|
مؤتمر حول الأنثروبولوجيا التكوينية، جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس، 20-21
نيسان، 1990 |
ننشر فيما يلي الجزء الثاني من
مقابلة عمار عبد الحميد وإيريك غانس. وقد قام السيد غانس، شأنه في الجزء الأول
(المنشور في الإصدار الثامن من معابر،
باب "إضاءات")، بإضافة تعليق باللون الأخضر، كما أضاف فريق تحرير معابر تعليقين باللون الأحمر.
|
ع.ع.ح.: نظراً لخلفيَّتينا لا يمكن لأيٍّ منا أن يدَّعي الحياد فعلياً في التعامل
مع قضية الصراع العربي الإسرائيلي؛ غير أن التزامنا المشترك باستخدام اللغة لتأجيل
العنف يوثِق بيننا عروة تساعدنا على الاستمرار في هذا الحوار، بغضِّ النظر عن
حساسية الموضوع الذي نحن بصدده. وبناء على ذلك، دعني أردُّ على بعض النقاط التي
أثرتَها في جوابك الأخير.
كيف
لنا أن نتوقع أن يتعاطف الفلسطينيون أو أن يقوموا بأية مبادرة للتعامل بالمثل مع
الإسرائيليين، بينما لا شيء على أرض الواقع يعطيهم الانطباع باقتراب الحل؟ إذ يبدو
التعاطف امتيازاً يحتكره الأقوياء.
إ.غ.: أنا أتفهم ما تقول. بيد أن الفكرة من وراء عملية أوسلو كانت إمكانية إجراء
مفاوضات حقيقية، أي مفاوضات بين شريكين متكافئين.
إنما ثبت لاحقاً أن هذه الفكرة كانت وهماً.
دعني
أتطرق لهذا النقاش على مستوى أعم. كقارئ لمقالاتي، لابدَّ أنك تعلم أنني أحاول أن
أبني أخلاقياتٍ للمرحلة الـ"مابعدألفية" أو الـ"مابعدأضحوية"
التي نعيشها. ومشكلتنا هي أن الآليات السياسية للمجتمع الليبرالي الديمقراطي لا
تكون فعالة إلا بين شركاءَ متساوين نسبياً؛ وبالتالي فإن المقاربة الأضحوية
للعلاقات غير المتكافئة التي نجحت في الماضي لم تعد قابلة للحياة اليوم. بكلمات
أخرى، علينا أن نتفهم النقمة وأن نعمل على التهدئة من فوعتها؛ لكننا لا نستطيع أن
نقبل بها كمصدر للحقيقة.
وتطبيق
هذه المعادلة على الوضع الإسرائيلي الفلسطيني هو أن على الإسرائيليين، بالطبع، أن
يستمروا في التعاطف مع الفلسطينيين؛ ولكن لا يمكنهم الاكتفاء بالتسليم بالرؤية
الفلسطينية للواقع ولا بالمطالب التي تنبثق عن هذه الرؤية. فالفلسطينيون اعتادوا
على وصف إسرائيل بأعنف التعابير وأكثرها عدائية. دعني أقتبس من بداية مقال نموذجي
نشر مؤخراً في فلسطين تايمز:
"كل شيء بدأ منذ أكثر من 52 عاماً عندما باعت الدول العربية فلسطين إلى
الغزاة اليهود الآتين من أوروبا وأمريكا إلى أرض اللبن والعسل لينهبوا أهل البلاد
ويسلبوهم ويقتلوهم." لا يمكن حتى للإسرائيليين "المُراجِعين"
المنتقدين للسياسة الصهيونية حيال الفلسطينيين أن يدخلوا في حوار مع من يستخدم مثل
هذه اللهجة.
من
المبالغة، لا شك، أن يتوقع إسرائيل تعاطفاً من الفلسطينيين؛ ولكن يمكننا أن نأمل
أن تتراجع حدة النقمة شيئاً فشيئاً. ولسوء الحظ، فإن وجود شارون من طرف
والإرهابيين من الطرف الآخر لن يفضي إلى هذه السيرورة. ولكنني لا أعتقد أنه علينا
أن نقر بحتمية الفشل أو قطعيَّته. فلو كان باراك تحلَّى بدبلوماسية أكثر، ولو كان
عرفات تصرف كرجل دولة، لسنحت فرصة حقيقية للسلام. وعلينا أن نؤمن أن هذه الفرصة
ستسنح مرة أخرى. فمؤخراً بدأ عرفات، على
ما يظهر، يتصرف كرجل دولة حق. كُتِبَت هذه الكلمات قبل الوعود الفلسطينية الأخيرة (كانون
الأول 2001–كانون الثاني 2002) ومحاولات اتخاذ إجراءات صارمة ضد الإرهاب. فعلى
الأقل يعكس التغيرُ في النبرة نزعَ طابع الشرعية عن العنف السياسي منذ 11 أيلول،
الأمر الذي من شأنه، كما نرجو، أن يؤمن إطاراً مشتركاً للمفاوضين الإسرائيليين
والفلسطينيين.
ع.ع.ح.: يشبه ما يقوم به الفلسطينيون اليوم، من وجوه كثيرة، ما قام به الصهاينة
لإنشاء دولتهم. فالعنف الفلسطيني ليس فريداً ولا استثنائياً. ويمكن لبعضهم أن يقول
إن هذا العنف "مبرر"، ولاسيما أن الفلسطينيين يسعون لتحرير جزء من وطنهم الأم؛ إذ قبل أكثرية الفلسطينيين
بحق إسرائيل بالوجود. فهل لنا أن نلومهم على ميلهم للعنف، مثلهم كمثل أي شعب آخر
يعيش في نفس الظروف؟ أنا شخصياً أدين العنف، كما أنني لست من أولئك الذين يبرِّرون
التفجيرات الانتحارية لأيِّ سبب من الأسباب. لكن ظروف الصراع وطريقة تعامل المجتمع
الدولي معه تشجع الفلسطينيين على الاعتقاد بأنهم الضحية المطلقة، وبالتالي على
التصرف وكأنهم كذلك.
إ.غ.: كما يقال بالفرنسية: "إذا فهمتَ كل شيء غفرتَ كل شيء."[i] ويمكن لنا أن نتفهم شعور الفلسطينيين
بالإحباط. لكن الإرهاب يجعل التفاوُض مستحيلاً. فمهما كانت جرائمه، كان الإرهاب
اليهودي قبل إنشاء الدولة الإسرائيلية إرهاباً محدوداً وهادفاً؛ وقد ركَّز على
التثبيط من همَّة البريطانيين ليخرجوا من البلاد؛ وهذا ما فعلوه. فما هو يا ترى
هدف الإرهاب الفلسطيني؟ إنه ثأرٌ أكثر منه عملاً سياسياً؛ ونتيجته هي جعل المواقف
الإسرائيلية أكثر تشدداً. فشارون ما كان ليصل إلى سدة الحكم لولا الانتفاضة، ولما
احتل بيت لحم لو لم يكن أحد وزرائه قد اغتيل. فالسياق العقلاني الوحيد الممكن
للإرهاب الفلسطيني هو حملةٌ لطرد اليهود خارج الشرق الأوسط برمَّته – وهذه رغبة ما
فتئت الدول العربية تعبِّر عنها، كما تعلم.
