السبت، 25 يونيو 2016

عن الرِّدة والغَلَبَة وحرية الاعتقاد




أنَّ الرِّدة كمصطلح فقهي إسلامي هي الخروج عن الإسلام بعد الدخول فيه سواء رجع إلى دينه الأصلي قبل الإسلام أو إلى دين آخر أو أصبح لا دينيًّا أو أصبح ملحدًا، ويجب أن نعلم أن حرية الاعتقاد شيء وحرية الارتداد شيء آخر؛ لأن المرتد عرف الحق ودخل فيه ثم أدار ظهره له وخرج إلى شيء آخر، وهذا في حد ذاته انحراف... وتابع: «المرتد قد يشكل خطراً على المجتمع الإسلامي، لأن تصميمه على الخروج من عباءة الدِّين الذي كان عليه غالباً ما تصاحبه مشاعر عدائية ضد هذا الدين، لكن قد تكون هناك أزمات فكرية تمر ببعض الأفراد جعلته لم يعد يؤمن بهذا الدين، سواء تحت إغراءات مادية أو إغراءات فكرية بدين آخر أو بمذهب آخر، واكتفى بأن يخرج من دينه ويتدين بطريقة أخرى، وهذا لا يشكل خطورة على المسلمين ولا على المجتمع الإسلامي، لكن فقه القديم كله فيه أن الردة بشكل عام خطر على الإسلام وخطر على المجتمع الإسلامي. واختتم شيخ الأزهر حديثه بأن البيئة والمنطلقات والثقافات التي أنتجت حرية الردة وحرية تغيير الدين وحرية العودة إلى الدين وحرية اللادين، تختلف تمامًا مع الأرضية والثقافة التي ينشأ فيها حكم إسلامي يتعامل مع الردة، ولذلك من الظلم أن نتحاكم إلى حقوق إنسان نشأت في بيئة تختلف مع الآخر اختلافًا جذريًّا.

من حق المرء أن يغير رأيه ومعتقده، خاصة فيما يتعلق بقضايا وجدانية مثل الدين. نعم قد يشكل هذا الأمر تحدياً للمجتمع وقيمه الراسخة كما حذر الدكتور الطيب، لكن هذا الأمر لا يعطي للمجتمع الحق في تقييد حرية وجدانية كهذه، بل على المجتمع أن يوجد طرقاً أخرى للتعامل هنا غير الحد من حرية الناس، أفراداً وجماعات. إذ لم تعد حقيقة نشأة مفهوم حقوق الإنسان في بيئة غير إسلامية بذات الأهمية التي يخالها الشيخ، فبعد مرور أكثر من قرن على طرحه، وغيره من المبادئ المرتبطة بالحداثة عموماً، برزت في "ديار الإسلام" شرائح بشرية واسعة تأثرت به وأصبح لدى مكوناتها قناعة قوية بضرورته في تشكيل مصيرها. من هذا المنطلق، أصبح مفهوم حقوق الإنسان قضية مصيرية داخلية ولم يعد من الممكن التعامل معه كشأن خارجي أو فرعي.

ولا ننسى هنا أيضاً أن الإسلام نفسه مر بمرحلة من هذا النوع في بداية ما يسمى بعهد الفتوحات، مرحلة مثّل هو فيها الفكرة غريبة المنشأ في المجتمعات السورية والمصرية والمغاربية، فكرة فرضت نفسها على الساحة مستفيدة من الفرص الكثيرة التي أتيحت أمامها جراء ارتباط أصحابها ومعتنقيها بالسلطة السياسية القائمة.

 لا، لم يُجبر الناس في هذه المجتمعات على اعتناق الإسلام، لكنه أصبح واقعاً سلطوياً فيها بقوة السلاح، ومن خلال سيطرة أصحابه على مؤسسات الدولة ونفوذها، وليس بقوة معتقداته وأفكاره وحسب. لقد جاء دور الفكر لاحقاً هنا، ولقد كان للشخصيات والنخب الجديدة التي اعتنقت الإسلام وحاولت التقريب بينه وبين الثقافة السائدة في الأوساط الإجتماعية والمختلفة، دوراً كبيراً في تسهيل تقبل شرائح واسعة له من خلال محاولاتها تأسيس مصدر جديد للتشريع في الإسلام، ألا وهو الحديث – ذلك الباب الواسع الذي سمح بإسباغ غطاء إسلامي على الكثير من الأعراف والتقاليد المحلية المقدسة عن طريق إيجاد، أو بالأحرى ابتكار، سوابق لها في حياة الرسول وصحبه.

ومع ذلك، وبسبب التعقيدات الناجمة عن الاقتتال الداخلي بين المسلمين، من الصعب تصور نمو الإسلام ليصبح دين الأغلبية قبل مرور قرنين من الزمن، لكن يبقى هذا الطرح مجرد افتراض شخصي في هذه المرحلة، ولا شك أن الأمر يتطلب الكثير من التمحيص قبل البت فيه.

وتكمن القضية الأساسية هنا في أهمية إدراك أن الإسلام كان لفترة طويلة من الزمن دين الأقلية الحاكمة في معظم الأراضي الواقعة تحت سيطرته، ومع ذلك، من الواضح أن المسلمين طوّروا نظرتهم وأفكارهم وتشريعاتهم المتعلقة بالسلطة من منطلق قوة وهيمنة، سمح لهم بتجاهل حجمهم الديموغرافي الأقلوي من جهة، وبتقسيم العالم  إلى دار حرب ودار صلح ودار سلام من ناحية أخرى.

في عالمنا المعاصر هذا، أصبحت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قائمة على مبدأ التوازنات، الداخلية منها والخارجية. لقد أصبح مبدأ الغلبة مرفوضاً بالكامل، ليس من منطلق فكري أخلاقي وحسب، بل من منطلق عملي.  ففي عصر الأسلحة النووية والحروب الشاملة وتداخل المصالح، بل والعوالم، الافتراضي منها والمادي، وما في ذلك من تمييع لمفهوم السيادة ومناطق النفوذ، يؤدي التعامل مع المتغيرات استناداً إلى مبدأ الغَلَبَة إلى استدامة الصراعات ونشر الفوضى في كل مكان. قد يناسب هذا الأمر الحركات الإرهابية، لكنه لا يمكن أن يمهّد لقيام الدول، ناهيك عن الحضارات.

ولأن المسلمين يتعاملون مع العالم اليوم من واقع قائم على الضعف والشرذمة يشكّل الإصرار على مبدأ الغَلَبَة تكريساً لهذا الواقع.

لكن الانتقال نحو رؤية مختلفة للأمور يتطلب تحقيق قفزة أو طفرة على مستوى الوعي، إذ لا يكفي التراكم المعرفي هنا ما لم يؤدي إلى إعادة تشكيل الحدس ذاته، والدليل تعامل معظم اليساريين والقوميين العلمانيين المسلمين وفقاً لمنطق الغلبة التقليدي إياه.

من ناحية أخرى، تشكل فكرة رفض الردة من قبل علماء المسلمين، على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم، بل وتجريمها، تمثلاً داخلياً لمبدأ الغلبة. ولهذا بالذات، لا يكمن التساهل في تعاملنا معها أو اعتبارها قضية ثانوية، بل هي القضية الأساس ونقطة الانطلاق نحو إعادة تشكيل وعينا، الفردي منه والجمعي.

ولكي لا نظن أن موضوع الردة قضية تخص الطوائف السنية وحسب، ربما كان من المفيد الإطلاع على هذه الفتوى من فتاوى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني:
  

