السبت، 30 يناير 2016

مناورة لا مقاطعة، وإن أخفقنا

جانب من مؤتمر صحفي لوسائل الإعلام في مكتب الأمم المتحدة في جينيف: 29 كانون الثاني، 2016 - 
السياسة مناورة وليست مقاطعة. وقرار الهيئة المشاركة في محادثات جنيف يعفيها من تحمل تعنت وعجرفة وعجز الآخرين حيال ما يجري في سوريا، علاوة على إجرام النظام وحلفائه، وهذا أضعف الإيمان. أن نذهب إلى آخر الدنيا مطالبين بحقنا ونخفق، أفضل من أن نجلس في أماكننا، ونخفق، ونلام.

إن التقرير الأممي المسرّب للتو والذي يعترف " أن الأمم المتحدة لن تكون قادرة على رصد أو تنفيذ أي اتفاق للسلام قد يخرج عن محادثات السلام الجارية في جنيف" لا يحمل جديداً، لكنه على الأقل يعطي المعارضة ورقة هامة لاستخدامها في المحادثات: ورقة الضمانات. كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يضمن الحد الأدنى من الامتثال لمقرارته من قل النظام وحلفائه بحيث تتمكن المعارضة من المضي قدماً في المباحثات من منطكلق الإيمان بجديتها وجدواها. هذا هو السؤال الذي على المعارضة أن تدفع باتجاه التحصل على إجابة مقنعة عليه، وهو مفتاح المطالبة برفع الحصار ووضع حد لسياسات التجويع والتهجير والتطهير والقصف.


الجمعة، 29 يناير 2016

المعارضة إلى جنيف: قرار صحيح والعبرة في التنفيذ

صورة للمحادثات الحالية في جنيف التقطها أحد الناشطين
أولاً، أنوه إلى أني قد أكون مخطئاً في تحليلي السابق بأن السعودية هي من يضغط باتجاه المقاطعة، لكن ذلك لا يغير من كون القرار ذاته خاطئاً للأسباب التي ذكرت. لذا، لا بد من الترحيب والإشادة بموافقة المعارضة على حضور محادثات جنيف بوفد مصغّر، وعلى إصرارها على طرح الملفات الإنسانية قبل كل شيء. فعلى الرغم من كون مبررات قرار المقاطعة قوية من الناحية الأخلاقية والإنسانية، يبقى القرار مجانباً للصواب من الناحية العملية.

لأن في الإصرار على المطالبة بمقاطعة عملية جنيف دعوة عملية إلى ترك الساحة السياسية لصالح شخصيات يدعي الكثيرون منا أنها لا تمثل إلا نرجسياتها المريضة لتقوم هي بتمثيل الشعب السوري المعارض في جنيف، فيما ينكفئ معظمنا إلى سياسة رفع الشعارات والتشكّي ضد ظلم العالم لنا وإجحافه بحقنا، دائماً وأبداً، ورفع الأصوات بالدعاء على الظالم، وتسليم أمرنا لله، أو للبروليتارية، مما يعني من الناحية العملية أن الشيطان هو من سيتلقفه كالعادة. إذ لا قيمة لتوكّل من لا يعقل.  

لكن، وفيما يبدو، فأن الكثير منا لم يتعلموا شيئاً بعد من التجربة الفلسطينية، وقد لا يتعلمون أبداً، لأن مواقفهم الإيديولوجية تحول دون ذلك. يريدون أن يتحصلوا على كل شيء قبل بدء التفاوض باسم الحفاظ على كرامتنا، لكن، لهذا بالذات لا كرامة لنا. إذ لا تكفي أن تكون مطالبنا عادلة ومنطقية، فما لم تكن أساليبنا عقلانية ومدروسة وعملية، لن نتحصل على شيء منها.

التفاوض ليس تخاذلاً، والنضال من أجل الحرية لا يؤتي أكله دفعة واحدة، بل قضمة بعد أخرى، والفتات الذي نترفع عنه اليوم، ونتركه للآخرين، هو بالذات ما قد يتحول إلى وجبة دسمة لاحقاً، فيما لو عرفنا كيف نستثمره. كل تنازل نحصل عليه اليوم مكسب ومغنم، فمع كل تنازل، مهما كان صغيراً، ينزل النظام من علياء إجرامه ونحو حتفه درجة.

نعم، النظام هو المعرقل الحقيقي أمام الحلول والمباحثات الجدية، لكن، لا يكفي أن نعرف نحن ذلك، ولا يكفي أن يدرك بعض مؤيدي قضيتنا ذلك، لا بد أن تكون حقيقة هذا الأمر ساطعة لدى الجميع فلا يجرؤ أحد على إنكارها ولا نفسح المجال أمام أحد ليلقي باللوم علينا، كما يحدث اليوم، كما يفعل ديمستورا ذاته الذي يأتي كلامه وتصرفاته من فراغنا نحن، وليس من عمالة مزعومة أو تحيز. نعم، نحن نقتل، ونحن نلام، لأننا لم نتمرس بعد إلا بفن الشكوى، وما انفكينا نداري تخبطنا وحيرتنا تحت ستار الحفاظ على الكرامة، لكن لا كرامة لأحمق.