ع.ع.ح.: لقد قلتَ: "إذا ما كان إسرائيل لمجرد وجوده جلاداً والفلسطينيون ضحايا
يمسي الحوار مستحيلاً." ولكن الفلسطينيين كانوا فعلاً ضحايا لإقامة دولة إسرائيل حيث طُرِدَ مئات
الآلاف منهم من بيوتهم (يقال إن باراك نفسه كاد أن يعترف
بذلك، دون أن يؤيد طبعاً حق العودة). وبالتالي فهم ضحايا بالمعنى المطلق للكلمة؛ إذ إن الظلم الذي وقع عليهم لم
يُرفَع بعد.
ولطالما
نشأ الفلسطينيون على التسليم بهذا الواقع، ولكنهم برهنوا بعد اتفاق أوسلو أنهم
استطاعوا أخيراً أن يتجاوزوه. فمن أين أتى الإخفاق يا ترى؟
دعني
أوضح أكثر. أشرتَ في أحد مقالاتك الذي صدر آنذاك إلى اغتيال رابين. هل تعتقد أن
رابين كان قادراً على التوصل إلى سلام؟ وبالتالي، هل مشكلة عملية السلام هي مشكلةُ
الزعماء المعنيين بالأمر؟ أم نحن أمام وضع نموذجي لنظرية رونيه جيرار، حيث يملي
الشعبان في كلا الطرفين طريقة عمل زعماء كل منهما، مطالبانهم بالتضحية الطقوسية
المناسبة. وإذا كان الأمر على هذا المنوال كيف يمكن التعامل مع هذا الوضع؟
إ.غ.: لا شك أن الفلسطينيين عانوا في 1948، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن الدول
العربية كانت البادئة في غزو إسرائيل وأنها لو قبلت آنذاك بخطة التقسيم لاختلف
مجرى التاريخ تماماً. وطبعاً أنت تعلم أن إسرائيل قد ضم الضفة الغربية فقط بعد
اجتياح آخر في 1967 ومن بعدُ رفض الأردن استعادتها.
بيد
أنني لا أعتقد أن علينا النقاش على هذا الصعيد، حيث يسرد كل طرف حججه. المشكلة
الأساسية هي أن إسرائيل، بنظر العالم العربي حتى مؤخراً وبنظر أغلب شرائحه حتى
اليوم، ليس له الحق بالوجود. واتفاقات أوسلو (التي أتت بعد معاهدتي السلام مع مصر
والأردن وكذلك بعد انخفاض حدة التوتر الدولي) بدت وكأنها تعكس تغيراً في هذه
النظرة. لكني هنا أعود إلى النقطة التي تطرقتُ لها سابقاً: إذا كان إسرائيل يتمتع
بحق الوجود والفلسطينيون بحق إقامة دولة، يتحتم على كلا الطرفين أن يكونا قادرين
على التفاوض على قدم المساواة مهما تباينت قدراتهما. وبالتالي تمسي إشارات التعاطف
المتبادل ضرورية. لست واثقاً أن مصافحة رابين لعرفات كانت كافية، ولكنها شكلت خطوة
أولى.
أنا
أتفهم تمسك الفلسطينيين بـ"حق العودة"، لا لشيء غير لنيل اعتراف
بتكافئهم مع محاوريهم. وربما أمكن التوصل إلى مخرج لبق لهذه القضية. طبعاً لا يمكن
لإسرائيل أن يعيد أراضيه، التي تغيرت معالمها تغيراً كبيراً، إلى من كان يعيش
عليها قبل 1948. كما ليس من الواضح ماذا سيفعل العائدون بممتلكاتهم التي تقع اليوم
في بلد مختلف تمام الاختلاف عن ذلك البلد الذي غادروا. يجوز أن تشكل التعويضات
حلاً مرضياً؛ أو حتى الحق بالجنسية الإسرائيلية، على الرغم من تفهم الجميع لمخاوف
إسرائيل في أن لا يعود "دولة يهودية" أو بالأحرى "الدولة
اليهودية" الوحيدة؛ أو، كما سمعت عندما كانت المفاوضات دائرةً، أن كل ما كان
الفلسطينيون يرغبون فيه هو الاعتراف بحقهم اعترافاً نظرياً. لكن لا يسعني، نظراً
لنطاق عرض باراك، إلا أن أعتقد أن السبب الحقيقي من وراء عدم قبول هذا العرض لم
يكن رفض إسرائيل لـ"حق العودة" بل أن القيادة الفلسطينية – ناهيك عن
"الشارع" الفلسطيني – لم تستطع، عندما وصلت الأمور إلى المحك، القبول
بشرعية وجود إسرائيل.
لا
أعرف فيما إذا كان رابين قادراً على التوصل إلى سلام، ولكن لو كانت هناك فرصة حقيقية للسلام – وهذا ما
أعتقد – فإن إشارة صغيرة مثل تلك المصافحة في حديقة البيت الأبيض، مُضافةً إلى
مكانة رابين العظيمة في إسرائيل، كان يمكن لها أن تغير مجرى الأمور. وأنا أعتقد
أيضاً أن عرفات كان يكنُّ احتراماً صادقاً لرابين وأنه كان مستعداً للمراهنة عليه
أكثر من استعداده للمراهنة على باراك الذي لم يستطع، على ما فهمت، الارتقاء إلى
مستواه الشخصي.
ما
علينا القيام به اليوم هو انتظار أن تنهي هذه الحلقة نفسَها بنفسِها. وإذا ما نجحت
الولايات المتحدة بتدمير شبكة القاعدة (ولا زلنا ننتظر)، يمكن أن يتقلص بريق
الإرهاب و"الشهادة" وفائدتهما في "أرض اللبن والعسل". نعلم أن
الجيش الجمهوري الإيرلندي قد بدأ بتسليم أسلحته، وأن جدار برلين قد انهار، وأن
نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا قد انتهى. يجب ألا نيأس أبداً.
ع.ع.ح.: برأيك ما هو مدى شرعية الانتقاد النسائي للأنثروبولوجيا التكوينية ولأعمال
جيرار على أنها "ذكورية"؟ وكيف ترد على هذا الانتقاد؟
إ.غ.: ظهرت أيضاً محاولات لإطلاق تيارات نسائية معتمدة على مقولات جيرار. وبما أن
جيرار يقف "إلى جانب الضحية" فإن بعض المستخدمين للتفكير الأضحوي قد
استولوا على فكره. لكن، بغض النظر عن الأوجه الخطابية للنقد النسائي، أنا أعتقد أن
محور النقاش الشرعي هو: هل الثقافة، بما فيها اللغة، تقوم بشكل رئيسي لتأجيل
العنف، أم أنها نتاج اصطناعي للبنية العائلية التي تميز الإنسانية – وهي بنية يمكن
أن نعتبر أن النساء قد لعبن فيها الدور القيادي؟ إن البراهين على أن جسم المرأة،
بما فيه الخصائص الجنسية الأولية والثانوية، قد تعدَّل عبر التطور بشكل أسرع من
جسم الرجل، وأن الجاذبية الجنسية كانت – ولا تزال – القوة المحركة لهذه السيرورة –
حيث تكمن وظيفتها التأقلمية في تأمين الدعم الذكري للأطفال الضعفاء كبيري الأدمغة
– إن هذه البراهين، أقول، يمكن أن تفترض وجود علاقة ما بين فرادتنا الجنسية والسمة
الأخرى التي تميز الإنسان وهي التمثيل.