السؤال: ما هو تعريفكم للمرتد بالتفصيل؟
الجواب: المرتد وهو من خرج عن الاِسلام واختار الكفر على قسمين: فطري وملّي، والفطري من ولد على اسلام احد ابويه أو كليها ثم كفر، وفي اعتبار اسلامه بعد التمييز قبل الكفر وجهان اقربهما الاعتبار. وحكم الفطري انه يقتل في الحال، وتبين منه زوجته بمجرد ارتداده وينفسخ نكاحها بغير طلاق، وتعتد عدة الوفاة ـ على ما تقدم ـ ثم تتزوج ان شاءت، وتُقسّم امواله التي كانت له حين ارتداده بين ورثته بعد اداء ديونه كالميت ولا ينتظر موته، ولا تفيد توبته ورجوعه الى الاسلام في سقوط الاحكام المذكورة مطلقاً على المشهور، ولكنه لا يخلو عن شوب اشكال، نعم لا اشكال في عدم وجوب استتابته. وأما بالنسبة الى ما عدا الاحكام الثلاثة المذكورات فالاقوى قبول توبته باطناً وظاهراً، فيطهر بدنه وتصح عباداته ويجوز تزويجه من المسلمة، بل له تجديد العقد على زوجته السابقة حتى قبل خروجها من العدة على القول ببينونتها عنه بمجرد الارتداد، والظاهر انه يملك الاموال الجديدة باسبابه الاختيارية كالنجارة والحيازة والقهرية كالارث ولو قبل توبته. واما المرتد الملّي ـ وهو من يقابل الفطري ـ فحكمه انه يستتاب، فان تاب وإلاّ قتل، وانفسخ نكاح زوجته إذا كان الارتداد قبل الدخول أو كانت يائسة أو صغيرة ولم تكن عليها عدة، وأما إذا كان الارتداد بعد الدخول وكانت المرأة في سن من تحيض وجب عليها ان تعتد عدة الطلاق من حين الارتداد، فان رجع عن ارتداده الى الاسلام قبل انقضاء العدة بقي الزواج على حاله على الاقرب وإلاّ انكشف انها قد بانت عنه عند الارتداد. ولا تقسم أموال المرتد الملي إلاّ بعد موته بالقتل أو غيره، وإذا تاب ثم ارتد ففي وجوب قتله من دون استتابة في الثالثة أو الرابعة اشكال. هذا إذا كان المرتد رجلاً، واما لو كان امرأة فلا تقتل ولا تنتقل اموالها عنها الى الورثة إلاّ بالموت، وينفسخ نكاحها بمجرد الارتداد بدون اعتداد مع عدم الدخول أو كونها صغيرة أو يائسة وإلاّ توقف الانفساخ على انقضاء العدة وهي بمقدار عدة الطلاق كما مر في المسألة (٥٦٣). وتحبس المرتدة ويضيّق عليها وتضرب على الصلاة حتى تتوب فان تابت قبلت توبتها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون مرتدة عن ملة أو عن فطرة.


الاثنين، 13 يونيو 2016

عن الوجود والوعي والإله


1.
الإنسان محور وجوده، ضميره المركز، وعقله القمة، وفي سعيه لصيانتهم يبني مجده. ويكمن التحدي الحقيقي الذي يواجه الإنسان عند تعامله مع هذا الواقع في تجنب الخلط بين فطرية تمحوره حول نفسه ووهم تمحور الوجود حوله. فالأول انعكاس طبيعي لوعي المرء بذاته، والآخر سقطة تحول دون إدارك المرء لحقيقة موقعه من الإعراب.

2.
لا شيء يحدث قبل أوانه أو بعده، قوانين القدر صماء كلها، وإن رفضت أحاسيسنا تقبل ذلك.

3.
نحن من نعطي اللحظات والأحداث والأشياء معناها، لا يبالي القدر بذلك، بل لا قدرة له على المبالاة، فلا عقل لديه، ولا وعي، إلا من خلال ما أسبغنا عليه نحن من عقولنا ووعينا، وما حياتنا في الواقع إلا محاولة مستمرة لتعقيل القدر وتوعيته، بل لإحيائه ونفخ الروح فيه، لتعريفه وإعادة تعريفه باستمرار، لتوجيهه واحتوائه، وربما، ومهما بدا الأمر مستحيلاً، أو كان، لاقتنائه...  لا معنى للقدر بلانا، أو على الأقل، بلا كائنات تعيه، وتسبغ عليه من عقولها ووعيها.

4.
عندما نتأمل في كلية الوجود، أي في الكون بكل أبعاده، التي لا تقتصر على الأربعة الشهيرة إياها: الطول، العرض، الإرتفاع، الزمن، بل تتعداها لتشمل أبعاداً أخرى لا قدرة لنا على استيعابها حالياً لخروجها كلية عن عالم خبراتنا اليومية، والتي نستدل على وجودها مع ذلك من خلال سبرنا لكيفية نشأة وتطور الكون، ومن خلال الافتراضيات التي وضعها العلماء في هذا المجال بناءاً على مشاهداتهم واكتشافاتهم وأبحاثهم... عندما نتأمل في كلية هذا الوجود يفقد الزمكان بأبعاده الأربعة إياها معناه، كوننا نتعامل هنا مع إمكانية الوجود خارج نطاقه وخارج الأطر والدلالات التي ترسمها مفاهيم مثل هنا وهناك، وبداية ونهاية، وقبل وبعد، وسبب ونتيجة، وخالق وخليقة. ولهذا بالذات يستحيل علينا التوصل إلى نتائح قابلة للنطق وللشرح والاستيعاب باستخدام وسائلنا اللغوية والفكرية إياها. ولهذا أيضاً، لا معنى على الإطلاق لكل ما يوجد في الكتب "المقدسة" من ادعاءات حول الخلق والخالق والخليقة، أو حول أي من العلوم الموضوعية، ولا معنى لتعاملنا مع مسألة الخلق والخالق من منطلق التقاليد والموروث واليقينيات، خاصة عندما يأتي التعامل مع هذا الهاجس على حساب قضيتنا المصيرية الأولى كبشر: العيش بكرامة.

5.
عندما يتحدث عالم مثل ميتشيو كاكو عن أنه وجد إثباتاً على وجود الله، أو، كما قال، على وجود "ذكاء" ما مسؤول عن خلق الكون ووضع قوانينه، فهو لا يتحدث عن الله كما هو في القرآن والتوارة والإنجيل، أو كما يفهمه الهندوسيون أو البوذيون، وهو بالتالي لا يثبت صحة أي دين أو عقيدة دينية، ولا يثبت ما جاء به الرسل والأنبياء المزعومون، ولا يبرهن على قدسية أي تراث. كل ما في الأمر أنه يقدم تفسيره الخاص لظاهرة كونية ما تزال قيد الدراسة والبحث. لكن، ولأنه استخدم مصطلح الله السحري، سيهرع أهل الدين لالتقاف كلماته واستخدامها لتثبيت معتقداتهم الخاصة بكل ما فيها من تناقضات داخلية وبينية، وقصور، وتنافي مع معطيات العلوم الموضوعية.


وبالعودة إلى مفهوم "الذكاء الخلاق" الذي طرحه كاكو، فكلامه هنا لا يحتوي على أي إدعاء فيما يتعلق بكمال ذلك "الذكاء" المفترض وعصمته وقيمه ونواياه. كما أنه لا يدعونا إلى عبادته وتقديم فروض الطاعة له من خلال طقوس معينة، ما خلا الالتزام بالتجارب والأبحاث العلمية ومعطياتها. وأخيراً، لا يستدعي وجود هذا الذكاء وجود غرض واضح من وراء الخلق.

والكون الذي يتعامل معه كاكو هنا هو كون مؤلف من إحدى عشر بعداً (لا وجود فيه لشمس أو قمر يسجدان له، كما في حلم يوسف)، وهو الكون الذي تفترضه نظرية النوابض الخارقة والفيزياء الكمية (الكوانتية). لا معنى في هذا الكون لمفاهيمنا التقليدية المتعلقة بالزمان والمكان، وبالتالي الخالق والمخلوق. إن العلاقة مابين الوجود والوعي في هذا الكون علاقة تفاعلية الطابع يؤثر فيها المُراقِب على سلوك الظاهرة التي يقوم بمراقبتها، فيصبح المراقب هنا جزءاً من الظاهرة، جزءاً من عملية الخلق: سبباً ونتيجة في آن.

6.
أية علاقة تلك التي تربط الوجود والوعي؟ أيهما جاء قبل الآخر؟ هل يستحضر أحدهما الآخر بالضرورة؟ هل هما متزامنان عبر الأبد؟ وهل يعتبر الزمن جزءاً من الوجود أم الوعي، أم كلاهما؟ وأي شيء يترتب على ذلك؟ تبقى هذه الأسئلة مطروحة على بساط البحث.

7.
يختلف إحساسنا بالزمن بين اليقظة والمنام، بل بين مرحلة وأخرى في اليقظة والمنام، وبين فرد وآخر، وبين ثقافة وأخرى، فما هو الزمن إذاً؟ أقانون موضوعي، أم نتاج للوعي الذاتي، فردياً كان أم جمعياً، أم الإثنان معاً؟ بصرف النظر عن الإجابات، يدل وجود أبعاد موضوعية وذاتية لمفهوم أساسي مثل الزمن، ووجود علاقة تفاعلية بينها، على تعقيد المسائل المتعلقة بوجودنا في هذا الكون، وعلى ضرورة التعامل معها كأسئلة بحثية مفتوحة، وعدم تقييد أجوبتنا المطروحة عليها، وبالتالي تقييد عقولنا، بنصوص مقدسة، وأجوبة جاهزة. 

8.
لا معنى لما لا يُدرك، وإن وُجد، وكان هو الحق والحقيقة. بل سنبقى متمحورين حول مداركنا، وإن جانبها الصواب، فلا مفر من ذلك. وما إيمان الكثير منا بالغيبيات إلا محاولة بائسة للالتفاف على هذا الواقع. لكن هيهات. ستبقى كل أسئلتنا مفتوحة، وإن أغلقنا عقولنا. إن قدرتنا على توسيع مداركنا من خلال اكتساب معارف جديدة لا تلغي محدوديتها اللحظية، لكنها تعطي البعض منا، ذلك البعض الذي لم تعد الأوهام تغريه أو تكفيه،  دافعاً للاستمرار، للبحث.