نعم إن ديمستورا يدرك تماماً أنه يضغط على الطرف الأضعف في المعادلة، لأنه يدرك تماماً حقيقية الموقف الدولي: 1) تركيز "حلفائنا" الدوليين على قضية داعش أولاً، ثم اللاجئين ثانياً، 2) تخاذل وضعف وتخبط حلفائنا الإقليميين، وأخيراً 3) موقف روسيا وإيران القوي الداعم للنظام.

لن يغير من هذه الحقائق إلا تحرك قوي لحلفائنا الإقليميين، وهو أمر لايبدو أنه مطروح من الناحية العملية، ولقد طال انتظارنا له. هذا علاوة على أن هذا التحرك قد لا يؤدي إلا إلى تسعير الحرب وتوسيع رقعة الدمار والتهجير، والتعميق من الكارثة الإنسانية التي تواجهنا.

لا علاقة لحسابات ديمستورا إذاً بعمالة ما، أو حمق، أو لا مبالاة، بل تنبع من فهم عميق للحسابات والتوازنات الدولية والإقليمية، ولطبيعة مهمته بالذات: وقف النزيف والدمار في سوريا لإتاحة المجال أمام المجتمع الدولي لمواجهة داعش، وللحد من الهجرة إلى أوروبا عن طريق تطبيغ خطة تم التوافق عليها فيما سبق: تشكيل حكومة انتقالية واسعة الصلاحيات، وضع دستور جديد، والتمهيد لانتخابات رئاسية في المستقبل القريب نسبياً.

نعم، هناك خروقات من قبل النظام، نعم هناك تعنت، نعم هناك انتهاكات مستمرة من قبل النظام، وحصار، وتجويع، ونعم، حزب الله وروسيا وإيران، كلهم متورطون، لكن الواقع أم هذه الانتهاكات لن تتوقف، أو لكن أكثر واقعية، يخف وقعها، حتى يتم التوقيع على اتفاق ما ضمن الخطوط العريضة المذكورة، وهي، كما نوهت سابقاً، تعطينا الكثير، وتشكل منعطفاً هاماً نحو تحقيق ما نريد، وبداية النهاية للحرب وللنظام.

إذاً، علينا أن نشكو ونفاوض في آن، نماطل لكن لا نعرقل، نراوغ لكن لا نقاطع، نهدد وإن كنا ضعفاء، لكن ليس إلى الدرجة التي تسمح للطرف الآخر بمطالبتنا بتنفيذ تهديدنا فنكشف عن ضعفنا.

الكل يعرف من يقوم بالقصف والتجويع في سوريا، لكن القضية السورية لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً من حسابات سياسية واستراتيجية دولية وإقليمية معقدة لا علاقة للقيم الإنسانية والأخلاقية بها. وبالتالي، قد لا تتلكأ القوى الدولية والإقليمية كثيراً أمام هذا الأمر، بل بمعاينته من منظور مصالحها الأخرى، وعلى ديمستورا العمل ضمن التوازنات والحسابات القائمة في هذه اللحظة.

فمن المنطلق الإخلاقي والإنساني البحت، هناك ما يكفي من الأدلة لإدانة الجميع، أينما كانوا في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، في الدول النامية أو المتطورة، وأي كانت خلفياتهم القومية أو الدينية أو المذهبية أو السياسية أو الفلسفية. لقد أثبت التاريخ أن كل الدول وكل الحضارات تبقى وفي كل زمان ومكان على أهبة الاستعداد لخيانة مبادئها، أو تجييرها واستغلالها، لخدمة مصالحها، كما تراها الفئات المتحكمة في صنع القرارات فيها. والفرق الوحيد، والهام، ما بين الدول الاستبدادية والديموقراطية في هذا الصدد يكمن في مدى تقاطع مصالح النخب صانعة القرار مع مصالح الشعوب.



الخميس، 28 يناير 2016

ملاحظات حول قرار المعارضة مقاطعة محادثات جنيف

رياض حجاب : لن نفاوض في جنيف
1.

مرة أخرى أبدأ بالإلحاح على ضرورة مشاركة الهيئة العليا للمفاوضات في محادثات جنيف، وإن من خلال وفد متابعة رمزي. فنظراً للطبيعة العلنية للضغوط الدولية الممارسة عليها في هذه المرحلة، يبدو من الواضح أن قرار المقاطعة سيضع الهيئة، لا النظام ولا روسيا ولا إيران، في موقع اللوم والاتهام بعرقلة التسوية في سوريا، وهو الأمر الذي سيتم استغلاله من قبل النظام في مسعاه لاستعادة شرعيته التي لم يفقدها تماماً بالأساس، مع الأسف.

هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، فأن المباحثات تأتي بمثابة منبر إعلامي هام ينبغي علينا استغلاله لتسليط الأضواء على قضية المناطق المحاصرة، وسياسة التجويع، وملف اللاجئين والمهجّرين، علاوة على الانتهاكات المستمرة من قبل النظام وروسيا لقرارات مجلس الأمن، من حيث استهداف المدنيين والامتناع عن محاربة داعش، وهي الذريعة التي ما انفكا يستخدمونها لتبرير عنفهما. قد تكون كل هذه الأمور معروفة، لكن التذكير والتكرار والاصرار على طرحها في كل محفل بشكل واضح وصريح وفاضح حتى تتحول إلى هاجس عند الجميع أمر لا يمكن أن نغفل عنه لحظة.

طبعاً، هناك احتمال أن تقرر الهيئة المشاركة في المباحثات في آخر لحظة، بشكل أو آخر، وبالتالي يشكل امتناعها عن المشاركة حتى آخر لحظة تكتيكاً تفاوضياً، سواء كان هذا هو القصد والنية أم لا.

بالعودة إلى القرار ذاته، يبدو واضحاً هنا أن التحليل السابق مبني على افتراض أن الهيئة العليا هي سيدة قرارها، لكن معرفتنا بطبيعة المعارضة السورية بشكل عام، وظروف تشكيل الهيئة بشكل خاص، تثير مجموعة من علامات الاستفهام حول صحة هذا الافتراض. وربما كان من الأفضل هنا أن نذكر أنفسنا أن القرار في الهيئة هو قرار سعودي بالدرجة الأولى، وهذا أمر يفرض علينا تحليل طبيعة قرار المقاطعة من منطلق التوازنات الإقليمية وإشكالاتها، وليس من منطلق سوري بحت. أي أن القرار يعكس بطبيعته سخط سعودي حول التطورات في سوريا والمنطقة وقد لا يأخذ مصلحة الشعب السوري بمكوناته المختلفة بعين الاعتبار.

ولا يأتي التذكير بدور السعودية في الأمر من منطلق عدواني حيالها، لكن التنبه إلى طبيعة القرارات والمؤسسات والعمليات يبقى أمراً ضرورياً لكي لا نضيع البوصلة. فقرار المقاطعة لم يأت استجابة لمطالب الكثير من الناشطين بـ "حفظ كرامة الشعب السوري،" بل انعكاساً لرؤية قوة إقليمية بعينها لمصالحها. وقد لا يكون بوسع الهيئة أن تخالف الرغبات السعودية في هذه المرحلة، لكن علينا أن نتعلم كيف نفرق ما بين رغباتنا ومصالحنا ورغبات ومصالح القوى الداعمة لبعض مؤسساتنا المعارضة. لأنه يتوجب علينا في مرحلة ما أن نعرف كيف نقف مع مصالحنا نحن، حتى عندما لا تتوافق مع مصالح بعض "شركائنا" و"أصدقائنا."

2.

دمشق
دعونا لوهلة نفترض الأسوأ. نعم، دعونا نفترض أن المجتمع الدولي فرض علينا بشكل أو آخر قبول حله الحالي: حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات للأسد فيها حصة الأسد، مع بقائه كرئيس والسماح له بترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها بعد التوافق على دستور وقانون انتخابي جديدين، خلال مدة أقصاها سنة ونصف من تاريخ تشكيل الحكومة الانتقالية.

ماذا يعني التوصل إلى اتفاق من هذا النوع على أرض الواقع: ستبقى لداعش والنصرة وأحرار الشام وغيرها من الجماعات الإسلامية المسلحة مناطقها على الأرض، وستنضم إليهم جماعات أخرى من منطلق الاعتراض على الاتفاق، وسيبقى الأكراد مسيطرين على مناطقهم، مع حفاظ النظام على وجود رمزي له هناك، وسيستمر الوجود الأمريكي في الحسكة بل سيكبر، ويسري الأمر نفسه على الوجود الروسي والإيراني. أي أن المعارك والقصف سيستمران في أماكن كثيرة.

لكن، وهنا الفرق، سيؤدي الاتفاق إلى رفع الحصار عن الكثير من المناطق، ويمكن للكثير منها أن تدار محلياً من قبل شخصيات تابعة للمعارضة بعد ذلك. كما ستحظى أطياف المعارضة، ليس تلك المهادنة للنظام فقط، بل تلك المسؤولة عن تشكيل الائتلاف والهيئة العليا، بوجود في دمشق ذاتها وفي بعض المناطق الأخرى تحت حماية دولية (وهذا شرط لا يمكن للمعارضة التنازل عنه). وجود المعارضة سيؤدي إلى بروز إعلام سوري معارض ومنظمات مجتمع مدني حقيقية وليست خاضعة لسيطرة النظام، علاوة على الأحزاب السياسية المعارضة، وسيكون للتمويل الخليجي والدولي دوره هنا، وسيكون للمنظمات الدولية وجودها على الساحة أيضاً، مما سيسمح بوجود رقابة حيادية للتطورات الداخلية المختلفة. وستستمح كل هذه الأمور بعودة الكثير من الناشطين من الخارج للعمل مرة أخرى على أرض الوطن برعاية دولية. طبعاً، ومما لاشك فيه، أن مسرحية الاغتيالات والخطف لن تغيب عن الساحة طويلاً، بصرف النظر عن الحماية الدولية، لكنها من المخاطر التي لا يمكن تفاديها كلية.