وفق
إحدى الروايات (التي كتبها رجل، بالصدفة)، أتت أولى الإشارات المتعمَّدة على شكل
علامات قرمزية اللون استخدمتْها النساء لمحاكاة دم الحيض بهدف جذب الذكور. غير أن
مثل هذه التخمينات لم تقنعني بالعزوف عن المبدأ الأساسي القائل إن الثقافة قامت
بشكل رئيسي وحاسم لتأجيل العنف. فليس هناك مجتمع، باستثناء مجتمعنا، تلعب فيه
النساء دوراً مماثلاً في القرارات الاجتماعية، وخاصة تلك القرارات المرتبطة
بالمقدَّس. فإما أن النساء نجسات فتُستَبعَدن عن الطقوس المقدسة، أو أنهن مقدَّسات
فتوضعن في المركز من هذه الطقوس – وهما تنويعان على نفس الترتيب العام. فلو كانت
النساء هن أصل الإشارات، وبالتالي أصل الثقافة، كيف "فقدن" إذن السيطرة
عليها؟ لا شك أن التاريخ قد شهد تقلبات في السلطة النسبية بين الرجال والنساء،
ولكن المفهوم القائل بأن الرجال "اغتصبوا" في لحظة ما السلطةَ التي كانت
أمومية ليس سوى أسطورة ناقمة.
والسبب
من وراء هيمنة الذكور على الثقافة لا يكمن في كون الرجال أقوى بدنياً من النساء
وحسب، بل في قيام الثقافة بشكل رئيسي لتأجيل العنف، والعنف امتيازٌ ذكري – وخطرٌ
ذكري. فالمجتمع الذي يرسل نساءه إلى المعركة لن يستطيع البقاء لأجيال عديدة. ولا
يجعل هذا النساء "أدنى" مرتبة من الرجال؛ لا بل على العكس، تُعتبَر حياة
المرأة بشكل عام أغلى من حياة الرجل. أتخيل إحدى الناشطات في الحركة النسائية في
المستقبل، إذ تقرأ أنه عندما غرقت التيتانيك أُنقِذَت أغلبية النساء بينما غرق
غالبية الرجال، تدَّعي أن في ذلك دليلاً على أن النساء في سنة 1912 كن يتمتعن
بسلطة سياسية أكثر من الرجال!
ع.ع.ح.: في إحدى مقالاتك رفضتَ الفرضية القائلة بأن اللغة والتمثيل قد ابتكرتْهما
الأمهات الساعيات للتواصل مع أطفالهن. وجوهر اعتراضك يكمن في أن حميمية العلاقة
بين الأم وطفلها ربما شكَّلت عقبة في وجه نشر نظام التواصل الذي تطور فيما بينهما.
والحجة المضادة الممكنة يمكن أن تكون أن الحميمية في ذلك
الوقت لم تتطلب السرية. فعلاقة الأم بطفلها، مهما بلغت حميميَّتُها، لم تكن سرية
أو منعزلة؛ وبالتالي كان بإمكان المحاكاة أن تسود وتتولى أمرَ نشرِ نظام التواصل
بسهولة لدى المجموعة بكاملها.
والسؤال
الجوهري هو: لماذا تصر على أن التمثيل قد ابتُكِر لتأجيل العنف حصراً؟ ألا يمكننا
التخمين أن اللغة قد تطورت عبر نظام آخر ما، وأن إمكانية تأجيلها للعنف قد "اكتُشِفَت"
لاحقاً إبان إحدى أزمات محاكاة؟
إ.غ.: يمكن لردِّي على السؤال السابق أن يُطبَّق هنا أيضاً. فكما تقول بوضوح،
السؤال هو: هل ظهرت اللغة والثقافة لتأجيل العنف، أم أن هذا التأجيل ليس سوى وظيفة
موازية؟
لا
تعتمد فرضية الأصل على تفوق اللغة البشرية على لغة أبناء عمومتنا القردة بقدر
اعتمادها على اختلاف طريقة عملها، أي استخدام الرموز بدل الإيماءات
"الدلالية". فلغة الإنسان من لغة القرد مثل نظام كبلر[ii] الفلكي من نظام بطليموس[iii]:
كلاهما يعتمد على عدد من الحقائق الأساسية، لكن الثاني، خلافاً للأول، لا يمكن أن
يعمَّم على معطيات أخرى دون أن يعاني من زيادة هائلة في التعقيد. يمكن للقردة، بلا
ريب، أن تتواصل حول الكثير من الأشياء بواسطة لغاتها. ولكن لغة من الإشارات
الاصطلاحية، حتى ولو لم تبلِّغ الكثير من المعلومات في البداية، تتمتع جوهرياً
بقدرة غير محدودة على التواصل، بينما لا يتمتع بها نظام الإيماءات الحيواني. وما
يجب أن نفسره هو: لماذا اعتمدنا يا ترى نظاماً كان من المحتمل أن يصبح أكثر فعالية، في وقت لم يبلِّغ هذا النظام فيه معلومات أكثر؟
تشرح
فرضية الأصل بدقة كيف تختلف الإشارة اللسانية عن الإيماءة. فالإشارة اللسانية ليست
جزءًا من عملية الاستيلاء على المشار إليه، بل هي بالحري حركةُ تَخَلٍّ عنه،
مجسِّدةً بذلك تحريماً عاماً قد ظهر فقط كوسيلة لتأجيل النزاع.
في
كتابه العنف والمقدس،[iv] يقدم رونيه جيرار برهاناً
وافياً يدعم فرضيةَ أن كل الطقوس قربانية وأن القربان/الأضحية هو وسيلة لحصر العنف
وتبديده. فلماذا يكون للغة، وهي طقس أدنى، أصلٌ آخر؟
أما
بالنسبة لعلاقة الأم بطفلها، فعندما تعلِّم الأمهات أطفالَهن الكلامَ في يومنا
هذا، فإنهن لا تخترعن لغة سرية أو شبه سرية، بل تعلِّمن أطفالَهن نسخة مبسطة عن
اللغة التي تتكلمنها مع الراشدين الآخرين. فاللغة نظامُ تبادل؛ والأم تلقِّن
طفلَها هذه اللغة لكي يستطيع المشاركة في هذا التبادل. ولكن كيف كان لهذا التبادل
أن يظهر في سياق علاقة غير
متكافئة من حيث الأساس؟ في
غياب أية صياغة مختلفة جذرياً، تبدو لي فكرةُ أصل اللغة في علاقة الأم–الطفل
وكأنها قصةٌ وهميةٌ نسائية أكثر منها فرضية جَدِّية.
ع.ع.ح.: في إحدى مقالاتك التي نُشِرتْ مؤخراً، تطرقتَ إلى النظرية التي عرضها
فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية
التاريخ والإنسان الأخير [v] وقدمتَ حجة معاكسة تفترض هشاشة
هذه النظرية وإمكانية ارتدادها. بيد أن فوكوياما نفسه قد كرر الجزم بأنه لا يستبعد
إمكانية الارتداد.
