‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحضارة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحضارة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 30 أبريل 2016

لم نعد أمويين، ولا عباسيين، ولم تعد الدنيا بستاناً لهشامنا

طريق الحرير للفنان الصيني جيانج هونجيانج - 2008

لم نعد أمويين، ولا عباسيين، ولم تعد الدنيا بستاناً لهشامنا، ولم يعد ريع أمطارها حكراً على مليكنا المظفر. لقد دارت علينا الدوائر، وقضي الأمر. ولن نعود كما كنا مهما فعلنا. بل لا ينبغي للعودة أن تكون هدفاً لنا. لا العودة إلى الماضي ممكنة، ولا استرجاع أمجاده ممكن، خاصة إذا بقيت الغَلَبَة في منظورنا الثقافي المعيار الأساسي للمجد. إذ لم تعد القدرة على قهر الآخرين معياراً مناسباً للأمجاد اليوم، ولا يمكن، بل، لا ينبغي لها أن تكون. فالعدالة لا تكمن في تداول القهر. وإن بدا الأمر "طبيعياً" في السابق، لم يعد هذا تعريفاً مقبولاً للنصر. وإن تلاءمت أفعال سلاطيننا مع مبادئهم فيما مضى، أصبح التناقض بينها القاعدة اليوم. وفيما يصر البعض منا على التمسك بطرق الماضي وأفكاره، بدأ شيء ما في وعينا يتمرد على هذا الأمر. المجد اليوم تنمية ومعرفة وحرية أكثر منه سلطة وغلبة وقهر، ولا تسعى الدول القوية اليوم إلى قلب الموازين العالمية القائمة، بل إلى تعديلها فحسب. نحن من يصر على ربط المجد بالغلبة، ولأننا عاجزون عن مقارعة الأقوياء بغير أفواهنا، نكاد لا نفتر عن مقارعة أنفسنا، مستعينن غالباً بالأقوياءـ لكن، لا نصر لمن يصارع نفسه ما خلا الموت. وفي سعينا المستمر إليه، حبذا لو سألنا أنفسنا للحظة تأمل خاطفة: من نحن؟ إذ علينا أن نعيد تعريف أنفسنا اليوم لننهض من جديد، وأن نقول "لا  للغلبة، لا للقهر،" وأن نطالب بدرجة أكبر من الانسجام ما بين المعايير التي أصبحت مطروحة اليوم لتقييم الأفعال، وبين الأفعال ذاتها. لأننا، وإن لم نعد أمويين أو عباسيين، ما نزال بشراً، وما يزال بوسعنا المشاركة في صنع القدر، عوضاً عن أن نكون عبئاً عليه. وإن كان ذلك لا يتسنى لنا عن طريق الإقتداء بمن رحل، فبوسعنا أن نقتدي بمن حضر، بشعوب تلك الدول التي لم تعد تتمسك بالماضي وقيمه، وأصبحت علاقتها معه، كعلاقتها بالحاضر والمستقبل، علاقة جدلية الطابع أكثر منها تبعية. مع التنويه إلى كون الاقتداء شيء، والتبعية شيء آخر، وإلى أن الإبداع هو المبتغى هنا، وهو الفعل الذي نبحث عنه، وهو مفتاح عودتنا إلى المستقبل: الموطن الحقيقي للمجد.

الأحد، 24 يناير 2016

النصر الحضاري

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قام بزيارة إلى إيران في 23 تشرين الثاني، 2015 التقى فيها مع علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني.

إلى كل من يرى في الصفقة النووية انتصاراً ذا أبعاد حضارية وليس مجرد انتصاراً دبلوماسياً، اسمحو لي أن أذكركم أن العراق قبيل قرار صدام غزو الكويت كان على وشك تصنيع قنبلة ذرية وكان قد طور صواريخاً باليستية قادرة على إطلاق أقمار صناعية، وكان صدام يدير دولة مؤسسات قوية، وإن كانت خاضعة للعائلة الحاكمة وعدد من حلفائها، وهنا بالذات لب المشكلة التي أطاحت بكل ما تم إنجازه في عهده على حساب تضحيات ومعاناة الشعب العراقي. ففي مرحلة ما، وبعد فترة من النشاط، يؤدي الاستبداد بطبيعته التي تعظم من شأن الطبقة الحاكمة الحاكم، وتهتم بتنمية الولاء أكثر من اهتمامها بتنمية القدارات، إلى تعطيل الإنجازات وتهديمها.

لذا، ونظراً للطبيعة الاستبدادية الراسخة في النظام الحاكم الإيراني، يعد الكلام عن وجود أبعاد حضارية لـ "النصر" الإيراني الحالي ضرباً من  الهراء، فبضعة من الإنجازات التقنية والعسكرية المحدودة مصطحبة بشيء من المهارة الدبلوماسية لا تكفي لصنع حضارة. ففي عالمنا المعاصر هذا لا يمكن بناء الحضارة في غياب الحرية، ولا يمكن للدول القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو العقيدة السياسية أو القومية المغلقة (أي القومية التي تصر على التنكر لحقوق عناصر قومية أخرى في ربوعها)، والتي تعد بالضرورة دولاً رافضة للحداثة، أن تصنع حضارة. وعبر التاريخ بأسره لم تؤد الانتصارات العسكرية إلى قيام الحضارات ما لم تأت مصحوبة بانفتاح على المعرفة والعلم. إذاً، وفي الوقت الحالي، وبالمعنى الحضاري، لا وجود لمنتصر في منطقتنا. هناك فقط ثلة من الأشقياء يتصارعون على الفتات.


الأحد، 12 يوليو 2015

المصلحة والنظام الدولي بين البارحة واليوم

تصوير فني لمفهوم الإمبريالية الأوروبية

(1)

من بين المصطلحات الشائعة في القاموس العربي المعاصر مصطلحا الإمبريالية والكولونيالية، وهما مصطلحان حديثان نسبياً بدأ استخدامهما في مطلع القرن التاسع عشر لوصف مساعي الدول الغربية لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على العالم مستغلّة قوتها العسكرية. لكن الظاهرة بحد ذاتها، أي محاولة بسط النفوذ بالقوة، ظاهرة موغلة في القدم، بدأت مع انطلاقة المغامرة الإنسانية على سطح هذه المعمورة، ولم تقتصر أبداَ على دولة أو حضارة أو شعب أو دين بعينه. بل يمكن قراءة قصة الحضارة الإنسانية ككل على أنها سلسلة مستمرة من الغزوات والحروب والمحاولات الاستيطانية، كما فعل معظم المؤرخين القدماء والتقليديين، على اختلاف مشاربهم وحضاراتهم.

وتشكّل محاولة ابن خلدون من خلال مقدمته المعروفة استثناءً هاماً وثورياً لهذه القاعدة. ولهذا، ما يزال علماء الاجتماع والسياسة المعاصرون يتداولونها ويشيرون إليها في كتاباتهم حتى اللحظة. ومايزال لمفهوم "العصبية" الذي اقترحه ابن خلدون دور كبير في محاولاتنا العصرية لفهم وتفسير كيفية تعامل شعوب منطقتنا بالذات مع مسألة الهوية.

وعادة ما يستخدم الباحثون الإسلاميون، القدامى منهم والمعاصرون، مصطلح "الفتوحات" عند تعاملهم مع العمليات الإمبريالية والكولونيالية الطابع التي أسّس المسلمون من خلالها حضارتهم القديمة. وهو مصطلح احتفائي بالطبع كما يدلّنا التحليل اللغوي والتفسير العقائدي له. فما دامت الجهة المحتلّة والمستيطنة إسلامية المعتقد، لم يكن عند علماء وجهابذة الإسلام اعتراض عليها.

كما يستخدم الإسلاميون أحياناً مصطلح "الغزوات،" الذي قد يبدو للوهلة الأولى، من الناحية اللغوية على الأقل، أكثر "موضوعية" من مصطلح الفتوحات. لكن توخّي الموضوعية لم يكن الهدف من وراء طرح هذا المصطلح في الواقع، بل الرغبة في الإشارة إلى المعارك الصغيرة التي انخرط بها المسلمون ضد "أعدائهم" عبر التاريخ. إذ لا يجد المسلمون حتى اللحظة أيّ إشكالٍ في إصرارهم على التعامل مع الحروب التي شنّوها، أو شُنّت باسمهم، عبر التاريخ، من منظور احتفائي بحت.

الفتوحات


(2)

ويقابل مصطلحي الفتوحات والغزوات عند الغربيين مصطلحات متعدّدة، لا تقلّ عنها احتفائية، استخدمت لتبرير وتسويغ الحملات الإمبريالية والمغامرات الكولونيالية للغربيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك باستثناء أشهرها، أي مصطلح "الحروب الصليبية،"  الذي برز على الساحة الفكرية في القرون الوسطى.

أما والمصطلحات المعاصرة فمنها: "عبء الرجل الأبيض" White Man’s Burden، الذي تبنّاه المنظّرون البريطانيون في أواخر القرن التاسع عشر، وهو بالأساس عنوان قصيدة للشاعر والروائي البريطاني رديارد كبلينج Rudyard Kipling. و "البعثة التحضيرية La Mission Civilisatrice " الذي استخدمه الفرنسيون، في حين لجأ الأمريكيون إلى استخدام مصطلح "القدر الجليّ Manifest Destiny" لتبرير توسّعهم عبر القارة الأمريكية وتهميشهم للسكان الأصليين ومحاولاتهم الفاشلة لاحتلال المسكيك.

أما الروس، وهو الشعب الذي مايزال اليسار العالمي يصرّ على تجاهل مغامراته الإمبريالية أو تبريرها على أنها استراتيجية استباقية للدفاع عن النفس والوطن، فقاموا بإطلاق مغامرتهم الإمبريالية المعاصرة، والأكبر في تاريخهم، تحت الشعار الماركسي "يا عمال العالم اتحدوا،" وغيره من الشعارات الشيوعية والسوفييتية.

في حين استخدم الصينيون، ومازالوا، مفهوم السابقة التاريخية (في إشارة إلى سيطرتهم في مرحلة تاريخية ما على المنطقة قيد البحث) ورغبتهم في مساعدة الشعوب المتخلّفة ي منطقتهم على تنمية نفسها لتبرير احتلالهم للتيبت وكشغر (شينشيانج)، وفي مطالباتهم الحالية فيما يتعلق بالجزر الواقعة في بحر الصين الجنوبي.

لاننسى طبعاً الألمان ومصطلح "المجال الحيوي lebensraum" الذي استخدموه لتبرير محاولتهم الفاشلة لإنشاء إمبراطورية عالمية جديدة هي الرايخ الثالث.

أوروبا تحت الاحتلال النازي

أما المغامرة الصهيونية، فتتفرّد وتتميّز عن المغامرات الإمبريالية والاستيطانية المعاصرة من حيث نشأتها كمحاولة يهودية لإيجاد حلّ لـِ "المسألة اليهودية" في الغرب وإنقاذ اليهود من خلال تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين. أي أن تحقيق المجد، وهو الأمر الذي غالباً ما يلعب دوراً هاماً في المغامرات الإمبريالية والكولونيالية التقليدية، لم يكن عاملاً في هذه المغامرة. أما فيما يتعلّق بتجاهل الحركة الصهيونية لحقوق الشعب الفلسطيني، فلا يعدّ هذا الأمر استثنائياً بحدّ ذاته، وإن بقي مداناً من منطلق إنساني وحقوقي، لأن محاولة شعب ما حلّ مشاكله أو تحقيق طموحاته على حساب شعب آخر هو جوهر النزعة الإمبريالية، والحركة الصهوينية إذاً لم تأت كاستثناءٍ لقاعدة الفعل الإمبريالي بل استمرار وتكريس له مع اختلاف هوية الجهة الفاعلة. ولاننسى هنا أنه عندما كان لليهود دولة ومجد في الماضي، سواء في فلسطين أوالخزر، لم تغب النزعة الإمبريالية عن ممارساتهم وكرهم. وفكرة أن اليهود هم "شعب الله المختار،" استخدم كمبرر لها بالطبع.

