الخميس، 15 أبريل 2004

الخروج من الظلام: المسألة الكوردية في سورية تولد من جديد


افتتاحية لموقع ثروة / 15 نيسان، 2004

إن نجاح السلطات السورية في مساعيها لاحتواء التمرّد الكوردي في مدينة القامشلي خلال الأسابيع الماضية، لا يمنع من الاعتراف بأن المسألة الكوردية في سورية، والتي تم إهمالها لمدة طويلة، قد عادت إلى البروز على الساحة من جديد مطالبة بإيجاد حلّ ناجع لها. ولكن، هل يمكن للسلطات السورية أن تستجمع ما يكفي من الإرادة والدعم الداخلي لتجلس مع ممثلي الأحزاب الكوردية المختلفة فيها لتصل إلى حل مرضي للطرفين؟

من الواضح أن التعامل مع القضية الكوردية من الناحية الأمنية فقط، كما هو دأب الحكومة السورية في هذه المرحلة، لا يكفي، بل وسيؤدي إلى زيادة احتقان الوضع على المدى البعيد. لكن التركيز على تحديد الأسباب والإطراف المسئولة عن التمرّد بشكل مباشر، وإن ساعد بعض الشيء في تهدئة الأوضاع، لا يشكّل بدوره حلاً جذرياً للمسألة وذلك لأنه يهمل التعامل مع الأسباب الحقيقية لها، بما فيها توق المواطنين الأكراد للحصول على تمثيل أكبر في الحكومة المحلية ولأن يعاملوا على قدم المساواة مع سائر المواطنين السوريين وأن يحصلوا على حقوق ثقافية خاصة تنبع من كونهم أقلية متأصّلة في البلد وليست ناتجة عن هجرة ما.

من ناحية أخرى، لابد للأكراد السوريين من أن يخفّفوا من بعض تتطلّعاتهم. إذ لا يمكن للسلطات السورية قبول استقلال ذاتي على غرار ما هو كائن اليوم في العراق. كما أن الفكرة بحد ذاتها لا يمكن أن تُحظى بموافقة الأكثرية العربية في سورية والتي يجهل أغلبها حقيقة الأوضاع المعيشسة للأكراد وتختلط معرفتهم للأمور بالكثير من المفاهيم المغلوطة.

إن تصحيح هذه المفاهيم أمر ضروري بالطبع بالنسبة لمستقبل العلاقات العربية-الكوردية في البلاد. ولكن، وحتى في أحسن الأحوال، واستناداً على السوابق المسجّلة في مناطق أخرى من العالم، لا يمكن للأكثريات بشكل عام أن تقبل حلولاً تمس بأي شكل بسيادة ووحدة الدولة. فحتى إن كانت الحدود المرسومة للدول قد وُضعت من قبل أطراف خارجية وليس من قبل الناس المعنيين ذاتهم، فهذا لا يمنع من أنها اكتسبت مع مرور الوقت قداسة معينة في عقول الأكثريات على الأقل، بحيث يمكن لمحاولات تغيير هذه الحدود أن تؤدي إلى إثارة النزاعات عوضاً عن أن يحلّها.

لكن النزعة الانفصالية الكوردية ليست هي لب القضية هنا، ولا يبدو أنها ستشكّل مشكلة كبيرة، كما يدّعي البعض، هذا إذا ما تعاملت الحكومة السورية بشكل أكثر مرونة وإيجابية مع الوضع الراهن.

فبينما لا يمكن فصل سكان سورية الأكراد نفسياً عن أقربائهم في العراق وتركيا وإيران، فإن أغلبهم يدركون فرادة وخصوصية وضعهم في سورية ويدركون أيضاً أن الحلول التي أثبتت فاعليتها للأكراد في بلاد أخرى قد لا تناسبهم في سورية. ويبدو أن النزعة الانفصالية المتشدّدة التي عبر عنها البعض خلال ذروة التمرّد جاءت نتيجة حمّى اللحظة ولاتكشف عن أية مقاربة استراتيجية جديدة للزعامات الكوردية في سورية.

ومع ذلك، وطالما أن الوضع قد آل إلى ما هو عليه الآن، لم يعد بمقدورنا أن ننفي احتمال تدخّل العناصر المتشدّدة أو القوى الخارجية في المسالة مستقبلاً.

لهذا، يعتمد مجرى الأحداث في المستقبل بشكل كبير على الكيفية التي ستتعامل بها السلطات المركزية السورية مع الوضع. إذ سيؤدي الإصرار على التعامل مع المسألة على أساس أمني فقط إلى تقوية يد العناصر المتشددة والقوى الخارجية الراغبة في إضعاف النظام السوري. لذا لا بديل حيوي من التعامل مع القضية على المستوى السياسي، مما يعني أنه ينبغي على النظام السوري أن يتبنّى سياسات جديدة نحو المسألة ويتخلّى نهائياً عن سياسة التعريب التي انتهجت فيما سبق.

ولا يوجد هنا مكان للاجراءات الانتقامية، التي يبدو أن تطغى على الساحة الآن، على الصعيد المحلّي على الأقل، مما يزيد في تنامي مشاعر الغربة والإحباط عند المواطنين الأكراد ويدعم  مواقف وحجج المتطرّفين منهم. كما لا يوجد بديل هنا عن التحاور الصريح مع ممثلي القوى الكوردية الأكثر اعتدالاً. إن السلوك المتعالي الذي طالما تبنّته الحكومة السورية تجاه الأطراف المعارضة وممثلي المجتمع المدني في البلاد لن يزيد الطين إلا بلة هنا وسيكون له انعكاسات خطيرة في المستقبل الغير بعيد، مما قد يؤدي إلى مواجهات مباشرة بين السكان الأكراد والسلطات وربما إلى تدخّل أجنبي صريح ومباشر. ولا يمكن لأي شيء أن يؤذي قضية الوحدة الوطنية كما يمكن لتطور كهذا أن يفعل.

إن النظام السوري الحاكم يواجه حالياً تحدياً جديداً لا يمكن له أن يفوز به إلا إذا كان على استعداد لاجراء تغيرات عميقة في إسلوب تعامله مع الأمور وفي تركيبته الحالية سامحاً للمزيد من المشاركة في عملية صنع القرار ومتبنياً لطريقة أكثر فطنة واحتراماً في العامل مع قوى المعارضة الداخلية وممثلي المجتمع المدني. إن الارتكاس إلى الطرق القديمة في التعامل لم يعد يمثل خياراً ناجعاً.


عمار عبد الحميد، كاتب ومحلل إجتماعي سوري يعيش في دمشق. وهو المدير الاستشاري لدار إيمار ومنسق مشروع ثروة.