وهو
يقترح،
على ما يبدو، ما يلي: في مجتمع فشل، لسبب أو لآخر، في تحقيق الديمقراطية الليبرالية، أو
حيث حدث ارتداد، فإن التطلعات ستستمر في دفع الشعب، عاجلاً أم آجلاً، نحو تطبيق،
أو على الأقل، نحو تَصَوُّرِ الديمقراطية الليبرالية على أنها النظام الذي لا
يُعلى عليه. وهذا يعني أن اكتشاف الديمقراطية الليبرالية يشكل النهاية
الإيديولوجية للتاريخ.
نقرأ
في مقدمة فوكوياما في طبعة سنة 1993 الرخيصة لكتابه: "بينما يمكن لبعض الدول
في يومنا هذا أن يفشل في تحقيق ديمقراطية ليبرالية مستقرة، وأن ترتد دول أخرى إلى
أشكال حكم أخرى أكثر بدائية، كالثيوقراطية أو الديكتاتورية العسكرية، فإن
الديمقراطية الليبرالية كهدفٍ
سامٍ لا يُعلى عليها."
ألا
تقترح، في معارضتك لفوكوياما، أن النظام الديمقراطي الليبرالي يُعلى عليه؟ أم أنك تحاول فقط إبقاء الخيار
مفتوحاً وذلك لتجنب أن تصبح فكرة الديمقراطية الليبرالية عقيدة دوغمائية؟ أم ثمة
تفسير آخر؟
إ.غ.: أعتقد أن بعض المقالات التي نَشَرتُ مؤخراً يوضح موقفي. أنا معجب بوضوح
فوكوياما وقوته، ولطالما أشرت إليه في مقالاتي. ولكن هنالك تناقضاً بين إعلان
نهاية التاريخ من طرف واحد وبين وصف هذه "النهاية" كشكل سياسي متنافر مع
فحوى مثل هذا الإعلان.
لا
يبدو أن فوكوياما، الذي يتكئ على أصولية كوجيف[vi] الهيغلية، قد رأى إلى صعوبة
تطبيق "المثالية المطلقة" الهيغلية على الزمنية الإنسانية المفتوحة
الطرف التي تخلق باستمرار معارفَ وخياراتٍ جديدة. فالأمة–الدولة ليست التجسيد
النهائي لروح العالم Weltgeist. ماركس، على الأقل، رأى في
"نهاية التاريخ" الهيغلية بدايةً لعالمٍ جديد وخلاق من الحرية. عبَّر
فوكوياما، في المقابل، في المقطع السخيف الوحيد من مقاله المرموق ذي البصيرة الذي
نُشر سنة 1989، عن حزن كئيب لرؤية نهاية التاريخ وعن الضجر من العيش "بعد
التاريخ"، بينما كان ينبغي أن تكون الحال عكس ذلك. فبغضِّ النظر عن بن لادن،
لن يتمخض اندماج كامل الإنسانية في الاقتصاد العالمي عن مدينة فاضلة راكدة، بل عن
أشكالِ تفاعلٍ خلاقة لا يمكن التنبؤ بها وذلك على جميع الأصعدة.
لكننا لا يمكن أن نغض النظر عن بن لادن. فكما ذكرتُ في
مقالاتي رداً على عدد من ملاحظاتك، حتى لو لم تكن القاعدة تتمتع اليوم بالقدرة على
تدمير نظام السوق العالمية لا يمكننا الافتراض أن الأمور ستكون على نفس الشاكلة في
المرة القادمة. فعلينا أن نحترم خصومنا بما يكفي للاعتراف بتماسك نظرتهم للعالم.
إن المجتمع "القرونوسطي" الذي يفضلونه – مع الشريعة الإسلامية أو بدونها
– هو المجتمع الذي سينشرونه فيما إذا نجحوا في تدمير الحضارة الحديثة؛ مما يضفي
اتساقاً على أعمالهم التدميرية، اتساقاً لم يكن موجوداً لدى
"الاشتراكية"، اليسارية منها أو اليمينية (أُذَكِّر أن كلمة
"نازي" هي اختصار لـ"ناتسيونال سوتسياليست" أي الاشتراكية
القومية). فهذه العقائد، مهما بلغت قسوتها، ادَّعَت أنه يكفي أن تُكسَر البيضة
لتكون العجة أطيب من أي شيء تذوقناه حتى الآن، معنوياً ومادياً: أي أن السوفييت الأممي
أو الرايخ الألفي لن يكونا أسمى أخلاقياً من المجتمع البرجوازي فحسب، بل أكثر
إنتاجيةً اقتصادية منه. (في سياق الفتور الاقتصادي،[vii] تمتعت هذه الادعاءات ببعض
المصداقية.) أما الإرهابيين فلا يَعِدون بأي ازدهار مادي.
فوكوياما
قطعاً على حق في أن إيديولوجيتهم لا تعبِّر عن أية أفكار جديدة. ولكن، على افتراض
أنهم انتصروا وأن حضارتنا دُمِّرَت، أيكون من المفيد القول إننا لا زلنا في نهاية
التاريخ – وإن تكن "الفكرة" قد عانت من نكسات مؤقتة على دربها نحو
التجسد؟ أنا أعتقد، حتى في المعنى الضيق الذي استخدم فوكوياما فيه هذا التعبير، أن
"نهاية التاريخ" تتطلب، على الأقل، توافقاً في الرأي بين كل الدول
والكيانات الشبيهة بالدول. رُبَّ قائل يقول إن ظاهرة ماكفيه[viii] ستكون دائماً ممكنة في
الديمقراطيات الليبرالية (وقد تطرقتُ إلى هذه النقطة في مقال بعنوان
"ديمقراطية الأصل ونقد الاستقامة الصرفة" في كتابالتجربة الديمقراطية
والعنف السياسي[ix])،
بيد أن القاعدة هي مشكلة للـ"فكرة" بحد ذاتها. فمن الحسن الكلام عن
الديمقراطية الليبرالية والعولمة؛ ولكن إذا لم يكن بإمكان أجزاء كبيرة من العالم
الأقل تطوراً أن تندمج في النظام العالمي بسرعة كافية لتجنب أحداث مثل أحداث 11
أيلول فسيتعين القيام ببعض التغييرات وكذلك تعديل "الفكرة".
وبشكل
ملموس: في الحد الأدنى، وكما تبرهن عليه كل يوم الحياة في
الولايات المتحدة، على "الديمقراطية الليبرالية" أن تتمتع بجهاز أمني
أكثر قوة ونفوذية، الأمر الذي سيقيِّد بالضرورة الحريات التي يقوم عليها جوهر
"فكرة" الديمقراطية الليبرالية. فنجاح الديمقراطية الليبرالية يأتي من
أنها قابلة للتأقلم مع الحد الأقصى. ولكن لا يمكن لنا أن ننعت كلَّ تأقلم ممكن
بأنه ظاهرةٌ عَرَضية، مدَّعين أنه موجودٌ ضمناً في "فكرة" الديمقراطية
الليبرالية. فهذا تفكير مغلق ونشوري، على غرار ادِّعاء جيرار بأن المسيح قد كشف
كامل الحقيقة الأنثروبولوجية. فحياة ما بعد التاريخ مملة بنظر جيرار أيضاً.