9.
لا معرفة بلا إدراك، ولا إدراك بلا وعي، ولا وعي بلا حواس.

10.
لا وعي بلا حواس، لا روح بلا جسد. الإنسان في كله لا في تباعيضه.


السبت، 11 يونيو 2016

مؤمنون هم


مؤمنون هم، أعماهم تكثف اليقين في الأحداق والقلوب، وأذابت عصارته العقول.  

مؤمنون هم، تتجلى مواهبهم الأساسية في إتقانهم لفنون التقليد وتعمقهم في عوالمه، وتهدف أبحاثهم العلمية دائماً لإثبات أنهم على حق، دائماً.

مؤمنون هم. أُهديت لهم "الحقيقة" بتفاصيلها جاهزة، كاملة ومنسقة. جاءتهم وحياً، وإرثاً وعنعنة، فكيف يتحرّرون؟ وكيف يبدعون؟ وكيف يحكّمون العقل في أية مسألة وهم من ضحّى بجلّه حرصاً على "قدسية" إيمانهم و "أصالته،" وكرّسوا ما بقي منه للتشكّي من هوانهم على الكون؟

مؤمنون هم، لذا، ضالّون هم. نهلوا من الماضي حتى الثمالة، وخاضوا فيه حتى الغرق، فأضاعوا حاضرهم والمستقبل. وفيما تلهج أقلامهم وألسنتهم بالتوحيد تبقى قلوبهم وضمائرهم عامرة بالشرك والوثنية، وهاهي ذي ألسنتهم اليوم، كما في كل يوم، تغزل أزياء جديدة لأكاذيب وأوهام قديمة، فيما أضحت صدورهم قبوراً للرحمة، ورؤوسهم توابيت للمعرفة.

مؤمنون هم.


الأحد، 22 مايو 2016

في التوحيد مرة أخرى


لم يعرف التاريخ موحِّداً خيراً وأفضل تمثيلاً وتمثّلاً لقانون الله وشرعه الحقيقيين من أولئك الذين تحاشوا النطق باسمه، والالتحاف بعباءته، وتجنبوا تقديسه، وكفروا بكل ما نسب إليه من أسماء وصفات وأديان وشخوص لما في ذلك من ادعاء وتطاول وشرك ووثنية. بل ذهبوا أبعد من ذلك، فشكَّكوا بوجود الله ذاته، لكن، ليس من منطلق التكبر، بل استحياءاً، لأن التعامل مع المطلق واللامحدود من قبل كائنات محدودة وناقصة ينطوي على قدر كبير من الصلف والغرور.

*
قد يسأل البعض: كيف يتسنى للاديني أن يتحدث عن التوحيد والشرك والوثنية؟ أليست هذه القضايا بطبيعتها غيبية وإيمانية؟  أجل، هناك بلا شك بعد ديني لهذه المصطلحات، لكن هذا الأمر لا يتعارض مع وجود أبعاد أخرى لها في هذا العصر. فالتوحيد في أيامنا هذه أصبح فرضية موضوعية قائمة على جملة من الحقائق العلمية المثبتة، وأخرى مازلت قيد البحث. وفي تأمل المثبت من هذه الحقائق ومتابعة ما يجري من بحوث في هذا الصدد ما يكفي من الروحانية لشخص لاديني مثلي. من هذا المنطلق، يمثل الشرك هنا خلطاً ما بين هذا البعد الموضوعي للظاهرة واليقينات الغيبية إياها. أي أن الشرك ينجم عن الخلط ما بين الموضوعي والغيبي في محاولة لتقديم إجابات حاسمة، أي يقينات، حول المطلق، مما يتعارض مع كون التوحيد عملية بحث مستمرة: سيرورة وصيرورة في آن. أما الوثنية، فمشكلتها الأساسية تكمن في  تجريدها لما أو من تقدس من قيمته الأصيلة وذلك من خلال تركيزها على ما نُسِجَ حوله من أوهام وأمنيات وعلى ما عُلِّقَ عليه من آمال وتوقعات. 

*
لا تُحطَّم الأوثان بالكسر بل بالفهم، ولا تُفنَّد الأفكار بحرق الكتب، أو تُحمى بتقديسها، إذ لا يُنافَح الفكر إلا بالفكر، ولا الكتاب إلا بالكتاب.

*
وحدهم الوثنيون يتبارون في كسر أوثان بعضهم بعضاً، أما الموحّدون، فلغتهم لغة الفكر والفن، لغة العلم الموضوعي والحوار البناء، لغة الإبداع والإرتقاء المستمر بالوعي، لغة التعاون، أو التنافس الشريف.

*
من الوثنية أن تكسر صنماً، أو تحرق كتاباً، أو تقدس فكرة أو شخصاً. ففي الكسر والحرق والتقديس تكريس للوثنية لا تقويض لها.

*
الإيمان صلف وجهل، التوحيد بحث ومعرفة.

الخميس، 12 مايو 2016

مزبلة التاريخ


مزبلة التاريخ. كم سئمت هذا المصطلح. هل تريدون أن تعرفوا حقاً من يقطن حالياً في مزبلة التاريخ إياها: نحن. نحن المتآمرون على أنفسنا باسم الله والوطن والقائد والشعب والقومية والعقيدة والمجد. نحن المنتصرون على بعضنا البعض نصرة لبعضنا على بعض. نحن الوثنيون. نحن الذين لم نعرف من الحياة شيئاً إلا الغرق في الموت والخوف، الخوف من بعضنا البعض، من التغيير، من كل شيء. نحن الذين نخشى أن نبدأ الحياة من جديد، مجردين من أسمال الماضي. نحن المدمنون على الأوهام. نحن من نخال أنفسنا مركز الكون، وسر الوجود، وقمة الخليقة، فيما نقبع محاطين بجيف أحلامنا المتفسخة، هنا/هناك... في مزبلة التاريخ، إياها.


الاثنين، 9 مايو 2016

عن الماضي والمستقبل


* الأفكار التي مهدت لأمجاد الماضي لن تمهد لأمجاد المستقبل. فلو كان بوسعها ذلك، لكان الحاضر ذاته مجيداً، فما الحاضر إلا مستقبل الماضي، أليس كذلك؟ ولنا في وقائعه وحقائقه خير دلالة على نوعية الحياة التي يمكن لأفكار الماضي أن تقدمها لنا اليوم. وقبل أن نبرر كون الحاضر أبعد ما يكون عن المجد بالإشارة إلى تخلي القوم عن أفكار ومعتقدات بعينها، علينا أن نشرح أولاً كيف يمكن لقوم أن يتخلوا عن هذه الأمور لو كنت بالفعل قادرة على تحقيق مصالحهم والإرتقاء بهم إلى مستوى طموحاتهم ومساعدتهم على مواكبة الأزمنة بتطوراتها ومتغيراتها المختلفة. أجل، بوسع الشعوب أن تنهض من جديد، وتبني حضارات جديدة، لكن هذا لن يتم إلا بناءاً على أفكار جديدة، إذ لا يمكن للشعوب أن تستعيد الماضي مهما فعلت، ولا يمكن لها أن تؤسس لنهضة جديدة باجترار أفكاره، ولقد أخفقت كلما حاولت. وإلى أن تتصالح الشعوب مع هذه الحقيقة، ستبقى غارقة في مستنقعات الحيرى والتخبط، عاجزة عن صم آذانها عن عويل الماضي، أو عن تلبية نداء المستقبل.

* لن تعوضنا أمجاد الماضي ومعارفه عن هواننا في الحاضر. وحده المستقبل قادر على التعويض، إن سعينا له.

* من أراد لمستقبله أن يكون نسخة عن ماضيه لا مستقبل له.

* طالما بقينا جسوراً وأقنية تربط الماضي بالمستقبل سنبقى عبيداً له. علينا أن نصبح غرابيلاً للماضي لنبقى أحراراً اليوم، وفي الغد.