(3)

لكن هناك فرق هام حالياً ما بين الشعوب الغربية والشعوب الأخرى فيما يتعلّق بتعاملها مع المسألة الإمبريالية يتجلّى في المساعي الأكاديمية الغربية المستمرة لمراجعة المفاهيم المستخدمة لتبرير الإمبريالية وتبيان مغالطاتها ووجه النفاق فيها، ولاننسى في هذا الصدد أن أشهر مفكري ومنظّري اليسار العالمي هم من الغرب، وإن كانت مراجعة اليساريين لهذه الظاهرة إيديولوجية الطابع، مما يجعلها تركّز على البعد الأخلاقي والقانوني للظاهرة وعلى ممارستها من قبل الغربيين حصراً، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

وتؤثر هذه النزعة الإيديولوجية سلبياً على معظم تحليلات اليسار في هذا الصدد، خاصة من خلال تصويرها للآخرين كضحايا، وتبريرها أو تجاهلها لممارساتهم المماثلة. وأثناء ذلك يتم تغييب السياق التاريخي للظاهرة وارتباطها اللصيق بالطبيعة الإنسانية ومفهوم "المجموعة" المتميّزة عن الآخريات (قبيلة، عشيرة، قوم، دين) و مفهوم "الدولة." فحتى ما قبل تأسيس المدن والدول، كانت المجموعات تغير على أراضي بعضها البعض، وتحتلّها أو تستوطنها، وتستعبد أوتبيد سكانها الأصليين.

من ناحية أخرى، لابد من الإشارة إلى غياب أية محاولة جديّة لمراجعة المفاهيم والمصطلحات التاريخية من قبل الشعوب غير الغربية. ولهذا التقصير مدلولات أخطر من استمرار الغرب في محاولته لبسط نفوذه على العالم، لأنها فيها تجاهلاً لسرّ تفوّقه في اللعبة أساساً وهو: انفتاح شعوبه الكبير على النقد والتجديد وعلى نحو يسمح لها بإجراء تعديلات مستمرة على حسها بالهوية  الانتماءهويته. لقد أصبحت الهوية بالنسبة للشعوب الغربية عملية تفاعلية وليست إرثاً جامداً غير قابل للتعديل.

وفي هذه الأثناء تستمر المعركة، ومحاولات تبريرها. إذ راجت في الغرب والعالم في العقدين الماضيين مصطلحات مثل "العولمة،" و"صراع الحضارات،" و"الفوضى الخلاقة،"  و"ترويج الديموقراطية،" التي يرى الكثيرون فيها محاولة مستمرة لتسويغ إمبريالية جديدة والتي يرى البعض في تطورات مثل توسيع الناتو تعبيراً عنها.

الدول العضوة في حلف الناتو

ويقابل هذه المصطلحات في المعسكر الروسي مفاهيم مثل "تصحيح لخطأ تاريخي،" الذي استخدم لتبرير احتلال القرم، والدفاع عن "السيادة الوطنية" وحقوق المكون الروسي، وهما من الأعذار التي استخدمت لتبرير التدخّل في شرق أوكرانيا. بل تم استخدام مفهوم السيادة الوطنية أيضاً لتبرير دعم روسيا لنظام بشار الأسد.

بينما تسعى إيران اليوم إلى بسط نفوذها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا تحت عنوان "المقاومة" و"الممانعة،" ولقد سبق للنظام السوري أن استخدم هذين المصطلحين لتبرير احتلاله للبنان.

في المقابل تبنّت دول الخليج مهمة الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية (السنّية) من الهجوم "الشيعي الصفوي،" الأمر الذي مهّد الطريق أمام تدخّل سعودي سافر في كل من البحرين واليمن، وغير مباشر في سوريا والعراق ولبنان، بالتعاون مع دول الخليج الأخرى علاوة على مصر والأردن وتركيا.

وهناك من يرى أن "الربيع العربي" مصطلحا مخترعاً جاء لتبرير ثورات مصطنعة هدفها تحقيق مصالح عربية معينة. لكن المشكلة في هذا الطرح تكمن في تجاهله التامّ لدور الظروف الموضوعية في الأمر مثل الانفجار السكاني الذي تشهده المنطقة منذ عقود، وشحّ الموارد الطبيعية في بعض الدول، وتفشّي بعض الظواهر البيئية كالجفاف والتصحر، هذا علاوة على الممارسات الاستبدادية والفاسدة والفئوية لمعظم الأنظمة الحاكمة، ورغبة بعض القوى الإقليمية في تجيير المتغيرات الحاصلة لخدمة مصالحها الخاصة. ككما لاينبغي هنا إنكار مشروعية وجدية وأصالة المطالب الشعبية بالإصلاح وبالتحرّر من نير الاستبداد، حتى في واقع تخوّف بعض الشرائح والمكوّنات المشروع من عملية التغيير خشية أن يؤدي هذا الأمر إلى قمعها وتهميشها.

ومن الواضح، لمن لا يعاني من ظاهرة العمى الإيديولوجي، أن كل هذه الأطراف إنما تسعى وببساطة إلى تبرير ذات الظاهرة: النزعة الإمبريالية المتأصّلة في مفهوم الدولة والجماعة ذاته.

(4)

لذا، وإذا ما أردنا بالفعل أن نضع حداً لظاهرة الإمبريالية، فعلينا أن لا نقصر نقدنا على هذه الدولة أو تلك، بل علينا أن نبدأ بتحليل ونقد الظاهرة ذاتها بقواعدها المعروفة في محاولة لطرح بديل ناجع لكيفية تفاعل الشعوب والدول مع بعضها، بديل يمكن من خلاله تعزيز التعاون، وترشيد التنافس، وإيجاد وسائل سلمية لحلّ الخلافات والنزعات. لأن المشكلة هنا لا تكمن في سلوكيات بلد أو شعب بعينه، بل في السلوكيات التي دأب الأقوياء بشكل عام على تبنّيها عبر التاريخ حيال الآخرين، بصرف النظر عن المبادئ التي جاؤوا وادّعوا التمسّك بها. ففي غياب توازن مناسب للقوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، ستبقى عملية تفعيل وتطبيق المبادئ خاضعة لتلاعب الأطراف الأقوى.

جزر سبراتلي والباراسيل المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي

فلا يكفي لمحاربة هذه الظاهرة إذاً أن نكتفي بانتقاد الغرب وأمريكا، لأن تفوّق الغرب في هذا المجال مرتبط بشكل وثيق بتفوّقه في المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والمعرفية. أي أنه، ومن منطلق خضوع الجميع من الناحية العملية لقانون الغاب الذي مايزال يتحكّم في العلاقات الدولية، لا يرتكب أية جريمة هنا، ولا تشكّل سلوكياته استثناءاً للقاعدة بل تمثّلاً فاعلاً وخلّاقاً لها.

وفي الواقع، يشير التحليل الموضوعي لسلوكيات الدول اليوم، على اختلاف قدراتها، إلى غياب أية رغبة حقيقية عند النخب الحاكمة والمتحكّمة في  صنع القرار في كل دول العالم، والنخب الفكرية الخاضعة لها أو الواقعة، كلياً أو جزئياً، تحت تأثير إعلامها وأكاذيبها، في تغيير قواعد وطبيعة اللعبة. على العكس، فالكل يقبل باللعبة وقواعدها كما هي، والكل يشارك بها، والكل يسعى إلى التفوّق من خلالها لا على حسابها. ولا يوجد ما يثير الدهشة في هذا الوضع، فالرؤى الضيقة للنخب الحاكمة تجعلها غير قادرة على تخيّل وتشكيل البدائل، كما أن مخزوننا المعرفي والنفسي بتراكماته الهائلة ما زال يسوّغ لها الاستمرار في اللعبة كخيار أضمن وأكثر واقعية وعقلانية من المغامرة بتجريب وتفعيل مقاربات جديدة تماماً.

كما يشكّل غياب حسّ هذه النخب بالانتماء لأيّ شيء خارج الأطر والدوائر الضيقة التي بنوها من حولهم، وتحصّنوا وراء أسوارها، عاملاً إضافياً هاماً لتمسّكها باللعبة كما هي. وإذا كان بوسعنا أن نلحظ وجود هذه النزعة عند النخب الفاعلة في الدول الديموقراطية، فما بالك بالواقع المعاش في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية؟

(5)

وبسبب الطغيان الإيديولوجي على الفكر العالمي في هذه المرحلة، والانتشار الواسع للتحليلات المجتزأة، بل والمأجورة في الكثير من الأحيان، وهي ظاهرة لم تنجو منها حتى الأوساط الأكاديمية في الجامعات العالمية الأكثر شهرة ورقياً، قلة هم اليوم أولئك الأشخاص الذين يدركون الطبيعة الحقيقية وغير المنمّقة لما يجري من حولهم من تطورات، ويحاولون تحليل الأمور بالموضوعية والعقلانية الملائمة.

ومن هذا المنطلق، مانزال نجد أعضاء اليسار العالمي مصرّين على الاستمرار في نقد تصرفات أمريكا والغرب وحسب، في حين يدافع أغلبهم عن تصرفات مماثلة لروسيا وإيران والصين وغيرها من الدول، بل وعن تصرّفات طغاة من أمثال الراحل صدام حسين وذلك الآخر الذي اختار المشي في خطاه، بشار الأسد، ويبرّرونها، هذا إن لم ينكروها جملة وتفصيلاً من خلال طرحهم لتفسير تآمري مرتجل. لكن الواقع أن الأنظمة الحاكمة في هذه الدول "الطاهرة" و "البريئة،" لا تسعى من خلال نقدها لأمريكا ودول الغرب لقلب الأمور وتحقيق العدالة للجميع، أو حتى لشعوبها، بل إلى التعويض عن قلّة مهارتها في إدارة التفاعلات الدولية بغية تحقيق مصالح فئوية خاصة.

فالتوصيف الأدقّ لما يجري في العالم اليوم هو صراع مصالح، لا صراع حضارات ولاثقافات، فالحضارة الوحيدة الفاعلة على الساحة اليوم هي الحضارة الغربية، وكل ثقافاتنا المعاصرة متأثرة بها.

الحضارات بحسب طرح صامويل هانتينحتون


(6)

ومن العوامل الأخرى المساهمة في تخلّف الدول عن اللحاق بركب الغرب وحضارته التي أصبحوا جزءاً منها رغماً عنهم، مُكرهين على ذلك بقوة فكرها وثقافتها أولاً، ثم اقتصادياتها، ثم جيوشها: فساد النخب الحاكمة والمؤثرة، أو تمسّكها بتراث بالٍ للحفاظ على مراكزها، أو لجوئها إلى التقليد الأعمى للغرب من دون إجراء أية مراجعة نقدية للأفكار الوافدة منه، أو للتراث على ضوء المبادئ الوافدة. ذاته، علاوة على تراجع العمليات التنموية، أو غيابها نهائياً في بعض الأحيان، أو أي خليط من هذه الأمور.

ولايغرنّنا في هذا الصدد الخطوات الإيجابية التي تحققها الصين حالياً، أو تعنّت ورعونة الروس بقيادة قيصرهم الجديد، إذ سبق للاتحاد السوفييتي أن حقق إنجازات مماثلة قبل تراجعه وانهياره.

وحتى لو نجحت هاتان الدولتان وشركائهما حول العالم في مساعيهم لتقليص النفوذ الغربي من خلال اللعب وفق نفس القواعد، فلن يشكّل هذا الأمر تطوراً إيجابياً من الناحية الحضارية، بل انتاكسة كبيرة ومفجعة. فعلاوة على تعزيز الطبيعة السينيكية للعبة من خلال هذا "النصر،" ستتعزز أيضاً شرعية الطريقة النخبوية المنغلقة، فكرياً وسياسياً ومجتمعياً، في الحكم والتي لا يمكن مقاومتها إلا من خلال العمل لتأسيس أنظمة سياسية ومجتمعية منفتحة وديموقراطية ولامركزية.

إذ ترتبط عمليات الدمقرطة والتنمية المستدامة والتجديد الفكري والثقافي ببعضها البعض بشكل لصيق، ولايمكن إدارتها بفعّالية من فوق ومن المركز حصراً، إلا لفترت وجيزة في أفضل الحالات، ولايمكن استدامة أي انجاز أو نجاح تنموي أو "خارجي" مالم نحصّنه بتغييرات سياسية وحقوقية عميقة في الداخل. لأن التضحية بالحرية من أجل التنمية تفريط بهما معاً، وتأجيل التجديد الفكري والتحديث المجتمعي تخوّفاً من ردود أفعال القوى المتطرّفة، وتذرّعاً بذلك، هو استسلام وتمكين لهذه القوى بالذات، والإصرار على التعامل مع الشعوب وكأنها قطعان لا تبالي إلا بالرعي والمرعى هو البِذار الذي يفرز الثوارت الشعبية والفوضى.

وخلاصة الكلام: لايكفي أن يستنبط العالم مواثيق ومفاهيم جديدة حول العدالة والإخوة والمساواة، وحول حقوق الإنسان وعلاقته بالبئية المحيطة، ولايكفي أن نتبنّى أنظمة جديدة ناظمة للعلاقة ما بين الدولة والمواطن، وما بين الدول ذاتها، مالم نغير موازين القوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، وما بين المكونات والطبقات المختلفة لكل دولة على حدة. و لايمكن تحقيق أي من هذه الأمور وصولاً إلى تفعيل وتطبيق ما طوّرناه من مفاهيم ومواثيق إنسانية وحقوقية استناداً إلى تجربتنا التاريخية ومخزوننا المعرفي والخبراتي المشترك، بين ليلة وضحاها، وبلا تنظيم عالمي الطابع.