إن هذه المكاسب ستكون جزءاً لا يتجزأ من أي اتفاق، وهي مكاسب هامة وستتيح لنا فرصة للتواصل مع المجتمعات المحلية خارج نطاق سيطرة النظام والحركات المتطرفة، وستسمح لنا بتطوير نضالنا من أجل مجتمع حر مدني وديموقراطي، وهو نضال لا يمكن له أن يدار من الخارج، أو يتحقق من خلال العمل العسكري وحده.

إذاً، حتى في حال تحققت هذه الفرضية الأسوأ من وجهة نظرنا كمعارضة وكناشطين في مجال الديموقراطية، سيبقى لها ما يكفي من تأثير إيجابي على الأوضاع الداخلية، بحيث يكون النظام هو الخاسر الأكبر. الأسد يخاف هذا السيناريو أكثر من خوفه لنا، لأن هذا السيناريو سيشرعن وجودنا في الداخل وسيتيح لنا مجالاً كبيراً للعمل، كما سيفرض ضوابط وقيود على حركة النظام حتى من قبل داعميه، أي إيران وروسيا.

لذا، فللأسد المصلحة الكبرى في عدم التوصل إلى أي اتفاق، ومن هذا المنطلق، قد يخدم "قرار المعارضة" مقاطعة محادثات جنيف رؤية سعودية ما، أو قد يأتي تعبيراً عن تخبط صناع القرار هناك، وهو الاحتمال الأكبر، لكنه وبالتأكيد، لا يخدم المعارضة السورية. إذ ليس من مصلحة المعارضة لا سياسياً ولا إعلامياً أن تظهر بمظهر المعرقل، في حين نعرف كلنا أن الأسد ورجالاته هم من يريد العرقلة ويسعون إليها.

إن أي حل سياسي يسمح بعودة العمل المعارض إلى الساحة السورية بموافقة وحماية دولية يشكل مغنماً ما بوسع معارضة تحترم كرامة شعبها، كما تدعي معارضتنا، التخلي عنه، رحل الأسد مباشرة أم بقي لفترة ما، لأن خطوة من هذا النوع تكاد تكون المسمار ما قبل الأخير في نعش حكم الأسد لسوريا. النظام يعرف هذا تماماً، ومن هذا المنطلق نراه دائماً يسعى إلى العرقلة، وآن الآوان لنا نحن أيضاً أن نعرف هذا الأمر، ونفهم مضامينه، ونتخذ قراراتنا على هذا الأساس. لذا علينا أن لا نعرقل الحل السياسي، والأهم من هذا، علينا أن لا نسمح لأي كان بأن يصورنا وكأنا نحن الجهة المعرقلة.

وإن لم يكن بوسع المتعاطفون مع قضيتنا في السعودية أن يفهموا هذا الأمر، فعلينا أن نشرحه لهم بالتفصيل، لأن فيه خدمة أكبر لمصالحهم أيضاً، في وقت بات الإعلام الغربي يصورهم على أنهم هم الجانب المسؤول عن ما يجري في منطقتنا من عنف وإرهاب، لا إيران أو روسيا، وهو في الواقع قلب للحقائق خاصة فيما يتعلق بما يجري في سوريا.



الأربعاء، 27 يناير 2016

إلى المعارضة السورية: لا تقاطعوا محادثات جنيف، على علاتها

مشهد من مؤتمر جنيف 2


المفاوضات أو المحادثات المزمع عقدها في جنيف يوم الجمعة لن تجري، ولا ينبغي لها أن تجري، على أساس الجمع ما بين النظام والمعارضة، إذ فقد هذا المفهوم واقعيته نظراً لحالة التفكك التي تشهدها الدولة اليوم ولتدخل مجموعة من القوى الخارجية في الصراع. بل ينبغي العمل في هذه المرحلة على أساس الجمع ما بين مجموعة من الأطراف المتنازعة التي احتفرت لنفسها مناطق وقواعد على الأرض بشكل مباشر أو عن طريق المجموعات المسلحة والميليشيات المدعومة من قبلها.

من هذا المنطلق، فإن الإصرار على إقصاء ممثلي حزب الاتحاد الديمقراطي من المشاركة بحجة العمالة للنظام أو مهادنة النظام يشكل تجاهلاً لواقع سيطرة هذا الحزب، بصرف النظر عن الأساليب التي يستخدمها في فرض هذه السيطرة، على مناطق معينة في سوريا، ولقيامه بمواجهة داعش هناك بدعم أمريكي، كل هذه الاعتبارات، علاوة على علاقاته مع روسيا والنظام، تجعل من هذا الحزب طرفاً حقيقياً في الصراع الدائر في سوريا، مما يعني أن في محاولة تغييبه عن المفاوضات تغييب لأي حوار جدي حول مستقبل المناطق الخاضعة لسيطرته. نعم، للنظام تواجده في هذه المناطق، لكنه تواجد مشروط بحسابات الحزب السياسية، وهي حسابات معقدة لها علاقة بالتوازنات الإقليمية، بل والدولية المتعلقة بمستقبل المنطقة ككل.