نقطة
أخرى: تتلازم "نهاية التاريخ" مع نهاية الحرب. والحرب العالمية الثانية
كانت آخر حرب شاملة كان يمكن للحضارة، وللإنسانية نفسها، أن تتجاوزها دون أن
تندثر. فلطالما كانت الحرب بين الدول الأكثر تقدماً محركاً للتاريخ السياسي،
وبالتالي فإن استحالة الحرب تضع نهاية للتاريخ. فخلال الحرب الباردة، كما يدل
اسمها، لم يتم القضاء على إمكانية الحرب، بل تم تعليقها إلى أجل غير مسمى؛ وكان من
المفترض أن يبقى كلا "النظامين العالميين" وجهاً لوجه إلى أجل غير مسمى
أيضاً. وهكذا بدا وكأن نهاية الحرب الباردة قد وضعت حداً لـ"فكرة" الحرب
نفسها. غير أننا اليوم نقرع طبولَ نوع جديد و"غير متكافئ" من الحروب.
وفجأة، أدركنا هشاشتَنا – أي أننا إذا لم نُدِر الأمور بشكل صحيح فسوف نخسر. وبالتالي
فإذا لم تستحق أوقاتُ الغموض والتوتر التي نعيشُها اسمَ "تاريخ" في أعين
أصدقائنا الهيغليين الأوفياء فما علينا إذاً سوى أن نقلِّد ماركس وأن نساعده على
الوقوف مرة أخرى على قدميه.[x]
ع.ع.ح.: في أجوبتك، أشرت من بعيد إلى الهجوم الإرهابي في 11 أيلول؛ ولكن دعنا نتطرق
إلى هذه المسألة تطرقاً مباشراً. لقد طرحتَ في مقالاتك المذكورة آنفاً مفهومَ
"طَلْبَنة" العالم. ماذا تعني بهذه العبارة بالضبط؟ وهل أنت مقتنع بفكرة
أن هذا الهجوم يمثل بشكل أو بآخر "صداماً للحضارات"؟
إ.غ.: لقد حاولت الرد على هذا السؤال في مقالات صدرتْ لي مؤخراً. لا، أنا متفق
معك، ومع فوكوياما، بأنه ليس هنالك "صدام حضارات"؛ فالصراع أو
"الجدلية" يحدثان داخل المجتمع العالمي. ولكن للصراع
"وجهاً آخر داخلي" لا يمكن للتعابير الهيغلية تحديد مفاهيمه تحديداً
مُرضياً. فالنقمة ليست مقولة هيغلية؛ إذ حتى في جدلية السيد–العبد، لا ينقم العبد
بل يتعلَّم، بينما يعيش سيدُه عيشةَ بلادة وخمول. وفي النهاية، وفق تصور كوجيف،
يصبح العبد عبداً معتقاً أي بورجوازياً.
ما
عنَيتُه بالـ"طلبنة" ليس بالطبع أن طالبان سوف يهيمنون على العالم. ولكن
إذا استطاع الإرهابيون وأصدقاؤهم، هذه المرة أو في المرة القادمة، أن يحشدوا أسلحة
كفيلة بتدمير نسيج الحضارة العالمية، فإن المسؤولين عن حفظ النظام الذين سيظهرون
من جراء ذلك سيكونون عبارة عن عصابات من الرجال المسلحين؛ ومن المحتمل أن تتَّبِع
أقوى هذه العصابات وأكثرها استقراراً إيديولوجيا جامدة، مفروضة من عَلُ، على غرار
إيديولوجيا طالبان. وكما لاحظ دوركهايم،[xi] تكمن الوظيفة الجوهرية للدين في
تأمين اللحمة الاجتماعية؛ وبالتالي فإن المجتمع الدنيوي يتطلب مستوى تنظيم أعلى
بكثير من المجتمع الديني.
ع.ع.ح.: في نهاية هذا الجزء الثاني من المقابلة، دعني أتطرق إلى مسألة المحرقة
[الهولوكوست] لأعبِّر على الأقل عن شعوري الشخصي.
من
المؤسف نوعاً ما أن يختار العديد من العرب تجاهل هذه المسألة. لكني أتفهم الأسباب
من وراء هذا الموقف، وأعني طريقةَ استخدام الإسرائيليين ومؤيِّديهم لهذه المسألة
في بعض المناسبات لجعل العالم يغض الطرف عن التطورات في الأراضي المحتلة. بيد أنني
أعتقد أن لهذه المسألة أهمية كبيرة في تاريخ الإنسانية إلى درجة لا يمكن تجاهلها
أو، أسوأ من ذلك، اعتبارها تزويراً سياسياً كما يدَّعي بعض المؤمنين بنظرية
المؤامرة. غير أنني لم أستطع، من جهة أخرى، أن أفهم لماذا يبدو العديدون في أوروبا
والولايات المتحدة مهووسين بعدم مراجعة الأرقام التي يتم الحديث عنها. هل ستتقلص
أهمية المأساة إذا كان عدد الضحايا مليوناً بدل ستة ملايين؟ المهم هنا هو طبيعة المأساة وليس فقط نطاقها.
نحن
أمام مثال اختير فيه شعب ليُباد، ليس لخطيئة ارتكبها بل بسبب المنطق الداخلي
للحركة النازية والمجتمع النازي. إن الأسباب التي يقدمها آباءُ الصهيونية لتفسير
اضطهاد اليهود في أوروبا، أي ما بدا على أنه ميولهم الانعزالية وخصوصيَّاتهم
البالية، يمكن أن تفسِّر (دون أن تبرِّر بأي شكل من الأشكال) التمييز الذي هو
بحدِّ ذاته ميل بشع. لكن هذه الأسباب لا تفسِّر مطلقاً لا الاضطهاد ولا المحارق
المنظمة ولا الهولوكوست – مطلقاً. لا يمكن أن تُفَسَّر هذه الأمور
بـ"خطأ" يُزعَم أن الضحايا قد ارتكبوه أو بطريقة حياتهم. وهكذا، أنا
أوافقك تماماً في قولك إنه ليس ثمة حاجة، في هذه الحالة، لكي "نسمع من
الطرفين".
إ.غ.: هذا مقام مناسب لي لأعبر عن إعجابي باهتمامك بالحوار حول هذه المسألة
ومسائل عديدة أخرى.
أولاً،
سأتطرق لبعض التفاصيل. لا شك أنه من المستحيل تحديد عدد اليهود الذين قُتِلوا خلال
الهولوكوست تحديداً دقيقاً. لقد اطلعتُ على تقديرات تقول بمقتل حوالى خمسة ملايين.
ولكن هناك لحظة، حسب ما كان لإنجلز أن يقول، يصبح فيها الكمُّ نوعاً. إن قتلَ
مليونٍ من البشر سيئٌ كفاية؛ ولكن عندما يتفق المؤرخون، يهوداً وغير يهود، على أن
الرقم هو ستة ملايين، فإن تخفيض هذا الرقم إلى مليون لا يمكن إلا أن يرمي شكاً حول
نية هذه النظرية. فإذا كان عدد الضحايا قد ضُخِّمَ ست مرات فإن ذلك يعني أن شيئاً
لم يحدث خارج نطاق وحشية الحرب الاعتيادية. أو أن غرف الغاز لم توجد أصلاً، كما
يقول المُراجِعون؛ وأن السجناء قد ماتوا بسبب الإرهاق والأمراض. لن أمضي قدماً على
هذا الدرب.