السبت، 30 أبريل 2016

لم نعد أمويين، ولا عباسيين، ولم تعد الدنيا بستاناً لهشامنا

طريق الحرير للفنان الصيني جيانج هونجيانج - 2008

لم نعد أمويين، ولا عباسيين، ولم تعد الدنيا بستاناً لهشامنا، ولم يعد ريع أمطارها حكراً على مليكنا المظفر. لقد دارت علينا الدوائر، وقضي الأمر. ولن نعود كما كنا مهما فعلنا. بل لا ينبغي للعودة أن تكون هدفاً لنا. لا العودة إلى الماضي ممكنة، ولا استرجاع أمجاده ممكن، خاصة إذا بقيت الغَلَبَة في منظورنا الثقافي المعيار الأساسي للمجد. إذ لم تعد القدرة على قهر الآخرين معياراً مناسباً للأمجاد اليوم، ولا يمكن، بل، لا ينبغي لها أن تكون. فالعدالة لا تكمن في تداول القهر. وإن بدا الأمر "طبيعياً" في السابق، لم يعد هذا تعريفاً مقبولاً للنصر. وإن تلاءمت أفعال سلاطيننا مع مبادئهم فيما مضى، أصبح التناقض بينها القاعدة اليوم. وفيما يصر البعض منا على التمسك بطرق الماضي وأفكاره، بدأ شيء ما في وعينا يتمرد على هذا الأمر. المجد اليوم تنمية ومعرفة وحرية أكثر منه سلطة وغلبة وقهر، ولا تسعى الدول القوية اليوم إلى قلب الموازين العالمية القائمة، بل إلى تعديلها فحسب. نحن من يصر على ربط المجد بالغلبة، ولأننا عاجزون عن مقارعة الأقوياء بغير أفواهنا، نكاد لا نفتر عن مقارعة أنفسنا، مستعينن غالباً بالأقوياءـ لكن، لا نصر لمن يصارع نفسه ما خلا الموت. وفي سعينا المستمر إليه، حبذا لو سألنا أنفسنا للحظة تأمل خاطفة: من نحن؟ إذ علينا أن نعيد تعريف أنفسنا اليوم لننهض من جديد، وأن نقول "لا  للغلبة، لا للقهر،" وأن نطالب بدرجة أكبر من الانسجام ما بين المعايير التي أصبحت مطروحة اليوم لتقييم الأفعال، وبين الأفعال ذاتها. لأننا، وإن لم نعد أمويين أو عباسيين، ما نزال بشراً، وما يزال بوسعنا المشاركة في صنع القدر، عوضاً عن أن نكون عبئاً عليه. وإن كان ذلك لا يتسنى لنا عن طريق الإقتداء بمن رحل، فبوسعنا أن نقتدي بمن حضر، بشعوب تلك الدول التي لم تعد تتمسك بالماضي وقيمه، وأصبحت علاقتها معه، كعلاقتها بالحاضر والمستقبل، علاقة جدلية الطابع أكثر منها تبعية. مع التنويه إلى كون الاقتداء شيء، والتبعية شيء آخر، وإلى أن الإبداع هو المبتغى هنا، وهو الفعل الذي نبحث عنه، وهو مفتاح عودتنا إلى المستقبل: الموطن الحقيقي للمجد.

الجمعة، 29 أبريل 2016

لم ولن يتساووا


تعدّد القتلة في سوريا لكن لم ولن يتساووا. لماذا؟ لنفس السبب الذي يجعل القانون والمجتمع يفرقان بين من قتل عمداً فرداً، أو حتى مجموعة من الأفراد في ذات العملية، والقاتل المتسلسل الذي يتبنى طقوساً ومنهجية معينة في القتل، ويستمر فيه حتى يموت أو يقبض عليه، أو يتوقف من تلقاء نفسه لتغير ما في مزاجيته المريضة الخاصة. والدافع وراء هذا التمييز هو إدانة العقلية المريضة المسؤولة عن تصرفات القاتل المتسلسل، وإدانة منهجية القتل ذاته: أي تحويله إلى صناعة "طبيعية،" أو نشاط مثل أي نشاط آخر يقوم به الفرد للمتعة أو التنفيث أو التهجد.

لقد أصبح القتل عند نظام الأسد وحلفائه صناعة، ووحدها داعش تتبنى منهجية مماثلة، وإن على نطاق أضيق بكثير لضيق إمكانياتها بالمقارنة مع الإمكانيات المتاحة للنظام وحلفائه.

لا يستوي الارتجال والمنهاج. وكل ما أرجوه اليوم أن لا تحاول بقية أطراف الصراع في سوريا أن تمنهج عملها في هذ الصدد أيضاً، فهناك فرق ما بين تنظيم العمل العسكري، الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط له أيضاً، ومنهجة القتل، التي تتطلب تغييب إنسانية الطرف الآخر، وبالتالي إنسانية الطرف القاتل أيضاً. فالمنهجة إذن تعني أن المرض قد تفشى، وإن الجميع قد خسر، خسروا إنسانيتهم أولاً ثم الحرب، بسبب خياراتهم ذاتها.

ولا ننسى أن مصطلح الإنسانية المستخدم هنا يدل على تطلع داخلي عميق وقديم نحو الأفضل، نحو أن نصبح نحن كبشر: أفضل، أن نكون بطبيعتنا التي سميناها باسمنا: أفضل. إن خسارتنا لهذا التطلع هي خسارتنا لمعركة الوجود ذاته، لأنه سيصبح بعدها بلا معنى، في حين تتجلى الميزة الأساسية للوعي الإنساني في البحث المستمر عن المعنى.



الأربعاء، 27 أبريل 2016

التوحيد


هل هناك في عقيدتك ورؤيتك قدسية لأفكار وشخصيات بعينها تبقى دائماً فوق المسائلة، والمراجعة، والنقد، والرفض؟ إذن، أيقن بأنك وثني، مشرك، لاتفقه شيئاً في التوحيد مهما ادعيت بلسانك، فالتوحيد لا يقدس إلا الحياة، حياة الجميع، ويدعو إلى الشك دائماً، لا اليقين، لأن المعرفة لا تتوقف، التوحيد خبرة مستمرة، وتغير، وتغيير، وجدل، وتفاعل للكل مع الكل، وللماضي مع الحاضر والمستقبل. أين هذا من الجمود الذي تدعو إليه؟ 

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

حين يستوي الظالم والمظلوم

عبء الظلم للرسام باولو زيرباتو

هل هناك في عقيدتك ورؤيتك ما يبرر ويشرعن الاعتداء على الغير باسم الحق وبدعوى إخراجهم إلى النور؟ أو يشرعن تصنيف الآخرين في القانون بحسب آرائهم ومعتقداتهم، فيُحاسَب البعض ويُجرَّمون وفقها، في حين تُسبغ عليك أفضلية في المعاملة، فقط لأنك ولدت وترعرعت على عقيدة بعينها، وبصرف النظر عن سلوكك وتصرفاتك؟ إذن أيقن بأنك ظالم، حتى وإن كنت في هذه المرحلة مظلوماً، لإنك في شرعنتك لظلمك، أو بالأحرى للظلم الممارس باسمك وباسم عقيدتك ورؤيتك للأمور، قمت عملياً بشرعنة الظلم للجميع في كل مكان وعبر التاريخ، فلا يهم عندها أين موقعك من الإعراب، ويستوي هنا الظالم والمظلوم لاتفاق آرائهم حول شرعية الممارسات، بصرف النظر عن اختلاف المبررات. 

الاثنين، 25 أبريل 2016

العيش في الهامش


ألِف معظمنا العيش في الهامش، حيث لا شُبهة ولا مسؤولية، وإن لم تنتفِ جميع المخاطر فيه. فمن مأمنهم النسبي هناك بوسعهم أن يراقبوا ما يحدث من حولهم بتجرّد نابع عن البلادة، لا عن الموضوعية أو العقلانية، وأن يعلّقوا عليه وينتقدوه من منظور مثاليّ وطهرانيّ لا يرضى إلا بالكمال حلاً وإنجازاً. هكذا تبقى الضمائر مرتاحة والأيادي نظيفة، وإن لم يتم إنجاز شيء. وأنّى له أن يتمّ، وهو الذي لا ينبع إلا من الخوض في قلب المعمعة، بكل ما فيها من مخاطر وتحديات، وكل ما يتطلّبه الخوض فيها من عثرات وتنازلات ومساومات، في حين يصرّ أصحابنا على المكوث في الهامش، منتظرين أن يُعطى الإنجاز لهم مكرمة وتفضّلاً من القدر/الله/الصنم الذي يعبدون.

لكن، ولأن معظمنا ترعرع على الاعتقاد بأن "الآخرين،" ذلك المصطلح الذي غالباً ما يستخدم كمرادف للشياطين في ثقافاتنا، الشعبية منها والنخبوية، هم المسؤولون دائماً عن إخفاقاتنا المتكرّرة بمؤامراتهم التي لا تنتهي ضدنا، كوننا سرّ الخليقة وأفضل أمة أخرجت للعالمين، كما تنبئنا تعاليمنا الدينية، وأننا في الواقع مجرد ضحايا لجشعهم، لا يحرّضنا غياب الإنجاز هذا على مراجعة أفكارنا ومعتقداتنا الأساسية، بل، على العكس، نراه يكرّسها يوماً بعد يوم، وإخفاقاً بعد إخفاق، وغياباً بعد غياب. هكذا يبرّر الفشل نفسه في الثقافات التي ترى في الأمان، وبالتالي، في الجمود والثبات والتراث ومقاومة التغيير، قيمة مطلقة. وهكذا يصبح النجاح فيها مستحيلاً. 