وفي الواقع يعد حزب الاتحاد الديموقراطي، بصرف النظر عن أية اعتراضات تتعلق بعقيدته السياسية أو قادته أو أساليبه في الحكم، واحداً من أهم الأحزاب السورية في هذه المرحلة، بل وأكثرها خبرة وتمرساً في العمل السياسي. وكان من المفترض على الائتلاف ومن قبله المجلس الوطني أن يجريا محادثات جدية ومباشرة مع قادته بغية التوصل لمعادلة ما تسمح بالتعاون معه بدلاً من ترك المجال مفتوحاً أمام شخصيات أخرى غير مرتبطة بالائتلاف.   

إذ علينا أن لا نتجاهل هنا وجود طاقات أخرى في المعارضة غير الإئتلاف، طاقات تم إقصائها أو تهميشها أو تجاهل تطلعاتها وطموحاتها ومخاوفها، طاقات قد يكون بعضها إشكالياً لكنها تبقى حاضرة بنرجسياتها وهمومها وقدراتها وتطلعاتها، وهاهي قد نجحت الآن في تحقيق اختراق هام لها بالتعاون مع بعض الجهات الدولية أو الإقليمية لتعود فتفرض نفسها على الساحة، فهل يكون الجواب على وجودها اليوم أن يقوم الإئتلاف بإقصاء نفسه عن العملية السياسية الوحيدة على الساحة الدولية والتي سيتم من خلالها تحديد مستقبل البلد؟ هل يعتقد أحد أن هذه القوى الدولية والإقليمية ستجتمع كل يوم من أجل سوريا، وعلى هذا المستوى العالي من التمثيل؟ هل سنستمر في التسويف إلى يندلع صراع آخر في منطقة ما يشغل العالم عنا؟ قضيتنا تشغل العالم اليوم، لكنها لن تشغله كل يوم. وإن كان من المستحيل اليوم أن نحصل إلا على جزء بسيط مما نريد، فليكن، ثورتنا اليوم عرتنا لكنها لن تكسينا، وما تزال طريقنا إلى الحرية معبدة بثورات أخرى مختلفة.

وإن كان لابد من تسجيل اعتراض ما على العملية المزمعة في جنيف، والدوافع في هذا الصدد مفهومة تماماً بل ومشروعة، فليكن الأمر عن طريق تخفيض مستوى المشاركة لا عن طريق المقاطعة الكلية. فليرسل الإئتلاف مندوباً أو مندوبين له إلى جنيف للمشاركة بصفة مراقب، فبهذه العملية يمكن للإئتلاف المشاركة في المحادثات والتأثير فيها إلى حد ما دون أن يضطر إلى التصديق على أية من القرارات التي ستتخذ حتى تتم مراجعتها لاحقاً من قبل الهيئة.



الأحد، 24 يناير 2016

النصر الحضاري

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قام بزيارة إلى إيران في 23 تشرين الثاني، 2015 التقى فيها مع علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني.

إلى كل من يرى في الصفقة النووية انتصاراً ذا أبعاد حضارية وليس مجرد انتصاراً دبلوماسياً، اسمحو لي أن أذكركم أن العراق قبيل قرار صدام غزو الكويت كان على وشك تصنيع قنبلة ذرية وكان قد طور صواريخاً باليستية قادرة على إطلاق أقمار صناعية، وكان صدام يدير دولة مؤسسات قوية، وإن كانت خاضعة للعائلة الحاكمة وعدد من حلفائها، وهنا بالذات لب المشكلة التي أطاحت بكل ما تم إنجازه في عهده على حساب تضحيات ومعاناة الشعب العراقي. ففي مرحلة ما، وبعد فترة من النشاط، يؤدي الاستبداد بطبيعته التي تعظم من شأن الطبقة الحاكمة الحاكم، وتهتم بتنمية الولاء أكثر من اهتمامها بتنمية القدارات، إلى تعطيل الإنجازات وتهديمها.

لذا، ونظراً للطبيعة الاستبدادية الراسخة في النظام الحاكم الإيراني، يعد الكلام عن وجود أبعاد حضارية لـ "النصر" الإيراني الحالي ضرباً من  الهراء، فبضعة من الإنجازات التقنية والعسكرية المحدودة مصطحبة بشيء من المهارة الدبلوماسية لا تكفي لصنع حضارة. ففي عالمنا المعاصر هذا لا يمكن بناء الحضارة في غياب الحرية، ولا يمكن للدول القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو العقيدة السياسية أو القومية المغلقة (أي القومية التي تصر على التنكر لحقوق عناصر قومية أخرى في ربوعها)، والتي تعد بالضرورة دولاً رافضة للحداثة، أن تصنع حضارة. وعبر التاريخ بأسره لم تؤد الانتصارات العسكرية إلى قيام الحضارات ما لم تأت مصحوبة بانفتاح على المعرفة والعلم. إذاً، وفي الوقت الحالي، وبالمعنى الحضاري، لا وجود لمنتصر في منطقتنا. هناك فقط ثلة من الأشقياء يتصارعون على الفتات.


