‏إظهار الرسائل ذات التسميات عمار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عمار. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 11 مارس 2018

"بين سام وعمار" وبداية جديدة



مرحلة جديدة من العمر على وشك أن تبدأ مع قرب انطلاقة برنامج "بين سام وعمار" على قناة الحرة. سيتزامن موعد بث الحلقة الأولى في 15 آذار مع الذكرى السابعة لاندلاع الثورة السورية وستتعامل الحلقة الأولى مع الثورة – رمزية لم نتقصدها لكنا نرحب بها.

على قناة الحرة قريبا..'سام وعمار': ستشاهدوننا من أجل شيء مختلف.

الفيديو الترويجي للبرنامج:


تغطية برنامج اليوم لـقرب انطلاقة "بين سام وعمار":


الأربعاء، 29 أبريل 2015

السياق الغائب: خليط ضروري من الذكريات والملاحظات

مظاهرة أمام السفارة السورية في واشنطن في مطلع الثورة السورية 

إذا أخفقتَ كناشط مدني في إقناع الطرف أو الأطراف المعنية، سواء عن طريق الحوار أو الضغط أو كليهما، بضرورة تبنّي السياسة التي تريد، أو أخفقتَ في منعها من تبنّي السياسة التي تعترض عليها، فإن أولويتك الجديدة في كلتا الحالتين تتطلّب منك العمل لتخفيف وطئ هذا الإخفاق على الناس. ولايتأتى هذا الأمر في أغلب الأحيان إلا من خلال الاستمرار في "التعامل" مع ذات الأطراف ووفقاً لذات الأدوات، أي الحوار والضغط، مع بعض الإضافة والتعديل.

وتكمن المشكلة هنا في أن مواقفك العلنية المتغيرة قد لا تبدو مفهومة للمراقبين، مما سيفسح مجالاً كبيراً لخصومك لإدانتك بصرف النظر عن حقيقة فهمهم للدوافع والضرورات الموجبة لهذه المواقف.

لكن، كيف تتجلّى هذه الأمور في سياق العمل والنشاط؟ ربما كان من الأفضل هنا أن أستخدم نفسي وتجاربي الشخصية كمثال للإجابة على هذا السؤال بوضوح، فأكون بذلك قد روّضت أسدين بسوط واحد: أجبت على السؤال، وردّيت على بعض التساؤلات القديمة المتعلقة بنشاطاتي.

في عام 2003، كنت ضد اجتياح العراق وحاولت من خلال بعض المؤتمرات الدولية التي حضرتها في الفترة التحضيرية له أن أحذّر من مغبّة هذه الخطوة بالنسبة للعراقيين والأمريكيين وغيرهم، وكذلك بالنسبة للبرامج المرتبطة بتطوير المنطقة وتحرير أنظمتها السياسية. لم أكن الناشط الوحيد الذي تبنّى هذا الموقف طبعاً، بل واحداً من مئات الناشطين من المنطقة والعالم، لكني كنت جديداً على الساحة واتسم أسلوبي بالكلام والعمل بقلة اكتراث بالخطوط الحمراء والمصطلحات التقليدية، مما جعلني أحظى بحيز أكبر من الاهتمام خاصة من قبل المسؤولين والمحللين الغربيين.

ومع ذلك، لم يقيد لأي من الاعتراضات التي قدمتها وغيري النجاح في منع هذا الحدث. لكن، وعوضاً عن الانسحاب من الساحة  والاكتفاء بالإدانات، قرّرت تبنّي أولوية جديدة للنشاط تمثّلت في المشاركة في عدد من المؤتمرات المعنية بوضع سيناريوهات مختلفة لما قد يجري في العراق بعد الاجتياح، واستغليت هذه الفرصة لتقديم استشارات ركّزت على ضرورة إعادة هيكلية النظام السياسي والمدني في العراق بشكل تدريجي لتجنّب المخاطر التي ستنجم عن التفكيك السريع له، خاصة بعد سنوات طويلة من العزلة الدولية. كما شدّدت أيضاً على ضرورة تجنّب التورّط في مغامرات عسكرية إضافية في المنطقة، والاكتفاء بالضغوط الدبلوماسية وبدعم الناشطين المدنيين والقوى السياسية المعارضة المنفتحة على الغرب لتطوير وتفعيل برامج إصلاحات سياسية ومجتمعية طويلة الأمد. ولقد تقاطعت آرائي هذه مع نصائح وإرشادات معظم الخبراء المشاركين.

فمرة أخرى لابد من التنويه هنا إلى أني كنت واحداً من مئات الناشطين والخبراء الإقليميين والدوليين الذين شاركوا في هذه المؤتمرات. لكن كوني، في معظم الأحيان، السوري الوحيد المشارك والذي قدم من سوريا ولم يكن يحمل أية جنسية أخرى يمكن لها أن تحميه، جعلني أحظى باهتمام أكبر مما كان متوقّعاً أو طبيعياً.

لكن، وكما تدلّ الأخطاء التي حدثت في الفترة التي تلت الاجتياح الأمريكي، يبدو من الواضح أن الآراء والاستشارات التي تم تقديمها من قبل معظم المشاركين لم تلق الكثير من الاهتمام من الجهات المعنية التي غالباً ما كانت أولوياتها مقيدة باعتبارات مالية وبيروقراطية على حساب الاعتبارات الجيوسياسية في الكثير من الأحيان.

الجندي الأمريكي ريتشارد بارنيت يحمل بين يديه طفلاً عراقياً، 29 آذار/مارس، 2003 (رويترز)
 بصرف النظر عن هذا، أصبحت مهمتي في المرحلة التالية التركيز على منع تدخل أمريكي مماثل في سوريا، الأمر الذي فتح له النظام الباب على مصراعيه بدعمه المفضوح للجهاديين في العراق.

وشاءت الظروف أني وفي تلك المرحلة تلقيت عرضاً للعمل كباحث زائر في معهد بروكينجز الأمريكي في واشنطن لمدة ست أشهر. وخلال تواجدي هناك اكتشفت أن تدخّل الأسد في لبنان بعد العراق بات يلعب في أيدي الجهات التي تدعو إلى التدخّل العسكري في سوريا، فألقيت عدة محاضرات وكتبت مجموعة من المقالات الناقدة للنظام في ذلك الوقت محذّراً من مغبّة سياساته. وكان أن تواصل معي جراء هذه النشاطات السفير السوري في واشنطن آنذاك، عماد مصطفى، في محاولة لـ "احتوائي،" كما قال، وبطلب من الأسد. وعن طريق مصطفى، تبادلت عدة رسائل مع الأسد بخصوص ضبط النفس في لبنان وضرورة العمل مع الأمريكيين لإحياء محادثات السلام مع إسرائيل، وهو الأمر الذي نجحت في إقناع الإدارة الأمريكية بربطه ببرنامج واضح للإصلاحات السياسية في سوريا.

ونتيجة هذه الخطوات، ذهب مارتن إنديك إلى سوريا في تشرين الأول ٢٠٠٤، بترتيب من مصطفى، وعرض على الأسد الخطوط العريضة لمقترح "السلام والإصلاح،" كما سمّيته، موضحاً له أن المقترح يحظى بتأييد جهات رسمية أمريكية وإسرائيلية وعلى أعلى المستويات، لكن الأسد رفضه بحجة أنه يعترض على التفاوض مع الإسرائيليين سراً، مع أننا كنا نعرف تماماً أن مباحثات سرية ملنت تجري ما بين الطرفين السوري والإسرائيلي في مدريد في نفس ذلك الوقت.

ما السبب الحقيقي وراء رفض الأسد  لمقترحنا إذاً ؟ التحليل الذي أجرته الجهات الأمريكية للموقف عندها خلص إلى اعتراض الأسد على أمرين: ربط مباحثات السلام بقضية التغيير الديموقراطي في سوريا، ومشاركة شخصية إصلاحية من خارج المنظومة الأمنية للنظام، وبالتحديد كاتب هذه الكلمات، في العملية التفاوضية. ولقد أدّى فشل هذه المبادرة إلى توسيع الهوّة ما بين إدارة بوش ونظام الأسد.

وبعد انتهاء مدة عقدي مع بروكينجز في منتصف كانون الثاني ٢٠٠٥، عدت إلى دمشق لمتابعة عملي في إدارة مشروع ثروة، والذي أشرفت الناشطة خولة يوسف على إدارته في غيابي بالتعاون مع مجموعة جميلة من الناشطين الشباب من مختلف المناطق والانتماءات والخلفيات المهنية. وتركزت أولويتي في ذلك الوقت على توسيع فريق العمل والتمهيد لإطلاق عدة أفرع للمشروع في مناطق مختلفة في سوريا والمنطقة. لكن، ونظراً لتنبّه الأجهزة الاستخباراتية لنشاطاتي وطبيعتها، شهدت هذه المرحلة أيضاً انطلاق فترة مكثفة من التحقيقات معي ومع خولة من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة. وأشرف على هذه التحقيقات شخصيات عدة منها رفيق شحادة وسعيد سمور وأخيراً آصف شوكت الذي حاول فرض نوعاً من الوصاية عليّ أدت إلى عدة مشادّات كلامية بيننا انتهت بالاتفاق على وجوب مغادرتي للبلد في أيلول ٢٠٠٥، خاصة بعد اتهامي للنظام في وسائل الإعلام العالمية بالوقوف وراء اغتيال الحريري، ووصفي لبشار الأسد بأنه أحمق وأخرق، ودعوتي للعصيان المدني ضد النظام. جرت كل هذه الأمور وأنا مازلت أسكن في دمشق مع عائلتي، وتم الإشارة إليها في وسائل الإعلام الغربية في حين تجاهلها الإعلام العربي. إذ شكّلت استقلاليتي، فيما يبدو، ورفضي الانتماء إلى أي من الأحزاب والحركات السياسية التقليدية إشكالاً بالنسبة للعاملين في أجهزة الإعلام العربية، والجهات الممولة لها.

وجاء قيام مجلة النيوزويك العربية في 2005 بتسميتي كواحد من أهم ٤٣ شخصية عربية يمكن لها أن تساهم في تشكيل مستقبلها كاستثناء عرضي لهذه القاعدة، وكتطوّر مفاجئ بالنسبة لي. ومع إني كنت السوري الوحيد على اللائحة، تم تجاهل الأمر كلية ليس فقط من قبل السلطات السورية والإعلام السوري (ما خلا فقرة عارضة في مجلة الثورة تعترض على هذا الخيار) بل أيضاً من قبل السلطات الكويتية المسؤولة عن تمويل النسخة العربية للمجلة، إذ تمّت دعوة جميع شخصيات اللائحة لتكرّم في حفل خاص في الكويت، ما عداي.

لكن بروز اسمي في الإعلام الدولي، وقيامي بالتواصل والعمل مع شخصيات معروفة مثل مارتن إنديك وغيره، وقدرتي على التواصل المباشر مع شخصيات عالية المستوى في الحكومة الأمريكية وعدد من الحكومات الأوروبية، مثل الحكومة الهولندية التي قدمت دعماً واضحاً لنشاطات ثروة في سوريا، جعل آصف وغيره يتعاملون معي بجدية وندية أفسحت مجالاً للكثير من الحوارات الصريحة بل والمشادات الكلامية، كما سبق ونوّهت، لم تخل من تبادل الاتهامات والشتائم أحياناً.

والواقع أنه بعد اغتيال الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، أصبح من الواضح بالنسبة لي أن ساحة الصراع الإقليمي قد انتقلت إلى سوريا، وأن نظام الأسد هو عامل جاذب ومسعّر لهذا الصراع، وأن المسألة أصبحت مسألة وقت فقط قبل الانفجار. ولقد عبّرت عن هذه القناعة بوضوح من خلال تصريحاتي وكتاباتي من ذلك الحين وحتى لحظة اندلاع الثورة. ومنذ ذلك الحين، أصبح العمل على إسقاط النظام بشكل سلمي هو الحل الوحيد الممكن في نظري لتجنّب هذه الأزمة أو على الأقل تجلّياتها الأسوأ. وعلى الرغم من قناعتي الشخصية بأن النجاح في مسعى من هذا النوع غالباً ما يكون مستحيلاً، لم أر بديلاً أخلاقياً أفضل من المحاولة، تماماً كما فعلت فيما يتعلق بالاجتياح الأمريكي للعراق.

ولقد جاءت فلسلفتي في العمل بعد مجيئي إلى واشنطن مع خولة وعلا ومهند استمراراً لتلك التي وجهت عملي في سوريا، أي أني لم أعنَ كثيراً بإيديولوجيات اليسار واليمين، لا في أمريكا ولا في غيرها، بل قمت بالتواصل مع الجهات الفاعلة على اختلاف توجهاتها السياسية بغية التحصل على دعمها لقضية التغيير اللاعنفي في سوريا. ولقد جاء استجابة الأوساط اليمنية بشكل أكبر مع نشاطاتي هذه كانعكاس منطقي للتركيبة السياسية الفاعلة في واشنطن في ذلك الوقت، وكمؤشّر على وجود قصور إيديولوجي حادّ عند اليسار فيما يتعلّق بكيفية تقديم دعم فعّال لقضية التغيير الديموقراطي وحقوق الإنسان في المنطقة والعالم. لم يكن الأمر إذاً مرتبطاً بتوجّهاتي وقناعاتي السياسية الخاصة. لكن، يبدو واضحاً بالنسبة لي في هذه المرحلة أن علاقاتي مع اليمين ستبقى أقوى وأفضل من تلك التي تربطني مع اليسار طالما بقي اليسار يتخبّط فيما يتعلّق برؤيته لقضية الدمقرطة والحريات في الدول النامية، لكني، مع ذلك، سأبقى أحاور وأضغط على جميع التيارات والجهات، ما استطعت، وسواء قيد لي الفشل أو النجاح.

ولقد كانت أولويتي بعد اغتيال الحريري هو العمل على تحريض الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على تبنّي ما سميته وقتها بالضربات الجراحية الدبلوماسية diplomatic surgical strikes، عوضاً عن الضريات الجراحية الجوية، أي أني دعوت إلى تكثيف النشاط الدبلوماسي في سوريا عوضاً عن عزلها سياسياً، وذلك من خلال تكثيف زيارات الوفود الرسمية الغربية وعقدها للقاءات، ليس فقط مع الأسد وأزلامه، بل مع الناشطين المدنيين والمعارضين والصحفيين والفنانين، وذلك للمطالبة بفتح تحقيق داخلي فيما يتعلّق بتورط مسؤولين سوريين بقضية اغتيال الحريري، ووضع برامج لتبنّي إصلاحات سياسية حقيقية في البلاد تقيها مغبات العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية والضربات العسكرية. وكان الهدف من وراء هذه النشاطات بالنسبة لي خلق حالة من الفوضى والبلبلة في صفوف النظام، المضعضع لتوه بسبب انسحابه المفاجئ من لبنان، وعدم إعطائه فرصة للتقوقع على نفسه وإعادة تنظيم صفوفه.

لكن، ومرة أخرى كان الفشل هو نصيبي هنا، إذ اختارت الحكومتان الأمريكية والفرنسية سياسة العزل الدبلوماسي، مع فرض بعض العقوبات الاقتصادية. لكني على الأقل ساهمت، أو هكذا قيل لي من قبل بعض المسؤولين في بروكسل وواشنطن، في منعهما من تبنّي عقوبات اقتصادية أكثر قسوة كان يمكن لها أن تقوّض بنية المجتمع المدني في سوريا، عوضاً عن معاقبة النظام، تماماً كما حدث في العراق. وترك لنا هذا الأمر مجالاً للعمل مع مؤسسات المجتمع المدني في سوريا لتدريب ناشطيها على النضال اللاعنفي عن طريق عقد دورات إلكترونية وميدانية في لبنان وتركيا والأردن وعدد من الدول الأوروربية، بل وفي الداخل السوري أيضاً.