وتتلخّص مأساتنا اليوم بالذات في غياب تنظيم من هذا النوع عن الساحة العالمية بل ربما في غياب حتى تلك الشخصيات القادرة على بناءه والترويج له.


الأحد، 3 مايو 2015

ما بعد الإيديولوجيا


1.

السياسة بمفهومها المعاصر هي فن وعلم إدارة المصالح الجمعية الحيوية. وللمبادئ دورها الهام هنا، خاصة في المجتمعات الديموقراطية، لكن ليس على حساب المصالح، وهذا سرّ تخبّط الغرب المستمر في تعامله مع المجتمعات الأضعف والأفقر. إن إغراء استغلال التفوّق المادي والحضاري لخدمة مصالح جوهرية يبدو أقوى من أي مبدأ.

ومع ذلك، وخلافاً للاعتقاد السائد في منطقتنا وربما العالم، الأمر ليس بهذه السهولة، فهناك نقاش جدي يجري في الغرب حول ضرورة وكيفية الموازنة ما بين المبادئ والحقوق من جهة، والضرورات والمصالح الجمعية الحيوية للدول الغربية والنامية من جهة أخرى. ولهذا النقاش دور كبير ومتزايد في صنع القرارات المصيرية في الغرب خاص حيالنا. لكنا وما بقينا ضعفاء ومصرّين على الاصطفاف وراء أنظمة وعقائد بائدة لا تنتج إلا الموت ولا تستقطب إلاه، لا يمكن لنا أن نضغط على الغرب لتغيير سياساته حيالنا. وسيبقى الغرب يتأرجح ما بين سياسات منفتحة على مصالحنا الجمعية وتلك اللامبالية بها إلى حين ننجح في خلق توازن تنموي وسياسي معه. وللغرب، ولأمريكا تحديداً، دور إيجابي محتمل فيما يتعلق في بناء نظام أكثر عدلاً فيما لو عرفنا كيف ندفع في ذلك الاتجاه عن طريق العمل على بناء شركات مع التيارات المختلفة فيه، عوضاً عن الانكفاء على أساليب وخطاب الممانعة العدمية.

2.

ولا نملك في الواقع رفاهية العمل مع تيار سياسي واحد في الغرب، سواء كان يمينياً أم يسارياً، فمن الواضح أن أولويات هذه التيارات لا علاقة لها باحتياجاتنا، بل باحتياجات مجتمعاتها المادية والمعنوية، وبرؤى إيديولوجية قد لاتتناسب مع مصالحنا العميقة. إن انتقادات هذه التيارات لمجتمعاتها حتى فيما يتعلق بالسياسات الخارجية هو انتقاد داخلي بحت يهدف إلى الكشف عن حقائق وأطراف وعمليات لها علاقة بتحولات داخلية في هذه المجتمعات وتفعالات مراكز القوى المختلفة فيها. إن استخدام هذه الانتقادات من قبلنا دون فهم للأبعاد الداخلية المكونّة لها يجعلنا نتعاطى مع العالم من منظور مشوَّه ومشوِّه.



ودعونا لا ننسى في هذا الصدد أن هذا النقد الداخلي ليس موضوعياً دائماً، بل غالباً ما يعكس الصراعات الإيديولوجية والمصلحية الدائرة ما بين القوى المختلفة المشكّلة للمجتمع، لذا، فغالباً ما يصلنا مشوباً بالأكاذيب والمبالغات والاتهامات المغرضة التي يصعب تحليلها والتعرّف عليها حتى من قبل أذكى المحللين والخبراء المحليين ناهيك عنّا بجهلنا المدقع لواقع الحياة السياسية في الغرب، أو للحياة السياسية بشكل عام. لذا، ترى معظمنا يأخذ من هذه الانتقادات ما يناسب تصوراته المسبقة عن الغرب وحسب.

3.

لكنا لا نملك رفاهية الإيديولوجية والتصورات المسبقة، ولا رفاهية الخلط ما بينها وبين المبادئ المستندة إلى الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. إن الدعوة إلى تعاملنا مع الأمور من منطلق ذرائعي لن يؤدي إلى التخلي عن المبادئ، كما يروّج البعض، بل هو انتصار وتفعيل لها. لا ينبغي على الصراعات الداخلية للغرب وللمنظومة السياسية والأمنية الدولية والإقليمية أن تملي علينا أولوياتنا، بل عليها أن تنبع من احتياجاتنا الخاصة واستقرائنا لواقعنا المعاش. وأذا اقتضى الأمر من أجل تلبية هذه الاحتياجات أن نتواصل مع أمريكا أو فرنسا أو حتى إسرائيل فليكن، فالتواصل لا يعني التنازل عن الحقوق ولايؤدي إليه. إن إعادة بناء أي جزء من سوريا على أية حال، سيتطلب منا الكثير من التواصل والتنازل في المستقبل. وربما لو عرفنا كيف نتواصل في الماضي لما وجدنا أنفسنا في هذا الموقف اليوم.

4.

آن الأوان لندرك أن معظم منتقدي النزعة الإمبريالية عند القوى الغربية لا يسعون في الواقع إلى وضع حدّ للمغامرات الإمبريالية بشكل عام بل فقط إلى المغامرات الغربية وذلك لتعارضها مع مغامراتهم الخاصة. لذا، نرى أن انتقاد إيران لإمبريالية أمريكا والغرب لم يمنعها من الانخراط في مغامرات إمبريالية خاصة بها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكذلك نرى أن انتقادات روسيا لأمريكا لم تمنعها عن اجتياح جورجيا أو القرم أو شرق أوكرانيا.

أما فيما يتعلق بانتقادات شخصيات يسارية تعيش في الغرب لسياسات الغرب مع امتناعها عن انتقاد سياسات مثيلة لروسيا وإيران فهي إما ناتجة عن عماء إيديولوجي يرى في المغامرات الإمبريالية الغربية خطورة أكبر على أمن العالم من تلك التي تقوم بها روسيا وإيران وغيرها من الدول الاستبدادية، أو محض سذاجة، أو، وبصريح العبارة، عمالة.

ولنسأل أنفسنا هنا، وفيما يتعلّق بالثورة السورية تحديداً، هل قدّمت هذه الشخصيات اليسارية الغربية التي طالما ادعت أنها تدعم قضايانا، وطالما انتقدت المغامرات الإمبريالية الغربية، والسياسيات الإسرائيلية الصهيونية، أي مقترح منطقي وعملي لحلّ الأزمة في سوريا؟ وماذا فعلت غير أنها دافعت عن الأسد ونظامه واتهمتنا وبإصرار بالسذاجة والعمالة، وساهمت بنجاح بتقيّض محاولاتنا للتحصّل على دعم حقيقي للثوار أو حتى إنشاء منطقة حظر جوي كان يمكن لها فيما لم تم فرضها عندما طالبنا بها في منتصف 2011 أن تمنع التصعيد الذي نراه الآن، إن لم توقفه؟

إن في هذه المواقف أكبر دلالة على أننا لا نتعامل مع أشخاص منسجمين مع المبادئ التي يدّعون الإيمان بها، أو التي نظنّ جهالة منا أنهم يؤمنوا بها، وأن الاتهامات التي كالوها لنا عبر السنين الماضية ربما انطبقت عليهم أكثر.

لكن الواقع أن معظم هذه الشخصيات اختارت خوض غمار صراع داخلي لتغيير بنية مجتمعاتها، مدفوعة إلى ذلك بمزيج من المصالح الطبقية والرؤى الإيديولوجية، وأنها لا تقل استعداداً للمتاجرة بنا وقضايانا من خصومها الإيديولوجيين، بل هذا ما دأبت عليه عبر العقود الماضية، لكن معظمنا لم يتنبّه إلى ذلك لأن الأمر كان يتطلّب فهماً أعمق للعالم من حولنا، بثقافاته المتنوّعة والطبيعة المتشابكة لصيروراته الحقيقية. ولن نتمكن أبداً من فهم طبيعة هذه الصيرورات طالما أصرّينا على معالجة الأمور من ذات المنظور الذي أخذناه عن هذه الشخصيات. نحن بحاجة لمعالجة الأمور بتجرّد أكثر، وبعيداً عن أية أحكام مسبقة.

5. 

غالباً ما تجد الدول القوية وعبر التاريخ نفسها عرضة لإغراء المغامرات الإمبريالية، حتى دولة ضعيفة مثل سوريا لم تستطع أن تقاوم طويلاً إغراء استغلال الصراع الدائر في لبنان (الأضعف) في سبعينات القرن الماضي للانخراط في مغامرتها الإمبريالية الخاصة. الإمبريالية إذاً موجودة في البنية الجينية للدول، وعلينا أن نتعامل مع الأمر من هذا المنطلق. ومن هذا المنطلق، لا يوجد أي مبرر إيديولوجي للعداء مع الغرب، وأفضل طريقة لمقاومة أي توجه إمبريالي غربي هو السعي إلى تقوية موقفنا التفاوضي معه من خلال إجراء تحالفات إقليمية مصلحية، ولا تقوم هذه التحالفات إلا على أساس التنمية، والتبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي والأمني والعسكري، أما قضايا مثل الانتماءات  القومية أو الدينية أو الطائفية فغالباً ما تثبت أنها عوامل تفتيت وتهديم للتحالفات خاصة في حال تم محاولة استخدامها كحجر أساس لها، وذلك نظراً للتنوع المدهش الذي تعرفه المنطقة بهذا الخصوص، ونظراً لبروز شرائح اجتماعية هامة لم تعد ترى في هذه الانتماءات، الديني منها خاصة، طريقة مناسبة للتعريف عن نفسها وآمالها.

الإمبريالية: نهج سياسي يسعى لتوسيع رقعة نفوذ بلد ما من خلال النشاط الدبلوماسي، أو القوة العسكرية لمت في ذلك المغامرات الاستيطانية وتأسيس المستعمرات والتبعيات.

من ناحية أخرى، هناك دائماً مجال حقيقي للحوار مع الدول الديموقراطية، خاصة في حال نجحنا في تقوية موقفنا عن طريق بناء تحالفات إقليمية و/أو من خلال بناء علاقات مع التيارات السياسية المختلفة في هذه الدول والمؤسسات الفاعلة فيها. لكن هذه الفرصة غير متاحة فيما يتعلق بالدول ذات الأنظمة الاستبدادية، التي غالباً ما ستصرّ على تبعية الدول الضعيفة لها، دون أن تترك مجال للحوار إلا فيما يتعلق بطبيعة الالتزامات الناجمة عن هذه التبعية.

6.

نحن نعيش هذه الأيام في زمن الشركات العابرة للحدود، وهو الأمر الذي يرى فيه الكثيروا من منظّري اليسار واليمين شراً مستطيراً. لكن الحقيقة كالمعتاد أعقد من كل نظرياتهم.

فهذه الشركات، وإن مثّلت من خلال مجالسها الإدارية مصالح نسبة مئوية محدودة فقط، ربما أقل من 0.1%، فهي تمثّل، بشكل أو آخر، من خلال مكاتبها ومعاملها وأملاكها الشاسعة وارتباطاتها بالأسواق المحلية والعالمية مصالح عشرات بل مئات الملايين من الناس. وقد لا يكون هذا التمثيل عادلاً، لكن العدالة فيه لن تتحقّق من خلال إعلان الحرب على هذه الشركات والدعوة إلى تدميرها، الأمر الذي سيضرّ بمصالح الفئات الاجتماعية الأضعف قبل أن يؤثّر على مصالح الفئات النافذة والتي بحكم موضعها ستبقى أكثر قدرة على المناورة والتأقلم من باقي الفئات.