الأحد، 17 أبريل 2016

قصة اغتيال معلن


في مثل هذا الوقت تقريباً من العام الماضي، طرحت رؤية لحل سياسي في سوريا تشمل تأسيس حكومة انتقالية، وعرض رسالة على الأسد مفادها الاستقالة من منصبه مقابل البقاء في سوريا، وتحديداً في المناطق المؤيدة، مع تحييد دور دمشق كونها العاصمة التي ينبغي أن تسمح بتمثيل كل الأطراف فيها. لم أتطرق لموضوع العدالة الانتقالية بشكل مباشر راغباً في أن تقوم الأطراف الدولية باستخدامها كورقة للضغط على الأسد لإقناعه بالقبول بالطرح. كان يمكن لهذا الطرح أن ينفع على الرغم من التدخل الروسي، لكن تعنت الأسد يجعل هذا الطرح مستحيلاً اليوم، بل يبدو من الواضح أن الاغتيال، وعلى أيد صديقة، بات هو الحل الوحيد لمعضلة الأسد.

أنا لا أدعو إلى هذا بالطبع، بل إني أفضل خيار المحكمة الدولية، لأنها تشكل رسالة أقوى إلى المستبدين الآخرين في هذا العالم أن العدالة قادمة لا محالة، لكن الدول الصديقة للأسد هي التي تجد حرجاً في الاحتكام إلى القانون الدولية، وهي التي ستضطر، مقابل الحفاظ على مكاسبها في سوريا، إلى التضحية بالأسد. لأن تعنت الأسد يحرجها بأكثر مما يحرج الأطراف الأخرى، خاصة الولايات المتحدة. إذ ما لم تتمكن من وضع حد لصلفه، بعد كل ما قدمته له من دعم، لا بد وأن تتأثر مصداقيتها عند الأطراف الأخرى، الأمر الذي سيكون له انعكاساته السلبية على ما يجري من حوارات حول حزمة هامة من القضايا العالقة.


الأحد، 3 أبريل 2016

سوريا والحوار المغيَّب حول تفاعلات الهوية والطائفية، والأقليات والأكثرية


أثبت تاريخنا المعاصر أنه لا يمكن للأقليات الدينية أو الطائفية أن تكون حامل العَلمانية في مجتمعاتنا إن إردنا لهذه المجتمعات أن تكون ديموقراطية أيضاً. كما لا يمكن للأكثرية الدينية أو الطائفية في مجتمعاتنا أن تكون ديموقراطية حقاً ما لم تكن عَلمانية أيضاً، لكن، لا يمكن لهذه الأكثرية أن تتبنى العَلمانية ما بقيت الأخيرة تستخدم كمبرر فكري وسياسي لاستبداد الأقليات، وما بقي مفهوم العلمانية بحد ذاته مشوهاً في أذهان الأقليات والأكثريات على حد سواء.

فالنزعات الأصولية المتشددة عند الأقليات في مجتمعاتنا لا تقل في الواقع تشدداً عما نراه عند الأكثريات، وإن اختلفت المظاهر، وأحياناً المسوغات. ففيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية مثلاً، لا يقل رفض الأقليات الدينية لها عنفاً عنه عند الأكثرية المعنية. علاوة على ذلك، تقوم بعض الأقليات باستخدام اختلاف عاداتها وتقاليدها وأعرافها، و/أو مظلوميتها التاريخية الخاصة، كمبرر لازدراء الأكثرية وحقوقها وللتشكيك المستمر بنواياها مستغلين وجود شرائح متشددة في صفوفها، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى نشأة هذه الشرائح، وعن رفض الأكثرية المعنية لها كونها تشكل تهديداً لهذه الأكثرية أيضاً.

ويهيمن عند هذه الشرائح المتشددة في صفوف الأكثرية مفهوم للعلمانية يجعلها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية لهذه الأكثرية، خاصة في تلك الحالات التي تصر فيها النخب الثقافية عند هذه الشرائح على فكرة حصر "الحاكمية" بشرع الله، مما يقتضي أن تقوم الدولة على أساس الدين. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطائفة السنية، فالشيعة أيضاً يعانون منها تحت مسمى ولاية الفقيه، ومسميات أخرى.

لكن، إلى أي حد تمثل هذه الشرائح الأصولية المتشددة الطائفة التي تنتمي إليها، وما هو مدى نفوذها وتأثيرها؟

بصرف النظر عن طبيعة الإجابات التي يمكن أن تنشأ عن التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة، تكمن المشكلة الحقيقية في وجود إجابات مسبقة عليها عند الجماعات الطائفية المختلفة، إجابات لها مصداقية ووقع في نفوس المعنيين بها أكبر من أية معايير موضوعية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد.

ففي سوريا مثلاً، ترى أن وجود هذه الشرائح الأصولية عند أهل السنة يشكل سبباً كافياً عند الأقليات الدينية والطائفية  السورية لعدم الثقة بهم نهائياً فيما يتعلق بإدارة الدولة وأجهزتها الحساسة، خاصة القطاعات العسكرية والأمنية، بصرف النظر عن الحجم الديموغرافي الحقيقي لهذه الشرائح، وحقيقة كونها تشكل أقلية ضمن الأكثرية، وبصرف النظر عن وجود شرائح سنية واسعة حافظت على ولائها للأسد أبان الثورة، وأخرى صامتة. من هذا المنطلق جاء شعار "الأسد أو نحرق البلد،" والشعار الأفصح منه "كس أخت الحرية،" علاوة على هالة القداسة التي أسبغت على البسطار العسكري، لتشكل أصدق وأجلى تعبير عن المخاوف التي تجول في نفوس الأقليات في هذه المرحلة، بحيث يصبح اختيار العيش في ظل الفساد والقمع الممنهجين لنظام الأسد، أو حتى اختيار الفوضى والتفتيت، خير من حكم أهل السنة. وتأتي جهود النخب الأقلوية المثقفة لتقديم الكثير من التحاليل "العقلانية" لتبرير هذا الموقف الشعبي لطوائفهم كمؤشر على الكيفية التي يتم من خلالها تجنيد العقل لخدمة الخوف والعصبوية أولاً وأخيراً. ففي الواقع، هناك تغييب في هذه التحليلات، متعمد عند البعض، لكنه غير واعٍ عند السواد العام، بصرف النظر عن مكانتهم الفكرية، لكل المعطيات التي تناقض افتراضهم الأساسي حول طبيعة الثقافة السنية التي تبقى، من وجهة نظرهم، متعجرفة، وعنصرية، واستبدادية الطابع، وغير قابلة للتحديث، وذلك بخلاف الاعتقادات السائدة لدى معظمهم حيال عقائدهم الخاصة، والتي يخالها الكثير منهم أقرب إلى الحداثة أو  الإصلاح من عقائد أهل السنة. فقبول الشيعة الجعفريين بتساوي حصة المرأة والرجل في الإرث يجعل معتقداتهم أقرب إلى الحداثة، وكون العلويين أقل تعلقاً بمعتقداتهم الدينية يحعلهم أقرب إلى الحداثية، وكون المسيحيين مسيحيين يجعلهم أقرب إلى الحداثة لأنها الغربية المنشأ، والغرب "مسيحي." إن هذه الطروح على سذاجتها الصارخة تعتبر من المسلمات.  


لا يترك هذا الأمر  مجالاً كبيراً أمام أهل السنة للدفاع عن أنفسهم أو تبريرها. والواقع أنهم ليسوا أبرياء تماماً، فالسلطة مورست باسمهم في البلاد، أي سوريا الطبيعية، حتى ما قبل تأسيسها في العصر الحديث، على مر قرون من الزمن، ولا شك في أن لهذا الواقع  أثره الكبير على أنماطهم السلوكية والفكرية العامة، أنماط قد تغيب عن انتباههم، لكنها لا تخفى على الأقليات. فـ "نون" الجماعة التي غالباً ما تستخدم في الخطاب السوري الرسمي الموجه للعموم، وفي معرض الكلام العام عن "ثقافتنا" و "قيمنا" و "مبادئنا و "همومنا"... تشير في الواقع إلى الثقافة والقيم والمبادئ والهموم كما يفهمها أهل السنة بالدرجة الأولى، بل المحافظون والمتدينون والمدينييون منهم على وجه الخصوص. ولقد سعى نظام الأسد عن قصد وإدراك وبشكل منهجي إلى تكريس هذا الواقع لما فيه من تهميش لثقافات وقيم وتطلعات الأقليات بالذات، مما لا يترك أمامها إلا خيار الاصطفاف وراءه.

وإن كانت الخيارات الإيديولوجية السياسية للأقليات تعكس إلى درجة ما مخاوفها حيال الأكثرية، أهل السنة في الحالة السورية، فقلما عكست الخيارات السنية، حتى الآونة الأخيرة على الأقل، تفهماً حقيقياً وعميقاً لهموم ومخاوف وتطلعات الأقليات الدينية والطائفية في البلاد، ناهيك عن الأقليات القومية، ولكونها تختلف في جوهرها وفي الكثير من تفاصيلها عن نظائرها عند أهل السنة. وفي هذا الأمر بحد ذاته دلالاته الخاصة التي تسبغ بعض الشرعية على مخاوف وشكوك الأقليات حيال أهل السنة.