وجاء عملي مع جبهة الخلاص في تلك المرحلة، على الرغم من تردّدي المبدئي في هذا الصدد، بناءاً على طلب عدد من شخصيات إعلان دمشق في الداخل من جهة، وشخصيات في إدارة بوش من جهة أخرى، في وقت لم يكن من الممكن فيه للطرفين أن يتواصلا بشكل مباشر مع بعضهما البعض. وكانت المهمة التي نصبتها لنفسي هنا المساهمة في إعادة هيكلية الجبهة بحيث يصبح التواصل معها وعلى أعلى المستويات مقبولاً للجهات الأمريكية والأوروبية. وبما أن المشكلة الأساسية في هذا الصدد تمحورت بالذات حول دور أعضاء في حزب البعث، وخاصة عبدالحليم خدام، ودور حركة الإخوان المسلمين، بقيادة  علي صدر بالدين البيانوني، في عمل الجبهة. لكن، ونظراً للدور المحوري لهذين الطرفين في تأسيس وإدارة عمل الجبهة، كان علي أن أوجد حلاً يسمح بتحييد دورهما من الناحية الإعلامية، مع المحافظة عليه سياسياً وإدارياً، وذلك لكي يحظى مخطط هيكلية الجبهة بدعم الجميع.

وبعد عدة استشارات، وضعت مشروعاً موجزاً لهيكلة المجلس التنفيذي في الجبهة، فاقترحت تشكيل مجلس مكون من 11 مقعداً، منها أربعة مقاعد دائمة (واحد للبعث يتولاه عبدالحليم خدام، وآخر لحركة الإخوان المسلمين يتولاه البيانوني، وثالث للأقليات العرقية تحتله شخصية كوردية معروفة، ورابع للأقليات الدينية تحتله شخصية مسيحية). أما المقاعد السبع الباقية، فاقترحت حجزها للشخصيات المستقلّة وأن يتم ملأها عن طريق انتخابات عامة يشارك فيها أعضاء الجمعية التأسيسية للجبهة. بعد ذلك، اقترحت أن يتمّ اختيار الأمين العام للجبهة ومساعديه من هذه الشخصيات السبع المستقلة والمنتخبة. وبما أن اتخاذ القرارات في المجلس التنفيذي سيبقى يتم بالإجماع، كما كان الأمر بحسب الترتيب القديم، سيبقى لكل من الخدام والبيانوني بحكم خبرتهما العملية وحنكتهما السياسية دورهما الكبير في تحديد سياسات الجبهة. ولقد توقعت إلى أن يؤدي هذا الترتيب إلى موافقة كل الأطراف على هذا المقترح الذي كان سيسمح من جهة لكل من الخدام والبيانوني بالحفاظ على نفوذهما في الجبهة، كما سيسمح، من جهة أخرى، لإدارة بوش بالتواصل معها عن طريق الأمين العام والشخصيات السبعة المستقلة.

لكن عدم قدرتي على السفر لحضور اجتماعات الجبهة في أوروبا في تلك المرحلة التي كنت لا أزال فيها أنتظر الموافقة على طلبي للجوء السياسي في واشنطن، وهو أمر لم تتمكن إدارة بوش من التدخل فيه لتسريعه بسبب الضجة التي أثيرت حول تدخلها في قضايا مثيلة فيما يتعلق بالعراقيين وغيرهما في السابق، أو كما قيل لي وقتها، لم أتمكن من شرح هذا المقترح بشكل مباشر لأعضاء المجلس التنفيذي عندها، واضطررت إلى الاعتماد على "أصدقاء" سافروا من أمريكا إلى باريس لحضور الاجتماعات وعدوني بالتمهيد للأمر قبل دعوتي للتواصل هاتفياً مع المجلس للإجابة على أي استفسار في هذا الصدد. لكن، وللأسف، لم يتم طرح الموضوع بالجدية المناسبة التي كان يستحقها، ولم تغير مداخلتي الهاتفية من الأمر شيئاً، بل كان من الواضح أن أحداً لم يطلع على المقترح قبل مداخلتي، وأن  أحداً لم يدرك المضمون الحقيقي له: السماح بفتح علاقة مباشرة مع الإدارة الأمريكية.

لذا، تم رفض المقترح. واضطررت أن أبلغ السلطات الأمريكية بالموضوع بحسب الاتفاق ما بيننا، وكانت النتيجة صدور قرار بتخفيض مستوى التواصل مع الجبهة وحصر الموضوع بوزارة الخارجية وتحديداً بنواب المدراء المساعدين في قسم الشرق الأوسط. وعوضاً عن أن يتم عقد لقاء في البيت الأبيض ما بين الرئيس بوش والأعضاء المستقلّين السبعة للمجلس التنفيذي اللذين كان من المفترض أن يتم انتخابهم وفقاً للمقترح، تمّت دعوتي في شهر كانون الأول لعام 2007 لحضور هذا اللقاء إلى جانب عضو مجلس الشعب السابق مأمون حمصي والناشط الكوردي الإيزيدي جنكيزخان حسو. وبالتالي تمّ تضويع فرصة تأسيس جسد سياسي كان يمكن له أن يصبح بمثابة حكومة منفى حائزة على اعتراف الحكومة الأمريكية (التطور الذي كان سيستتبع اعتراف عدد من الحكومات الأوروبية أيضاً)، والاكتفاء بخطوة رمزية لا تقدّم ولاتؤخّر دفع أعضاء الأمانة العامة لإعلان دمشق ثمنها غالياً، إذ تم اعتقال أغلبهم بعد لقاء البيت الأبيض بأيام فقط.


حدث كل هذا بسبب رفض شخصيات المعارضة التقليدية التعامل بجدية مع مقترح مقدّم من قبل طرف جاء من خارج أطرها التقليدية، الأمر الذي يذكّرنا برفض بشار الأسد لمشروع مارتن إنديك في 2004 والذي جاء لأسباب مشابهة أيضاً. إذ يشكّل الحفاظ على الأطر التقليدية هدفاً أهم عند النظام والمعارضة من التجديد بما يحمله هذا الأمر من انفتاح على مشاركة عناصر جديدة، وتبنّي أفكار وأساليب جديدة. وللأسف، لم يشكل استعدادي للبقاء بعيداً عن الأضواء والمناصب تنازلاً كافياً لتحفيز الآخرين على تبنّي المشاريع والمقترحات التي قدّمتها أو على الأقل على التعامل الجدي معها، وذلك على الرغم من تعامل الجهات الغربية، والأمريكية تحديداً، معها بكل جدّية.

وبعد فترة العمل مع الجبهة عدت إلى التركّيز التام على نشاطات "ثروة" والذي تم تسجيله كمؤسسة غير ربحية في واشنطن. وتمّ تنظيم عدد كبير من الدورات التدريبية خاصة فيما يتعلّق بمراقبة الانتخابات التشريعية والرئاسية (كما فعلنا في عام 2007)، وتوثيق الواقع المحلّي باستخدام الكاميرات الصغيرة (إذ لم تكن الهواتف الذكية منتشرة في المنطقة بعد)، واستخدام الإنترنيت كوسيلة فعّالة لكسر قبضة الأنظمة الحديدية على الإعلام وتداول المعلومات. وبعد سنة ونيف من هذه النشاطات جاءت النتيجة على شكل برنامج تلفزيوني هو برنامج "الخطوة الأولى،" المكوذ من ست حلقات، والذي تمت الاستعانة فيه بالفيديوهات التي صوّرها الناشطون في الداخل السوري، ودعا في حلقته الأخيرة إلى ثورة سلمية في البلاد.

تمّ عرض "الخطوة الأولى" على قناة "بردى" التي تم تمويلها مرحلياً من وزارة الخارجية الأمريكية، واستمر عرض البرنامج من شهر آب 2009، وحتى انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011. لم يكن لي أو لثروة أية علاقة مع إدارة قناة "بردى،" لكنها كانت في تلك الفترة القناة الوحيدة المعنية بالمعارضة السورية والمستعدّة لعرض البرنامج.

وفي آب عام 2009، انتهى تمويل ثروة نتيجة تغير في أولويات إدارة أوباما التي فضّلت التعامل مع نظام الأسد، فاستجابت لطلبه بإغلاق مكاتب ثروة كشرط للأمر، وهو الأمر الذي نوّه إليه موقع موال آنذاك ، هو موقع دامس بوست Damascus Post). ولقد سبب هذا التغيير صعوبات مادية جمّة بالنسبة لأعضاء الفريق في واشنطن وسوريا، وأصبح انتظار الانفجار هو الأمر الوحيد الممكن في مرحلة مصيرية كنا نخطّط فيها، في حال استمر التمويل، أو نجحنا في استقطاب مصادر جديدة له، لإطلاق قناة فضائية خاصة بثروة، وفتح فروع لنا في المنطقة وحول العالم لتعمل على تهيئة الأجواء لقبول فكرة التغيير في سوريا والمنطقة عندما تحين الساعة.

لكن إغلاق مكاتب ثروة ومعرفتي بطبيعة المعارضة جعلاني أتخوّف التغيير عندما تعالت الصرخات في مطلع 2011 إلى  تبنّي يوم غضب في سوريا وإلى إطلاق الثورة. بل شكّل هذا التصعيد تطوراً مقلقاً للغاية بالنسبة لي. فعلي الرغم من قناعتي بأن الشارع في بعض المناطق في سوريا كان مستعداً لتفجير ثورة شعبية منذ صيف 2008، وهو الأمر الذي نوهّت إليه في شهادتي أمام الكونجرس الأمريكي آنذاك مستنداً إلى النشاطات التوثيقية للواقع المحلّي والتي قام بها فريق عمل ثروة، لم تكن المعارضة، في رأيي النابع عن خبرتي في العمل معها وليس عن قناعات إيديولوجية مسبقة أو حزازيات شخصية، مستعدة لإدارة عملية التغيير بتعقيداتها البالغة، سواء فيما يتعلق بالتحدّيات الداخلية أو التشابكات المتعلّقة بالأجندات الدولية والإقليمية المرتبطة بالمنطقة عموماً وسوريا على وجه الخصوص. وكالمعتاد، تكلّمت عن مخاوفي في هذا الصدد في مقال نشرته في صحيفة الجارديان في 6 شباط، 2011.

لكن، وكما هو معتاد، وعوضاً عن التعامل مع الموضوع من منطلق عقلاني وبراجماتي، تم استغلال المقال لتصفية حسابات شخصية، أنا الذي ما زلت لا أفهم كيف يمكن لأشخاص لم ألقهم أو أسمع عنهم في حياتي أن يكون عندهم حسابات شخصية معي، لكن هذه قصة أخرى.

المهم، لم يكن الهدف من كتابة المقال الاعتراض على ضرورة الثورة (وكيف يمكن لي أن أعترض على هذا الأمر وأنا الذي حرّضت على هذا الأمر منذ 2005 وكتبت بشكل منهحي عنه، كما في ورقة "إدارة المرحلة الانتقالية: نحو ثورة ياسمين في سوريا" التي نشرت في مطلع 2006، وكتاباتي المتوفرة على مدونة "ثورة الياسمين" التي أطلقت في مطلع عام 2006 أيضاً، وغيرها؟)، بل كان الهدف الدعوة إلى التريث قبل تحريض الناس إلى الخروج إلى الشوارع، ريثما نناقش مجمل القضايا التي نوهت إليها في المقال (القضية الطائفية، القضية القومية، القضية المناطقية، القضية الطبقية، القضية التنموية، ودور الأجندات الروسية والإيرانية والتركية والإسرائيلية وغيرها)، فالكثير من المعارضين لم يكن عندهم أي تصوّر حول معنى التغيير في سوريا وكيف يمكن له أن يؤدّي إلى فتح صندوق باندورا في المنطقة.

فبالنسبة لي، كان هناك فرق بين الدعوة لنضال مدني سلمي من خلال برنامح تلفزيوني بُثّ في وقت لم يكن هناك فيه أي مؤشر على أن التغيير ممكن، ناهيك عن كونه آت، وكانت الرسالة فيه تهدف إلى تهيئة الأجواء لا غير، وبين الانتقال إلى الواقع العملي للثورة، أي لحظة الصفر: وهو الأمر الذي كان يتطلّب في رأيي تحضيراً أكبر من قبل المعارضة قبل المشاركة في تحريض الناس على الخروج إلى الشارع "الآن." نعم، الثورات الشعبية لا تنتظر أحداً، ولاتندلع اعتباطاً، في أغلب الأحيان (كما في تونس) لكن لحظة الصفر ليست بالعفوية التي يظنها البعض، وهل كانت لحظة الصفر في مصر عفوية؟ التحضير للحظة الصفر في مصر جرى على المفتوح جراء نجاح الثورة التونسية.

الحسّ القيادي المناسب كان يتطلّب من المعارضة التريث لعدة أشهر على الأقل قبل الدعوة إلى يوم غضب، أشهر كان ينبغي أن تشهد نقاشات جدّية حول طبيعة القضايا والتحدّيات المصيرية التي ستواجهنا مع انطلاقة الثورة، ووضع خطط وتصوّرات مناسبة للتعامل معها.

ومرة أخرى، لم يكن ما أردت، فأردت ما كان، لكن، وكما جرت العادة معي ، مع بعض التحفّظات التي تجلّت في محاولاتي اللاحقة لطرح قضايا معينة على الساحة مثل قضية اللامركزية، وتقاسم السلطة، وتبنّي إجراءات وترتيبات قانونية وإدارية خاصة للحفاظ على حقوق الأقليات والمناطق، إلى غيرها من مقترحات أصرّ مشروع ثروة على ضرورتها منذ انطلاقته الرسمية في سوريا في عام 2003.

وكان دافعي وراء هذا كله واضحاً: فعجز المرء عن درء حدث بعينه، أو تحديد توقيته ووسائله، لا يعفيه من ضرورة العمل على احتواء احتمالاته الأسوأ.

مشهد من مؤتمر أنطاليا للمعارضة السورية، حزيران 2011

من هذا المنطلق شاركت مع خولة وعلا في مؤتمر أنطاليا، ولم أتوان لحظة عن دعم الثورة، حتى بعد تحوّلها إلى العمل المسلح، وذلك لتفهمي لطبيعة الظروف التي أدت إلى ذلك، وفي محاولة، يائسة ربما، لتدارك الأسوأ، أي سيطرة الإسلاميين والجهاديين على ساحة القتال.

لكن، ومنذ مؤتمر أنطاليا بطابعه الارتجالي، وتلاعب الإخوان المسلمين بالأمور عن طريق التحضير لمؤتمر بروكسل لفرض واقع آخر على الساحة، ورفض بعض الشخصيات الاعتبارية العلمانية الهامة كبرهان غليون وغيره المشاركة فيه، انتهاءاً بتشكيل المجلس الوطني، بات من الواضح أن احتواء الأزمة القادمة أصبح شبه مستحيل.

ومن المؤشرات في هذا الصدد أيضاً جاء اعتراض معارضوا باريس على المشاركة في المنتدى الذي نظّمه برنارد هنري-ليفي لدعم الثورة السورية، وذلك بعد عقد مؤتمر أنطاليا بأسابيع، وهو الحدث الذي لم نتمكّن أنا وخولة من حضوره وقتها بسبب حاجتنا إلى استخراج وثيقة سفر جديدة. وجاء اعتراض معارضوا باريس على هذا الحدث بناءاً على مواقف هنري-ليفي من الفلسطينيين، وبصرف النظر عن علاقاته القوية مع إدارة ساركوزي التي سمحت له بتسهيل تحصّل المعارضة الليبية على تأييد فرنسا لها قبل أسابيع قليلة فقط. لقد وضع معارضوا باريس فلسطين قبل سوريا، وموقعهم في الساحة السياسية اليسارية في فرنسا الذي كان يمكن أن يتأثر سلباً جرّاء مشاركتهم في منتدى هنري-ليفي، قبل احتياجات الثورة السورية، وذلك في وقت كان اليمين الفرنسي هو المتحكّم في القرار السياسي هناك.

