة وتفصيلاً من خلال طرحهم لتفسير تآمري مرتجل. لكن الواقع أن الأنظمة الحاكمة في هذه الدول "الطاهرة" و "البريئة،" لا تسعى من خلال نقدها لأمريكا ودول الغرب لقلب الأمور وتحقيق العدالة للجميع، أو حتى لشعوبها، بل إلى التعويض عن قلّة مهارتها في إدارة التفاعلات الدولية بغية تحقيق مصالح فئوية خاصة.

فالتوصيف الأدقّ لما يجري في العالم اليوم هو صراع مصالح، لا صراع حضارات ولاثقافات، فالحضارة الوحيدة الفاعلة على الساحة اليوم هي الحضارة الغربية، وكل ثقافاتنا المعاصرة متأثرة بها.

الحضارات بحسب طرح صامويل هانتينحتون


(6)

ومن العوامل الأخرى المساهمة في تخلّف الدول عن اللحاق بركب الغرب وحضارته التي أصبحوا جزءاً منها رغماً عنهم، مُكرهين على ذلك بقوة فكرها وثقافتها أولاً، ثم اقتصادياتها، ثم جيوشها: فساد النخب الحاكمة والمؤثرة، أو تمسّكها بتراث بالٍ للحفاظ على مراكزها، أو لجوئها إلى التقليد الأعمى للغرب من دون إجراء أية مراجعة نقدية للأفكار الوافدة منه، أو للتراث على ضوء المبادئ الوافدة. ذاته، علاوة على تراجع العمليات التنموية، أو غيابها نهائياً في بعض الأحيان، أو أي خليط من هذه الأمور.

ولايغرنّنا في هذا الصدد الخطوات الإيجابية التي تحققها الصين حالياً، أو تعنّت ورعونة الروس بقيادة قيصرهم الجديد، إذ سبق للاتحاد السوفييتي أن حقق إنجازات مماثلة قبل تراجعه وانهياره.

وحتى لو نجحت هاتان الدولتان وشركائهما حول العالم في مساعيهم لتقليص النفوذ الغربي من خلال اللعب وفق نفس القواعد، فلن يشكّل هذا الأمر تطوراً إيجابياً من الناحية الحضارية، بل انتاكسة كبيرة ومفجعة. فعلاوة على تعزيز الطبيعة السينيكية للعبة من خلال هذا "النصر،" ستتعزز أيضاً شرعية الطريقة النخبوية المنغلقة، فكرياً وسياسياً ومجتمعياً، في الحكم والتي لا يمكن مقاومتها إلا من خلال العمل لتأسيس أنظمة سياسية ومجتمعية منفتحة وديموقراطية ولامركزية.

إذ ترتبط عمليات الدمقرطة والتنمية المستدامة والتجديد الفكري والثقافي ببعضها البعض بشكل لصيق، ولايمكن إدارتها بفعّالية من فوق ومن المركز حصراً، إلا لفترت وجيزة في أفضل الحالات، ولايمكن استدامة أي انجاز أو نجاح تنموي أو "خارجي" مالم نحصّنه بتغييرات سياسية وحقوقية عميقة في الداخل. لأن التضحية بالحرية من أجل التنمية تفريط بهما معاً، وتأجيل التجديد الفكري والتحديث المجتمعي تخوّفاً من ردود أفعال القوى المتطرّفة، وتذرّعاً بذلك، هو استسلام وتمكين لهذه القوى بالذات، والإصرار على التعامل مع الشعوب وكأنها قطعان لا تبالي إلا بالرعي والمرعى هو البِذار الذي يفرز الثوارت الشعبية والفوضى.

وخلاصة الكلام: لايكفي أن يستنبط العالم مواثيق ومفاهيم جديدة حول العدالة والإخوة والمساواة، وحول حقوق الإنسان وعلاقته بالبئية المحيطة، ولايكفي أن نتبنّى أنظمة جديدة ناظمة للعلاقة ما بين الدولة والمواطن، وما بين الدول ذاتها، مالم نغير موازين القوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، وما بين المكونات والطبقات المختلفة لكل دولة على حدة. و لايمكن تحقيق أي من هذه الأمور وصولاً إلى تفعيل وتطبيق ما طوّرناه من مفاهيم ومواثيق إنسانية وحقوقية استناداً إلى تجربتنا التاريخية ومخزوننا المعرفي والخبراتي المشترك، بين ليلة وضحاها، وبلا تنظيم عالمي الطابع.

وتتلخّص مأساتنا اليوم بالذات في غياب تنظيم من هذا النوع عن الساحة العالمية بل ربما في غياب حتى تلك الشخصيات القادرة على بناءه والترويج له.