لست
واثقاً مما تعنيه بتفسير "آباء الصهيونية" لاضطهاد اليهود. لا شك أن
اليهود المندمجين مثل هرتسل قد أظهروا بعض نفاد الصبر تجاه يهود أوروبا الشرقية
وطريقة حياتهم البالية؛ ولكن هاجس "المسألة اليهودية"، ابتداءً من منتصف
القرن التاسع عشر، يتطلب تفسيراً أكثر عمقاً. فلو كانت هذه الميول المتخلفة هي
المشكلة لما كانت هناك حاجة لظهور الصهيونية. كان يمكن الاكتفاء بالتحديث، على
غرار ما قام به أكثرية اليهود في الولايات المتحدة. الصهيونية تعبر عن يأس عميق
(رأى النور جزئياً من تجربة هرتسل مع المعاداة للسامية الفرنسية خلال قضية دريفوس[xii])،
يأس عميق من إمكانية قبول اليهود في المجتمع المسيحي.
تسحرني
"المسألة اليهودية" لعدة أسباب: أحدها هو أن عدداً قليلاً من الناس ومن
اليهود يفهمون حق الفهم المعاداة للسامية الحديثة – تلك المعاداة للسامية التي هي
القاسم المشترك بين تيموثي ماكفيه وبن لادن. فالمعاداة للسامية ليست شكلاً عادياً
من أشكال العنصرية. علينا بالتأكيد أن نمنح الغجر واللوطيين والمعاقين عقلياً،
ناهيك عن الملايين من الروس، مكاناً في النصب التذكارية المشيدة للهولوكوست. ولكن
بصرف النظر عن الأرقام، كم عدد الخطابات وكم عدد الكراسات السياسية التي أشار فيها
النازيون إلى هذه الفئات؟ المعاداة للسامية كانت هاجس النازيين الدائم وجوهر
عقيدتهم السياسية. في عدة مناسبات، أشرتُ في مقالاتي إلى الرواية الأمريكية
النازية الجديدة يوميات تيرنر[xiii] – وخاصة مؤخراً، إذ نقرأ، في
أوج الرواية، أن بطلها يقود طائرة تحمل سلاحاً نووياً نحو البنتاغون. وتُصوِّر هذه
الرواية انتصارَ العرق الأبيض على ولاياتٍ متحدة يديرها اليهود الذين يعمل السود
وآخرون كتابعين لهم، حيث يعاقب اليهودُ العصاةَ من البيض بتسليم نسائهم إلى السود
ليغتصبونهن. واليهود حشراتٌ طفيلية لكنهم أيضاً السادة الخفيون لمجتمع السوق، على
غرار ما نقرأ في كتاب بروتوكولات
حكماء صهيون الشائن الذي لا
يزال للأسف يُطبَع في العالم العربي. وفي ضوء هذا الربط بين اليهود والسوق يجب ألا
نُدهَش من أن أوائل المعادين للسامية العصريين كانوا من اليساريين: مثل ألفونس
توسونيل،[xiv] كاتب أول الأعمال الفرنسية
المعادية للسامية (اليهود، ملوك هذه الحقبة[xv])
الذي كان اشتراكياً من أتباع فورييه.[xvi]
تركَّز
الهولوكوست – أعظم الفظاعات البشرية، حتى وفق ما أكده تشومسكي – على اليهود؛ وقدم
النمط البدئي للإبستمولوجيا الأضحوية التي نجحت نجاحاً باهراً خلال فترة ما بعد
الحرب. فاليهودي للنازي كالمستعمَر للمستعمِر، وكالجنوب أفريقي الأسود للأبيض،
وكالمرأة للرجل، وكاللوطي للسوي، وكالمعوق للصحيح، إلخ. هذه السيرورة، على غرار
التمييز الإيجابي،[xvii] لم تُفِدْ اليهود إلا بشق
النفس؛ اليهود الذين تحولوا خلال جيل واحد من دون–بشر إلى مَرَدَة. والتعويض
الوحيد الذي حصل عليه اليهود من الهولوكوست، إلى جانب بعض التعويضات غير المناسبة
التي لم يُدفَع جزء كبير منها بعد، كان إسرائيل. فأعطى البريطانيون في نهاية
المطاف مباركتهم، كما قدم الاتحاد السوفييتي اعترافه، وألمانيا وفَّرت مقداراً
كبيراً من المعونة المالية – وطبعاً أمَّنَت الولايات المتحدة مساندتها ودعمها
المستمرين. خلال عقوده الأولى، كان يُنظَر إلى إسرائيل (خارج العالم العربي) على
أنه بلد صغير شجاع يناضل في وجه عناصرَ كثيرة لا تلعب لصالحه. ولكن منذ 1967، أو
على الأقل منذ حرب يوم الغفران سنة 1973، عندما لم يعد التفوق العسكري الإسرائيلي
يقبل الجدل، أضحت المعاداةُ للصهيونية الصيحةَ الجديدة التي تلم شتات أعداء مجتمع
السوق العالمية – الذين يقدم تشومسكي مرة أخرى مثالاً كاريكاتورياً عليهم.
وهكذا،
إذا وُضِع اللوم والمسؤولية جانباً، يجد اليهود أنفسهم مرة أخرى في المركز من
الجدلية التاريخية. ولسنا نجانب الواقعية إذا خمنَّا أنه بدون إسرائيل لما كانت
القاعدة، ولما حدث أيضاً هذا الخلاف الأساسي بين الإسلام والغرب، ولتطورت البلدان
العربية إلى ديمقراطيات أو على الأقل إلى اقتصاديات أكثر نشاطاً...
يمكن
أن يرى بعضهم في إحياء "المسألة اليهودية" مجرد حادث تاريخي، ولكنها
تبدو متأصِّلة في غموضِ المحاكاة الذي يغلِّف مفهومَ اليهود كشعبٍ
"مختار". فاليهود بالمعنى الحقيقي هم الأمة الأولى، وأول شعب ميَّز نفسه بشيء غير
الأرض (من هنا بقاء هذا الشعب على قيد الحياة لفترة طويلة في ظلِّ غياب دولة خاصة
به). ولكن، مقارنةً بالغجر مرة أخرى، فإن الدين الذي خلقه اليهود لتأمين بقائهم
(أو العكس) يكمن في جوهر كل الديانات الغربية أو "الإبراهيمية". ومهما
كان عدد اليهود الذين اعتنقوا المسيحية أو الإسلام، فإن استمرار اليهودية يجعل من
المستحيل على أيٍّ من منافسَيْها الأكثر نجاحاً أن يعلن أنه "نهاية
التاريخ" في المدار الديني.