برنارد هنري-ليفي يتحدث إلى التلفزيون الفرنسي في الـ 4 من تموز 2011 قبيل عقده لمؤتمر "إنقاذ سوريا"
 المقاربة الأفضل هنا كانت تتطلب عدم الاعتراض على المنتدى وعدم مهاجمته، وترك المشاركة المباشرة للشخصيات السورية المستقلة أو الأقرب إلى اليمين، مع التنسيق معها من وراء الكواليس. لكن هذا الأمر كان يتطلّب وجود معارضة منظمة وبراجماتية، وهو الأمر الذي لايزال غائباً عن الساحة السياسية السورية أينما وجد السوريون.

طبعاً، هذا الانتقاد لا يعني أن تدخّل هنري-ليفي كان سيفضي بالضرورة إلى التأييد الفرنسي المنشود لدعم المعارضة في سوريا وبالشكل المناسب، لكن طريقة تعامل المعارضة مع مباردته ترك انطباعاً سلبياً عند السطات الفرنسية بل والأمريكية أيضاً، وهو الأمر الذي لم يحاول ممثلوها إخفاءه عنا، . كما جاء الأمر كمؤشّر مبكّر على تفكّك المعارضة وعجزها عن التفكير بالشكل المناسب فيما يتعلّق بكيفية إدارة سيناريو التغيير في سوريا والتصدي للتحديات التي ستواجه الجميع في هذا الصدد. أي أن المعارضة كشفت باكراً عن أنها ستكون هي أيضاً جزءاً من المشكلة في سوريا، تماماً كالنظام، وهو انطباع دأبت المعارضة على تكريسه من خلال نشاطاتها التالية أيضاَ.

وإن كان من الظلم، بل والسذاجة، اختزال تردّد المجتمع الدولي، وخاصة الدول الغربية، فيما يتعلّق بالتدخّل في سوريا بسلوك المعارضة وحسب، تبقى نقطة البداية للانطلاق نحو العمل لتغيير الموقف الدولي وثيقة الارتباط بقدرة المعارضة على مراجعة وتغيير سلوكياتها بل وعقليتها في التعامل مع المجتمع الدولي وقضايا كثيرة متعلّقة بمستقبل سوريا والمنطقة.

إن الاصرار على المثابرة على نهج التشكّي والاعتراض وحسب، مع إهمال الحاجة المستمرة إلى إعادة ترتيب الأولويات، وتحديد الجهات المختلفة التي يتوجّب علينا التعامل معها، والتنازلات التي يمكن تقديمها ، والاتفاق على الطرق والتوقيت الأنسب لذلك، إلى غيرها من أمور، سيبقى يدلّ على أن المعارضة لا تعرف موقعها من الإعراب بعد، ولا حجمها الحقيقي فيه، وأنها بالتالي غير قادرة على مساعدة شعبها على التأقلم مع الواقع.

هذه حصيلتي خبرتي مع المعارضة حتى منذ ما قبل الثورة، ولم يزدنِ أدائها منذ اندلاعها إلا تشكّكاً في قدراتها. لكني لا أملك حلولاً لهذا الداء، ولا يشكّل ما تعرّضت له شخصيات المعارضة من اضطهاد ممنهج عبر العقود الماضية على يد النظام وأزلامه تفسيراً كافياً لفشلها، لأن الداء نفسه يبدو مستشرياً في صفوف تلك الشخصيات التي أمضت عقوداً خارج ارض الوطن أيضاً.

وربما كان على السوريين اليوم أن يحتفوا بهويتهم من خلال نجاحاتهم الفردية أينما كانوا وحلّوا في هذا العالم، عوضاً عن الاستمرار في محاولة تشكيل هوية جمعية لا يبدو أنهم مؤهّلين لبنائها. لأن بناء هويات جمعية في عصرنا هذا، هويات قادرة على المساهمة في بناء الحضارة عوضاً عن الانخراط في محاولات مقاومة عدمية لها، يتطلّب منا الكثير من المرونة والذرائعية السياسية. ولن تمهّد لنا الإيديولوجيات إلا الطريق إلى الهزائم المتتالية.

لماذا كل هذا الكلام الآن؟ والهدف من ورائه؟

قد يرى البعض في كلامي هنا، وفي هذا الوقت بالذات الذي ابتعدت فيه عن الأضواء، حباً في التباهي والتبجّح، أو رغبة في التعويض ومحاولة لاستعادة الأضواء، أو تعبيراً عن نرجسية مريضة ما، إلى آخره من الافتراضات السلبية المعتادة التي يفضل البعض التعامل فيها مع طروحاتي لأسبابهم الخاصة وبصرف النظر عن الدوافع، سواء كانت إيديولوجية أو شخصية. وقد يرتبط هذا الأمر إلى حدّ ما أيضاً بطريقتي المباشرة دائماً، والنزقة أحياناً، في التعبير والإفصاح عما يجول في صدري وعقلي من أفكار وخواطر.

لكن، وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات،  يأتي كلامي هنا كمكاشفة أصبحت ضرورية في رأيي قبل بدء مرحلة جديدة من حياتي قد تأخذني إلى اتجاهات مختلفة كثيراً عما سبق.

ولقد تكشّفت حياتي كناشط حتى اللحظة على شكل سلسلة طويلة ومتتالية من الإخفاقات والإحباطات التي، وإن لم يكن أيّ منها مفاجئاً في الواقع، كان كلّ منها مرهقاً بطريقته الخاصة.

لكن المعركة بالنسبة لي كانت تستحقّ الخوض، وماتزال. لأن مفتاح النصر هنا يكمن  في المثابرة والاستمرار، مادام  ذلك ممكناً بالطبع ومن الناحيتين الجسدية والنفسية، فالتعب ليس هزيمة بحدّ ذاته، بل واقع جديد ينبغي على المرء أن يوجد الوسائل المناسبة للتعامل معه.

وإن شاب مواقفي المعلنة أيّ تناقض خلال انتقالي من مرحلة إلى مرحلة، فالأمر، كما حاولت أن أوضح هنا، جاء نابعاً عن رغبتي في الاستمرار في العمل على الرغم من تغير الوقائع التي توجّب علي التعامل معها.

أي أني أعدت ترتيب الأولويات واختيار الوسائل بما يتناسب مع الوقائع المتغيرة من حولي، مع الحفاظ على ذات الأهداف التي سبق وأعلنت عنها في "بيان ثروة" وغيره من الكتابات، أي: العمل وبشكل سلمي على تحقيق تغيير ديموقراطي في سوريا والمنطقة من خلال بناء جسور للتواصل ما بين المكوّنات المختلفة، والتركيز على قضايا التنمية البشرية، والدعوة إلى بناء اتحاد مناطقي لامركزي وفقاً لخطط وجداول زمنية واضحة.

إذ يتجلّى الثبات في تمسّك المرء بالمبادئ لا بالوسائل والأولويات والتي ينبغي عليها أن تتغير بتغير الحقائق والوقائع. إذ لا مناص للمرء من مراجعة وتعديل وسائله وأولوياته عند تغير الظروف والشروط من حوله، مع الحفاظ على الوجهة والأهداف العامة لعمله، لأن الإخفاق في التأقلم مفتاح للفشل والتهميش. أما فيما يتعلّق بمراجعة المرء لمبادئه، فهذه ضرورة مستمرة مدى الحياة. وقد تمرّ على المرء مراحل يشهد فيها تغيراً جذرياً في مبادئه، لكن يبقى هذا الأمر هو الاستثناء، وتبقى المراجعة المستمرة للمبادئ هي القاعدة والأساس.

ويبقى التجسيد العملي لهذه الأفكار، على الرغم من وضوحها، هو التحدّي الذي طالما أخفقنا في مواجهته.

وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى السؤال المتعلّق بالهدف من وارء هذه المكاشفة: الأمر ببساطة يتعلّق بضرورة التنبّه إلى المضامين الحقيقية  للمرحلة القادمة في سوريا والتي قد تبدأ قريباً بسقوط ما تبقى من النظام، إذ ينبغي علينا أن نعاين هذا الحدث بمنأى عن مفاهيمنا الإيديولوجية التقليدية ورغباتنا، المشروع منها، والمخيف. فسقوط ما تبقى من نظام، هذا ما لم تدخل إيران وروسيا مرة أخرى، وأخيرة، للحيال دونه وكسب المزيد من الوقت كجزء من مناوراتهما التي تشمل مناطق وجبهات أخرى، بعضها داخلي، لن يمهّد إلى نهاية الصراع في سوريا والمنطقة، بصرف النظر عن رجائنا وأمانينا، بل إلى بدء مرحلة حديدة له قد تكون أكثر دموية، خاصة على الصعيد السوري.

ولن يكون بوسع المعارضة السورية، نظراً لضعفها وتشرذمها وارتهان بعضها بأجندات القوى الإقليمية المتصارعة، الحيلولة دون الدخول في هذه المرحلة الجديدة، لكنها لن تتمكّن أيضاً حتى من تخفيف وقع هذا الأمر على الناس، وهو أقل ما يمكن لها تقديمه، إذا ما بقيت ترتكس إلى الخطاب المؤدلج ذاته، وآليات العمل العقيمة ذاتها من شخصنة وتسويف ورفض الاعتراف بواقع الأمور. فأذا ما أرادت المعارضة أن تسترجع بعضاً مما فقدته من الشرعية والمصداقية أن تركز جلّ جهودها على كل ما يتعلّق بتحسين الظروف المعيشية للاجئين أينما كانوا وحلّوا، وهذا أمر يمكن للمعارضة على ضعفها التأثير فيه من خلال تحسين طريقتها في التعامل مع وسائل الإعلام الإعلامية، والتواصل مع المنظمات الدولية الكبيرة المعنية بهذا الأمر، بما في ذلك المنظمات المختلفة التابعة للأمم المتحدة. 
 
لاجئون سوريون في مخيم الزعتري في الأردن
إن تعامل المعارضة بمؤسساتها ورموزها مع التفاصيل الجيوسياسية للتطورات في البلد والمنطقة على أنها العناوين العريضة التي ينبغي للصف الأول التعامل معه، في حين يتم التعامل مع قضايا مثل الظروف المعيشية للاجئين والعمالة والتعليم والمشافي الميدانية، إلى غيرها من أمور معيشية، على أنها تفاصيل تناسب الصف الثاني أكثر، الذي ينبغي عليه إثارتها في الاجتماعات التقنية الطابع التي تجري بعيداً عن الأضواء، هو خلط غريب للأولويات، ودليل واضح وصريح حول انقطاع المعارضة التقليدية عن واقع العمل السياسي والذي يمثّل إعطاء الأولوية فيه للقضايا المعيشية مادته الأساسية الفاعلة في كل حال، بل خاصة في أيام الأزمات والمحن.

إن إصرار النظام فيما سبق ولفترة طويلة على صرف معاشات وتعويضات لموظفي الدولة حتى في تلك المناطق التي لم تعد خاضعة تماماً لسيطرته نبع عن فهمه لأهمية هذه الخطوة للحفاظ على مصداقية ما حتى عند تلك الشرائح التي فقد مشروعيته عندها. لقد آن للمعارضة أن تتعلّم أهمية هذه الأمور ومكانها الحقيق من الإعراب في العمل السياسي.

إن إصرار الصف الأول للمعارضة ورموزها على الظهور كمحلّلين سياسيين للأحداث والتطورات المختلفة في البلد والمنطقة يضرّ بهم، وبموقعم من الإعراب، وبالمعارضة ككلّ، ويفقدهم مصداقيتهم عند الناس. بل هو أدى إلى ذلك فعلاً. إن الواجب الأساسي للمعارضة، بمؤسّساتها ونخبها ورموزها، يتمحور حول تمثيل هموم الناس، لا في المحاولة المستمرة والدؤوبة للتذاكي عليهم.


الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

الدولة السورية اليوم: نسيج ممزق

عمار عبد الحميد

ترجمة: غياث جازي | الأصل بالإنكليزية English Version

خلفية

نُظِّمت الرحلة بغية مساعدة شركة سينمائية أميركية مستقلة لإنتاج شريط سينمائي وثائقي عن الثورة السورية. وقد تمت دعوتنا، خولة يوسف وأنا، بصفة مستشارين ومن أجل إجراء مقابلات أيضًا. وفي الأوقات التي كان يقوم فريق العمل بجولاتهم، كانت لدينا، خولة وأنا، فرصة ومتسعًا من الوقت للقاء النشطاء السياسيين السوريين المهمين وإجراء مقابلات معهم خاصة بنا.

شملت الرحلة زيارات إلى اسطنبول وأنطاكية وأنقرة، وأجرينا مقابلات مع ضباط من الجيش السوري الحر في أنطاكية وكذلك مع قادة متمردين ونشطاء سياسيين من سوريا. وقد جاء العديد من هؤلاء الأخيرين للقائنا خصيصًا. كانت خولة شخصية معروفة بالنسبة لهم لأنها كانت على اتصال معهم منذ العام الماضي.

التقينا أيضًا مع عدد من المراسلين الأجانب الذين يغطون أحداث الثورة السورية في أنطاليا، بالإضافة إلى مسؤولين غربيين مقيمين في أنقرة. ومع اقتراب ختام زيارتنا، وفرت هذه اللقاءات فرصة مناسبة للتشارك في الانطباعات عن الناس الذي التقينا بهم والتطورات الراهنة.

انطباعات عامة

1. وقائع يومية

- لقد ارتفع متوسط عدد القتلى يوميًا في مختلف أنحاء سوريا إلى 200 شهيد، معظمهم من المدنيين ومنهم العديد من الأطفال. وبشكل روتيني، تحصد المجازر الآن في بعض الأماكن، وخصوصًا في ريف دمشق، أرواح 50 شخصًا وأكثر من السكان المحليين في كل مرة. ففي 25 آب/أغسطس اُرتكبِت إحدى المجازر الأكثر شناعة في داريا، ريف دمشق، إذ بلغ عدد الضحايا من السكان المحليين 510 حسب الإحصاءات الأخيرة، لكن حتى تاريخ إعداد هذا التقرير لا يزال السكان يعثرون على جثث جديدة في الطوابق السفلى للبنايات وفي الحقول المجاورة.

- عمليات الإعدام العاجلة (الميدانية) التي تنفذها ميليشيات مؤيدة للأسد في المدن والأرياف المضطربة تحدث يوميًا، ويبدو أنها جزء من مسعى ممنهج لإخضاع المتمردين وإحداث الوقيعة بينهم وبين السكان المحليين. وقد تُسمع من حين إلى آخر بعض الانتقادات الموجهة للجيش السوري الحر FSAوتكتيكاته في أوساط محلية، لكن تلك الخطة الممنهجة قد تأتي بنتائج عكسية. فبينما تتفاقم المشاعر الطائفية ويميل أعداد متزايدة من الناس إلى تصفية الحساب مع ميليشيات النظام ويظهر داعمون على الساحة، سوف تتشكل على الأرجح المزيد من كتائب الجيش السوري الحر المحلية لكنها ستنتظر تدفق أكثر للسلاح قبل أن تنخرط في العمل بجدية. ومن المرجح أن تكون هذه المجموعات الجديدة أكثر طائفية في سمتها وعقيدتها على حد سواء.