لكن المشكلة الأكبر تكمن في رفض الأقليات الدينية والطائفية التعامل الصريح مع هذه القضية حتى اليوم، أي في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من أهل السنة يشعرون بأهمية وحقيقة وخطورة هذه القضية، قضية حقوق الأقليات والترتيبات المتعلقة بحمايتها، وأصبحوا يبدون استعدادهم للتعامل بانفتاح أكبر معها، وإن اختلفت طروحاتهم في هذا الصدد. وربما يكمن السر وراء هذا الرفض الأقلوي لطرح حقوقهم على مائدة البحث بشكل صريح ومن خلال مناقشة ترتيبات بعينها يمكن لها أن تضمن حقوقهم في المستقبل في أن هذا الأمر يشير بوضوح إلى وجود عامل أصولي و "رجعي" في فكر وسلوكيات الأقليات أيضاً، وهو الأمر غير المقبول من قبل النخب المثقفة والسياسية عند الأقليات التي تصر على إلصاق تهمة الأصولية والرجعية بالأكثرية السنية حصراً، في الوقت الذي تطرح فيه هذه الأقليات نفسها، عن طريق نخبها الفكرية والسياسية، كرائدة التطور والتقدم والتحديث في سوريا، بل والمنطقة. لذا، ترفض هذه النخب، في خطابها على الأقل، وبصرف النظر عن طبيعة الممارسات السياسية للنظام الذي حكم سوريا بإسمها وبذريعة ضمان أمنها عبر العقود الماضية، التعامل مع قضية "حقوق الأقليات،" وتصر على اكتفائها بمفاهيم المواطنة والمساواة. ويشكل هذا الإصرار، من الناحية العملية، رفضاً لأي بديل لما هو قائم: نظام استبدادي يحكم باسم الأقليات، ويقمعها أيضاً ليكرس قبضته عليها ويمنعها من إفراز أية بدائل داخلية له، لكنه يختص بالذات ويتفنن في قمع الأكثرية.

لقد ساهم الإحساس بالمظلومية التاريخية حيال أهل السنة في صنع هوية أقلوية معاصرة ترضى لنفسها العيش تحت نير الاستبداد، طالما بقي أهل السنة بعيداً عن سدة الحكم، بصرف النظر عن الاعتبارات الديموغرافية والحقوقية والإنسانية، أو عن بوجود عوامل مشتركة في الهويات الجمعية لدى الجميع.

لقد أصبح شعور الأقليات الدينية والطائفية في سوريا بالأمان مرتبطاً ببقاء أهل السنة في القفص وتحت حكم البسطار العسكري. أضف إلى ذلك، ونظراً للكيفية التي استخدمت بها القوى الخارجية في السابق، واليوم، قضية حقوق الأقليات وحمايتها كمبرر لحملاتها الاستعمارية والاستيطانية في البلد والمنطقة، يبدو من الطبيعي أن تتجنب النخب الممثلة للأقليات أي طرح صريح يمكن أن تشتم منه رائحة التقسيم والسياسيات التفضيلية، إذ لا تريد  هذه النخب أن تتهم بأنها طابور خامس يسعى لخدمة مخططات خارجية. وإن كانت الوقائع منذ بداية الثورة تشير إلى أن من يحكمون سوريا باسم الأقليات كانوا هم السباقين إلى الاستعانة بقوى الخارجية لحمايتهم، وأنهم هم من يخلق وعن قصد واقع التقسيم على الأرض، وهم من قام بحملات تطهير عرقي قبل غيرهم، وعلى نطاق أوسع، وأحرقوا خاصة تلك المناطق من البلاد التي يسكنها أهل السنة، وأنهم هم من سعى ومن اللحظة الأولى لنهجهم القمعي حيال الثورة إلى تأمين تلك المناطق التي تسكنها أقلية بعينها، وتعتبرها موطنها الأصلي. 

هكذا، وبسبب وجود موقف عدائي مسبق من الأغلبية السنية، وبسبب جهل النخب الفكرية والسياسية السنية لهذا الواقع بمضامينه المختلفة، أو تجاهله، وبسبب التبني المسبق من قبل الجميع لنظريات المؤامرة التي، وإن كان لها مبررات تاريخية، ساهمت رؤانا المؤدلجة في تضخيمها إلى درجة لم نعد نعي فيها مقدار مساهمتنا في بناء واقعنا المعيشي والسياسي، وأنا نتحمل القسط الأكبر عما يجري في حياتنا وما يقع علينا من ظلم، كان من السهل على البعض منا تصديق أكاذيب الأسد حول "المندسين" و "المؤمرات الكونية،" ومن السهل على البعض الآخر الإنجرار وراء الأحلام الغيبية والرؤى المتشددة. لقد ساهم انغلاق الأقليات على نفسها لقرون سابقة، نتيجة للنظام المللي العثماني الذي حماها وعزلها في آن، على الأقل في أواخر عقوده، وعلى الرغم من انفتاحها على المستعمر الفرنسي خلال وجوده في البلاد، والذي ترك رحيله عندها إحساساً بالخذلان طالما تجاهلته أدبياتنا، بل على العكس، ظهر تيار فكري وأدبي ركز على تواطئ بعض التجار السنة مع المستعمرين الفرنسيين، فيما تم تجاهل التواطئ الأقلوي الأعمق والأكثر شعبية، ساهم هذا الانغلاق  في تكوين مظلومية حادة عند الإقليات الدينية والطائفية في سوريا مبنية على أساس تراكمي تحكمه المزاجيات والذاكرة الجمعية النفعية والمكرسة للعصوبية الخاصة بكل فريق، أكثر من الحقائق التاريخية والتمحيص والتحليل الموضوعي لها. بمعنى آخر، هناك الكثير من الأوهام إلى جانب الحقائق في إحساس الإقليات بالمظلومية، والكثير من التحامل على فئة مسحوقة مثلهم، حتى وإن كانت تشكل الأكثرية.

ولهذا، لن يقدم ممثلو الأقليات المقبولين شعبياً (إذ لا تهم في إطار هذا التحليل هنا المواقف الفردية لبعض الشخصيات طالما بقي نفوذهم ومصداقيتهم على المستوى الشعبي محدوداً للغاية) أي حل منطقي للأزمة، وسيدأبوا على رفض المقترحات والرؤى الموضوعة من قبل التحالفات التي تشرف عليها الأكثرية، لأنها ستبقى دائماً مقصرة، خاصة وأن الحل المثالي الذي ترتاح إليه الأقليات يبقى مرتهناً، كما نوهنا آنفاً، إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، مهما كانت سيئة. فمن الأسهل على الأقليات من الناحية النفسية أن تتمسك بإيمانها بأنها الضحية الأساسية لأهل السنة ولطموحات الأسد ومن حوله وفسادهم، ولثلة من المؤامرات الخارجية من الدول ذات الأغلبية السنية، مثل تركيا والسعودية وقطر، علاوة على أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من أن تواجه حقيقة مساهمتها الملوسة في صنع هذا الواقع.  باختصار، سيبقى ممثلو الأقليات في خطابهم العام يتمسكون بالوحدة والسيادة الوطنية، لكن ستبقى أفعالهم وخطابهم الداخلي الخاص يمهد للتقسيم والتفتيت والفوضى والإرهاب، حتى ذلك الممارس باسم أهل السنة ونصرتهم، وذلك  من خلال تورط النظام في إنشاء وتشجيع الجماعات الإرهابية. فالخوف هو الحاكم هنا: الخوف من أهل السنة، المضطهِد والظالم والمذنب الأول بحق كل الأقليات، كما يرى السواد الأعظم فيها.


ولقد ساهمت كل هذه الاعتبارات من ناحية، والنزعة أو العقلية "المركزية" عند أهل السنة من ناحية أخرى، والتي تضعهم دائماً، كما هي الحال مع سائر الأكثريات التقليدية، في مركز الصيرورات وعلى قمة الهرم، وهي الحقيقة التي تتجلي دائماً في تصرفاتهم وسلوكياتهم وكيفية اتخاذهم للقرارات التي تنم كلها عن فوقية وعنجهية يشعر بها الجميع ما خلا أصحابها... كل هذه الأمور والاعتبارات ساهمت في تشكيل ذلك الاتفاق الضمني الذي يبدو أن النخب الفكرية السياسية والاجتماعية والدينية التي شاركت في عهد التأسيس لسوريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قد توصلت إليه بطريقة أو أخرى.