وهل سيصبح العالم أفضل فعلاً فيما لو غابت عن الوجود فيه شركات مثل إكزون وشل وتوتال وبريتيش بتروليوم، وفورد ومرسيدس وتويوتا، وكرافت ونستله وبيبسي كو، وجوجل وأبل ومايكروسوفت، وجونسون وجونسون وبفيتزر وآسترا زينيكا ونوفارتيس، وغيرها وغيرها؟ وهل أفرز منتقدو هذه الشركات ورأسماليتها "الاحتكارية البغيضة" بدائل أفضل عنها لإدارة الاقتصاد العالمي وإنتاج وتوزيع الأدوية والأغذية وتحسين حياتنا المعيشية على مختلف الأصعدة؟ وفي حال توفّر بدائل محلية هنا وهناك، فهل يمكن من الناحية العملية تصدير هذه البدائل وتفعيلها على المستوى العالمي؟ وهل هناك من يعمل بجدّ على هذا الأمر؟

من ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار الشركات النفطية والغذائية والإلكترونية والدوائية التي تتخذ من الصين وروسيا وغيرها من البلدان مقراً لها بديلاً أفضل عن الشركات الغربية، على الرغم من أنها تلعب وفق القواعد المبهمة إياها، بل وتستغلّ تواجدها في بلدان غير ديموقراطية للتلاعب بالسوق والناس بأكثر مما يمكن لنظيراتها العاملة في الدول الديموقراطية أن تفعل؟

الواقع أن معظم الانتقادات التي تتعرّض لها الممارسات الرأسمالية والإمبريالية لدول الغرب بشركاته ومؤسساته، قديمها وجديدها، لا تزيد عن كونها غطاءاً لمخطّطات لا تقلّ في جوهرها، إن لم يكن في حجمها، رأسمالية وإمبريالية عنها، ون اختلفت هوية اللاعبين والمستفيدين.



7.

ولا يتناقض اعترافنا بهذا الواقع مع حاجتنا إلى دفع الشركات العابرة للحدود لتصبح أكثر شفافية وعدلاً فيما يتعلّق بكيفية إدارة نشاطاتها وتوزيع أرباحها. لكن قدرتنا على النجاح في هذا المسعى ستبقى مرتبطة وبشكل حميم بمدى ديموقراطية النظم السياسية التي تنشط فيها هذه الشركات. من هذا المنطلق، فلاشكّ في أن العمل على تسهيل انتشار الديموقراطية في المزيد من الدول حول العالم سيعطينا فرصة أكبر لإصلاح عمل هذه الشركات وإعادة هيكليتها بما يتناسب مع تطلّعاتنا إلى عالم أفضل وأكثر عدالة لكل من فيه. في حين لا يمكن لإعلان الحرب عليها إلا أن يؤدّي إلى انتشار الفوضى. وحدها المجتمعات التي تحترم الحسّ الإبداعي في كل شيء من الفن إلى إدارة الإعمال يمكن لها أن تنمو وتنتعش. علينا أن نأخذ هذه الحقيقة بالاعتبار ونحن نطالب بوضع قواعد ناظمة لعمل المبدعين على اختلاف مشاربهم.

8.

وربما تواجهنا في الحياة أوقات قد لايكون لدينا فيها رفاهية الخيار، ونضطر فيها إلى التعامل مع الفوضى بكل مخاطرها، السافرة والكامنة، لكن السعي الواعي والحثيث وراء الفوضى ظنّاً منّا أنها الحل، أو أنها ستمهّد الطريق إليه، فهو نمط من الفكر لا ينجم إلا عن عقلية حاقدة وعدمية لا يمكن لها أن تفضي إلا إلى الدمار، والدمار فقط. وعلينا لذلك أن نناضل ضدّها كما نناضل ضدّ أية منظومة استبدادية، لأن ما ينتعش في أوقات الفوضى هو الاستبداد والظلم، لا الحرية والعدالة.

9.

قبل أن ندعو إلى دمار الشركات الرأسمالية الكبيرة العابرة للحدود، دعونا نسأل أنفسنا أولاً: هل بنينا بدائل حقيقية عنها قادرة على تمثيل مصالح الملايين من البشر الذين يعتمدون في معيشتهم عليها؟ وهل يمكننا أن ندّعي فعلاً أننا ندرك بالفعل مدى توغّل هذه الشركات ومساهمتها في تشكيل حياتنا اليومية، بحاضرها ومستقبلها، بإيجابياتها وسلبياتها؟

ولايغرنّنا في تعاملنا مع هذه الشركات تلك القصص التي نسمعها بين الحين والآخر عن مدى فساد كبار مدرائها ومستثمريها، ومدى غرائبية أولوياتهم الناجمة عن انقطاعهم عن الواقع المعاش لمعظم البشر. فهذه القصص تنبؤنا أكثر عن حدود النفس البشرية منها عن واقع عمل هذه الشركات وتأثيرها في حياتنا.

وفي الحقيقة، تتطلب منا احتياجاتنا اليومية أن نتعامل مع هذه الشركات كما نتعامل مع أية مؤسّسة تعمل في الفضاء العام وتؤثّر فيه، فهذا بحدّ ذاته يعطينا حقّ مسائلتها عن طبيعة نشاطاتها، وحقّ تحديد هذه النشاطات، وحقّ محاسبة هذه الشركات وفق القوانين المتفق عليها في المجتمع. وكلما كان المجتمع حراً وديموقراطياً كلما كانت فرصنا في مسائلة هذه الشركات ورسم الحدود المناسبة لها ولنا أفضل. أما المبالغة في العدوانية تجاهها فغالباً ما يجعلنا عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل قوى وجهات ربما كانت أجنداتها بالنسبة لنا أخطر لأنها تبقى مستبطنة.

وهنا لبّ المشكلة، فهذه الحرب التي نرى البعض يعلنها على الشركات الكبيرة العابرة للحدود هي في الواقع حرب كاذبة، زائفة، واهمة وخلّبية، وهي حرب على الشركات الغربية تحديداً من قبل أخرى طامحة إلى إضعافها وتبادل الموقع معها وحسب. إذ لا توجد أية نية هنا لتغيير قواعد اللعبة بشكل إيجابي، وكيف يمكن أن يتأتى هذا ومعظم اللاعبين هنا هم في الواقع ممثّلون للنخب الحاكمة في بلدان استبدادية الطابع مثل روسيا والصين وإيران. أي أن اللعبة هنا هي مجرّد امتداد للعبة السياسية التي أشرنا إليها سابقاً، بل هي الدافع الحقيقي وراء اللعبة السياسية.

10.

إن اليسار الذي نجح في الغرب هو اليسار الذي عمل ضمن الإطار العام لاقتصاد السوق، فنبذ التوجّهات الإيديولوجية المطّاطة وفضّل التركيز على القضايا التفصيلية مثل النقابات وحقوق العمال، والرعاية الصحية، والتعليم، وحقوق المرأة، والشؤون البيئية، وحماية المستهلك، إلخ. إن نسيان أو تناسي هذا الأمر من قبل النخب اليسارية اليوم سيعيد اليسار عقوداً إلى الوراء، وسيحوّله إلى حركة عدمية مفرزة  للإرهاب على غرار الحركات الفوضوية في مطلع القرن العشرين.

إن اليسار الذي عاد إلى البروز على الساحة السياسية الغربية اليوم هو يسار زائف تحركّه أيدي ونوايا وقوى احتكارية استبدادية فاسدة تجعل من انتقاداتنا واعتراضاتنا على الحكومات والمؤسسات والشركات الغربية تبدو وكأنها شكاوى طفولية. وماعلينا هنا إلا معاينة سلوكيات الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الروسية والصينية والإيرانية، وتصرفات كبار مدرائها ومستثمريها لنعرف ما الذي ينتظرنا. أنه ليس عالماً أفضل وأكثر حرية وشفافية وامتثالاً للمسائلة الشعبية، وأكثر عدلاً فميا يتعلّق بتعامله مع العامل والفلاح والمدرّس والفنان والمبدع، بل هو عالم أكثر صلافة فيما يتعلّق باستهتاره بحقوق الناس وقدراتهم واحتياجاتهم الأساسية.

11.

لكن، ومن الواضح أن اليمين في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، بات يتصرّف بالصلافة ذاتها، وذلك من خلال تلاعبه بالأنظمة السياسية والقانونية، وسعيه المستمر لإعفاء الشركات الكبرى ومستثمريها من أية مسائلة، على الرغم من تكاثر فضائحها وتعالي وتيرة الانتقادات الموجّهة لها فيما يتعلّق بكيفية إدارتها، وأدائها، واعتمادها المستمر، خاصة في أوقات الأزمة، على الدعم الحكومي. ولقد بات الكثير من الأكاديميين الغربيين ينظرون إلى بعض هذه الأنظمة السياسية، وخاصة النظام الأمريكي، على أنها باتت في جوهرها أقرب إلى الأوليجارشية منها إلى الديموقراطية. في الأمر الكثير من المبالغة بالطبع، خاصة في هذه المرحلة، لكنه جرس الإنذار يُقرع.

هناك في الواقع حاجة ملحّة إلى مراجعة الكثير من القواعد والقوانين الناظمة لعمل الشركات الكبرى في الغرب، والتي بات صلف بعضها يهدّد أمن الغرب ذاته من خلال تلاعبها بالنظام السياسي والضريبي، والتسهيلات المصرفية التي تقدمها لكثير من الجهات المريبة (التي ينحدر أغلبها من خارج الغرب)، إلى استعدادها للتعامل مع الأنظمة المعادية للغرب وتصدير التقنية لها، إلخ.

12.

أما فيما يتعلّق ببعض القوى الصاعدة والديموقراطية الطابع مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، فالواقع أنها، وبسبب أنظمتها الديموقراطية، وبصرف النظر عن تصريحات زعمائها السياسيين والتي غالباً ما تعكس حسابات سياسية داخلية ونادراً ما تؤثر على السياسات العملية الناظمة لعلاقة هذه الدول مع الدول الغربية، ستبقى تحافظ على علاقات ودية مع الغرب، وستبقى تتمحور حول البنى العالمية الاقتصادية والمالية والسياسية والقانونية التي بناها، وجلّ ما ستحاول التوصّل إليه هو بناء شركات أكثر تكافئاً معه.

13.

إن سرد بعض الحقائق مثل كون نصف الثروة المالية في العالم مملوكاً من قبل أقل من 80 شخصاً قد يبدو وكأنه إدانة واضحة للرأسمالية، لكن التدقيق في الأسماء يوضح مدى تعقيد القضية، فالائحة تشمل شخصيات مثل بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، ومارك زكربيرج، مؤسس شركة فيسبوك، ولاري بيج وسيرجي برين، مؤسسي شركة جوجل، وغيرهم. أي أننا نتعامل هنا ليس فقط  مع شخصيات قد يكون لبعضها ارتباطات ونشاطات مشبوهة (ومعظم هذه الشخصيات بالمناسبة تقطن دولاً غير ديموقراطية، مثل روسيا والصين والسعودية، أو دولاً ما تزال عمليات التنمية والتحديث فيها متأخرة مثل الهند والمكسيك ونيجيريا)، بل مع الكثير من الشخصيات الإبداعية التي لعبت وماتزال أدوراً إيجابية في حياتنا عن طريق الشركات التي أسّستها. ليس من العدل أو الحكمة أن نتعامل مع كل هذه الشخصيات وكأنها مجبولة من عجينة واحدة.



لكن، ما بوسعنا إنكار الإشكالية المتمثّلة في ظاهرة الثراء الفاحش، لأن الثراء نفوذ ذو تجليات سياسية واجتماعية جمّة ومتشابكة، بل مستترة، وبصرف النظر عن النوايا، وهنا لبّ المشكلة. من ناحية أخرى، لا يمكننا تجريم الإبداع، أو التعامل معه بكثير من الارتياب، أو وضع حدود غير مدروسة لمدى قدرة المرء على تحويل إبداعه إلى ثروة.

الواقع أن الثروة، كما الإبداع، مسؤولية والتزام، أي قضية ذات أبعاد سياسية واجتماعية وأخلاقية، لكن التعامل مع القضية من هذا المنطلق يتطلّب خطاباً أقل عدوانية وأكثر عقلانية من الخطاب السائد حالياً في الأوساط اليسارية التقليدية.

14.

إن استغلال الشركات الغربية للعمالة الرخيصة في مجموعة من الدول النامية يستحق الإدانة في بعض تجلّياته المتمثّلة في عمالة الأطفال وعدم احترام القواعد المتعلّقة بشروط العمل الآمنة والعادلة، لكن الإدانة العامة للظاهرة تتجاهل الدور الإيجابي لهذه الشركات في تحسين الشروط المعاشية للمجتمعات المحلية عند توفر الرقابة المناسبة بالطبع. وعلينا أن لا ننسى هنا مسؤولية الدول المضيفة في الإشراف على نشاطات هذه الشركات، ولاشك في أن العمل على تقوية المجتمعات المدنية المحلّية وعلى زيادة نسبة الانفتاح السياسي في البلاد المضيفة سيلعب دوراً هاماً وفاعلاً فيما يتعلّق بقضية الرقابة.

15.