- قصف المدن والبلدات باستخدام الطائرات المروحية المقاتلة والطائرات الحربية بات الآن حدثًا مألوفًا في جميع أنحاء البلاد. ويستهدف القصف جميع المدن والبلدات الرئيسية، بما في ذلك دمشق وحلب. لكن نظرًا للتدفق الأخير، رغم محدوديته، لأسلحة أكثر تقدمًا، يرتفع المتمردون المحليون إلى مستوى التحدي والمواجهة. ففي غضون الأسبوعين الماضيين، تم إسقاط عدة طائرات مروحية وطائرتين مقاتلتين. والأكثر أهمية هو التحرك الأخير لمهاجمة المطارات العسكرية المحلية، وهو اتجاه بدأ في محافظة إدلب بشنِّ هجمات على مطاري تفتناز وأبو الظهور حيث تم تدمير عدد من الطائرات المروحية هناك. ولا يزال القصف مستمرًا على البلدات والقرى المضطربة. وفي الوقت ذاته، لا تزال صواريخ ستينغر ونظم الدفاع الجوي المحمولة التي كانت قد أُرسلت إلى المتمردين عالقة في المستودعات التي تسيطر عليها السلطات التركية.

2. حال المعارضة الداخلية

- على مدى عدة شهور، كانت المجموعات المتمردة تعتمد على نفسها فيما يتعلق بالحصول على السلاح والذخيرة. وقد تغير الوضع منذ ستة أشهر مضت، مع تأسيس "غرفة عمليات" تركية-قطرية-سعودية خاصة كانت تشرف على كل السلاح المتدفق إلى المتمردين. لكن الوضع تغير مجددًا خلال الأسابيع القليلة الماضية. فقد أفادت تقارير أن خلافًا حصل بين المسؤولين القطريين والسعوديين مما وضع حدًا للتعاون الثلاثي ودفع كل من قطر والسعودية إلى العمل بشكل منفصل، وإن كان لا يزال تحت إشراف تركي. تفاصيل الخلاف ليست واضحة، لكن يبدو أن لجماعة الأخوان المسلمين MBدور في جوهر هذا الخلاف. والمهمة الرئيسية لغرفة العمليات هي الإشراف على عملية توزيع الإمدادات. وبدعم من تركيا وقطر، تسعى جماعة الأخوان المسلمين إلى الاستئثار بكامل عملية التوزيع، وهو تطور سوف يدع الكثير من المجموعات بلا دعم، بما في ذلك الوحدات المقاتلة الأكبر والأكثر فاعلية على الأرض، لكنه سيعطي جماعة الأخوان القدرة على التحكم بالعمليات العسكرية للتوافق مع قدرتها على المناورة في العمليات السياسية الجارية في صفوف المعارضة في الخارج. وحتى الآن لا تزال المجموعات المتمردة الأكبر غير مستعدة للموافقة على جدول أعمال إسلامي متشدد، بصرف النظر عمَّن يطرحه: الجماعات السلفية أم تنويعات الأخوان المسلمين. وهذه المجموعات معتمدة بالكامل على الدعم المقدَّم لها من غرفة العمليات بالإضافة إلى ما يمكنها الحصول عليه من إمدادات من داخل سوريا. وسوف تضعف سيطرة الأخوان المسلمين هذه المجموعات إلى حد كبير، أو أنها ستدفعهم إلى تحالف هش فيما بينهم لن يدوم طويلاً مما سيفاقم العداء المتبادل. ويبدو أن السلطات التركية، في محاولة لاسترضاء كل الأطراف المنقسمة، مستعدة للسماح لكل طرف بإدارة شبكة تزويده الخاصة به. وبالتالي، سوف يواصل السعوديون دعم غرفتهم، وسيدعم القطريون الأخوان المسلمين، وسوف يتلقى السلفيون الدعم من كليهما مع استمرارهم في الحصول على دعم من رعاتهم المستقلين من كافة أنحاء العالم. وعلى أي حال، غرفة العمليات الرئيسية هي الوحيدة المتلقية للدعم السعودي حتى الآن.

- الطريقة التي كانت تُدار بها العمليات في البداية تبيِّن أن الاستخبارات والخبراء العسكريين الأتراك والسعوديين والقطريين لم يكونوا مشاركين في تقديم أية مشورة عملياتية، ما عدا الضربات الواسعة. لكن التطورات الأخيرة على الأرض تشير إلى أن هذا الوضع يتغير الآن، على الرغم من أنه ليس من الواضح من هو الذي يقدم المشورة. مع ذلك، لا يزال هناك الكثير من الارتجال في المشاركة في صنع القرار من قبل المتمردين. مؤخرًا، وبعد استيلاء المتمردين على قاعدة للصواريخ بالقرب من دمشق، حثَّ أحد المنتسبين إلى غرفة العمليات القديمة المتمردين على الزعم بأن بعض الصواريخ كانت تحمل رؤوسًا حربية كيمياوية على أمل أن هذا سيظهر للأميركيين أن خطهم الأحمر قد تم تحدِّيه. كان الزعم، بالطبع، مثيرًا للسخرية. فقد نفي بيان للجيش السوري الحر مثل هذا التطور. لكن الضرر كان قد وقع. إن ضعف الاتساق في تقديم المشورة الخبيرة ما يزال مصدر بلاء للمعارضة في كل مسعى تقوم به.

- يكتسب قادة المجموعات المحلية المتمردة، وبسرعة، كل السمات والخصائص اللصيقة بأمراء الحرب، على الرغم من نواياهم. وعلى الغالب، يغذي التقاعس الدولي الانحدار نحو أخلاقيات أمراء الحرب، وهذا ما هو ملموس الآن بشكل متزايد في الأجواء التآمرية، إضافة إلى انعدام الثقة بوجود معارضة سياسية موحدة نظرًا للشقاق الحاصل في صفوفها. وفي مقابلات منفصلة، تمحورت أحاديث مختلف قادة التمرد حول الفكرة نفسها: سوف نتخلى عن سلاحنا ونستأنف حيواتنا اليومية فقط عندما تتسلم حكومة منتخبة ديمقراطيًا نثق بها مقاليد الحكم. تأكيد على الثقة يبقي الأمور غير واضحة. لقد خلَّف العديد من هؤلاء القادة انطباعًا لدينا بأنهم يتوقعون أن يكونوا مشاركين في الحكم مستقبلاً، وإن كان على المستوى المحلي فقط. وليست مثل هذه الطموحات بالنسبة لأناس مثلهم مفاجئة أو غير شرعية، لكن في ظل غياب عملية سياسية يمكن أن تزَّكيهم، يمكن لمثل هذه التوقعات والطموحات أن تمهد الطريق نحو مواجهات وصراع داخلي في نهاية المطاف. ومؤشرات ذلك بادية بالفعل على الأرض.

- الانقسام بين الجماعات الإسلامية المؤيدة لتأسيس دولة إسلامية صراحة وبلا صخب، وبين المجموعات المتمردة الأخرى التي تمثل غالبية المتمردين وما تزال متمسكة بمفهوم شامل أكثر لدولة مدنية، هو الآن أوسع من ذي قبل، مع تنافس الطرفين علنًا على اكتساب والسيطرة على دعم لوجستي ضئيل يَفِد عبر الحدود التركية والعراقية، والحدود الأردنية واللبنانية أحيانًا. وعلى الرغم من الإخبار عن حالات عرضية لاستيلاء بعض المجموعات على إمدادات مُرسَلة إلى مجموعات أخرى، يبقى التنافس بين المجموعات في غالبه غير عنيف في طبيعته ومقتصرًا على التآمر خلف الأبواب المغلقة. لكن من غير المرجح أن يدوم هذا الحال طويلاً، حيث تواصل المجموعات التنافس فيما بينها على الإمدادات والمناطق والشهرة مع ميل الكثير من المجموعات إلى التفاخر بتبني نفس العمليات.

- ويتجلى التنافس أيضًا في محاولات الاستيلاء على مساعدات بادرت في تقديمها مجموعات أخرى في المعارضة أو المجتمع الدولي عمومًا. والمثال الأخير هو مصير سفينة ليبية، بنغازي الخير، كانت تحمل موادًا تُقدَّر بملايين الدولارات كمساعدات إنسانية للمجتمعات المحلية المتمردة. وحسب ما ذُكر، حاول الأخوان المسلمون الاستيلاء على كامل حمولة السفينة، لكن رئيس الوفد الليبي رفض ذلك وأجرى اتصالاً مع حكومته دعاها فيه إلى التدخل لدى السلطات التركية. وبعد أسابيع من التوقف في المياه الإقليمية، تم حلُّ الخلاف في أوائل أيلول/سبتمبر وأُفرج أخيرًا عن إمدادات المحسنين الليبيين وسُمح لهم بالإشراف على عملية التوزيع بأنفسهم.

- تمكنت أيضًا جماعة الأخوان المسلمين والجماعات السلفية من السيطرة على التغطية الإعلامية للثورة في معظم وسائل الإعلام التلفزيونية العربية من خلال المتعاطفين معهم ويعملون فيها، ومن خلال شراء كامل حقوق أقنية تلفزيونية أصغر تديرها المعارضة. واستخدموا أيضًا جزءًا كبيرًا من أموالهم الاحتياطية لفرض سيطرة على معظم الفرق الإعلامية العاملة في داخل البلد، بغض النظر عن الإيديولوجيات الفعلية للأعضاء المؤسسين. وهذا ما يسمح لتلك المجموعات بالظهور على نحو أكبر وأكثر تأثيرًا في العمليات الجارية على الأرض مما هي عليه فعليًا، في هذه المرحلة على الأقل. وفي الحقيقة، تبقى الجماعات الإسلامية بمختلف مشاربها، ما عدا تلك المحسوبة على الأخوان المسلمين، هي الأصغر، وإن كانت الأكثر تنظيمًا، في المشهد الثوري. ويظهر الإسلاميون كمستفيدين حقيقيين من التلكؤ الدولي في التدخل.

- النزعة الكامنة نحو أخلاقيات أمراء الحرب ليست خافية على قادة المتمردين الذين يواصلون بجهد مساعيهم من أجل وحدة وتنسيق أكبر. والتطورات الأخيرة خصوصًا تنبئ بذلك. ففي إدلب، وأجزاء من ريف حماة وحمص وحلب، تتوحد الآن معظم المجموعات المقاتلة، رغمًا عن الإيديولوجيا، تحت راية "كتائب وألوية شهداء سوريا". ويقف وراء هذا التطور بشكل رئيسي شخص واحد هو جمال معروف، أبو خالد، وهو رجل تقي وزوج لثلاث نساء (تعدد النساء أمر بالغ الشيوع في المناطق الريفية في جميع أنحاء سوريا). ويؤيد أبو خالد جوهريًا القيم التقليدية التي هي مزيج من الإسلام والأعراف الريفية بدلاً من الإيديولوجيا السياسية. وبغياب الهياكل السياسية والقضائية الفاعلة في منطقته في جبل الزاوية، يعتمد أبو خالد على الشريعة من أجل حل النزاعات، لكنه يبقى على استعداد لترك مثل هذه الأمور بين يدي حكومة محلية ينبغي أن تتأسس. ولا يدعو أبو خالد إلى إنشاء دولة إسلامية، وهو حذر من الجماعات السلفية ويكره الأخوان المسلمين. لكنه يتعاون مع الجميع في المسائل العملية. وتضم كتائب شهداء سوريا في الوقت الراهن 45000 فردًا. لكن لا تبدي جميع المجموعات المتمردة الرئيسية استعدادًا للانضمام إلى كتائب شهداء سوريا. فالعديد من الكتائب، وخصوصًا ذات الميول الإسلامية المتشددة مثل الفاروق وفاروق الشمال، اختارت التوحد في ظل تحالف مختلف دُعي بشكل مؤقت "الجبهة الإسلامية لتحرير سوريا"، بقيادة أحمد أبو عيسى منافس أبو خالد في جبل الزاوية. وحتى فترة قريبة، كان أبو عيسى يقود "كتائب صقور الشام" العاملة بمعظمها في جبل الزاوية. لكن مع حلول موعد الإعلان عن التحالف في 10 أيلول/سبتمبر، كان قد تغير إلى "جبهة تحرير سوريا". وانضم إلى الجبهة كل من صقور الشام وكتائب الفاروق (حمص وحماة) وأنصار الإسلام (دمشق وريفها) والمجلس الثوري في دير الزور. وفي 3 أيلول/سبتمبر أعلنت مجموعة من ضباط الجيش السوري الحر في أنطاكية عن تشكيل "الجيش السوري الوطني" NSA كبديل للجيش السوري الحر على أمل توحيد جميع الفصائل. وادعت تقارير أولية أن مجموعات متمردة في درعا واللاذقية ودمشق سارعت إلى الانضمام إليه. وزعم البعض أيضًا أن "كتيبة التوحيد" العاملة حاليًا في مدينة حلب وريفها الشمالي انضمت إليه أيضًا. لكن ضباطًا في أنطاكية يقولون إن هذه التقارير ليست دقيقة وإنه، في هذه المرحلة، ما من مجموعة أكدت استعدادها للانضمام رسميًا إلى الجيش السوري الوطني. وفي الحقيقة، انضمت كتيبة التوحيد مؤخرًا إلى المجلس العسكري الثوري في مدينة حلب، الجبهة المحلية للأخوان المسلمين، كما يتضح من حقيقة أن جناحها السياسي، المسمى "المجلس الانتقالي المؤقت"، يضم أمثال حمزة رمضان وغسان النجار. ويقول الضباط إن الهدف الأساسي للجيش السوري الوطني هو توفير هيكل قيادة للمستقبل، وإنه في هذه المرحلة، ولأغراض عملياتية، سيبقى اتخاذ القرار بين يدي قادة التمرد على الأرض. ويبدو أن المقصود من مثل هذه الخطوة هو انقلاب ضد القيادة الحالية للجيش السوري الحر في أنطاكية أكثر منه محاولة لخلق جيش موحد حقيقي على الأرض. بعبارة أخرى، الجيش السوري الوطني في هذه المرحلة ليس أكثر من ماركة تجارية أخرى بحثًا عن زبائن ومستثمرين. ويقود الجيش السوري الوطني العميد محمد حسين الحاج علي من درعا. ومن وراء الكواليس، يوجه أحد العلماء السلفيين يدعى أمجد بيطار مجموعة رئيسة أخرى في وسط سوريا، وهي كتيبة الفاروق التي يقودها ضابط شاب منشق ذو شخصية كاريزمية، النقيب عبد الرزاق طلاس. وقد انضمت كتائب الفاروق رسميًا إلى جبهة تحرير سوريا التي أُعلن عنها مؤخرًا. أما بالنسبة لكتائب التوحيد فاتجاهها السلفي معروف للجميع، لكن تمويلها يأتي من الأخوان المسلمين بالإضافة إلى متعاطفين سلفيين في دول الخليج. ويقود هذه الكتائب أربعة أشخاص هم: عبد العزيز سلامة، المعروف بحاجي عندان نسبة إلى مسقط رأسه في شمال محافظة حلب، وهو الأكثر تشددًا في توجهه السلفي؛ عبد القادر صالح، المعروف بحاجي مارع، نسبة أيضًا إلى مسقط رأسه في شمال حلب؛ حاجي تل رفعت، المعروف بأبي توفيق؛ حاجي إعزاز، المعروف بعمار داديخي. ولا يزال المتمردين في دير الزور ودرعا ودمشق والساحل يعملون في وحدات صغيرة، ولمجموعة أسباب مختلفة ثبت أنه من الصعب توحُّدهم في مجموعات أكبر، رغم أن مجموعة "أنصار الإسلام" (المعروفة بأنصار الشام) المنتمية إلى الأخوان المسلمين تبدو وكأنها المجموعة الأكبر. فالصورة البارزة على الأرض هي واحدة من الاختلافات المناطقية إضافة إلى الاختلافات الإيديولوجية، مع وجود شخصيات معينة تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل المشهد أيضًا. وكما هي الأمور في هذه المرحلة، المحاولات الجارية من أجل توحيد المجموعات على أمل تجنب نزعة أمراء الحرب تساهم فيها في الحقيقة بتعزيز السلطة في أيدي مجموعات قليلة معينة.