على
مدى القرن ونصف القرن الماضيين، أصبح من الواضح أن وصمة الاصطفاء الأضحوي التي
يحملها اليهود هي النقطة المؤلمة المركزية في التاريخ الغربي، حتى ولو بدا ذلك عبثياً
في نظر عقلانية التنوير. إذ إن لـ"نهاية التاريخ" علاقة باليهود بالمعنى
الحرفي للتعبير. فالمسيحيون ماثلوا بين "اعتناق اليهود للمسيحية" ونهاية
العالم وقدوم ملكوت السموات، والماركسيون أرادوا تفريغ "المسألة
اليهودية" عبر إلغاء الدين والنظر إلى اليهودية كـ"جنسية" – وقد
عكست معاداةُ ستالين للسامية (التي ازدادت ضراوتُها غداة الحرب العالمية الثانية)
خيبتَه من فشل هذه السياسة؛ أما النازيون فقد اعتبروا أن إبادة اليهود كانت الحدث
الأساسي الذي كان سينقل المجتمع إلى مرحلة "ما بعد التاريخ".
لقد
ماتت هذه الرؤى الأخروية. أما رؤية فوكوياما فلا؛ إلا أنها تتطلب بعض التصحيح.
فإذا أخذنا بربط ماركس بين اليهود والرأسمالية، ليس بكونه افتراءً معادياً للسامية
بل بكونه مماثَلة هيغلية بين شعب و"فكرة"، فيمكننا أن نؤوِّل طرحَ فوكوياما على أنه يقول إن التاريخ قد انتهى ليس لأن اليهود قد
أبيدوا بل لأنهم انتصروا انتصاراً بيِّناً: فالعولمة، في تجاهلها للحدود القطرية
وفي إصرارها على سيولة رأس المال، "يهوديةُ" الطابع أكثر حتى من
الديمقراطية الليبرالية. لكن وضع طرح فوكوياما في هذه التعابير ليس سوى طريقة أخرى
لإظهار عدم ملاءمته. فنهاية التاريخ لا يمكن أن يحدِّدها القضاءُ على أيِّ شعب أو
انتصارُه.
واليوم
تتركز "المسألة اليهودية" في فلسطين. والفلسطينيون لم يكونوا شعباً قبل
تأسيس دولة إسرائيل، بل كانوا عرباً يعيشون في منطقة محددة من الشرق الأوسط كانت
مندمجة مع (ما جرت العادة على تسميته) "عبر الأردن"، وكان يمكن أن تصبح
جزءًا من سوريا. وفكرة الشعب الفلسطيني، كما اقترحتَ أعلاه، ظهرت كمعارضة محاكاتية
للدولة الإسرائيلية. وأنا لا أعني أنها بسبب ذلك غير شرعية أو غير أصيلة. وفي معنى
حقيقي، كل حركة قومية تتخذ من اليهود نموذجاً لها. وكان هذا واضحاً في حالة ألمانيا،
كما أشار عدد من المفكرين اليهود الألمان قبل سنة 1933: فالألمان الذين طالما
كانوا مختلفين في أوروبا الغربية توهَّموا بأنهم "الشعب المختار" للعرق
الآري.
ينظر
أكثرية المسلمين إلى إسرائيل على أنه مصدرُ غيظ وإهانة. والاستثنائية اليهودية
تُطبَّق هناك بصورتها الأكثر افتراءً، أي بزرع مجتمع غربيِّ الطابع في أماكنَ
مقدسةٍ مركزية بالنسبة للأمة. وعلى أمثال توينبي[xviii] الذي قال إن اليهود بتأسيسهم
لدولتهم سيصيرون مجموعة إثنية مثل غيرها يجيب التاريخ أن إسرائيل يضخِّم فضيحةَ
"الشعب المختار" على مستوى الدولة، مجبراً اليهود على التأكيد، من أجل
بقائهم، على الشعور بالفوقية تجاه المجموعات الأخرى – الشعور لطالما اتُّهِموا
بإيوائه سراً.
بدون
إسرائيل كان التاريخ أقل تعقيداًً، ولكن فقط بوجود إسرائيل يمكن للتاريخ أن ينجز
نهايته. كان يمكن لهذا
أن يصح لو أننا افترضنا أن إسرائيل "روح" أو "دفع حيوي" يفعل
وسط "الأمم"، وليس دولة قومية. اختزال هذه الدعوة العالمية إلى كيان
مادي فيه إحباط لها. (ديمتري أفييرينوس) أحد اقتراحات باراك الذي أتمنى أن يعاد طرحه يوماً ما هو الاتفاق على تقاسم
السلطة في القدس. من الأكيد أن القدس، مهما بلغت مكانتُها في قلوب المسلمين، هي
مدينة اليهود المقدسة الوحيدة؛ إذ ليس هنالك من يطالب بتقاسم السلطة في مكة أو
المدينة. ولكن، لهذا السبب حصراً، فإن التقاسم السلمي للسلطة في القدس سيُطلِق
إشارة إلى سلام حقيقيٍّ، وحتى إلى بداية صداقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين،
وبالتالي بين اليهود والمسلمين. وبلغة الكتاب المقدس (أو القرآن) سيكون ذلك مصالحة
بين اسحق وإسماعيل، بين الوريث الشرعي والمنبوذ. وبتقاسم القدس يتقاسم اليهود
رمزياً مفهوم "الشعب المختار" الذي جعل منهم موضعَ نقمةٍ ألفية مع الأمة
العربية التي هي بالمعنى الحقيقي من صنع إسرائيل. ومهما بدا هذا غير واقعي في
الوقت الحالي فأنا أعتقد أنه فقط عبر المثال الطيِّب للأمة الأعرق التي تقف
عرَّاباً للأمة الأحدث يمكن لمرحلة التاريخ التي هيمنت عليها الحرب أن تنتهي.
وفق
مجريات الأحداث اليوم، تبدو لي الطريق طويلة للوصول إلى هذه الصداقة وذلك السلام.
وحتى ذلك الحين، منطلِقاً من بغية الاستهلال في مدار الأفكار، أود أن أعبر عن
امتناني لهذه الفرصة التي سنحت لي للحوار معك في صداقة وسلام.
حقاً إن "من يفهم
كل شيء يغفر كل شيء". تلكم هي الخلاصة الرئيسية؛ وأنا أوافق السيد غانس عليها كل الموافقة.
علينا نحن،
كعرب، مثلنا كمثل بقية الناس، أن نتفهم المأساة اليهودية عبر ألفيَّتين (ما يعنيه
أن يكون المرء "منبوذاً" في كل مكان كل هذه السنين). علينا أن نتفهم فظاعة
المحرقة بكل أبعادها حتى نتمكَّن من فهم ما دفع أبناء مثل هذا الدين العالمي
العظيم (دين إبراهيم واسحق ويعقوب) أن يصيروا، شأنهم شأن سواهم، "أبناء إله
أصغر" – قومية ضيقة جداً – بدلاً من أن يظلوا ديناً عالمياً عظيماً، هو
الديانة السامية الأم – أم المسيحية وأم الإسلام. وعلينا في النهاية أن نفهم
ونتقبل بأن "أبناء عمومتنا" اليهود بشر مثلنا، ضعفاء مثلنا، ويمكن، بما
هم كذلك، أن يتصرفوا أحياناً بغباء، مثلما نفعل.