إخفاقاتنا المتكرّرة في تحقيق أهدافنا ليست مفاجأة، وعليها أن لا تثبط من عزائمنا، فنحن ومنذ ولدنا نعمل في الزمن الضائع في وجه تحدّيات شبه مستحيلة، لكن نجاحاً واحداً قد يكفي لقلب المعادلة، وهو لن يتحقّق من خلال العمل ضمن القوالب المعهودة. نحن لسنا بحاجة لأفكار جديدة وحسب، بل إلى طرق وأنماط جديدة للتفكير والتحليل لكي نتمكّن من تحقيق النجاح المنشود.

16.

علينا أن نضع الإنسان قبل أي اعتبار أو مفهوم سياسي في حساباتنا، بما في ذلك مفاهيم كالسيادة والحدود، فهذه الأمور كانت وستبقى دائماً عرضة للتغير، وحده الإنسان هو الثابت هنا، والتنمية هي الضرورة الحقيقية التي تواجهنا، لأنها مفتاح تحقيق التوازن الذي قد يسمح لنا بالحفاظ على وجودنا في خضم صراعات لم نختارها لكننا، شئنا أم أبينا جزء منها، وسنبقى.

17.

نحن لا نمثّل لا الأمويين ولا العباسيين ولا العرب ولا المسلمين، بل ولا أحد من الشعوب الماضية أو الحاضرة، لا أحد ما خلا أنفسنا. وإذا كانت هويتنا كسوريين بحدّ ذاتها ما تزال مائعة بحيث أخفقت في منع اندلاع هذه الحرب التي نخوضها اليوم، فكيف لنا أن نفكّر بما هو أكبر منها؟ نحن بحاجة إلى بداية جديدة، ولا يمكن لهذه البداية أن تبدأ من دون نقاش مفتوح حول هويتنا المعاصرة.

من نحن؟ لا، لسنا بحاجة للاتفاق على جواب واحد واضح لهذا السؤال، بل على طريقة تسمح لنا بتقديم إجابات مختلفة دون أن ننقلب على بعضنا البعض ونمعن تخويناً وتكفيراً وتقتيلاً في أنفسنا، نحن بحاجة للاتفاق على كيفية مناسبة لرسم الحدود ما بين فضائاتنا الحيوية المختلفة لكي نعيش، ونحسن العيش، فننمو وننضج.

18.

نحن لسنا مسؤولين أمام آبائنا وأجدادنا بقدر ما نحن مسؤولون أمام أبنائنا وأحفادنا. رأي السلف فينا لا يقدم ولايؤخّر، لأنه لا يمكن لنا إلا التكهّن حول طبيعته وحسب. أما رأي أبنائنا وأحفادنا فينا، فمعظمنا سيسمعه قبل موته، ولا أعتقد، نظراً لواقعنا المعاش، أنه سيكون إيجابياً بمجمله، فمن كان أكثر اهتماماً بما ومن مضى منه بما ومن سيأتي لن يزرع ما يكفي من المحبة والاستحقاق في حاضره ليكترث به ذلك الأتي.

نحن نحصد اليوم كشعب أو شعوب ذات اللامبالاة التي زرعناها في أنفسنا بالأمس القريب، وسيبقى حالنا كذلك حتى نتّخذ أولادنا وأحفادنا غايات سامية تستحقّ منّا كلّ تضحية، ونتوقّف عن استخدامهم كوسائل وأدوات لخدمة نرجسياتنا، وقرابين وأضاحيّ لها.

19.

لقد جاءت ثورات الربيع العربي بالنسبة للكثير منا كثأر للماضي واستجرار لآلامه أكثر منها انفتاحاً على المستقبل وعلى التغيير الذي لابد له أن يجلبه في طياته، ولهذا فشلت، على الأقل في مراحلها الأولى هذه، فهي في الواقع ما تزال مستمرة. والأمر نفسه بالنسبة ينطبق على من عارض الثورات ووالى الأنظمة، فولا تغلغل الماضي في وعيهم وذواتهم، لأبصروا الاحتمالات الإيجابية التي يمكن للتغيير أن يجلبها لهم فيما لو شاركوا في تشكيله.


الأحد، 15 سبتمبر 2013

الضياع


الإسلامي "مرسي" يسمح لسفن إيرانية أن تمر عبر قناة السويس حاملة معها أسلحة لنظام الأسد ليقمع بها ثورة شعبية يمثلها في الخارج ذات الحراك الإسلامي الذي ينتمي إليه مرسي.

علمانيو حركة تمرّد وجيش مصر بقيادة السيسي يعارضون أي ضربة أمريكية ضد نظام الأسد. الكثير من علمانيي تونس يؤمنون بأن الثورة السورية مؤامرة ضد نظام المانعة، ولا يبدون أي تعاطف مع الثوار ومطالبهم المشروعة ويتهمون من يطالب بالتدخل الدولي بالخيانة، وكأن ثورتهم نجحت دون تدخل. في حين يقوم الجهاديون الوافدون في احتفار إمارات لأنفسهم على أرضنا على حساب آمال الثوار وتطلّعاتهم الحقيقية. قيادات في حركة حماس مع الثورة، وقيادات أخرى ضد.

اليسار العالمي يقف ضد الثورة السورية وضد الضربات المحتملة ويتبنّى وجهة ظر الأسد فيما يتعلّق بالثورة، متناسياً حقوق الإنسان وتطلّعات الشعوب الشرعية لما هو أفضل...

في كل دولة، في كل مكان، في سوريا نفسها، هناك شرخ، هناك انقسام، هناك معضلة عابرة لحدود سوريا بأرضها وسمائها. أين هي الهوية المشتركة؟ أين العروبة؟ أين الإسلام؟ أين البعد الإنساني المزعوم للإشتراكية والشيوعية؟ أين الفكر الحر؟ أين النخب؟ الكل يزاود على الكل في مسألة الوطنية، والكل يخوّن الكل. لا وجود لرؤى مشتركة، لا وجود لاستراتيجيات، لا وجود لخطط إلا لبقاء البعض في السلطة أو لتصدّر المشهد الإعلامي.

نحن شعوب لا وجود لها على ساحة الحياة والحضارة لأنها حتى اللحظة لا زالت لا تفقه من هي، وليس لها بالتالي أولويات مناسبة فيما يتعلّق بما تواجهه من تحديات. من نحن؟ هل مايزال هناك أي معنى لهذا السؤال؟ يسار، يمين، شمال، جنوب، شرق، غرب، أين نحن من الإعراب؟ ما معنى كل المسمّيات التي نشأنا عليها: إسلام؟ اشتراكية؟ شيوعية؟ عروبة؟ مقاومة؟ وحدة؟ وطن؟ لماذا لا يجلب لنا الناطقون بهذه المسميات إلا الدمار ولماذا نستمر بالإصغاء إليهم والانصياع لهم؟ أين المشكلة: فيهم؟ فينا؟ في المسمّيات نفسها؟ فينا جميعاً؟ كيف نحدّد المشكلة، هل سنتمكّن يوماً من تحديد ماهية المشكلة لنعرف كيف نحدّد الحل؟ هل من خلاص؟

وهاهو الغرب بقادته يثبت لنا اليوم أن الأزمة أعمق مما نتصوّر؟ فالغرب نفسه بات لايعرف ما موقعه من الإعراب. تعب الغرب من التصدّر والقيادة بعد أن سعى إليهما بشقّ الأنفس، أنفسنا خاصّة.

إلى أين نمضي هكذا كالعميان؟ وإلى متى هذا التخبّط؟ 


الجمعة، 10 سبتمبر 2010

عزيزي المناضل

مدينة أوغاريت، سوريا

بعض الأفكار والمقترحات الليبرالية لثوار اليوم والمستقبل

عزيزي المناضل،
يسرني دائماً أن أسمع منك، وتغمرني سعادة عارمة عندما أقرأ كلماتك وإن شابها بعض العتب واللوم الذي ربما كان بعضه مُستحقّاً. لكن ما يقلقني في خطابك هو التسرّع في إطلاق بعض الأحكام القاطعة حول ما تسمّيه بـ "المسلّمات" مما قد لايترك مجالاً كبيراً للتحاور، أو... أو لعلّه يفتح الباب على مصراعيه للقيام بمراجعة شاملة لهذه المسلّمات. ففي وقت ليس بوسعنا فيه على ما يبدو أن نتّفق على أي شيء ما خلا ضرورة التغيير، فيما نختلف حول كل ما يتعلّق بآلياته وطبيعته وتوجّهاته، وبالطبع، وقبل كل شيء، في إمكانية تحقيقه ذاتها، تبدو عملية مراجعة المسلّمات نقطة مناسبة وطبيعية للبدء بالتحاور، علّنا نتوصّل إلى تفعيل بعض الأفكار والآليات المتعلّقة بعملية التغيير.

تقول أن لاداعي لاستعجال المواجهة في هذه المرحلة الحرجة وأن الملوك والحكام دائماً إلى زوال لكنّ الشعوب تبقى. هذه لعمري مغالطة كبرى. فالتاريخ ينبؤنا أن الزوال ليس مصير الملوك والحكام فقط، وأن الشعوب والأوطان كلها قابلة للزوال أيضاً. فأين هم، على سبيل المثال،  كنعانيو سوريا، وأين هي سومر العراق؟ لا، لاتقل لي أن سوريي اليوم هم كنعانيو الأمس، وأن بغداد اليوم هي سومر الأمس – شتان ما بين الإثنين. فالشعوب بهويتها وحسّها بالانتماء وليس بشخوصها وتعدادها. وكذلك الأوطان، فهي ليست مجرّد أماكن ورموز بل واقع يُعاش وذاكرة حية، مستمرّة، واعدة – أي ذاكرة حاضر، وليس فقط ذاكرة ماضي. بل عليها أن تكون ذاكرة حاضر أكثر منها ذاكرة ماضي إذا ما أردناها أن تكون حرة.

لقد اندثرت الهوية الكنعانية منذ ألوف سنين، ودُمّرت سومر القديمة بالكامل. إن قدرة البشر على الاستمرار شيء وبقاء الشعوب كشعوب ذات هويّات محدّدة شيء آخر. سوريو اليوم ليسوا كنعانيين، لالغة، ولاثقافة، ولاانتماءاً، وإن انحدروا منهم. وسورية اليوم ليست كنعان الأمس، لاجغرافياً، ولاثقافياً، ولاحضارياً، وإن نشأت في البقعة الجغرافية ذاتها تقريباً. ليست وحدها الحدود التي اختلفت، بل عناصر ومعايير الهوية والانتماء كذلك. العرق والدين واللغة لم تعد عناصر كافية لتحديد الهوية والانتماء في هذه الأيام، هناك بلاشكّ عناصر جديدة على الساحة. ماهي؟ هذا هو السؤال، وإنه لعمري سؤال كبير وواسع تتطلّب معالجته أبحاثاً كثيرة، لكن يكفي أن أنوّه هنا إلى تنامي الانتماء الطبقي كعنصر جامع لأفراد ومجموعات من شتى أنحاء العالم على اختلاف لغاتهم وأصولهم العرقية والقومية والدينية، فقد يكون لهذا الأمر دور كبير في تشكيل وصياغة التفاعلات والصيرورات العالمية في النصف الثاني من هذا القرن، خاصة في أواخره. وإن شابت روح الماركسية تعليقي هذا، فمن قال أن الليبراليين لايقرأون ماركس ويوافقون على بعض استنتاجاته؟

وعود إلى بدء أقول: نحن في عصر تجد فيه الشعوب والأوطان نفسها أكثر عرضة لخطر الزوال من حكامها. قد لاتزول اللغات والأديان في هذه المرة، على الأقل، ليس بشكل سريع ومباشر، لكن الفاعلية التاريخية والقدرة على التأثير على الصيرورة التاريخية ذاتها هي ما قد يزول، مما سيمهّد الطريق إلى المزيد من التشرذم في الهوية والحسّ بالانتماء، وفي ختام المطاف إلى ظهور أنماط ثقافية جديدة قد لاتكون بالضرورة أكثر تقدّماً ورقيّاً من حيث سوية الوعي والمعرفة من سابقاتها. ففي غياب الرؤية والمشروع، وفي غياب الزخم الناتج عن تفاعل إيجابي مع مجريات الأمور، لايمكن لعملية فرز جديدة أن تساهم في بناء صروح ومؤسّسات حضارية جديدة، ولن تشكّل الكيانات الجديدة التي ستظهر على الساحة عنصراً محرّضاً ومساعداً على التقدّم، بل على العكس ستكون معيقاً ومحبطاً له. وبوسعنا في هذا الصدد أن نتكلّم عن "طلبنة" أو "صوملة" ما، حتى وإن لم نكن نتكلّم بالضرورة عن بلد ذي أغلبية عربية أو إسلامية، لارتباط هذين المصطلحين بصور أبلغ تعبيراً عن مضامين ما نتحدث عنه هنا من أية كلمات. ومما لاشكّ فيه هنا أن لغياب الحرية، بأبعادها السياسية والفكرية، وبالتالي غياب المسائلة وروح الإبداع، دور كبير وخطير في تحديد طبيعة عمليات الفرز الجارية، وما إذا كانت تمثّل عمليات بناء حضاري أم تفتيت هويّتي ومعرفي وبنيوي ومجتمعي.