- لقد استطاع قادة المجموعات المتمردة الأكبر توفير قدر من الأمن في المناطق التي يسيطرون عليها، لكنهم أخفقوا في تقديم هياكل متينة للإدارة الحكومية، ما عدا دعم رمزي للجان بدأها نشطاء مدنيون لضمان تقديم الخدمات الأساسية. وفي الوقت ذاته، وكما لاحظنا قبلاً، حتى القادة غير الإسلاميين يميلون إلى النكوص إلى الشريعة كمصدر رئيسي للقانون عندما يتعاملون مع المخبرين المحليين ومثيري الشغب والأسرى، بسبب ضعف المعرفة بالقانون المدني وعدم القدرة على تطويع قضاة مدنيين.

- الانقسام الذي يفصل الإسلاميين وغير الإسلاميين ليس هو الوحيد الآخذ بالتوسع. فالانقسام بين المنشقين العسكريين والقادة المدنيين المحليين للمجموعات المتمردة يتزايد أيضًا. ونظرًا لاختيار معظم المنشقين من ذوي الرتب العليا معسكرات اللجوء الآمنة في تركيا، ولأن معظمهم لم يقدم حتى الآن سوى دعم لوجستي ضئيل للتجمعات المحلية، فإن تأثيرهم في الأحداث الجارية على الأرض يبقى محدودًا تمامًا، وصورتهم وشرعيتهم في تدنٍّ. ولا يزال القادة المدنيون يبدون عدم ثقة بضباط الجيش، وغالبًا عدم الاستعداد لتقبُّل نصائحهم حتى في العمليات العسكرية. ومع ذلك، لدى بعض قادة التمرد بضعة ضباط تحت إمرتهم ويريدون من الضباط في أنطاكية العودة إلى سوريا والانضمام إلى مجموعاتهم بصفة مستشارين. لكن لا يكنُّ معظم ضباط الجيش سوى القليل من التقدير للخبرات الميدانية التي اكتسبها القادة المدنيين، وغير مستعدين لقبول إشراف مدني عليهم. فلابد أن تشمل أية هيكلة جديدة لقيادة الجيش السوري الحر شخصيات من كلا الجانبين، وسيتوجب العمل بالتنسيق مع النشطاء السياسيين ومجموعة مختارة من شخصيات معارضة معترف بها من أجل كسب الشرعية ووثاقة الصلة بالواقع.

- الجيش السوري الحر: في أنطاكية، يبرز رئيس المجلس العسكري الأعلى، العميد مصطفى الشيخ، وهو أصلاً من بلدة الرستن التابعة لمحافظة حمص، بوصفه الشخصية المقبولة بالنسبة لقادة المتمردين. وسرعان ما أصبح العقيد رياض الأسعد غير ذي صلة وفقد الثقة حتى من الناس من مسقط رأسه في محافظة إدلب. أما العقيد عبد الجبار العكيدي، وهو من حلب، فيبرز باعتباره شخصية أخرى يحظى بمصداقية. فكل من الشيخ والعكيدي من ذوي الميول العلمانية، ويقومان بزيارات منتظمة إلى المدن في الداخل السوري، وهو تكتيك يهدف إلى تعزيز مصداقيتهما. كما يبرز العقيد قاسم سعد الدين (الشيخ)، وهو أيضًا من بلدة الرستن، بوصفه شخصية رئيسية أخرى، ويعود هذا أساسًا إلى بقائه متمركزًا في الرستن يشرف على دفاعاتها بشكل مباشر. وهو نادرًا ما يغادر البلدة، لكن بعض التقارير أفادت أنه قام بزيارة إلى أنطاكية واسطنبول في مطلع أيلول/سبتمبر. ومع تأسيس الجيش السوري الوطني، يبرز أيضًا اللواء محمد حسين الحاج علي كشخصية مؤثرة محتملة، لكن ذلك سيعتمد في نهاية المطاف على نجاح أو إخفاق الجيش السوري الوطني. وبالإضافة إلى كل هذه الشخصيات، هناك ضباط من الرتب العليا انشقوا على مدى الأشهر القليلة الماضية وما زالوا يتجنبون الأضواء. بعضهم زُوِّد بتوجيهات من قبل الأتراك، وأحيانًا من قبل مسؤولين أمنيين غربيين، لكن مقاصدهم وخططهم ما تزال غير واضحة.

- المجلس الوطني السوري SNC: لا علاقة للمجلس الوطني السوري بما يجري على الأرض. ولم يفاجئ أحد تجاهل وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون قادة المجلس، لكن مع كل مشاكله، لا يرغب الناس العاملون على الأرض أن يروه يدخل في سبات إلى حين الاتفاق على بديل. بعبارة أخرى، المجلس الوطني السوري الآن هو بمثابة شاغل مكان، لا أكثر ولا أقل. ويواصل الأخوان المسلمون، الذين تقف وراءهم السلطات التركية، دعم المجلس الوطني والتخطيط لإعادة هيكلة واسعة له في الأسابيع القليلة المقبلة. وقد تم إجبار عضو المكتب التنفيذي، بسمة قضماني، على تقديم استقالتها، وبالتالي إقصاء الحضور الأنثوي الوحيد في المكتب وإضعاف تمثيل العنصر العلماني. ويبحث الأخوان المسلمون عن بديل لها. ويخطط الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، البروفيسور في جامعة السوربون برهان غليون، للعودة إلى منصبه، لكن يُقال إن الرئيس الحالي عبد الباسط سيدا متشبث بالمنصب أيضًا. ويرى البعض في سيدا شخصية موحِّدة للعرب والكرد، وللإسلاميين والعلمانيين، أكثر من غليون. فأسلوبه في القيادة أكثر لطافة واعتدالاً من أسلوب غليون، ويبدو أنه أكثر حظًا بالتوافق حوله. لكن البعض يرى أن تمكين سيدا بدلاً من استبداله قد يكون هو ما يحتاج المجلس الوطني إلى القيام به في هذه المرحلة، بالإضافة إلى الاتفاق على برامج عمل. ومع ذلك، يحبس البعض أنفاسه عندما يتعلق الأمر بقدرة المجلس الوطني على الاستمرار في الحياة. ومن جانب آخر، يخطط أيضًا قادة المجلس الوطني لتشكيل حكومة انتقالية استجابة إلى طلب من فرنسا التي وعدت بالاعتراف بمثل هذه الحكومة في حال تشكُّلها. ولم يوضح الفرنسيون معاييرهم من أجل الاعتراف بهذه الحكومة. وثمة مساعٍ أخرى لتشكيل حكومة انتقالية هي أيضًا في الطريق.

- هيئة التنسيق الوطنية NCB: تشكلت في داخل البلاد من قبل شخصيات من المعارضة التقليدية من اليسار العلماني. هذا التحالف المعارض، ومع كل النوايا الطيبة لمعظم مؤسسيه، خدم غرضًا وحيدًا حتى الآن: تفسير كم هي منعزلة مجموعات المعارضة التقليدية عن القاعدة الشعبية. فمنذ انطلاق الثورة، لم يفعل مؤسسو هيئة التنسيق سوى الدعوة إلى حوار مستحيل مع نظام وضيع، متجاهلين طبيعته وتاريخه ونهجه. وبهاجس الحفاظ على أرضية أخلاقية عالية، استمر قادة هيئة التنسيق في الدفاع عن موقف واقتراح حلول عقلانية ليس لها إلا علاقة ضئيلة بما يجري من وقائع من حولهم. إنهم يقولون ويفعلون أمورًا تجعلهم يبدون قديسين من وجهة نظرهم عن أنفسهم، لكنهم شخصيات كاريكاتيرية مُنفرة بنظر معظم الناس. لقد فعلوا كل ما يهمِّشهم ويبقيهم منفصلين عما يجري في الواقع. ومع أن معظم أعضاء هيئة التنسيق يقيمون في داخل البلد، إلا أنها أثبتت أنها ليست أقل عزلة عن الناس من منافسها الرئيسي، المجلس الوطني، وليست أقل تشرذمًا. والاختلاف الوحيد الظاهر بين المجموعتين هو أن المجلس الوطني غالبًا ما يحاول استرضاء الناس ويفشل، بينما تحاول هيئة التنسيق استرضاء نفسها على الغالب وتفشل. وقد حولت المساعي اللاهثة وراء دعم دولي كل من المجلس الوطني وهيئة التنسيق إلى مجرد بيادق في أيدي مختلف القوى: تركيا وقطر والسعودية في حالة المجلس الوطني، وروسيا وإيران في حالة هيئة التنسيق. ويُقال إن هيئة التنسيق تخطط لعقد مؤتمر واسع للمعارضة في دمشق قبل نهاية شهر أيلول/سبتمبر، لكن كما هو الحال مع المجلس الوطني وإعادة هيكلته المرتقبة، يحبس البعض أنفاسهم.

- الإسلاميون-الأخوان المسلمون: تنفذ الجماعات السلفية والجماعات التابعة للأخوان المسلمين داخل سوريا وخارجها أنشطتها بحماسة متفانية متوقعة من أناس يعتقدون أن لحظة نصرهم قد حانت أخيرًا. وفي الواقع، منذ بداية الثورة والاستفادة من العلاقات الجيدة مع السلطات التركية، انشغلت جماعة الأخوان المسلمين في عقد الصفقات وحبك الفتن والمؤامرات. ويبدو، من نواح كثيرة، أن الدرس الذي استقاه قادة الأخوان المسلمين من التاريخ هو محاكاة لتكتيكات حافظ الأسد في السيطرة على المشهد السياسي في البلاد. وتشمل هذه التكتيكات: التسلل إلى كل حركة سياسية ومجموعة منتفضة، التحكم بكل مبادرة مدنية وإنسانية، وحشد الوصول إلى وسائل الإعلام. لذا، لا عجب أن يُذكِّر المجلس الوطني بالجبهة الوطنية في سوريا تمامًا، التحالف الذي أسسه الأسد الأب وحافظ عليه الإبن ويُستخدم لحكم سوريا رسميًا، مع أن الواضح هو التزام كاذب بالتعددية السياسية والانفتاح حيث يتلاعب حزب البعث وزمرة الأسد بعملية صنع القرار. وتضم جماعة الأخوان المسلمين الكثير من الأعضاء من ذوي الميول السلفية. فعن طريق استرضاء السلفيين تأمل الجماعة أن تغدو مظلة لمعظم المجموعات الإسلامية في البلاد. وفي الواقع، قدم الأخوان المسلمون دعمًا ماليًا للعديد من الجماعات المتمردة ذات التوجُّه السلفي بمن فيهم التوحيد (حلب) والفاروق (حمص وحماة) وأنصار الإسلام (دمشق)، لكن ذلك لا يترجم بالضرورة إلى ولاء سياسي، على الأقل على المدى البعيد. وفي الواقع، في هذه المرحلة، من الصعب معرفة من يتلاعب بمن في التفاعلات الجارية بين الجماعات السلفية والأخوان المسلمين. ومن جهة أخرى، ولا حتى تحت راية المجلس الوطني السوري تنازلت جماعة الأخوان المسلمين لتقديم مساعدات إلى المجموعات التي ترفض تبني أجندة إسلامية. وهذا ما يثير الريبة في ادعاءات الجماعة بشأن الالتزام بتأسيس دولة مدنية. وفي الواقع، ومع كل إعلاناتها العامة بدعم دولة مدنية، تظهر جماعة الأخوان المسلمين في سوريا أكثر التزامًا إيديولوجيًا بإنشاء دولة إسلامية من جميع فروع جماعة الأخوان المسلمين في المنطقة. علاوة على ذلك، وإضافة إلى كون الأخوان المسلمين غير محبوبين من معظم الجهات الفاعلة على الأرض، تتعرقل مشاريعهم أكثر بسبب انقساماتهم الداخلية، إلى جانب الانقسامات المناطقية (خصوصًا بين جماعات حلب وحماة)، والإيديولوجية (الخط القديم لسيد قطب مقابل السلفيين) إضافة إلى صراع الأجيال. وفي الواقع، يبدي الجيل الشاب من جماعة الأخوان المسلمين في كثير من الأحيان استياء من مخادعات الحرس القديم، ومكائدهم من وراء الكواليس، وانعدام الشفافية تمامًا في عمليات صنع القرار.

- الإسلاميون-الجماعات السلفية: لا يثير الدهشة أن قادة المتمردين قد أبدوا درجة عالية من عدم الثقة تجاه الأخوان المسلمين وأجنداتهم، وتفضيل أكبر في التعامل مع الجماعات السلفية. فرغم كل دعوات السلفيين لتأسيس دولة إسلامية، فإن هذه الجماعات تبدو أكثر استعدادًا لقبول فكرة أنه من الأفضل في هذه المرحلة إنشاء جيوب سلفية، أو، باللغة المدنية، دوائر انتخابية سلفية. وربما تقبل الجماعات السلفية تمويلاً من الأخوان المسلمين، لكن التزامهم بأجندة الأخوان غير واضح على أقل تقدير، كما لاحظنا نحن. فقادة الجماعات السلفية يبرزون من بين صفوف القواعد الشعبية بدلاً من صفوف المجتمع المغترب، ويشعرون بتجذُّرهم في المجتمعات المحلية ويتناغمون أكثر مع واقعهم المحلي وتطلعاته. ربما التقطوا إلهامهم الأولي من دول الخليج العربي، لكن لأن الأفكار بلا حدود، أصبحوا ظاهرة محلية تمثل رغبات وتطلعات جمهور انتخابي واسع في المدن والمناطق في كل أنحاء سوريا. وقد تشكل التفضيلات الإيديولوجية والنفسية للأخوان المسلمين الكثير من الإرباك للسلفيين وعائقًا في طريقهم.