ويتجلى هذا الاتفاق في التناسي المنهجـي لطبيعة التحولات السياسية المختلفة التي ساهمت في تشكيل الدولة السورية الحديثة، بما فيها الخلافات والحوارات التي دارت بين النخب السياسية والاجتماعية المختلفة حول طبيعة الدولة، والكيفية التي تم من خلالها الاتفاق على تأسيس دولة واحدة وليس دولتان، أو ثلاث، أو أربع، وتغييب الكثير من الأحداث التي ساهمت في تشكيل الوعي آنذاك، مثل أسباب محاكمة وشنق عضو البرلمان سلمان المرشد، العلوي الأصل والمنشأ، بعد مرور أقل من ثلاث أشهر على إعلان استقلال دولة سوريا بتهمتي الخيانة والردة، ومثل التفاصيل المتعلقة بالإنقلابات العسكرية المختلفة وأسبابها الحقيقة، إلخ. فالكتب المدرسية والجامعية، سواء تلك التي أنتجت في المرحلة البعثية أو التي جاءت قبلها، لم تتعامل أبداً بشكل موضوعي مع المرحلة التأسيسية، هذا علاوة على تغييب أو منع الكتب والمذكرات التي كتبتها الشخصيات السياسية والفكرية التي عاصرت هذه المرحلة الهامة وساهمت في تشكيلها. ومما لا شك فيه أيضاً وقوع الكثير من التزوير والتشويه في بعض هذه الكتابات خاصة تلك التي ما تزال متداولة بشكل مفتوح.

خلاصة الكلام: إن مسألة التنوع الطائفي وحقوق الأقليات، بل حقوق جميع المكونات، الآن وقد أصبح لأهل السنة في سوريا مظلوميتهم الخاصة حيال باقي المكونات، أهم من يتم التعامل معها عن طريق تفادي الغوص في التفاصيل، وتجاهل المظلوميات المتراكمة والانطباعات النمطية الخاطئة، والاصرار على التمظهر بالتمدن من خلال تبني شكلياته وتجاهل فحواه. لن تفيدنا في الفترة القادمة الدساتير والاتفاقيات والوثائق التي تضعها النخب من خلال حوارات ونقاشات مغلقة، نحن بحاجة إلى عقد حوار مفتوح حول مجمل قضايانا، بالتركيز على قضية تنوعنا بالذات، قبل تبني أية وثيقة نهائية. إن أية محاولة لتناسي الإشكالات والعوامل التي ساعدت على اندلاع الحرب الأهلية في ربوعنا، وسمحت بالتدخل الخارجي فيها، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الماضي وبالتالي إلى التمهيد إلى صراع جديد في المستقبل.

وحتى ذلك الحين، علينا أن نحسن التعامل مع عهد الانتداب الجديد والمتنوع، المباشر منه وغير المباشر.

الخميس، 31 مارس 2016

ملاحظة مختصرة حول مسألة إعادة التوطين

لاجئون سوريون في بلغاريا

من الناحية العملية، تشكل إعادة توطين مئات الألوف من اللاجئين السوريين اعترافاً ضمنياً بالطابع الجديد لبعض المناطق في البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً، وتكريساً لهذا الواقع. لكن الهدف الحقيقي منها هو محاولة تحسين الظروف الإنسانية والمعيشية لهؤلاء اللاجئين. فالمعضلة التي تواجهنا هنا والآن، والتي ستبقى تواجهنا لفترة طويلة كسوريين، تكمن غب أن متطلبات النشاط الإنساني باتت تتعارض في بعض جوانبها مع متطلبات العمل السياسي، وما علينا أن نختار ونحسن الخيار.

بالنسبة لي، أرى أن الاعتبارات الإنسانية أهم في هذه المرحلة، لأنها لن تتعارض مع متطلبات السياسة على المدى الطويل، وذلك في حال نجاحنا في طرح رئاً سياسية مناسبة للمستقبل، وعمّقنا فهمنا للكيفية التي ينبغي علينا أن نعين من خلالها أولوياتنا للعمل في المراحل القادمة. 

الأربعاء، 30 مارس 2016

"النصر" و "الهزيمة" في عالمنا المعاصر

لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): عائلة الإمبراطور الفارسي داريوس تركع أمام الإسكندر المقدوني بعد انتصاره. 

النصر بمعناه التقليدي المألوف لدينا من خلال الأساطير و "الحواديت" التاريخية المنتشرة في ثقافتنا يقتضي عادة هزيمة الطرف الآخر بشكل تام وماحق يشمل السيطرة على المناطق التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما بشكل تام، وربط مصيره بمزاجية قائد الجانب المنتصر وحساباته المرحلية الخاصة.

وفقاً لهذا التعريف، ولاستقرائي الخاص للواقع القائم اليوم، بوسعي أن أؤكد أن ما بوسع أي طرف من أطراف النزاع الحالي في سوريا، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين، أن يحقق هذا النصر مهما فعل.

فتحقيق نصر من هذا النوع، وهو الأمر الذي يشتهيه كل طرف محلي، لا يحقق بالضرورة مصالح حلفائه، الإقليميين والدوليين، ولا ينسجم مع متطلبات مصالحهم أو مع حساباتهم الخاصة بالتطورات والتوازنات القائمة في بلدان ومناطق أخرى. إن هذه الاعتبارات تحتم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع السوري القيام بـ "إدارة الصراع" لا محاولة حسمه لحساب أي طرف، لأن الهدف بالنسبة لهم لا يتجاوز إجراء تعديل، أو تعديلات، ما في التوازنات القائمة، لا السعي وراء انهيارها، لما في ذلك من انعكاسات سلبية محتملة على الجميع. علاوة على ذلك، هناك إدراك أعمق عند الكثير من هذه الأطراف، بالمقارنة مع اللاعبين المحليين على الأقل، لحجمهم الحقيقي من الإعراب، سياسياً واقتصادياً وبنيوياً، وبالتالي لأي مدى يمكن لهم المغامرة بالتدخل وقلب الموازين.

من ناحية أخرى، هناك عامل جدي آخر لابد من التنويه إليه هنا لتأثيره المباشر على معظم القرارات المتخذة فيما يتعلق بكيفية إدارة الصراع في سوريا، ألا وهو عامل الثقة، سواء بالنوايا أو بالقدرات. ففي حين يبدو أن بوسع الأطراف الإقليمية والدولية أن تثق ببعضها البعض إلى حد معقول، بسبب التاريخ الطويل لتفاعلاتها المشتركة،  الودية منها والعدوانية، وإدراك معظمها بشكل أو آخر لضرورة الحفاظ على بعض، إن لم نقل معظم، التوازنات القائمة بينها، وتجنب التسرع والتهور في المحاولات الجارية لتعديلها، لا يبدو أن لدى أي من هذه الأطراف ثقة كبيرة بالجهات المحلية التي يدعمها لا من حيث النوايا، ولا من حيث الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها في حال تحقق لها النصر الحاسم والنهائي، ولا من حيث القدرة على تحمل مسؤولية الحكم في المرحلة التالية.

فإن كان حلفاء الأسد يريدون له أن يبقى في هذه المرحلة، فهذا لا يعني أنهم يثقون به ويريدون له أن ينتصر. بل هم يفضلون له أن يبقى في حاجة مستمرة إليهم حتى يتعبوا هم منه، ويتمكنوا من إيجاد معادلات أخرى للسيطرة على المناطق التي يرغبون بها في البلد عن طريق شخصيات وتوازنات داخلية أخرى. أي أن الأسد بالنسبة لهم لا يزيد عن كونه ستار يمكن له أن يخفي وراءه أهدافهم الحقيقية ومساعيهم إلى تقسيم سوريا لمناطق نفوذ خاضعة لهم، بشكل أو آخر: المناطق الساحلية لروسيا، والمناطق الجنوبية والوسطى لإيران وميليشياتها الشيعية المتطرفة، بحيث تحظى أخيراً بممر  بري يصل طهران بالبقاع وبيروت، عن طريق بغداد وتدمر وحمص ودمشق، خاضع لسيطرة مباشرة من قبل ميليشياتها الطائفية.

ويمثل الأسد أيضاً ورقة ضغط يمكن استخدامها في العملية التفاوضية للتسويف وللتحصل على تنازلات من حلفاء الجهات المعارضة إلى أن يأتي الوقت المناسب لحرقها. وقد تكون اللحظة قد اقتربت، بالذات لأن الأسد يبدو غير قادر على إدراك ذلك، ومايزال يتكلم ويتصرف وكأنه سيد الموقف. 

أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة، بشكل أو آخر، فإن لم تكن الحقيقة واضحة فيما قبل، فلابد أنها قد أصبحت واضحة اليوم: إن دعم هذه الدول للمعارضة كان دئماً مشروطاً برؤيتها الخاصة للكيفية التي ينبغي من خلالها إدارة الحكم في سوريا في المرحلة التالية.

لوحة للرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (1798-1863): سقوط القسطنطينية على أيدي الصليبيين في 12 نيسان/أبريل، 1204.