الخميس، 21 يناير 2016

المهاجرون واللاجئون: من أزمة إلى فرصة





عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع عدد كبير من الناس، عشرات أو مئات الألوف آلاف، إن لم نقل ملايين، سنجد أنفسنا بالضرورة نتعامل مع أنماط سلوكية وقدرات بشرية من كل الأصناف والمستويات التي وصفها علماء النفس والباحثون في علم الاجتماع عبر التاريخ. لذلك، ليس من الصعب على الإطلاق على أولئك الراغبين في التعامل مع قضية اللاجئين من منطلق سلبي رافض أن يجدوا إثباتات على وجهة نظرهم في جموع اللاجئين والمهاجرين الوافدين إلى مجتمعاتهم، فمن أراد البحث عن المتطرفين والطفيليين سيجدهم، ومن أراد البحث عن الأوباش الكارهين للنساء سيجدهم. لكن مهمة الباحثين عن الأشخاص الذين يرغبون في الاندماج وفي إيجاد عمل مناسب يسمح لهم بتحقيق حياة كريمة ضمن إطار القوانين والأعراف السائدة تبقى أسهل، لأن هؤلاء هم الأغلبية في كل المجتمعات. و لا شك في أن توافد أعداد كبيرة من اللاجئين والمهاجرين سيجلب معه العديد من المشاكل معهم، لكن التعامل مع التحدي من منطلق القبول لا الرفض يبقى الخيار أفضل لتحقيق الإندماج على المدى المتوسط والبعيد.

ويكمن مفتاح الادماج الناجح في هذا الصدد في القدرة على إجراء تقييم دقيق لخلفيات اللاجئين والمهاجرين المهنية والتعليمية بغية تصميم برامج خاصة لمساعدتهم على أن يصبحوا أعضاء منتجين في مجتمعاتهم الجديدة بأسرع وقت ممكن. أما مطالبة اللاجئين والمهاجرين بتقديم مساهمات مالية لتغطية بعض النفقات المتعلقة بتوطينهم كما فعلت السلطات في الدانمرك وسويسرا، فيأتي بمثابة إجراء عقابي من حيث وقعه على نفسية المعنيين، ويشكّل في جوهره نوعاً من الرفض المستتر. لكن زيادة الاستثمار الحكومي الأولي في مساعدة اللاجئين والمهاجرين، بما في ذلك إطلاق برامج للتوظيف، وأخرى للقروض الصغيرة للأشخاص المؤهلين ليقوموا بتأسيس أعمالهم التجارية الخاصة أو ليواصلوا تعليمهم ليتمكنوا في خاتم المطاف من التحول إلى عناصر منتجة وفاعلة في المجتمع، فهذه الطريقة ستستمح على المدى المتوسط للاجئين والمهاجرين بتغطية تكاليف توطينهم من خلال الضرائب التي سيدفعوها تماماً مثلهم مثل أي شخص آخر في المجتمعات المضيفة.

القبول والعطاء إذاً، لا الرفض والعجرفة، ومن قبل الطرفين، هذا ما سيسمح بتحويل أزمة اللاجئين والمهاجرين مع الوقت إلى فرصة لإثراء المجتمعات المضفية اقتصادياً وثقافياً.


الثلاثاء، 19 يناير 2016

ملاحظات حول القهقرى السياسية الأمريكية

تشريح لمفهوم الواقعية السياسية الأمريكية من خلال تحليل موقف أتباعها حيال الصراع السعودي-الإيراني


يمثل النفاق المتجلي في الحملة الإعلامية المكثفة التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية في الأوساط الغربية هذه الأيام، وخاصة الأمريكية، والتي تتخذ من سياسات المملكة الداخلية والخارجية الإشكالية، كما يصفها أصحاب الحملة، ذريعة ومبرراً لها، مؤشراً على وجود أجندة ما لديهم لا علاقة لها بالمسوغات العلنية للحملة، وذلك نظراً لامتناعهم عن شن حملة مماثلة ضد إيران التي لا تقل سياساتها "إشكالية."

فكلا الطرفان، أي السعودية وإيران، متورط في بث وتشجيع النزعات الطائفية في المجتمعات الإسلامية حول العالم، وفي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ليس فقط في أرض الوطن بل في دول الجوار أيضاً، وفي دعم الإرهاب العالمي، وفي الاستعانة بشركات علاقات عامة وجماعات ضغط لتمثيل مصالحهما في الغرب ولتحسين صورتهما فيه (وإن كانت إيران قد لاقت نجاحاً أكثر في هذا الصدد عبر العقدين الماضيين نظراً لنجاحها في تجنيد عملاء لها في صفوف المغتربين). علاوة على هذا يتميز كلا الطرفان بعقلية عنصرية صارخة فيما يتعلق بالآخرين (فوحدهم الأغبياء يخلطون هنا ما بين نزعة حسن الضيافة والتعامل اللبق مع الأجانب السائدة في هذين المجتمعين، وبين إيمان مزعوم حقيقي بالمساواة ما بين البشر، الأمر الذي لا ينسجم مع الممارسات الفعلية المنتشرة على الصعيدين النخبوي والشعبي لدى الطرفين).