- الأقليات الطائفية: رغم كل ما يُقال عن موقف المجتمعات المحلية العلوية والمسيحية المناهض للثورة، هناك الكثير من العلويين والمسيحيين المشاركين في الثورة على صعيد النشاط السياسي كما على صعيد التمرد أيضًا. ويمكن أن يقدم موقفهم الأساسي تجاه العاملين مع مختلف المجموعات السياسية والمتمردة دليلاً على تحالفات سياسية مستقبلية وديناميات على الأرض. فمعظم العلويين والمسيحيين من ذوي التوجهات العلمانية الواضحة ويقاتلون في وحدات صغيرة، مثل الوحدة 111 المتمركزة في بلدة بداما في محافظة إدلب. لكن عندما يتعلق الأمر بالاختيار بين العمل مع الجماعات التابعة للأخوان المسلمين أو تلك التابعة للسلفيين، فإن معظم العلويين والمسيحيين يفضلون الأخوان المسلمين المألوفين أكثر بالنسبة إليهم. حيث أن تبَّني الأخوان المسلمين لتكتيكات الأسد وحزب البعث يجعلهم نموذجًا سياسيًا مألوفًا: نموذجًا يقوم على الصفقات والمناورات في كواليس المشهد السياسي. وللمقارنة، يبدو السلفيون أكثر غرابة وتهديدًا: إنهم يدعون علنًا إلى إقامة دولة إسلامية ويسعون أحيانًا، في المناطق المتمردة الواقعة تحت سيطرتهم، إلى تطبيق قواعد معينة من الشريعة مثل تحريم استهلاك الخمور. ومع ذلك، وكما لاحظنا، للسلفيين وجود وأهمية كبيرين على الأرض أكثر من الأخوان المسلمين. فأية ترتيبات أو تسويات مديدة مطلوبة سيتوجب القيام بها بمشاركتهم أيضًا. لا يمكن إقصائهم عن العملية السياسية، بغض النظر عن الصعوبة التي يمكن أن يخلقها التعامل معهم. أما بالنسبة إلى الدروز، فتمركزهم في بقعة جغرافية معينة، أي محافظة السويداء في جنوب سوريا، منحهم ترف افتراض موقف محايد إلى حد ما. ومع ذلك، شارك الكثير من الضباط الدروز في الإجراءات الصارمة لفرض النظام، لكن ذلك تغير في أذهان المتمردين عن طريق مشاركة الكثير من النشطاء الدروز في الثورة أيضًا. لكن حالات التوتر بين السكان الدروز في السويداء والغالبية السنِّية في محافظة درعا تتواصل بين مدٍّ وجزر وفقًا للتطورات على الأرض. فالطائفة الدرزية في جرمانا، ريف دمشق، تتعرض إلى ضغوط متزايدة من قبل الميليشيات الموالية للأسد والنشطاء المؤيدين للثورة على حد سواء لاتخاذ موقف مع أحد المعسكرين. وتوفر القرى الدرزية القليلة في محافظة إدلب مأوى للاجئين من المناطق المتمردة. أما الطائفة الإسماعيلية في سوريا التي يبلغ تعدادها أقل من 150000 فقد أظهرت منذ البداية تعاطفًا كبيرًا مع الثوار ونظمت حشودات ضخمة مناهضة للأسد في بلدة السلمية. لكنهم عمليًا محاصرون من قبل القرى العلوية والمسيحية الموالية، ومن غير المرجح مزيدًا من المشاركة لهم.

- المقاتلون الأجانب: هم في معظمهم من دول الخليج وليبيا وتونس والشيشان والصومال والسودان، ويصل عددهم إلى 3500 حسب بعض التقديرات، ويعملون انطلاقًا من قواعدهم الخاصة في شمال سوريا ووسطها. ومع عدد مماثل من المتطوعين السوريين يُنسَبون أحيانًا إلى تنظيم القاعدة أو منظمات جهادية قريبة منه، رغم أن دور جبهة النصرة في هذا ليس واضحًا. وهناك أيضًا قلَّة من المقاتلين "الأجانب" يبدو أن دافعهم حماسة للقومية العربية أكثر منه للأجندات الجهادية. ووفقًا لنشطاء مقيمين في أنطاكية، يبدو أن أفرادًا من الأخوان المسلمين متورطين في تهريب عناصر جهادية إلى داخل سوريا. وفي حين يحذر بعض قادة المتمردين المحليين من وجود هذه العناصر، فإنهم ينسقون بعض العمليات معهم. وهذه المجموعات متورطة بالفعل في عمليات اختطاف رهائن وتعذيب أسرى وتشويههم، خصوصًا المنتمين إلى الطائفة العلوية. ورغم أننا نتحدث فقط عن عدد قليل جدًا من الحالات في هذه المرحلة، فإن هذا الاتجاه ينذر بالخطر.

- غالبًا ما يكون التنازع هو السائد في العلاقة بين المجموعات المتمردة وخلايا تنظيم القاعدة. ففي نيسان/أبريل 2012، قتلت وحدات من الجيش السوري الحر المواطن اللبناني وليد البستاني، وهو من زعماء تنظيم فتح الإسلام الجهادي التابع للقاعدة، بسبب إعلانه عن تأسيس دولة إسلامية في بلدة الحصن القريبة من الحدود اللبنانية. ومؤخرًا، خلَّف اشتباك بين وحدة من الجيش السوري الحر، كتيبة فاروق الشمال، وخلية من تنظيم القاعدة بالقرب من معبر باب السلام الحدودي الذي يربط حلب بتركيا عدة قتلى جهاديين من بينهم قائد الخلية أبو محمد الشامي العبسي، وأبو محمد سوري من محافظة إدلب، وتتوعَّد عائلته بالثأر له، ولاءً للعشيرة أكثر منه تعاطفًا إيديولوجيًا. إنه البعد العشائري الذي يجعل غالبًا التعامل مع أعضاء القاعدة السوريين أمرًا حساسًا. وليس من الواضح ما الذي يجعل السلطات التركية تغض الطرف عن ظهور خلايا للقاعدة بالقرب من حدودها وعن تدفق المقاتلين الأجانب عبرها. لكنهم، حتى الآن، لا يبدون الكثير من القلق بسبب هذا التطور.

- يُقال إن هناك 1300 ليبي، من بين 3500 مقاتل أجنبي، موجودون على الغالب في شمال سوريا ومنطقة الحفَّة في محافظة اللاذقية. وعلى عكس التوقعات، ورغم التديُّن الشخصي لدى هؤلاء المقاتلين، فإن دافع أغلبهم هو الشعور القومي وأفكار رومانسية أكثر مما هي دوافع إسلامية. وتفيد التقارير أن عدد المقاتلين الليبيين المتعاطفين أو المنتمين إلى تنظيم القاعدة محدود للغاية. علاوة على ذلك، يبدو أن انقسامات المعارضة السورية، في داخل البلاد وخارجها، قد فاجأت المقاتلين الليبيين ويحاولون البقاء فوق النزاع. لكن علاقة العناصر الأكثر اعتدالاً بالمجموعات المحسوبة على الأخوان المسلمين تزداد توترًا بسبب محاولات الأخوان التحكم بأنشطتهم واحتكار المساعدات التي يسعون إلى توفيرها.

- هناك عدد قليل جدًا من الأفراد، لكنه يتزايد، ممن يعملون باسم الجيش السوري الحر ويقومون بعمليات ابتزاز خصوصًا لرجال الأعمال المحليين، وإساءة استخدام الأموال التي يتم التبرع بها لدعم الثورة والإتجار بالسلاح والإمدادات الطبية التي تُقدِّمها مجموعات دعم الثورة مجانًا. ولم يعد خافيًا أيضًا أن بعض هؤلاء الأشخاص يبيعون التجهيزات التي تلقوها مجانًا من غرفة العمليات المشتركة. وفي أحيان أخرى، كانت هذه التجهيزات تُباع إلى الميليشيات الموالية للأسد. ولن يكون التعامل مع مثل هؤلاء الشذاذ سهلاً، حيث أن بعضهم استخدم المكاسب غير المشروعة للحصول على ولاءات محلية وتشكيل ميليشيات صغيرة خاصة بهم (50 – 250 رجلاً) في حين تتزايد أوراق اعتمادهم الثورية. وقد أظهر بعض قادة المتمردين المحليين ميولاً مشابهة. ففي بلدة إعزاز، في محافظة حلب، التي قصفتها مؤخرًا بعنف طائرات الميغ التابعة لنظام الأسد، هناك الآن عصبة صغيرة مؤلفة من 200 مقاتل يقودهم شخص يدعى عمار داديخي، وهو سلفي الاتجاه ويعمل بالتهريب ويصرح بازدرائه للشعب السوري أمام زواره ويدعو إلى تأسيس دولة إسلامية. كما يُعتقد أنه الشخص الذي يحتجز عناصر من حزب الله في حلب. وهو واحد من عشرات الأشخاص الذين يظهرون الآن في كافة أنحاء البلاد، يُنشئون إقطاعيات صغيرة ويعقِّدون وضعًا معقَّدًا بالأصل: إنهم أصغر بكثير مما يمكن اعتبارهم أمراء حرب، ومدججون بالسلاح بحيث لا يمكن تجريدهم منه. إنهم حثالة وأوغاد هذه الحرب.

- وفي اتجاه آخر منذر بالخطر، ينشغل أعضاء بارزون من المجلس الوطني السوري والأخوان المسلمين وتحالفات المعارضة الأخرى في تشكيل ميليشيات خاصة بهم على الأرض. ويقوم بعضهم بذلك تحت ذريعة محاولة خلق هيكل قيادة موحدة للمجموعات المقاتلة، لكن بالإصرار على قيادة هذا الهيكل تؤدي هذه الخطوة إلى مزيد من التشرذم في صفوف الثورة. فالأجندات الشخصية غالبًا ما تكون بارزة مثل الأجندات الإيديولوجية.

- بكل أسف، مشاعر خيبة الأمل والسخط والاستياء التي كان يشعر بها الناس وكل الناشطين وقادة المتمردين الذين التقينا بهم كانت محملة بمشاعر مناهضة للغرب. إنهم يوجهون سهام النقد إلى أوروبا والولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص الرئيس أوباما، ويستدعون كل صنوف نظريات المؤامرة لتفسير عدم حدوث تدخل أجنبي. لكنهم ليسوا عدائيين جوهريًا، فما زالوا يدعون إلى تدخل دولي على شكل إمدادات عسكرية وإقامة منطقة حظر جوي. أما أولئك الذين يعيشون في مناطق مختلطة بكثافة فيدعون أيضًا إلى استقدام قوات حفظ سلام للحيلولة دون القيام بعمليات انتقامية. ومهما يكن الأمر، لا أحد يتوقع الكثير من المجتمع الدولي بعد الآن، والكل مستعد للمضي مع ما لديه الآن.

- الكثير، إن لم يكن كل المجموعات المتمردة، ما زالت تحلم بتحقيق نصر عسكري تقليدي على الأسد. إنهم يعتقدون أن عملية التحرير أشبه بفتح عسكري يسمح لهم بالانتقال من مدينة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى إلى أن تتم هزيمة كل القوات الموالية للأسد وميليشياته وسيطرة المجموعات المتمردة على كل شبر من البلاد. ولكون بعض المجموعات المتمردة مدرك لكثير من الاختلافات الإيديولوجية والشخصية فيما بينها، يبدو أنها تعتقد أن القوة العسكرية هي الطريقة الأنجع للتعامل مع شركائهم الحاليين. ربما الأخوان المسلمين خصوصًا مؤهلين للحلم بنصر عسكري مباشر وهيمنة سياسية في نهاية المطاف، ادعاء لحق وتسديد دين لهم. وقد يكون هذا قوة دافعة رئيسية لمكائدهم الحالية. ويبدو أن معظم المجموعات التابعة للأخوان المسلمين راغبة في البقاء في المقعد الخلفي بشأن القتال الدائر حاليًا، والحفاظ على قوتهم من أجل اليوم التالي.

مدخل المخيم العسكري قرب مدينة أنطاليا على الحدود مع سوريا الذي تحتفظ به السلطات التركية على العناصر المنشقة من الجيش السوري، وهو واحدة من هدة مخيمات من هذا النوع


3. حال الدولة

- ربما لا يكون نظام الأسد قد سقط بعد، لكن الدولة انهارت قبيل ذلك. ففي هذه المرحلة، سوريا ليست أكثر من خليط من النزعة الوطنية العسكرية والكانتونات الطائفية والعشائرية لا يربطها سوى خيط مهترئ: ذاكرة تذوي بسرعة لسوريا موحدة. قد يبقى النظام مسيطرًا على بعض الخدمات والمناطق الرئيسية، وربما لا يزال قادرًا على القيام بإجراءات قاسية ضد خصومه والمجتمعات المحلية الداعمة لهم وإمطارهم من السماء بكل ما يوقع الرعب في نفوسهم، لكن مناطق واسعة من البلاد أفلتت من سيطرته بشكل واضح. والمشكلة: عدم ظهور هياكل إدارية موازية جديرة بهذا المسمى في أي مكان. كان النشطاء المحليون، بالعمل من خلال لجان مخصصة، قادرين على ضمان استمرار خدمات معينة، مثل جمع القمامة وضبط الأمن، لكن هذا صحيح في بعض المدن فقط. لقد فقدت مجتمعات محلية أصغر قسمًا كبيرًا من سكانها بحيث تسبب ذلك في انقطاع الخدمات وتحول هذه المجتمعات بأكملها إلى مدن أشباح فعلية حيث لم يعد هناك وجود لكامل مفهوم الإدارة. وقد عانت معظم المجتمعات المحلية المتوسطة الحجم من الكثير من الدمار مما جعل المؤسسات المدنية خارج الفعل. ويكون المتمردون هم السلطة القانونية عندما يتواجدون في تلك المناطق. القصف، وأرتال الدبابات المتجوِّلة ترافقها ميليشيات موالية للأسد، عمليات القنص، وحواجز التفتيش الموالية للنظام تجعل الحياة اليومية في معظم المناطق "المحررة" لا تطاق، مما يجعل من شبه المستحيل إجراء انتخابات من أجل حكومات محلية. كما أن عدم وجود رؤية سياسية موحدة يُعيق أيضًا إجراء كهذا. وما عدا شدة المتطلبات العملية للمعيشة اليومية، ينقسم سكان المناطق المحررة على طول نفس الخطوط الإيديولوجية التي تقسم المجموعات المعارضة. وكان من المتوقع من مجموعات المعارضة، خصوصًا تلك المقيمة في الشتات، تقديم الرؤية السياسية الضرورية، لكن إخفاقها في القيام بذلك بعد أشهر عديدة اضطر النشطاء العاملين على الأرض إلى تحمل مسؤولية العملية السياسية أيضًا. فالمتمردون والنشطاء المحليون مصممون على تولي العملية السياسية حالما تتوفر الشروط الأمنية الملائمة لإطلاق حوار سياسي عام: تلك هي مواقفهم المتطورة، بدلاً من الثوابت الإيديولوجية لمجموعات المعارضة التقليدية، التي ستؤول في نهاية المطاف إلى إملاء طبيعة سوريا المستقبل.

- التطهير العرقي الذي يجري في منطقة سهل الغاب في محافظة حماة وبعض المناطق الريفية في محافظة حمص سوف لن يكون عكوسًا بسهولة في أي وقت. فقط معاقل الموالين تبقى في المنطقة. الاستثناءات قليلة، وهي واقعة تحت قصف جوي مستمر.
- تتزايد عمليات الثأر الفردية. المشاعر الطائفية هي الآن القاعدة وليس الاستثناء. التلفزيون السوري وأقنية تلفزيونية أخرى موالية لنظام الأسد، في سياسة واضحة تبناها منذ الأيام الأولى للثورة، يواصل عرض مقابلات على الهواء مع جنود وعناصر من ميليشيات موالية للأسد يتحدثون فيها جميعًا باللهجة الساحلية، لهجة الأقلية العلوية. ومع ذلك، يبدو أن قادة المجموعات المتمردة الرئيسية والنشطاء السياسيين المحليين يتفانون في منع أعمال انتقام جماعية. لكن، رغم النوايا، تبقى مقدرتهم على ضمان عدم حدوث ذلك في المستقبل موضع شك. وبعد كل شيء، ليست جميع المجموعات المتمردة تحت إمرة هؤلاء القادة والنشطاء، فالمجموعات التي تتبنى أجندات طائفية واضحة تبدأ في التكاثر، ونوايا المجموعات القريبة من تنظيم القاعدة واضحة تمامًا بهذا الصدد. قد تكون هذه المجموعات قليلة العدد، لكنها، وكما شاهدنا في العراق، يمكن أن تنفذ عملياتها بوحشية وتعصب. والإعدام بدم بارد لـ 20 جنديًا مواليًا من قبل المتمردين في حلب في 10 أيلول/سبتمبر مثال على ذلك. ولا يعدو الأمر عن كونه مسألة وقت قبل أن تبدأ عمليات الانتقام الطائفي. وعدم حدوث هذه العمليات حتى الآن شهادة على حكمة القادة المحليين. ومن المؤسف جدًا أن لا يتوفر إلا القليل من مثل هذه الحكمة لدى الجانب الطائفي الآخر.