يبدو الآن،
كحلٍّ براغماتي بنظر غالبية سياسيينا "المعتدلين"، في المنطقة كما وفي
العالم قاطبة، أن دولة فلسطينية على معظم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، تعيش
بسلام مع دولة إسرائيل "اليهودية" في غالبيتها على ما تبقى من أرض
فلسطين، هي الحل الأمثل للجميع. بيد أن هذا "الحل"، مع أني لن أرفضه إذا
أضحى واقعاً، لا يبدد الشك في نفسي. لأنه على الأرض ستبقى مخيِّمةً أسبابُ كافة
مآسينا الحديثة، أي القومية الحديثة والأصولية الدينية. ذلك أن إيجاد دولة إسرائيل
"اليهودية" في منطقتنا، بنظري، مثله كمثل إيجاد دولة باكستان
"الإسلامية" في شبه القارة الهندية، كانا آنذاك خطأين إنسانيين وسياسيين
فادحين.
كان الحل
الأمثل، بنظري – حلمي –، وما زال، مقاربة أكثر إنسانية تفتح الأفق للمستقبل: دولة
ديمقراطية و"علمانية" لشعبها كافة، ليس في فلسطين (إسرائيل) وحسب، بل
وفي منطقتنا بأسرها. حق العودة يجب ألا يكون حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى
وطنهم فقط، ولا حق اليهودي المؤمن، من أيِّ مكان من العالم، بـ"العودة"
والحياة بسلام في أرض اللبن والعسل التوراتية، ولكن أيضاً حق كافة اليهود العرب
بالعودة إلى بلادهم الأصلية: حق اليهود من سكان دمشق، وحلب، وبغداد، والقاهرة،
والدار البيضاء، وصنعاء (حيث كانوا يشكلون جاليات يهودية مزدهرة)، بالعودة إلى المدن
التي ينتمون إليها والتي عاشوا فيها قروناً قبل إيجاد دولة إسرائيل الفعلية. ولم
لا؟ – حق كل إنسان في العيش في أيٍّ مكان في عالمنا الصغير.
أما
الآن فكل ما في وسعنا أن نفعل هو أن نكون أكثر واقعية. فلنوقف تصعيد الوضع الحالي
حتى نصبح أقدر على وضع حدٍّ للنقمة المتصاعدة من كلا الطرفين. فليلتفت كل منَّا إلى
مشكلاته الداخلية الرئيسية، مجتهداً أن يصير مجتمعُه مجتمعاً مدنياً حقاً، يعيش
فيه أناس مدنيون حقيقيون في دول مدنية حقة. وأخيراً، ختاماً لهذا الموضوع، فلنبقِ
حوارنا هذا، على ضآلته، مفتوحاً.
كل الشكر لك عمار على
هذه المبادرة الجريئة والإيجابية، وكل الشكر لك سيد غانس على صراحتك وصدقك، ولنبقَ
على تواصل . (أكرم أنطاكي)
ترجمة
وتعليق الهوامش: موسى الحوشي
[i] Tout comprendre, c’est tout pardonner.
[ii] Johannes Kepler (1571–1630)، عالم ألماني، أحد مؤسِّسي علم الفلك الحديث.
[iii] Ptolemy رياضي
وجغرافي وعالم فلك إغريقي (القرن الثاني للميلاد)، قال بأن الأرض ثابتة في وسط
الكون وأن الشمس والقمر والكواكب تدور حولها.
[iv] La violence et le sacré.
[v] Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man,
The Free Press, A Division of Macmillan, Inc., New York, 1992.
[vi] Alexandre Kojève أو Aleksandr Vladimirovich Kozhevnikov (1902–1968)،
فيلسوف فرنسي روسي الأصل، هو أول من أدخل الفلسفة الهيغيلية إلى الفكر الفرنسي.
تأثر بأفكاره العديد من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين (سارتر، ميرلو–بونتي، لاكان،
باتاي) والأمريكيين (بلوم، فوكوياما). عمل في وزارة الاقتصاد في فرنسا، فكان أحد
مهندسي السوق الأوروبية المشتركة والاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية
(الغات).
[vii] الفتور الاقتصادي الكبير
الذي أتى نتيجة انهيار بورصة وول ستريت سنة 1929.
[viii] Timothy McVeighs الذي فجر سنة 1995 مبنى تابعاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI في مدينة أوكلاهوما الأمريكية مودياً بحياة زهاء 168 شخصاً.
[ix] “Originary Democracy and the Critique of Pure Fairness,” in The Democratic Experience and
Political Violence, ed. David Rapoport and Leonard Weinberg, London: Frank
Cass, 2001, 308-24.
[x] إشارة إلى قول
ماركس بأن الديالكتيك الهيغيلي كان واقفاً على رأسه وبأنه صحَّحه بأن أوقفه على
قدميه!
[xi] Emile Durkheim (1858–1917)، عالم اجتماع فرنسي، أحد مؤسِّسي علم الاجتماع/السوسيولوجيا.
[xii] قضية Dreyfus: فضيحة قضائية وسياسية أدت إلى تفرقة الرأي العام الفرنسي بين
سنتي 1894 و 1906؛ إذ اتُّهِم الضابط الفرنسي Alfred Dreyfus يهودي المذهب خطأً
بالتجسُّس لصالح ألمانيا وحُكِمَ عليه، ثم عُفِيَ عنه، ثم تمت إعادة الاعتبار له
سنة 1906 بعد مراجعة حامية الوطيس لمحاكمته، حيث تواجهت كتلتان: المدافعون عنه
والمناوئون للمؤسسة العسكرية من وراء عصبة حقوق الإنسان، من جهة؛ والمعادون له
وللسامية والمتشددين من القوميين من وراء عصبة الوطن الفرنسي ومن بعدُ لجنة العمل
الفرنسي، من جهة أخرى.
[xiii] The
Turner Diaries رواية صدرت سنة 1978 بقلم Andrew
MacDonald وهو اسم مستعار. من المرجح
أن الكاتب الحقيقي هو William L. Pierce، أحد
الناشطين في الحركة النازية الجديدة في الولايات المتحدة.
[xiv] Alphonse Toussenel (1803–1885)؛ كان رئيس تحرير صحيفة السلام La
Paix كما أسس "الديمقراطية
السلمية" Démocratie pacifique تجسيداً
للنظام "المشاعي" (انظر الحاشية 16).
[xv] Les Juifs, rois de l’époque, 1848.
[xvi] Charles Fourier (1772–1837) فيلسوف وعالم اقتصاد فرنسي طالب بتنظيم اجتماعي قائم على
تجمعات إنتاجية واستهلاكية صغيرة مستقلة تدعى "مَشاعات" Phalanstères.
[xvii] نذكِّر بأنه مجموعة السياسات والمبادرات الحكومية
الهادفة للقضاء على التمييز الماضي والحاضر على أساس العرق أو لون البشرة أو الدين
أو الجنس أو بلد الأصل. وكان الرئيس الأميركي جون ف. كينيدي هو أول من انتهج طريق
التمييز الإيجابي وذلك في أمره التنفيذي رقم 10925 لشهر آذار/مارس 1961 الذي أسس
اللجنة الرئاسية للمساواة أمام فرص العمل. وقد نصَّ الأمر على أن "صاحب العمل
لن يميز أي موظف أو مرشح للتوظيف على أساس العرق أو المعتقد أو لون البشرة أو بلد
الأصل".
[xviii] Arnold Toynbee (1889–1975)، مؤرخ بريطاني وضع نظرية حول دورية الحضارات.