إذ سعت كل من تركيا وقطر إلى تحقيق انتقال يضمن استمرار الدولة المركزية لكن تحت سيطرة إخوانية "مدنية"، بحيث لا يتحقق للإكراد ما يريدون، أي دولة لامركزية أو فيدرالية، ولا يتحقق للقوى العلمانية ما تريد: دولة علمانية ديموقراطية. من هذا المنطلق جاءت سياسة العزل التي مارسها الأتراك بحق الضباط المنشقين، العلويين منهم خاصة، بالتوا زي مع محاولاتهم المستمرة لاختيار مَنْ من الضباط السنة يمكن لهم دعمه، أو بالأحرى، مَنْ منهم يبدي انفتاحاً على موضوع التعامل مع الإخوان والقبول بسلطتهم السياسية. ولنا في ما حصل مع الضابط حسين هرموش، مؤسس حركة الضباط الأحرار، خير مثال على الكيفية التي قامت بها السلطات التركية بالتلاعب بالمنشقين وتحييد من لم يرق لها منهم. وإن لم يقدر لهذه المحاولات أن تنجح تماماً، فهي لم تخفق كلية أيضاً.

أما السعودية، فكانت معنية أكثر بدعم التيارات السلفية على حساب حركة الإخوان المسلمين، لا لأسباب دينية، لكن لأن الإخوان، كما أبدوا في مصر، كانوا دائماً على استعداد لإيجاد صيغة تعاونية ما مع إيران من منطلق السياسة الشرعية، أما التيارات السلفية الوهابية فيمكن للسعودية الاعتماد عليها أكثر في هذا الصدد بسبب عدائهم الأعمى للشيعة، مما يضمن قيام حكومة غير مهادنة لإيران بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وهو الهدف الأساسي للسعودية فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، في حين لا تمثل قضية الفدرلة عائقاً كبيراً بالنسبة لحكامها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد أبدت إدارة أوباما تخوفها من الملف السوري منذ اللحظة الأولى، بسبب اهتمامها الأكبر بالمفاوضات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي، ورؤيتها الإيديولوجية التي تصور لها إمكانية إعادة تأهيل إيران كلاعب إقليمي هام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لاعب يمكن التعويل عليه لتحقيق الاستقرار في المنطقة في المستقبل، لاعب لا يمكن لمشاغباته المتكررة أن تكون مصدراً كبيراً للإزعاج، خاصة بعض تجميد وتحجيم برنامجه النووي، لأن صبغته الديموغرافية والسياسية، أي كونه بلداً شيعياً محكوماً من قبل نخبة دينية، ستحد من قدرته على التأثير على الصيرورات المختلفة من حوله، وستمنعه من التحول إلى مصدر للقلق. وفي حال تمردت إيران وأصرت على لعب دور أكبر من حجمها، سيتم تذكيرها بمدى هشاشتها من خلال تقديم دعم حقيقي للمعارضات المختلفة فيها. فإن بدت إيران مستقرة اليوم فذلك بسبب وجود إرادة دولية، غربية بل أمريكية على وجه التحديد، تحبذ ذلك، وليس لأنها تملك مقومات الاستقرار بالضرورة. وهناك ما يكفي من الحصافة عند قادتها ليدركوا حقيقة الأمر. على الأقل، هذه هي رؤية الإدارة الإمريكية الحالية والواقعيين السياسيين للأمور.

من ناحية أخرى، ما كان بوسع الإدارة أن تترك الحكم في بلد محوري مثل سوريا يقع في أيدي معارضة متخبطة كالمعارضة السورية، معارضة لا تملك أية مقومات تؤهلها للتعامل مع الملفات المعقدة المتعلقة بشكل أو آخر بسوريا. لذا، نرى الإدارة مصرة على بقاء مؤسسات الدولة، الذي يستتبع بقاء الكثير من الشخصيات التابعة للنظام في مكانها.

جانب من لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): الإسكندر المقدوني يعاين حال غريمه حاكم مدينة بور أثناء معركة هيداسبيس. 

نظراً لكل هذا، لا شك هناك في لاجدوى الجدال الجاري بين فئات المعارضة حول موضوع طبيعة المرحلة الانتقالية والفدرلة، لأنا ما زلنا في الواقع نرزح تحت "انتداب لين" وغير معلن، بل لا يمكن له أن يعلن، من قبل قوى إقليمية ودولية مختلفة، تتطلب مصالحها ورؤاها الخاصة، المتعارضة في الكثير من الأحيان، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، إجراء بعض التعديلات فيما يتعلق بالحدود وآليات إدارة الدول للحكم، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة. وليس ما يجري من صراعات في سوريا والمنطقة إلا ضرباً من ضروب التفاوض بين هذه القوى.

ويبدو اليوم أن اعتماد النظام الفدرالي في سوريا مع رحيل اللأسد في المستقبل القريب، أو اغتياله، وهو الاحتمال الأكبر، بات يمثل حلاً مقبولاً لهذه القوى.

من أعطى هذه الدول الحق في التصرف هكذا؟ قوتها طبعاً، كما هي العادة. فهناك معادلات موضوعية تحكم تصرفات الدول مع بعضها، سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، علمانية أم دينية، ولا تغير الديموقراطية في هذه الأمر شيئاً إلا من خلال قدرتها على إسباغ نوع من المرونة والحصانة على تلك الدول التي تبنتها بحيث تصبح أكثر قدرة وفعالية في تعاملها مع المتغيرات الدولية، على المديين المتوسط والطويل على الأقل. 

ولن نستطيع كشعوب شرقأوسطية تغيير هذه المعادلات بقوة السلاح، لأن هذه القوى هي مصدر السلاح، ولن تقوم بتسليحنا لنهزم مخططاتها. فعلى الرغم من حالة التنافس القائمة بينها، هناك أيضاً تنسيق كبير لم يجر مثيله خلال الحرب الباردة، لذا لا توجد لدينا اليوم فرصة حقيقية للعب طرف ضد آخر كما فعلت أنظمتنا في السابق. إن هامش المناورة المتاح لدينا اليوم محدود للغاية، ويتطلب تحقيق أي تقدم حكمة ومهارة دبلوماسية وسياسية كبيرة لا يبدو أنها متوفرة اليوم. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهنا: ها نحن نمر بمرحلة حرجة أخرى من تاريخنا المعاصر ولا توجد لدينا، فيما يبدو، لا الشخصيات ولا الخبرات ولا الرؤى المناسبة لإدارتها بحيث نتحصل على بعض المكاسب، أو على الأقل نقلل حجم الخسائر.

ولمن يرى في تسليمنا بهذا الواقع هزيمة، أود تذكيرهم بأن في المقاومة العسكرية هزيمة أكبر، إذ حتى عندما تنجح هذه المقاومة في أيامنا هذه، كما حدث مع الشعوب الأفغانية في مواجهتهم مع الاتحاد السوفييتي، سيأتي هذا النجاح مصحوباً بدمار شامل للدولة والمجتمع، وبنزوح للعقول والمهارات عن البلد، مما يفسح المجال أمام بروز قوى ظلامية متناحرة كالقاعدة، والطالبان، وداعش، أو قوى الحشد الشعبي وغيرها من الميليشات الشيعية المنافحة عن الأسد والمصالح الإيرانية. ولا يمكن لهذه القوى أن تصنع حضارة أو تقود نهضة. ولا شك في أن السماح ببروزها وبتقويتها هو الهزيمة الحقيقية. ولأنها أصبحت هي المسيطر على الساحة اليوم، ينبغي علينا أن نقلل من حجم الخسائر ونسعى إلى اتفاق ينهي حالة النزيف والاستنزاف، ويسمح للقوى الانتدابية بتحويل عملياتها إلى ساحات أخرى للصراع. لقد دفعنا ما يكفي من أثمان باهظة في سوريا. لندع القوى إياها تخطط كما يحلو لها، ولنحاول التحصل على أفضل شروط ممكنة لنا.

لكن، وفي خاتم المطاف، علينا أن نتعامل مع هذه المرحلة مسلحين بإدراك أفضل لطبيعة المتغيرات من حولنا، وبإيمان بقدرتنا في التأثير على الصيرورات مع مرور الوقت من خلال العمل الدبلوماسي والنشاط الفكري والإنساني. هذه هي المقاومة التي نحن بحاجة إليها اليوم، وإن كان ثمة نصر في مستقبلنا فلن يتحقق لنا إلا من خلالها. ولابد أن يؤدي هذا النصر في مرحلة ما إلى تحييد دور شخصيات بعينها، ومحاسبة بعضها، لكنه لا يتطلب هزيمة الطرف الآخر، أو تهديد وجوده، أو وضعه تحت حكم البوط العسكري الطائفي، فالهدف هنا هو الاتفاق على آلية تحقق توازناً جديداً بين الجميع يحافظ على حقوقهم الأساسية، يأخذ بعين الاعتبار توازن القوى العام في الداخل والخارج، مما يسمح لنا بالتعامل على نحو أفضل مع ضغوط وتدخلات القوى الخارجية في المراحل القادمة.