- إذا أخذنا الوضع الراهن بالحسبان، فإن فرص النجاح في تقسيم سوريا، حتى ولو كان غير رسميًا، تناقصت فعليًا في الأسابيع القليلة الماضية. فلن يُسمح لا للعلويين ولا للأكراد، المجموعتين المرجحتين لاختيار مثل هذا الإجراء، بالاستقرار بسلام في أراضٍ لهم مقتطعة حديثًا. ففي الساحل، تكدِّس المجتمعات السنية المحلية السلاح للقتال ضد التطهير العرقي الذي لابد أن يحدث إن أقدم العلويون على خطوة انفصالية. وبالنظر إلى تجاور مختلف المجتمعات المحلية من بعضها البعض وتصاعد التوترات الطائفية، قد لا يبقى وضع المجتمعات السنية المحلية دفاعيًا حالما تبدأ العملية بالتكشُّف، وخصوصًا في منطقة الحفَّة. وفي الواقع، وبينما نكتب هذا التقرير، تدور معركة في أجزاء من شمال منطقة الحفة وتتركز في قرية برج كسب ومحيطها حيث يحاول المتمردون الحصول إلى منفذ للبحر والتصدي للتطهير العرقي من قبل الميليشيات الموالية للأسد. هذا التحرك أجبر السكان في القرى العلوية المجاورة على مغادرة منازلهم حيث كانت قراهم تتعرض للقصف للمرة الأولى منذ بدء الثورة. لذا، عاجلاً وليس آجلاً، ومع الإحجام عن تدخل دولي على نطاق واسع، سوف ينقل العرب السنة، المدفوعين برغبة الانتقام، المعركة إلى مناطق العلويين، وما تم بذره في حمص وحلب ودمشق ودرعا وحماة ودير الزور سيتم حصاده في اللاذقية وجبلة وطرطوس.

- في المناطق الكردية، يُقال إن العشائر العربية تتسلَّح استعدادًا للدفاع عن "وحدة أراضي الدولة". وكان لدى الأكراد، الذين يتسلحون بدورهم، القدرة على الحيلولة دون المواجهات من خلال اتخاذ بعض الخطوات ومحاولة إقامة اتصال أوسع مع بعض زعماء العشائر العربية وتهدئة مخاوفهم وقلقهم. ولا يزال هناك الكثير مما يتطلب القيام به في هذا الصدد إذا أُريد منع صراع عربي–كردي. كما يتصاعد التنافس الكردي الداخلي أيضًا، حيث يواصل الموالون لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD فرض أنفسهم على الأرض في محاولة لإحكام سيطرتهم على البلدات ذات الغالبية الكردية. ومما يزيد من التعقيد، يخدم قادة وفصائل حزب الاتحاد الديمقراطي أجندات مختلفة. أكراد سوريا هم الآن أسرى نزاعاتهم الداخلية التي يمكن أن تتطور إلى صراع مسلح، وإلى أن يتوصلوا إلى اتفاق حقيقي بين بعضهم البعض أو ينفذوا الاتفاق الذي توصلوا إليه في إربيل (هيولير)، يمكن اعتبارهم المُعطَّلين فعليًا بقدر ما يتعلق الأمر بالثورة، رغم التعاطف الذي يبديه النشطاء الشباب الأكراد مع الثورة. لقد لعب الأكراد دورًا فاعلاً في الحركة الثورية في البداية، خصوصًا في حلب حيث بدوا لفترة طويلة أنهم حملة المشعل. لكن إمكانية انخراط أكبر للأكراد في الثورة مفقودة فعليًا في هذه المرحلة. إن عجز مجموعات المعارضة العربية والكردية على الاتفاق على برنامج مشترك متقارن مع استراتيجية الأسد للتعامل مع المدن ذات الغالبية الكردية يساعد على تحييد الدور الكردي وإفساح الوقت لتفاقم التناقضات المبينة أعلاه ومن ثم انفجارها على الساحة. وفي الواقع، في هذه المرحلة، المناطق ذات الغالبية الكردية، وخصوصًا محافظة الحسكة، هي براميل بارود بانتظار الانفجار. إن الصراع في المناطق الكردية سيؤذي المتمردين أكثر من نظام الأسد وسوف تغرق فيه القبائل العربية في دير الزور والرقة والحسكة وحلب، ويصرف الانتباه عن القتال ضد الأسد والميليشيات الموالية له. وبينما يستمر وضع نظام الأسد في التدهور في حلب وفي أماكن أخرى، من المرجح أن يحاول عملاء له في المناطق ذات الغالبية الكردية إثارة المشاكل.

- لا تثير الدهشة التقارير التي تفيد بحدوث انهيار عام في القانون والنظام في كل مكان من البلاد. ويُقال إن السلطة السورية أطلقت سراح معظم السجناء الجنائيين والقادة الجهاديين من سجونها. وتبدو هذه الخطوة وكأنها جزء من استراتيجية لنشر الفوضى وتشويه سمعة المتمردين. وفي الواقع، تم تشكيل وحدات أمنية خاصة مهمتها القيام بعمليات سطو وخطف وإلقاء اللوم على الجيش السوري الحر. لكن، مع ذلك، تشكلت أيضًا عصابات إجرامية حقيقية مستقلة تمامًا عن تلاعب الحكومة. كما تتورط بعض الوحدات من الجيش السوري الحر في كافة أنحاء البلاد في عمليات خطف لأشخاص يُشتبه بموالاتهم للنظام طلبًا للفدية. وغالبًا ما يكون المبرر هو الحاجة إلى الأموال لشراء الأسلحة والذخائر. لكن الخط الفاصل بين هذه العمليات وتلك الإجرامية المنظمة يزداد ضبابية، خصوصًا بالنسبة للوحدات المقاتلة الصغيرة التي تُركت لتعيل نفسها بدون دعم من أحد تقريبًا. لكن دوائر عمليات الخطف الأكبر والأكثر تنظيمًا في البلاد هي الأجهزة الأمنية والميليشيات الموالية للنظام التي تموِّل نفسها الآن عن طريق خطف أشخاص من الطائفة السنية أو حتى من المسيحيين واحتجازهم بتهم ملفقة إلى أن يتم افتدائهم من قبل عائلاتهم. وحتى النشطاء المعروفين يمكن إطلاق سراحهم عندما يتم دفع السعر المناسب للأشخاص "المناسبين".

4. الجبهة الإلكترونية

أصبحت الحرب الإلكترونية أكثر انتشارًا واشتد سعيرها أيضًا، وهي تهدف الآن إلى تشويه سمعة بعض النشطاء المعارضين في داخل البلاد وخارجها، خصوصًا وأن المجتمع الدولي الآن بدأ في إيلاء مزيد من الاهتمام لهم. فعن طريق قرصنة حساب سكايب لعبد الرزاق طلاس، أحد أوائل الضباط المنشقين وقائد كتيبة الفاروق في حمص وحماة، استطاع قراصنة (هاكرز) موالين لنظام الأسد نسخ أشرطة فيديو له وهو يستمني بينما كان يجري دردشة على سكايب مع إحدى صديقاته خلال شهر رمضان. وقد قوَّضت الفضيحة مصداقية طلاس وأدَّت إلى انشقاقات في مجموعته. وبما أن الولايات المتحدة تغير من استراتيجيتها تجاه المجلس الوطني السوري وتحاول التواصل مع النشطاء المحليين والمتمردين وتقديم الدعم لهم، يمكننا توقع مزيد من مثل هذه الأحداث في المستقبل. وقد يبلغ هذا الاتجاه ذروته بمحاولات اغتيال تستهدف بعض الناشطين الشباب، حتى أولئك الذين يقيمون في الخارج، خصوصًا في اسطنبول حيث يكثر جواسيس النظام. والآن، وقد اكتشف العالم أخيرًا من هم الأبطال الحقيقيون للثورة وبدأ في التواصل معهم، من الطبيعي أن يحاول النظام فعل ما بوسعه لوضع حد لهم.

5. الصعيد الإنساني

من المنظور الإنساني، يزداد الوضع في سوريا مأساوية. والمتعذر فهمه هو السبب في عدم بذل المزيد من الجهود لتقديم مساعدات إنسانية، رغم الإعلان عن تلقي السوريين لمثل هذه المساعدات. واللاجئون السوريون في لبنان يتعرضون إلى مضايقات مستمرة واعتداءات أحيانًا وعمليات خطف من قبل عناصر موالية لنظام الأسد. وفي العراق، اللاجئون السوريون محتجزون على طول الحدود ومتروكون لتدبير أمورهم بأنفسهم مع مساعدة ضئيلة من المجتمعات المحلية. في تركيا والأردن، لا تزال حرية وصول عمال الإغاثة الدوليين والمتبرعين السوريين والعرب محدودة، وفي حين أن ظروف المعيشة في تركيا ومخيمات اللجوء السبعة هي أفضل بكثير منها في مخيم الزعتري في الأردن، لا يزال هناك الكثير مما يمكن وينبغي القيام به. لا وجود في المخيمات في تركيا لخدمات الإرشاد النفسي للأطفال المصابين بصدمات نفسية وضحايا الاغتصاب والتعذيب. وليس هناك سوى مخيم واحد فيه مدرسة للتدريس باللغة العربية. فالأنشطة التعليمية في المخيمات الأخرى عرضية وباللغة التركية. ولا يُسمح للمتطوعين والمنظمات غير الحكومية الذين يمكنهم سدُّ تلك الثغرات بحرية الحركة. وقد طلبت السلطات التركية أخيرًا المزيد من المساعدة الدولية. لكن المسؤولين الغربيين الذين التقينا بهم لم يكونوا متأكدين من الفارق الذي يمكن سيعنيه هذا فعليًا على الأرض. السلطات التركية مرتابة إلى حد كبير من المنظمات غير الحكومية الدولية وتفضل إدارة الوضع بنفسها. UNHCR المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لم تُستدعَ. لكن بما أن عدد اللاجئين في تركيا يقترب سريعًا من الـ 100000 ومرشح لأن يتضاعف بحلول نهاية العام، يصبح من الواضح أكثر أن ثمة حاجة إلى بعض المساعدة عدا الهبات المالية. وتأمل السلطات التركية الآن بإقامة مخيمات داخل الأراضي السورية، حتى من دون إعلان رسمي عن منطقة آمنة. وسوف تُوضع المخيمات تحت سيطرة المتمردين الذين سيتوجب عليهم حمايتهم.

على الصعيد الطبي، ما هو متوفر الآن للجرحى في جميع هذه البلدان غير كاف على الإطلاق. ورغم أن تركيا تأتي في المقدمة على هذا الصعيد، إلا أنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله. ويزداد عدد الأشخاص مبتوري الأطراف في المستشفيات الحدودية في تركيا مع ورود تقارير تفيد بأن الكثير من حالات البتر لم تكن ضرورية. ولا يتم توفير أية استشارة. والموظفون المحليون لا يتحدثون العربية وليس هناك مترجمين. والمنظمات غير الحكومية الدولية التي لديها الخبرة الضرورية للتعامل مع هذا الوضع تُمنع من الوصول أو يُسمح لها بالعمل فقط تحت ضوابط صارمة. كما يُمنع المتطوعون السوريون والعرب من ذوي الخبرات الطبية المميزة من الوصول. وقد أُقيمت قلة من المستشفيات الميدانية الجديرة بهذا الإسم.

وضع النازحين في داخل سوريا مأساوي. الكثير منهم غادروا مناطقهم هربًا من القصف ليجدوا أنفسهم مجددًا تحت القصف في المناطق التي قصدوها. وفي الواقع، لاقى الكثير من سكان حمص حتفهم في مختلف ضواحي دمشق وأحيائها. المستشفيات الميدانية قليلة وينقصها عاملين بشكل دائم، وتفتقر إلى المعدات والتجهيزات الأساسية. وقد تعرض الكثير من مثل هذه المستشفيات، إضافة إلى المستشفيات النظامية، إلى القصف. ولا يزال الأطباء هدفًا مفضلاً لعمليات الاعتقال والقنص والإعدامات العاجلة. وتقدم بعض المنظمات غير الحكومية المشورات الطبية عبر سكايب. وقد تمكنت منظمة أطباء بلا حدود، بعد الكثير من الجدل مع السلطات التركية، من إقامة مستشفى ميداني واحد في محافظة إدلب. لكن هناك بالتأكيد حاجة إلى أكثر من ذلك.

6. الدور التركي

رغم كل التأكيدات بالتضامن مع الشعب السوري وكل الاستعداد المعلن لتنسيق السياسات والإجراءات مع إدارة أوباما ودول حلف الناتو الأخرى، لا يزال موقف القادة الأتراك إزاء الصراع الحالي في سوريا مبهمًا. ففي هذه المرحلة، يبدو أنهم ينظرون إلى الوضع من خلال قناع سياسات هوية داخلية. فالقضية الكردية هي بالتأكيد أمام أنظار السلطات التركية وكذلك القضية العلوية الأقل إعلانًا عنها. ورغم أن ضآلة احتمال حدوث انتفاضة علوية، يمكن أن يزيد الاستياء العلوي في تعقيد حسابات حزب العدالة والتنمية AKP الانتخابية في بعض المحافظات الرئيسية. فلا الأكراد ولا العلويين في تركيا سيكونون مسرورين بتزايد التدخل في سوريا. وفي حين يعتبر كثير من العلويين الأسد ديكتاتورًا، فإن من بينهم موالين عنيدين أيضًا. وبالنسبة لكل هؤلاء العلويين، الثورة السورية هي نتاج مؤامرة أمريكيةسعودية–إسرائيلية والثوار ليسوا أكثر من مقاتلين أجانب وأصوليين. وترجع آراء العلويين بالولايات المتحدة إلى أبرد أيام الحرب الباردة. وفي الأول من أيلول، احتشد الآلاف من العلويين في أنطاكية داعين إلى ترحيل اللاجئين السوريين من مقاطعة هاتاي. ومنذ ذلك الحين، جرت عدة مسيرات أصغر رافعة نفس المطلب. وفي توقع لهذا التحرك، كانت السلطات التركية قد أصدرت تعليمات تدعو فيها اللاجئين السوريين في المقاطعة الذين لا يلتزمون بالبقاء في المخيمات إما إلى إثبات وجودهم في المخيمات أو إلى مغادرة المقاطعة. وبعد مسيرة الأول من أيلول/سبتمبر، سرعان ما أجلت السلطات بعض العائلات اللاجئة لاحتواء الوضع. وقد طال هذا الإجراء أكثر من 50000 شخص معظمهم زوجات وأمهات وأطفال المتمردين بالإضافة إلى نشطاء يلعبون دورًا حيويًا في إيصال الإمدادات إلى المجموعات المتمردة في سوريا. وإلى أن يجد المتمردون موقعًا جديدًا في تركيا التي يمكن استخدامها كقاعدة لهم، سيكون للقرار أثرًا سلبيًا على بعض العمليات الجارية في البلاد، خصوصًا في منطقة الحفة. كما قامت السلطات التركية بإغلاق حدودها أمام التدفق المتزايد للاجئين. لكن على الأرجح أن هذا القرار سيكون مؤقتًا بهدف كسب الوقت من أجل إقامة مخيمات جديدة.