لذلك كله، تشكّل عملية استعجال المواجهة، ضمن حدود المعقول طبعاً وإلّا لكانت المواجهة بالضرورة خاسرة، محاولة ضرورية على طريق درء مخاطر الانهيار البنيوي والهويّتي الشامل الذي تقودنا إليه أنظمتنا الحاكمة بالتعاضد مع التيارات الفكرية الداعمة لها وتلك الناجمة عن استبدادها وفسادها كردود أفعال عدمية ويائسة، لا تلبث أن تصبح عوامل إضافية تساهم في تفعيل وتسريع عملية الانهيار.

نحن في سباق مع الزمن إذاً، وليس فقط لانقاذ ما يمكن إنقاذه، بل لتحويل احتضارنا الحالي إلى مخاض حقيقي يمكّننا من العودة إلى ساحة التاريخ كقوى فاعلة من جديد بالمعنى الإيجابي البنّاء، إذ ما يزال هناك، في رأيي، فرصة حقيقية لتحقيق ذلك. ولنا مع هذا وقفات عديدة في مستقبل حوارنا.



عزيزي المناضل،
إن حسّ البشر بالانتماء في حالة تغيّر دائمة، والهوية لم تكن يوماً ثابتة أو مطلقة أو أحادية الجانب، بل غالباً ما اتصفت بمرونة ما وعبّرت عن نفسها من منظور نسبي بل وتعدّدي. نحن لانلمّح هنا إلى الأقنعة المختلفة التي يرتديها البشر في سياق حياتهم اليومية، بل إلى الأحاسيس الأعمق التي تؤثر على وعيهم، بل لاوعيهم أيضاً، علاوة على تصرفاتهم الأكثر دلالة على تكوينهم النفسي العميق. ولعلّ بقاء البشرية ونجاتها من الأخطار حتى الساعة كان دائماً مرهوناً بقدرة مكوّناتها المختلفة (عشائرها، قبائلها، شعوبها وأممها) على تغيير هويّاتها الخاصة عند لزوم الأمر، وإن كان هذا التغيير بالذات على المستوى النفسي من أصعب أنواع التغيير التي يمكن للبشر أن ينخرطوا بها.

والتحدي الماثل أمامنا اليوم يتعلّق بمدى قدرتنا على تعديل هويتنا وإعادة صياغتها من خلال كسر انغلاقنا الفكري والثقافي وانفتاحنا على المشاركة من جديد في صياغة الصيروات الحضارية الدولية كقوى فاعلة وليس كأدوات في أيدي القوى الفاعلة.

عزيزي المناضل،
نصيحتي لك أن تنحّي الكبرياء والعواطف جانباً عند معالجتك للأمور. نحن نتعامل هنا مع ظواهر موضوعية تستحق منا معالجة موضوعية. إن تضارب المصالح والحضارات سنّة الحياة، وعلى مستوى معيّن، مستوى المؤسّسات الصانعة للحضارة، لابد من رابح وخاسر، أما على مستوى البشرية كأعداد فالكل يستمر. الهزيمة لاتؤدي إلى الإبادة بالمعنى المادي، ولاحتى بالمعنى الثقافي بالضرورة، هذا إذا ما قامت الثقافات المهزومة بمراجعة نفسها ونجحت في استخلاص الدروس المناسبة من تجاربها. وفي معركة الشرق والغرب كساحتين فارزتين للحضارة والصيروات الحضارية، بات من الواضح اليوم أن الشرق خسر ليس المعركة وحسب، بل الحرب كلّها، هذا طبعاً، إذا أردنا أن ننظر إلى الأمور من المنطلق الإيديولوجي السائد عند كل الأطراف اليوم. والغريب في الموضوع هنا هو أن النظر إلى التاريخ على أنه مواجهة ما بين غرب وشرق، وهي النظرة التي باتت جميع التيارات الفكرية تجمع عليها اليوم، هي رؤية غربية صرفة نشأت عن الظروف الخاصة التي رافقت بروز الحضارة الغربية المعاصرة على الساحة التاريخية. ولكن، ولأن هذه الرؤية أصبحت هي المقبولة اليوم عند جميع الأطراف في الغرب والشرق، حتى عند أعداء الغرب الإيديولوجيين، إن لم نقل خاصة عندهم، أصبحت المواجهة على المستوى النفسي حقيقية، وأصبح الاعتراف بالهزيمة بالنسبة لشعوب الشرق أمراً ضرورياً كجزء من عملية علاج ومراجعة نفسية للذات تمثّل خطوة على طريق عودة هذه الشعوب إلى ساحة الفعل الحضاري. فالحضارة الغربية هي الحضارة التي باتت اليوم مسؤولة عن تشكيل وتفعيل كل القوى المؤثرة في العالم، ولاتشكّل عملية الرفض السائدة في بعض الأوساط لهذا الواقع إلا رداً انفعالياً قادراً على التدمير لكنه غير قادر على إفراز أية بدائل حقيقية يمكنها أن تساهم في إعادة تشكيل الصيرورات العالمية الأساسية بأي حال من الأحوال. أما قدرته على إنتاج بدائل محلّية فلاتعني شيئاً، لأن خصوصيتها سرعان ما تعزلها أو تدفعها إلى مواجهة عدمية مع باقي أرجاء العالم (كما هي الحال في الصومال وأفغانستان وبورما وكوريا الشمالية، على سبيل المثال لاالحصر).

من ناحية أخرى، ليس من الضروري أن يأخذ اعتراف شعوب الشرق بالهزيمة الحضارية منحاً مباشراً في التعبير عن نفسه. ولعلّ طريقة الصينيين وغيرهم من شعوب آسيا الشرقية والجنوبشرقية في التعامل مع هذا الواقع خير دليل على قدرة الشعوب على صياغة أساطير جديدة  تمكّنهم من إجراء عملية الأقلمة المناسبة دون أن يمسّ ذلك بحسّهم بالكرامة القومية (ضمن حدود معينة طبعاً). ولعلّ في المحاولات المتكرّرة للتيارات الإسلامية في ربوعنا، بكل ما في الأمر من إشكاليات وتناقضات ومغالطات، ربط النهضة الغربية العلمية بسوابق إسلامية ما أو نصوص قرآنية، من منطلق الإعجاز العلمي، تمثّل طريقة أخرى في محاولة الشعوب الشرقية الإسلامية تقبّل واقع انتصار الغرب الكافر على "خير أمة أخرجت للناس" مع المحافظة على حسّها بالكرامة والتفوق الحضاري.

لكنّا وإذا ما أردنا أن نتبنّى مقاربة أكثر أكاديمية وموضوعية للصيرورات الحضارية، فعلينا أن نعترف أن إطروحة المواجهة لم تعد بهذا القدر من الأهمية هذه الأيام، لأن فوز الغرب لم يؤدّي فقط إلى نهاية التاريخ كمفهوم إيديولوجي وفلسفي، بل أيضاً إلى نهاية الجغرافيا كمفهوم إيديولوجي وفلسفي، فالغرب وحضارته أصبحا كليّا الوجود والتأثير، بصرف النظر عن كيفية تعامل المجتمعات مع هذا الواقع من حيث القبول والرفض، إذ مايزال الرفض حتى اليوم، بأشكاله المختلفة، انفعالياً بحتاً، أما القبول المشروط على الطريقة الصينية أعلاه فينبع من شروط نفسية أكثر منها مادية، أي أنه ينبع من إصرار صيني على أن ماهو كائن هو عبارة عن استمرار وإعادة استنباط لما كان. لكن الواقع أنه ليس كذلك، فماهو كائن وقائم اليوم يختلف جذرياً عما كان قائماً وكائناً أمس، أي قبل الاحتكاك مع الغرب، وماهو قائم وكائن اليوم هو في الواقع نتاج صرف لتقنيات وأفكار وآليات ومنهجيات وطرق إنتاج وتوزيع وتسويق غربية المنشأ كلها. وإن كانت النهضة الحضارية الغربية قد تأثّرت بادئاً ذي بدء وإلى درجة كبيرة باحتكاكها مع الشرق، الأوسطي منه خاصة، فالغرب استطاع، ومنذ نهضته الصناعية على أكثر تقدير، تجاوز الفوائد المعرفية المباشرة والغير مباشرة لهذه المؤثّرات، ليبني صروحاً معرفية وحضارية ومؤسساتية غربية خالصة من حيث المنشأ والمؤثّرات والمكوّنات. وبالتالي، وبغض النظر عن كيف بدأت المعركة، فهاهي قد انتهت وأصبح بذلك الصراع الذي نشهده اليوم صراعاً داخلياً وثقافياً بحتاً تتكشّف جولاته ضمن إطار حضارة واحدة يبدو أنها قادرة على الاستمرار لفترة طويلة قبل الانهيار.

عزيزي المناضل،
لو حدث أن انهارت الحضارة العالمية في هذه المرحلة بالذات، فسيشكّل انهيارها عملية ارتكاس و"طلبنة" أو"صوملة" عالمية ولن يؤدّي إلى بروز حضارة جديدة في أي وقت قريب، بل ستكون البدائل من الناحية السياسية استبدادية وشمولية في معظم الأحيان وستعيش في حالة صراع مستمرة مع العالم الخارجي أوفي عزلة عنه. قد لا تظهر حضارة جديدة في الشرق إلّا بعد مرور عقود من الزمن، ومن المرجّح أن تكون في هذه الحال قروسطية الطابع، لأن أحد الشروط الأساسية في تشكيل الحضارات يتطلّب توفّر البيئة المادية المناسبة لذلك، أي المناخ المناسب، ومصادر المياه الكافية، إلى آخرها من شروط مادية لقيام الحضارات. لكن الشرق المعاصر، خاصة شرقنا الأوسطي، ومن منطلق بيئي بحت، لم يعد يشكّل بيئة مادية مناسبة لقيام الحضارات وهو بالكاد قادر على توفير الطعام والشراب لشعوبه اليوم، فما بالك بالغد البعيد. ولعلّ في توجّه دول الخليج نحو إفريقيا وآسيا لشراء الأراضي الزراعية وتخصيصها لإطعام شعوبها دلالاته الواضحة في هذا الصدد. وإن نوّه البعض إلى أن توجّه دول الخليج في هذا الصدد هو توجّه نحو مناطق أخرى في الشرق، فذلك لأن أبواب الغرب تبقى مقفلة حالياً في وجه عمليات من هذا النوع والتي لن تسمح طبيعة الأنظمة السياسية القائمة في الغرب لها أن تبقى بعيدة عن الأضواء كما يحدث في الدول الإفريقية والآسيوية المعنية. لكن، ماذا سيفعل الشرقيون يا ترى، الأوسطيون منهم والأقصويون، عندما تتجاوز احتياجات شعوبهم الغذائية قدرة أراضيهم الصالحة للزراعة على سدّ هذه الاحتياجات، الأمر المتوقّع حدوثه ابتداءاً من النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين حسب بعض التقديرات؟ في الواقع ودون اندماج حقيقي بالغرب وتبنًّ كامل لتقنياته وآليات إنتاجه، ودون مساهمة أكثر فعّالية وجديّة في صياغة قراراته المصيرية، خاصة تلك المتعلّقة بآليات التوزيع، لن تتمكّن شعوب الشرق من الاستمرار، وستنهار معظم دول الشرق ومجتمعاته، بغض النظر عن مدى قوتها العسكرية. 

من ناحية أخرى، من الصعب تصوّر طرح رؤى جديدة للمستقبل أفضل من تلك المستنبطة من الشرعة العالمية لحقوق الإنسان والمواثيق المماثلة والمتمّمة والمتمثّلة في صرح الديموقراطية الليبرالية الذي هو بمثابة القلب النابض لحضارتنا المعاصرة، وهو الأمر الذي أشار إليه فرانسيس فوكوياما في كتابه الجدلي الأشهر: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير." والشيء الوحيد الذي تبقّى لنا اليوم للقيام به في هذا الصدد هو التوصّل إلى تطبيق وتمثّل أفضل وعلى نطاق أوسع لهذه الأفكار مما هو كائن حالياً، وهو تحدّ معقّد بحدّ ذاته.