من هذا المنطلق، كيف يمكن لأي عاقل أن يتوسم القدرة عند أي من هذين الطرفين وفي هذه المرحلة الحرجة بالذات على إعادة الاستقرار للمنطقة؟ فما لم يتبنى الطرفان إصلاحات حقيقية، سياسية واجتماعية، عميقة، لا يمكن لأيّ منهما أن يلعب دوراً جاداً في العمل على هذا المنحى. ولقد علمتنا التجربة التاريخية أن تغييراً من هذا النوع يتطلّب تلاقٍ وتكاملِ في الضغوط الداخلية الشعبية والخارجية الرسمية لينجح. فنظراً لتشنجها العقائدي، ولفسادها، لا يمكن للنخب الحاكمة في هاتين الدولتين أن تقوم بتبني الإصلاحات المناسبة من تلقاء نفسها وفي غياب الضغوط والمطالبات.

لكن، وحتى اللحظة، وعوضاً عن الضغط في هذا الاتجاه، يبدو واضحاً أن أتباع المنهج الواقعي في أمريكا (والغرب عموماً) يرون في الانحياز لطرف معين، وبالتحديد إيران، على حساب الآخر، الخيار الأنسب لبلدانهم، لأنه يشكل الخيار الأسهل من حيث قبوله بالأمر الواقع عوضاً عن محاولة تغييره. ويتجلى هذا الواقع في تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب انحسار نظيره السعودي، وذلك لأسباب موضوعية متعلقة بطبيعة التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كلتا الدولتين، وطبيعة التفاعلات الداخلية فيها، علاوة على طبيعة تفاعلاتها مع العالم من حولها وتطوره عبر العقود الماضية.

ولا يلقي الواقعيون هنا أي بال للثمن الذي تدفعه شعوب المنطقة، خاصة السوريون والعراقيون واللبنانيون واليمنيون، نتيجة هذا الانقلاب الإقليمي، وهذه السياسة الواقعية، "الحيادية" نظرياً، والمنحازة لإيران (وروسيا، وكل ذي سلطان) عملياً.

ويبدو أن الواقعيين، ومن خلال احتفائهم بطرف بعينه بذريعة أنه يمثل الخيار "الأفضل حضارياً،" كما يرون، وتشويه صورة الآخر، "المتخلّف حضارياً" في نظرهم، والذي يتوقعون سقوطه في أي يوم، يبدو أنهم مشغولون في تحضير أنفسهم للتعامل مع هذا السقوط بطريقة تسمح لهم بالتنصل تدريجياً من أية وعود سبقوا أن قدموها، أو أية عقود واتفاقيات سبق ووقعوها. ويتجاهل الواقعيون في مسعاهم هذا التداعيات الخطيرة لهذا الانقلاب في المنطقة، بل والعالم أجمع، ويتركون التعامل مع تبعات هذا الأمر للشعوب المعنية، دون أن يشرحوا لنا كيف يمكن للقوى الصاعدة والساعية لملئ الفراغ الذي يخلفه التراجع الأمريكي، قوى مثل إيران وروسيا والصين وغيرها، والتي تحتقر الديموقراطية في الصميم، ولا تتوانى عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو عن دعم عمليات القتل الجماعي والإرهاب، أن تمهّد الطريق لعالم آمن؟ 

مشهد من مؤتمر فيينا (1814-15)
لكن الواقعيين لا يرون في بناء عالم آمن مهمة أساسية أو مناسبة للولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة القادمة، إذ يؤمن معظمهم بحتمية الطبيعة العنفية لهذه المرحلة ويفضلون أن ينأوا ببلادهم عنها، حاصرين مسؤولياتها السياسية المستقبلية في الدفاع عن أمن ومصالح أراضيها ومجتمعاتها، وذلك وفقاً للمنطق السياسي الذي حكم العلاقات الدولية منذ هزيمة نابليون في معركة "ووترلو" وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبهذه الطريقة يفسح الواقعيون المجال لظهور لاعبين جدد على الساحة الدولية، ويعطونهم فرصة لتحديد مناطق نفوذهم الخاصة. إذ لا يرى الواقعيون في هذه الظاهرة تهديداً لأمريكا أو لمصالحها لاقتناعهم التام بأن تفوق أمريكا العسكري والاقتصادي كفيل بمساعدتها على التأقلم مع كل هذه المتغيرات، وعلى حماية مصالحها بل وتوسيع رقعة نفوذها في العالم من خلال الدبلوماسية الذكية وبناء تحالفات جديدة.