مهما كانت آراء الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى بخصوص المجلس الوطني السوري، لا تزال السلطات التركية، رغم إدراكها لمواطن الضعف في جماعة الأخوان المسلمين بما في ذلك افتقارها إلى قاعدة شعبية كبيرة في البلاد وانقساماتها الداخلية، متشبثة بها بسبب الارتباطات الإيديولوجية بين حزب العدالة والتنمية والأخوان المسلمين. ولا يمكن لأي ضغط أن يفصم عرى العلاقة بينهما.

ونظرًا للسهولة التي يمكن فيها للسلطات التركية من إغلاق حدودها في وجه اللاجئين والنشطاء الذين يحاولون التسلل عبرها، يصبح من المتعذر فهم سبب غض هذه السلطات النظر عن تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا. لكن، وكما لاحظنا نحن، وكما تشير تقارير النشطاء المحليين في أنطاكية، ثمة تورط لبعض أعضاء جماعة الأخوان المسلمين في تهريب هؤلاء المقاتلين إلى داخل البلاد.

7. المعارضة المقيمة في الولايات المتحدة وتركيا

كجزء من اتصالاتها الجارية مع المعارضة، فتحت الولايات المتحدة مؤخرًا في اسطنبول مكتبًا خاصًا لهذا الغرض: مكتب دعم المعارضة السورية OSOS. ويهدف المكتب إلى تقديم الخدمات "كمنشأة تدريب ومركز تنسيق ونقطة اتصال للمجتمع الدولي مع شبكات المعارضة داخل سوريا"، و"يُديره النشطاء الذين يحافظون على علاقات واسعة مع المجالس المعارضة ومنظمات المجتمع المدني داخل البلاد". وقد قيل لنا إن المكتب "سيكون بمثابة مركز للمعلومات عن المعارضة واحتياجاتها وبناء قدرات المجموعات المعارضة والناشطين وتسهيل توزيع المساعدات إلى سوريا". وبدافع مراعاة السلطات التركية والمجلس الوطني السوري، تم ضم أعضاء بارزين من المجلس الوطني والأخوان المسلمين إلى الهيئة الاستشارية للمكتب، ومنهم الرئيس الحالي للمجلس الوطني عبد الباسط سيدا والمحاور عن الأخوان المسلمين ملهم الدروبي. ويتم تمويل المكتب من قبل وزارة الخارجية الأمريكية، مثلما كانت مساعٍ سابقة لدعم المعارضة في اسطنبول. وقد تزامن وجودنا في تركيا مع إقامة ورشات عمل نظمها أوسوس حول الطائفية (اسطنبول) وتمكين المرأة (غازي عنتاب وكيليس). ومن الواضح في هذه المرحلة التركيز على المجتمع المدني في أوسع المعاني. التحديات الانتقالية والعلاقات مع المجموعات المتمردة لم تُعالج بعد. وغالبًا ما يكون اختيار الشركاء السوريين هزيلاً، مما يشير إلى استمرار الافتقار إلى الإلمام بالمشهد السوري الذي هو، بعد 18 شهرًا من بداية الثورة، مثبط للعزيمة نوعًا ما، إن لم يكن منذر بالسوء. وإذا اتبعت الممارسات في المستقبل نفس الخط ستتحول إلى شكل آخر للمماطلة.

وسوف تشمل جهود أمريكية داعمة أخرى في اسطنبول العمل مع خبراء من المعهد الأمريكي للسلام USIP لتمويل مكتب لمنظمة سورية غير حكومية يدعى "اليوم التالي" The Day After مخصص لتدريب النشطاء السوريين على تحديات الفترة الانتقالية. وسوف يسعى المكتب وبرامجه إلى إجراء تدريب مبكر يقوده المعهد الأمريكي للسلام في برلين بلغ ذروته في إصدار خطة انتقالية لمجموعات المعارضة السورية. وفي حين تبدو الخطة عامة وفضفاضة، فإنها من نوعية البرامج التدريبية التي سيكون تنفيذها وقدرتها على أخذ التطورات الراهنة على الأرض بعين الاعتبار هي المحددة للفائدة الفعلية من هذا المسعى الخاص. وهناك مبادرة أخرى ترعاها الولايات المتحدة وهو المركز السوري للعدالة والمساءلة Syrian Justice and Accountability Center الذي يجري التأسيس له برعاية IREX والذي قد يفتتح مكتبًا في اسطنبول أيضًا. وسوف يُخصَّص المكتب لإدارة تحديات العدالة الانتقالية في سوريا. ويفيد الناشطون على الأرض أيضًا وللمرة الأولى أن معدات الاتصال، التي طال انتظار وصولها من الجانب الأمريكي، هي الآن في طريقها إلى البلاد. ويبدو أن مكتب دعم المعارضة السورية ومنظمات أمريكية غير حكومية تشارك في عملية التوزيع أيضًا.

ملاحظات ختامية

تشير الوقائع على الأرض، إضافة إلى الوقائع الجيوبوليتيكية الإقليمية، إلى أن النصر العسكري المباشر من قبل أي من الجانبين هو مستحيل بقدر ما هو مستحيل إجراء حوار قابل للنجاح مع الأسد. ومن الضروري أن يُخرج الأسد من المعادلة السورية، ويبدو أن الوسائل العسكرية هي السبيل الوحيد لتحقيق ذلك، في نهاية المطاف. لكن الوسائل العسكرية سوف تثبت عدم كفايتها على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بما بعد هذه الخطوة الضرورية: تحقيق الاستقرار في البلاد، تجميع كل قطع البَزْل puzzle مرة أخرى لمطابقتها مع بعضها، والتعامل مع قادة المتمردين والوقائع الإثنية والإقليمية. ثمة حاجة إلى رؤية سياسية تتجاوز التخطيط لليوم التالي وتتوغل في جوهر مسألة تأسيس ترتيبات المعيشة العملية التي يمكن أن تسمح لمجتمع مفتَّت وسياسات مِتْنيَّة أن تعيد بناء الدولة وتجعلها تزدهر. فالأجندات الإيديولوجية للمعارضة التقليدية وعدم كفاية كوادرها القيادية انكشفت على نحو فاضح على مدى الأشهر الـ 18 الماضية، وجعلها غير جديرة بالثقة كشريك عندما يتعلق الأمر ببدء مثل هذا المسعى. ويبدو أن قادة المتمردين والنشطاء السياسيين العاملين على الأرض يمسكون بمفتاح نجاح هذا المسعى أيضًا. لكن المتمردين والنشطاء سوف يلاحقون مشاكلهم وتفضيلاتهم الخاصة، وسيكون هناك صراعات مناطقية بلا ريب، لكن خبراتهم على الأرض ستجعلهم أكثر براغماتية وقابلية للتحسن للتوصل إلى اتفاقات عندما يحين الوقت.

تشارك أعضاء المجتمع الدولي مع النشطاء وقادة المتمردين مستقبلاً يجب أن يسعى إلى حصر الحل العسكري بأمن البلاد. ففي مرحلة أو أخرى، يجب أن يكون المتمردون والناشطون مستعدين للتفاوض مع ممثلين من الطرف الآخر للانقسام. ومهما حصل من تغيرات عسكرية على الأرض، سيكون هناك دائمًا مجتمعات محلية وجيوب كانت غالبية السكان فيها قد دعمت معسكر الأسد، سواء كان بدافع من الولاءات الطائفية أو الإيديولوجية، أم بدافع المصلحة الذاتية المحضة. فهؤلاء الناس على استعداد للقتال حتى الرمق الأخير إن هم اعتقدوا أن بقاءهم مهدد، خصوصًا بعد الكثير من المجازر التي ارتكبوها أو اُرتكبت باسمهم. ولدى المتمردين والناشطين قوسًا واسعًا من التعلُّم يخولهم أن يكونوا جاهزين للتعامل مع هذا الوضع. فهم، بتسلحهم برؤية عما يريدون للبلاد أن تكون عليه حالما يرحل الأسد، يمكن أن يوفروا أساسًا للمفاوضات.
في النهاية، لا تزال هناك حاجة إلى عملية سياسية تضع حدًا لهذا الصراع، عملية سياسية لا تتجاهل الأبعاد العسكرية بل تبني عليها. يضاف إلى ذلك، لا يمكن لهذه العملية السياسية أن تتجنب القضية الحقيقية الموضوعة على المحك: شكل سوريا المستقبل. فكل عملية سياسية تم اقتراحها حتى الآن لا تقدم لنا أكثر من جدول زمني يُقصد به جرُّنا إلى النقطة التي جرت فيها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على أساس دستور جديد. لم تُقدِّم أي تفاصيل حول هذا الدستور ماعدا إشارات مبهمة هنا وهناك إلى التنوع والمواطنة والمساواة واللامركزية. فالعملية السياسية المطلوبة في هذه المرحلة ينبغي أن تركز بالضبط على إنتاج هذا الدستور الجديد، وتوضيح الكيفية التي ستتم فيها حماية الحقوق الطائفية والمناطقية، والكيفية التي ستُقام بها العدالة الانتقالية وما هي حدودها.

لقد اُحتجزت سوريا في حالة صراع منذ أشهر، وبدلاً من المباشرة في مسعى وساطة جدي، انشغل القادة الدوليون في المماطلة وتمرير هذه البطاطا الساخنة فيما بينهم قبل إعادة إلقائها إلى المقاتلين. وبمطالبة القادة الدوليين نظام الأسد بإعادة قواته إلى ثكناتها بدون إبداء أي استعداد لمعاقبته إن هو أحجم عن ذلك، ودعوتهم المتمردين والناشطين إلى تقديم ضمانات للأقليات في حين أن معظم عمليات القتل والعنف الجارية تُرتكب بزعم حماية هذه الأقليات، يكون هؤلاء القادة قد نأوا بأنفسهم عما يجري على الأرض. وفي الواقع، كان نهج القادة الغربيون هو غسل أيديهم من الأمر برمته، في حين كان القادة الروس والصينيين والإيرانيين على أتم الاستعداد لغمس أيديهم في الدماء التي تريقها الميليشيات الموالية للأسد بتبني دعاياتها وأكاذيبها. هذا الوضع يتطلب تغييرًا. فالقادة الغربيون لديهم كل ما يمكن أن يجبر الأسد على الرحيل كسبيل لإنهاء الصراع، لكن التلكؤ في تبني استراتيجية واضحة لضمان ذلك سمح للوضع بالتفاقم إلى درجة أن رحيل الأسد لم يعد يعني أن الصراع في سوريا سوف ينتهي. والآن، لا يوجد ما يسمى جيش نظامي في سوريا، بل ميليشيات موالية للأسد مشكلة من خليط من قوات عسكرية وقوى أمن ومدنيين. والأغلبية الساحقة من هذه الميليشيات هي الآن من العلويين، يدعمها في بعض المناطق والأحياء مسيحيون ومتطوعون من العرب السنَّة والأكراد. وقد شارك معظم أفراد هذه الميليشيات في الأعمال الوحشية، لكنهم يعتقدون حقًا أنهم يقاتلون دفاعًا عن حيواتهم وعائلاتهم. فهم، في تفكيرهم، يقومون بذلك استباقًا لمنع الفظائع التي سوف تُرتكب بحق مجتمعاتهم المحلية في المستقبل. لقد التزموا صف الأسد بالتمام، رغم هزال حججه، بسبب السمة اللاعقلانية التي تنطوي عليها سياسات الهوية والهواجس الطائفية التي يعاني منها المتعلمون بقدر لا يقل عن الجاهلين. وعلى طاولة المفاوضات، لا يمكن للأسد وجنرالاته ومسؤوليه أن يمثلوا بصورة مشروعة هؤلاء الناس ومصالحهم. ربما هم يحبون الأسد بصدق، لكن من الواضح الآن أنه يستخدمهم كأدوات في المواجهة ولا يأبه لمصالحهم في أعماق نفسه. وبدون التواصل مع زعماء الميليشيات، لا تهدئة للوضع في سوريا. نحن بحاجة إلى إيجاد سبل لإشراك الميليشيات الموالية للأسد أنفسهم في الحل. وفي حين يبدو هذا الأمر بعيد الاحتمال، لنتفكر في هذا: غالبية العدد القليل من العلويين الذين انضموا إلى صفوف المتمردين كانوا أعضاء في الميليشيات الموالية للأسد، ومع ذلك كان المتمردون يتقبلونهم بترحاب. إن التفاهم من أجل "هدايات" من هذا النوع على نطاق واسع في أوساط العلويين خصوصًا قد يكون المفتاح لإنهاء هذا الصراع. ومن المستبعد تمامًا الاعتماد على الأسد وجنرالاته للتعاون في هذا الأمر. فالمسعى الأكثر أهمية الذي يمكننا البدء فيه في هذه المرحلة هو استراتيجية مُتجاوِزة يقودها المتمردون والناشطون بالتعاون مع ممثلين من المجتمع الدولي تهدف إلى إقناع الميليشيات الموالية للأسد بمثل هذا المآل. أما بالنسبة إلى الأسد وجنرالاته فإن ترحيلهم إلى محكمة الجنايات الدولية قد يساعد على إغلاق ملف ضحايا جرائمهم، ويوفر متنفسًا لحزن وغضب جميع أفراد عائلات أولئك الضحايا عوضًا عن الانتقام.

لقد انهارت الدولة في سوريا، ولن يعمَّ الهدوء أرجاء البلاد لسنوات. سوريا اليوم دولة فاشلة بالفعل. وينبغي أن ينصبَّ التفكير في هذه المرحلة على الكيفية التي يمكن فيها استعادة سوريا ككل مرة أخرى، وكيف يمكن أن يعمّها السلام والحيلولة دون تدهور وضعها الإنساني وامتداد آثار ذلك إلى دول الجوار. لم يعد الخيار أمام الكثير من دول المجموعة الدولية هو ما إذا كان يجب التدخل بل كيفية التدخل. فكيفية التدخل، لكي تكون قابلة للتطبيق، ينبغي أن تتضمن مكونات سياسية إضافة إلى المكونات العسكرية. ولا يمكن أن يكون هناك ختام للعبة في هذه المرحلة سوى بإزاحة نظام الأسد واستبداله بمنظومة حكم أكثر خضوعًا للمساءلة. لكن حصول ذلك يتطلب التغلب على طيف من العقبات، ليس أقلها إيجاد صيغة لتحقيق التوازن في الحقوق الطائفية والمناطقية، والتوفيق بين الإيديولوجيات المتصادمة للمجموعات المتمردة المتنافسة والطموحات الشخصية المتزايدة لدى بعض قادة المتمردين والمعارضة. ومن المهم الاتفاق حول نهاية اللعبة وسير العملية بين اللاعبين الإقليميين. وقد لا تكون روسيا وإيران مؤهلتين للمساهمة إيجابيًا بهذا الخصوص. لكن يمكن استمالة معظم القوى الإقليمية الأخرى حالما تبدي الولايات المتحدة استعدادًا لتولي دور أكثر فعالية في العملية. وسوف يحتاج كل هذا إلى الحدوث خارج إطار الأمم المتحدة لتجب الفيتو الروسي والصيني. وفي غضون ذلك، يجب إيجاد حل لقوات الأسد الجوية من أجل تمكين المتمردين والنشطاء من إحكام قبضتهم على الأراضي المحررة، وبدء العمل على قضايا الحكم المحلي وإطلاق العملية السياسية المطلوبة. فالحالة الراهنة للبلاد، والمعارضة واللاعبين الإقليميين، والتهديد الذي يشكله الأثر المحتمل لذلك وأسلحة الدمار الشامل يعني أن الوضع في سوريا يجب أن يُعامل بدقة وبراعة من الآن فصاعدًا من قبل أية إدارة تشغل البيت الأبيض، وأيًّا كانت ميولها الإيديولوجية.