ولاشكّ أن حضارتنا المعاصرة ستشهد الكثير من التحوّلات مع الزمن، لكن التحوّلات المستقبلية لن تُعرّف على أسس جغرافية تقليدية، فهي لن تكون شرقية أو غربية، شمالية أو جنوبية. ويقتضي طرحي الليبرالي الخاص وبكل بساطة تبنّي ما جاءت به الحضارة الغربية المعاصرة من مثل وشرائع والمضي بها قدماً لأن تطبيقها على المستوى العالمي مايزال قاصراً ومجتزءاً. 

Post-1990 Huntington's major civilizations (Western is colored dark blue).


عزيزي المناضل،
نعم، يشكّل انتصار الغرب الساحق في هذه المرحلة بالذات، مرحلة العولمة، نهاية للجغرافية وللتاريخ، كما سبق ونوّهنا، وبالتالي نهاية للغرب ذاته كمفهوم مستقل من خلال تحوّله إلى كيان كلّي الانتشار و/أو التأثير. إن كل صراعات العالم اليوم أهلية وكل تفاعلاته داخلية. لكن نهاية الجغرافية والتاريخ لايعني في هذه المرحلة الباكرة بالذات نهاية الوعي بهما، لافي الغرب ولافي الشرق، لافي الشمال ولافي الجنوب. ولقصور الوعي في هذا الصدد تجلّيات وانعكاسات عدة، منها:

1)    استمرار تصّور وتصوير الصراع العالمي الحالي على أنه صراع بين كيانين مستقلّين، في حين أنه لايزيد عن كونه صراع مصالح بين فئات ونخب بعينها عبرت مصالحها الحدود كلها وتشابكت وتداخلت،

2)    استمرار الربط مابين الهوية والدولة وتعريف الدولة على أسس قومية و/أو دينية عوضاً عن الأسسس الوظيفية،

3)    استمرار العقلية الوصائية عند شعوب الغرب التقليدية فيما يتعلّق بالحضارة المعاصرة على الرغم من تقصيرهم في تمثّل مبادئها فيما يتعلّق بالعلاقة مع الآخر، سواء كان هذا الآخر مقيماً في الشرق الجغرافي أو بين ربوعهم ملاجئ أو مهاجر شرعي أو غير شرعي، وهو التقصير الناتج عن الخوف أو نشوة النصر أو تأصّل النزعة العنصرية عند الكثيرين،

4)    سيطرة الخطاب الضحيوي (من الضحيّة) على الأنماط التفكيرية والنفسية لمعظم شعوب الشرق والجنوب، مما يعرقل عملية تقبّل الحضارة المعاصرة والمشاركة الفاعلة في تطويرها ويسهم بالتالي في تهميش دور هذه الشعوب ويسّهل عمليات التفتيت والطلبنة الجارية فيها من خلال استغلاله من قبل الفئات المستبّدة الحاكمة ودعاة النزعات الارتكاسية، من إسلاميين وقوميين وغيرهم. 

وبالفعل، يسهم تفشّي الشعور بنشوة النصر عند البعض، وبمرارة الهزيمة عند البعض الآخر، في تفعيل حالة من العمى المؤقّت فيما يتعلّق بالمضامين والمعطيات والاحتمالات الجديدة التي تجلبها الحضارة المعاصرة. إذ تحول نشوة النصر دون تمثّل حقيقي لمبادئ الحضارة الغربية في تصرفات أبناء الحضارة الغربية التقليديين حيال إخوانهم الجديد. في حين تحول مرارة الهزيمة دون تبنّي حقيقي لمبادئ الحضارة الغربية من قبل شعوب الشرق، وفي تضيع وقت ثمين في خداع النفس من خلال البحث عن بدائل متوهّمة والتحسّر وجلد الذات.

عزيزي المناضل،
إن إحدى المهمات الأساسية للشعوب الشرقية المعاصرة تكمن في تحرير الحضارة الغربية العالمية المعاصرة من محدودية وعنصرية وعنجهية شعوب الغرب التقليدية، وهذا من حقّنا وواجبنا كأبناء هذه الحضارة الجدد. وعلينا أن نحرّر هذه الحضارة أيضاً، حضارتنا العالمية المعاصرة، من براثن أبطال الخطاب الضحيوي، خاصة المنافقين منهم، الذين يجدون في تكريس وجودنا كضحايا وتجذير العقلية الضحيوية مصدر قوة وتمكين لهم، على حساب تفتيت هويتنا وحسّنا بالانتماء، وتغييب قدرتنا على المشاركة في صنع القرارات وبناء صروح جديدة لها تمثّلنا كشعوب ذات ثقافات خاصة. ولهذا التفتيت والتغييب أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية طبعاً، التي سبق ونوهّنا إليها من خلال مصطلحي الطلبنة و الصوملة.

إن المضامين الحقيقية للشرعة العالمية لحقوق الإنسان وغيرها من الشرائع والقوانين الدولية في عصر العولمة هذا، عصر الحضارة الواحدة ذات الثقافات المتعددة، تقتضي فكّ الارتباط مع الوقت ما بين الهوية والدولة، بل مابين الهوية والجغرافية.  لا، ليس من المطلوب هنا أن نقتل مشاعرنا وانتماءاتنا القومية والدينية والطائفية، المطلوب هو فكّ ارتباط هذه المشاعر بالدولة وإيجاد أقنية أخرى للتعبير عنها كالفن والفكر والرياضة، وفي حدود معينة السياسة أيضاً مع التقيّد بحدود وقواعد العمل الديموقراطي، ولعلّ عصر العولمة قد أطلق هذا الفكّ ببعده الاقتصادي.

عزيزي المناضل،
إن المواجهة الجارية ما بين العقلية الانتشائية (أي تلك القائمة على النشوة بانتصار الحضارة الغربية على منافسيها) والعقلية الضحيوية (أي تلك القائمة على استبطان الهزيمة والتذمّر المستمرّ منها واستغلالها لتجييش الشعوب والسيطرة عليها)، لاتترك مجالاً لأي حوار عقلاني حول أي من القضايا الأساسية العالقة، بل إنها لاتترك مجالاً للتصرفات العقلانية في هذا الصدد. ففي إطار هذه المواجهة، يجري أحياناً تبادل غريب للأدوار، فنرى المنتشين بالنصر يتكلّمون بلغة الضحية عند تعرّضهم لضغوط بعينها (ديموغرافية، ثقافية، إرهابية)، أو لأي انتقاد لسياساتهم المنتهجة، في حين نجد أصحاب الخطاب الضحيوي يتكلّمون بلغة المنتشي المتعجرفة، بعد كل عملية إرهابية "ناجحة" لمجاهديهم، بغض النظر عن الثمن المبذول والذي سيبذل على حساب الشعوب التي ينطقون باسمها ويدّعون الدفاع عن حقوقها وما هم في الواقع إلّا شركاء في انتهاكها، وعند كل إخفاق أو انتكاسة لعدوهم، حتى في حال لم يكن لهم أية علاقة بتحقيقها ولم يكن لها أي أثر حقيقي على مجريات الأمور على المدى البعيد.

لكن المشكلة الحقيقي تكمن في قيام مؤسّسات وأنظمة ومصالح بحالها بُنيت على أساس هذين الخطابين، الانتشائي والضحيوي، ولهذا، لايمكن لنا أن نتوقّع زوالهما عن الساحة بسهولة. ومع ذلك، وبالنسبة لنا، تكمن مشكلتنا الأكبر، أو، لنكن أكثر دقة، المشكلة التي يتوجّب علينا التعامل معها أولاً، في الخطاب الضحيوي لانتشاره الواسع في ربوعنا، ولتوظيفه من قبل الأنظمة والحكام الأكثر فساداً واستبداداً في منطقتنا في قمعهم المستمر والممنهج لشعوبهم وفي جهودهم  الدؤوبة الرامية إلى صرف انتباهها عن إخفاقاتهم المتكرّرة في مجالات التنمية التي تمثّل التحدي الحقيقي الذي يتوجّب علينا التعامل معه. فباسم المقاومة والصمود والتصدي والكرامة الوطنية، إلى غيرها من المسمّيات، تشنّ أنظمتنا الحاكمة معاركها في الداخل والخارج لا لأي هدف غير استمرار الفوضى وتحقيق المكاسب الآنية من خلالها، في عملية تسمح لهم أحياناً بالتلاقي مع بعض السياسات التي تنتهجها القوى الانتشائية، أو تضعهم في مواجهة معها في أحيان أخرى. لكن الخاسر الأكبر في معظم الأحيان هم الشعوب. إن نهايات كتلك التي تعرّض لها شاه إيران وصدام العراق ماتزال استثناءاً لقاعدة ستبقى راسخة في منطقتنا طالما بقيت النخب المعارضة غير قادرة على التواصل مع شعوبها واكتساب ثقتها للقيام بما يسمح لها بإطلاق وقيادة ثورات تغييرية حقيقية، وطالما استمرّت حالة التخبّط المتعلّقة بترتيب الأولويات.

ولايجب أن يعمينا وقوع هذه المواجهات بين الحين والآخر عن طبيعة هذه الأنظمة ولا أن يدفعنا إلى تغيير أولوياتنا المتعلّقة بإسقاطها، فإسقاطها يبقى هو الخطوة الأولى الحقيقية نحو التحرّر الحقيقي والتمية المنشودة.

Shiva


عزيزي المناضل،
إن استمرار أديان وروحانيات الشرق، واعتقاد البعض في الغرب بفوقية هذه المعتقدات الشرقية على نظيراتها الغربية لايتناقض مع مقولة موت الشرق كمصدر حضاري. لأن الحضارة المعاصرة لا تؤسّس نفسها على دين بعينه بل على مبدأ حرية الاعتقاد. وما كل من في وما في الغرب مصدر ودليل تنوّر. إن انتصار الحضارة الغربية ليس انتصاراً لكل شيء فيها أو لكل ممارساتها، بل للمُثُل التي جاءت بها وللمؤسّسات التي قامت عليها، التي جاء حصيلة مراجعة شاملة لكلّ ما سبق من تجارب إنسانية في الشرق والغرب. فنهضة الغرب لم تحدث بشكل إعتباطي، والطبيعة العالمية للحضارة الغربية لم تأتِ نتيجة انتصارات  عسكرية واقتصادات قوية وحسب، بل نتيجة استبطان وقراءة وتجاوز لكل ما سبق من مكنونات وعوامل حضارية.

من ناحية أخرى، ليس كلّ مؤسّسة منتصرة بالضرورة أخلاقية، فالجدارة المادية شيء، والجدارة الأخلاقية شيء آخر. ومع ذلك، يبقى انتصار الغرب عموماً دليلاً على تفوّق أخلاقي وقيمي للمُثًل والمؤسّسات القانونية الغربية، علاوة على كونه دليلاً على تفوّق المؤسّسات السياسية والاقتصادية الغربية من الناحية العملية. وإن كانت الشعوب الغربية ماتزال تقع في فخّ الانتهاك المتكرّر لمُثُلها، فهذا شيء طبيعي وجزء لايتجزّأ من الطبيعة الإنسانية نفسها، وتجسيد لفشل الإنسانية المأساوي والمستمرّ في الارتقاء إلى مستوى المُثُل والقيم المنبثقة عن تجاربها.

عزيزي المناضل،
مشكلتنا أن ذاكرتنا في حالة فوضى عارمة لاتسمح لنا بالتركيز لفترة طويلة من الزمن على موضوع واحد، ولاتسمح لنا بتوضيب الأمور وسلسلتها بشكل منطقي. فنحن ننسى مثلاّ أن للخارج دور كبير في قيام الأنظمة ودعمها، أو ربما أننا لانفهم أو نريد أن نفهم مضامين ذلك، لكنها واضحة لمن يريد أن يرى: التغيير في سورية أو في أي دولة في منطقتنا الأوسطية لايمكن أن يجري بمعزل عن الخارج، أو بدون موافقة خارجية ما، حتى في حالة الثورات الشعبية. فدعونا لاننسى في هذا الصدد دور الضعوط الغربية على شاه إيران في تحقيق سقوطه، إذ ربما دون هذه الضغوط لتجرّأ الشاه على التحرّك عسكرياً ضد أعدائه على نحو أكبر وأوسع مما فعل، مما كان يمكن له أن يسقط مشروع الثورة ككل. وفي الواقع يقتضي ميزان القوى بأبعاده وجود دور قوي للمجتمع الدولي في دعم عمليات التغيير. وتحدّي هذا الميزان لايتأتى عن طريق مواجهات شاملة وعدمية على طريقة القاعدة وغيرها من الحركات الجهادية، بل عن طريق صياغة أكثر واقعية للأولويات والآليات المستخدمة، وعن طريق تنسيق فعّال مابين حركات المعارضة في الداخل والخارج، أي عن طريق تبنّي دبلوماسية ذكية من قبل حركات وأطراف المعارضة، فالدبلوماسية لاينبغي لها أن تبقى ميداناً للأنظمة الحاكمة واللاشرعية فقط.