وهنا مربط الفرس، فالهدف الأكبر للواقعيين يكمن في إفساح المجال أمام أمريكا لإعادة النظر في كل علاقاتها وتحالفاتها الحالية، بما في ذلك علاقاتها مع الدول الغربية الأخرى، سعياً لبناء تحالفات جديدة أكثر جدوى وأقل عبئاً. إذ يؤمن الكثير من الواقعيين باحتمال انهيار الاتحاد الأوروبي وحلف ناتو ذاته، مما يفسح المجال أمام الولايات المتحدة لبناء تحالفات جديدة قد لا تشمل بعض حلفائها التقليديين لاعتبارات اقتصادية وسياسية وعسكرية متنوعة.

لكن المشكلة في مل هذه الحسابات، والتي لا تأخذ القضايا الإنسانية بعين الاعتبار، كما سبق ونوهنا، أنها تتجاهل طبيعة عالمنا المعاصر بترابطه الشديد والذي أصبح بوسعنا فيه أن نتكلم بجدية عن وجود "بيئة" أو "مناخ" بشري عالمي لا يختلف كثيراً عن البيئة الطبيعية، إذ يمكن لـ "تلوث" بقعة أو إقليم فيه، عن طريق اندلاع الصراعات أو وقوع الكوارث، أن يؤثر على باقي المناطق والأقاليم، تماماً كما يؤثر انتاج بعض الدول لغازات بعينها أن تفعل ظاهرة الاحتباس الحراري مؤثرة على حال الكرة الأرضية بأسرها.  

فالواقع أنه في عالمنا هذا، الذي تتزايد فيه الروابط ما بين الأنظمة الاستبدادية وبين الحركات الإرهابية ومؤسسات الجريمة المنظمة، بل وبعض الشركات والمؤسسات والمصارف العالمية، لا وجود لأزمات محلية بالمعنى التقليدي للمفهوم، إذ أصبح بوسع أية أزمة، مهما بدت صغيرة أو قابلة للاحتواء في بداياتها، أن تتطور بسرعة لتصبح أزمة ذات أبعاد دولية خطيرة، ما لم يتم التعامل معها في الوقت المناسب. ولنا في الأزمة السورية خير مثال على ذلك، فهي، ومن خلال إفرازها لأزمة اللاجئين، ساهمت في ضعضعة كيان الاتحاد الأوروبي، وفي توسيع شروخه، علاوة على تسهيلها لعودة التيارات اليمينية المتطرفة بقوة على الساحة السياسية، ليس في أوروبا وحدها وحسب بل في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول أيضاً.

إضافة إلى ذلك، وبخلاف ما يأمل ويدعي أصحاب الواقعية السياسية، فإن السياسات التي طرحوها وأملت عليهم تحركاتهم عبر السنين الماضية، والتي يمكن لها أن تستمر في التأثير على السياسات المستقبلية في أمريكا، فيما لو جرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة على النحو الذي يريدون، لم تعوض على الإطلاق عن الأخطاء التي اقترفها المحافظون الجدد في مطلع قرننا الحالي، بل، على العكس من ذلك، فقد قامت بتضخيم وقعها والزيادة عليها، وهو الأمر الذي تثبته حقيقة مواجهتنا اليوم للمزيد من العنف والفوضى في الشرق الأوسط وحول العالم بالمقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع قبل ثمانية أعوام.

لكن الواقعيين يحجمون عن استخدام معيار موضوعي كهذا لقياس مدى التقدم المحرز، فهم يعتقدون أن المستقبل هو الذي سيثبت مدى صوابية سياساتهم وطروحاتهم، وما على ملايين السوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم في هذه الأثناء إلا الصبر والسلوان في وجه البؤس والمآسي الناجمة عن دبلوماسية الواقعيين المظفرة هذه. لكن المستقبل قد يجلب معه، وبأقرب مما نتصور، إثباتات وشواهد كثيرة تدل على أن ثمن التدخل المدروس في المناطق الساخنة، بالتعاون مع حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا، وشركاء محليين، أقل بكثير من كلفة الارتكاس إلى السياسات النفعية البحتة غيرالملائمة لعصرنا هذا. وقد لا يقتنع الواقعيون أنفسهم بهذه الشواهد، فالإيديولوجيا تعمي الأبصار، لكنهم في خاتم  المطاف لا يزيدون عن كونهم تيار سياسي صادف أن تناغمت رؤيته للأمور مع المزاج الشعبي في هذه المرحلة لأسباب عدة، ويمكن لهذا المزاج أن يتغير من خلال التطورات القادمة، ومن خلال طرح رؤى جديدة توضح للشرائح الأوسع من الناخبين أهمية التدخل الإنساني وارتباطه الوثيق في هذه المرحلة بالجهود الرامية لتعزيز الأمن العالمي من تداعيات العولمة الجارية للإستبداد والفساد والجريمة والإرهاب.  

ولأن الموضوع لا يتعلق بمستقبل الولايات المتحدة ومصالحها وحسب، فمن الضرورة بمكان أن تشارك الجماعات والمؤسسات الممثلة لدول مثل سوريا واليمن والعراق ومصر وغيرها في إعادة تشكيل الرأي العام في أمريكا عن طريق المساهمة في طرح رؤى بديلة عما يسمى بالمقاربة الواقعية.