ولعلّ تردّد بعض أطراف المعارضة في اتباع مقاربات من هذا النوع عائد لضعف إمكانياتها المهنية في هذا الصدد، أي لكونها غير مؤهّلة للضلوع بأدوار ونشاطات من هذا النوع، لا من الناحية المهنية ولا من الناحية الثقافية، فالتعامل مع المؤسّسات الدولية ليس بالأمر السهل ويتطلّب خبرة كبيرة تساعد على معرفة  متى تضغط وكيف تضغط، خاصة في ظل ميزان القوى إياه والذي يضعنا دائماً عرضة للتلاعب مالم نكن حذرين. لذلك ترى الكثير من الشخصيات المعارضة تشعر بالتهديد والتهميش عند بروز شخصيات على الساحة تحسن هذه اللعبة، وهذه مشكلة كبيرة طالما هدّدت حركات المعارضة عامة والشرقأوسطية خاصة.

كيف نتعامل مع الرموز التي ضحّت والتي قد لاتملك مع ذلك المؤهلات المناسبة للقيام بنشاطات معينة وضرورية لنهضة المعارضة على الساحة الخارجية، بل وللتواصل مع  الساحة الداخلية بأسلوب يتناسب مع الواقع الديموغرافي الجديد الأكثر شباباُ والمختلف ثقافياً؟ وكيف نتعامل مع النرجسيات المختلفة التي تجعل عملية التنسيق بين حركات المعارضة أكثر صعوبة من أي اختلاف فكر وإيديولوجي؟ وكيف نتعامل مع اختراق الأنظمة وبراعتها في زرع الخلافات؟ كل هذه أسئلة لابد من الإجابة عنها، أو تحديات لابد من التعامل معها أو الالتفاف حولها.



عزيزي المناضل،
لامكان لمانديلا في ثقافتنا السياسية والاجتماعية العربية: مانديلا عرف متى وكيف يقود ومتى وكيف يتخلّى عن القيادة، والشخصيات المحيطة به عرفت كيف تحترمه وتقتدي به دون أن تصبح تابعة له، متماهية فيه، وعاجزة بدونه: هناك تجربة ثقافية وتاريخية سمحت لها بذلك.

من ناحية أخرى، لقد كان خطاب مانديلا خطاباً تحريرياً محضاً، لامكان فيه للكثير من الكلام عن ضرورة استعادة أمجاد غابرة أو إحياء تقاليد اندثرت. الحرية كانت هاجس مانديلا الأعظم، والتنمية كانت هاجسه الثاني. في حين يبدو أن المجد هو هاجس الغالبية العظمى ليس لمعارضينا فقط بل لكل نخبنا الفكرية والسياسية. ولاشكّ أن للإسلام دور كبير في ذلك، لأن نظرته الكونية تضع الأمة في مركز التفاعلات والصيرورات التاريخية، الأمر الذي يتعارض مع الواقع القائم اليوم، ويجعله مرفوضاً من منطلق ديني ووجودي ثقافي وحضاري وليس فقط من منطلق إنساني وتنموي. وفي حين كان يمكن لهذا الرفض من الناحية النظرية أن يلعب دوراً إيجابياً في تفعيل العمل التغييري، إلّا أن طبيعته الانفعالية على أرض الواقع والبعد الشوفيني المتأصل عند شعوب المنطقة نتيجة لقرون من العزلة العملية عن باقي شعوب العالم رجّحت كفّة التعامل السلبي والعدمي مع التحديات القائمة.

وإن كان وضع أولوية العمل الاجتماعي أولاً يبدو منطقياً من الناحية النظرية، علينا أن لانتجاهل في هذا الصدد معطيات تجربتنا التاريخية المعاصرة، والتي تدلّ وبوضوح على قيام النظام بالتلاعب على وتر التشدّد الديني من أجل تحييد أية عملية تطوير مجتمعي وانفتاح سياسي. بمعنى أننا نعرف تماماً وبالأدلة القاطعة ومن خلال المعاينة اليومية للأمور أن استبداد وفساد وتلاعب النظام الحاكم هو عامل أساسي، إن لم نقل العامل الأساسي، في خلق وتمكين التيارات الأكثر تشدّداً، فكيف نتعامى عن هذا الواقع وننجرف وراء شعارت يردّدها النظام ولايريد بها إلّا الحفاظ على تركيبته الأساسية كما هي على حساب التنمية المجتمعية الحقيقية المتكاملة التي نحن أمسّ الحاجة إليها؟

عزيزي المناضل،
هناك لحظات تمرّ على الإنسان عليه أن يقرّر فيها بين أمرين لاثالث لهما، فإما أن يكون محرّكاً للتغيير ومحفّزاًعليه أو عبئاً على كاهله وعقبة في طريقه. ونحن في منطقتنا المأزومة اليوم نمرّ في لحظة من هذا النوع، فاختر بعناية لأن المعركة قادمة والمواجهة باتت محتومة لأنها مواجهة مع القدر.

لكن مصائرنا كشعوب لن تتحدّد فقط بمصائر الملوك، وربما كان التحدّي الماثل أمامنا اليوم هو أن نعمل على فكّ أي ارتباط ما بين مصائر ملوكنا ومصائرنا كأفراد وشعوب.

عزيزي المناضل،
الصبر علي البلاء لا يكون صبراً ما لم يتصاحب بالعمل على رفعه، وإلا كان تخاذلاً وانهزاماً. إذ ليس بوسعنا أن نفرّق ما بين قضاء الله وقضاء العباد ما لم نمتحن هذا القضاء وباستمرار، فالقناعة والرضى لا يجوزا إلا مع العمل، وإلا فلن يزيدان عن كونهما خمولاً واستسلاماً  وخنوعاً.

عزيزي المناضل،
في موقعك الذي لايزال يسمح لك بالتأمّل، ويضمن لك رفاهية الحيرة والتحيّر لوهلة أخرى من الزمن على الأقل، قبل أن تحسم قرارك فتصبح إسلاميّ الهوى، أو يساريّه، أو يمينيّه، أو براجماتيّه، مدفوعاً برغبتك في الانخراط في القضية، تلك القضية  التي لامجال للتشكيك في وجودها، لأنها باتت جزءاً من الموروث ومن الذاكرة العامة المشتركة، فهي قضية شعب، بل شعوب، ورغبتها في التحرّر من عبودية التخلّف والفساد والاستبداد، ومن استعمار فقر الروح والجسد وسياسات التجهيل والإفقار المصكوكة من قبل نخب لم يعد عندها ما تخافه، من آلهة، أو مثل، أو ضمائر، في موقعك ذاك الذي ماتزال ترزح فيه، طوعاً أو غصباً، والذي يسبغ عليك متعة التمحيص الناقد لكلّ شيء، وربما الرافض لكل شيء، لبرهة أخرى على الأقل، في ذلك الموقع الاستراتيجي، والذي قد يحسدك البعض عليه، والذي لاشكّ أنك ستندم لهجرك إياه مستقبلاً، بين الفينة والأخرى، عليك أن تدرك جيداً أنك لست في مأمن من سلطة أفكار الغير على عقلك ووجدانك، أو في منأى عن مغريات اللاانتماء، ومخاطر الانعزال حتى التوحّد، بل حتى الوحشة والتوحّش.

اللاانتماء، اللاموقف هو نمط آخر من المترسة لايقل سميّة عن المواقف الإيديولوجية التي تنفر منها. أن تقول أنك مكتفٍ بانتمائك إلى الإنسانية لاينفي الحاجة إلى تبني أو تشكيل وجهة نظر خاصة فيما يتعلّق بمنجزاتها ومآسيها، وإلى العمل من أجل الارتقاء بها نحو الأفضل دائماً، والنأيي بها عن حافة الهاوية. أليس هذا هو جوهر القضية؟ قرفك لايعفيك من مسؤوليتك: من ضرورة الخوض في معترك الحياة، بشأنها العام والخاص، وفي مجالاتها ومسالكها المختلفة، أي نعم، بما فيها السياسية، مهما بدت لك وعرة وقذرة. التعفّف هو وجه آخر للجبن والأنانية.



عزيزي المناضل،
لايمكننا أن ننتظر حتى يصل الناس إلى سوايا متقاربة من الوعي لكي نبدأ بالعمل من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي. وليس بوسعنا أن نعمل من أجل نشر التوعية المنشودة في ظل الأوضاع القائمة، وإلا بقي عملنا نخبوياً، ومحصوراً ضمن الدوائر التي خلصت إلى ذات النتائج. ومهما فعلنا، التاريخ ينبؤنا أن ما كل الناس تقرأ، وما كل من يقرأ يفقه، وما كل من يفقه يعمل، أو يخلص إلى النتائج ذاتها، لذا ستبقى وجهة نظرنا دائماً جدلية، وسيبقى عند الناس آراء وسويات مختلفة من الوعي، وقلّة فقط من سيتمكّنون من تمثّل المبادئ التي يدّعون حملها في تصرفاتهم اليومية. أليست هذه هي المشكلة التي نعاين في مثقفينا: أقوالهم تنم عن إخلاص لمبادئ معينة لكن تصرفاتهم وأفعالهم تتناقض غالباً وبشدة مع هذه المبادئ؟

إذاً، وفي سياق فشل المثقفين أنفسهم في تمثّل المبادئ والتوصّل إلى الوعي المنشود الذي يسمح بالتسامي فوق الانتماءات الإيديولوجية الضيقة والمصالح الفئوية والأنيّات الفردية، كيف سيكون الحال مع "العامة؟" وكيف يمكن أن ننقل الوعي المنشود إلى "العامة" من دون الانخراط في العمل العام، وهو الأمر الذي تحدّ منه الأنظمة القمعية بتجلياتها الاجتماعية والسياسية والدينية؟ وهو الأمر الذي يجبرنا بالتالي على الخوض في غمار متاهات العمل السياسي بأجوائه المحمومة والمحتقنة دائماً وأبداً.

لامفرّ لنا إذاً من العمل بالتوازي على المحاور كلها، هناك أولويات، نعم، وهناك هدف أسمى، علينا أن نتفقّ عليها ضمن دوائرنا على الأقل، لكن الاكتفاء بالعمل على محور واحد: محور العمل المتعلّق ببناء وعي إنساني متسامٍ فوق الإيديولوجية، هو انهزام وتهرّب في حال ترافق مع إدانة العمل على المحاور الأخرى وإدانة العاملين على تلك المحاور والتقليل من أهمية النشاطات المتعلّقة بهذه المحاور.

عزيزي المناضل،
لاتنجرف وراء عواطفك الشرقية، ولاتعارك طواحين الهواء، هناك معارك أهم في حاضرك ومستقبلك من معارك الماضي، لقد ولّى الماضي بمعاركه، ولم تعد معركتك من أحل الشرق وأهله، بل من أجل العالم ككل وخيره، وهذا لعمري تقدم ونصر. إن هزيمة الشرق ليست هزيمة للشرقيين ولا انتصاراً للغربيين بل تطور ناجم عن صيرورات موضوعية تتجاوز الجغرافية. النصر هنا هو لفكر جديد مايزال يبحث عن هوية. ومعركة الشرق ضد الغرب والغرب ضد الشرق كانت دائماً متوهّمة، لأن المعركة الحقيقية كانت وستبقى مع الذات، وكل من أحسّ بمرارو الهزيمة ونشوة النصر ما يزال لايفقه شيئاً عن الميدان الحقيقي للمعركة والطبيعة الحقيقية للصيرورة التي هو جزء منها، ألا وهي: محاولة البشرية المستمرّة لإيجاد هوية لنفسها منفصلة عن الألقاب والمسمّيات والشعارات والمصطلحات، محاولة للتحرّر من الحدود كلّها. 

عزيزي المناضل،
إن قبولنا بالحضارة الغربية على أنها الحضارة الوحيدة الفاعلة على الساحة اليوم هو الخطوة الأولى نحو تجاوزها، ونحو تجاوز إشكالية الشرق-الغرب المصطنعة، في عودة طال انتظارها للتواصل مع إنسانيتنا المغيّبة ولتحليل قضايانا الوجودية من هذا المنطلق الأساسي. لأن الإشكال الحقيقي الذي ما انفكّ يواجهنا، واليوم أكثر من أي وقت مضى، بسبب طبيعة الصيرورات الموضوعية التي تجمعنا، هو إشكالية الإنسان-الكون.

أين هذه الإشكالية من خطابك وفكرك اليوم؟