‏إظهار الرسائل ذات التسميات الإسلام السياسي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الإسلام السياسي. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

ملاحظات حول أصل داعش

سمير غانم: "لا المتين بينفع ولا المتينة، علأصل دوّر!"
ابن الوردي: "لا تقل أصلي وفصلي أبداً، إن أصل الفتى ما قد حصل"


السيرة الذاتية لأحد أهم قياديي داعش الراحلين تلقي أضواء جديدة على أصول تنظيم الدولة الإسلامية – هذا هو محور حلقتنا الأساسي لهذا الأسبوع.

الجولة الإخبارية

في تونس، التونسيون يحتجون بالآلاف على زيارة بن سلمان لبلدهم
في فرنسا، استمرار احتجاجات ذوي السترة الصفراء
في واشنطن، الرئيس ترامب ينتقد قرار جنرال موتورز تخفيض موظفيها بنسبة 15%
في لقاء إعلامي، كلينتون تشجع الدول الأوروبية على تقييد الهجرة
في مصر، شيخ الأزهر يختلف مع طروحات الرئيس السيسي فيما يتعلق بدور السنة النبوية
فاز ورب الكعبة! القائد الشيشاني رمضان قاديروف يزور قبر الرسول في مكة
في الهند، مقتل مبشر أمريكي خلال محاولته التبشير في جزيرة نائية

الملاحظات التحضيرية لهذه الحلقة:

داعش – هذه المنظمة الإرهابية العالمية التي ما تركت جريمة إلا وارتكبتها عبر السنين الماضية سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو مصر أو غيرها من الدول، غالباً ما يربط الباحثون نشأتها بالغزو الأمريكي، وبفشل الإدارتين الأمريكيتين السابقتين على التعامل معها بشكل فعّال. لكن، وبعيداً عن التسييس، تبدو قصة نشأة داعش أكثر ارتباطاً بطبيعة المجتمعات في المنطقة منها برد فعل على السياسات الأمريكية.

دراسة مهمة جداً للباحث والصحفي المتميز حسن حسن نشرت مؤخراً على موقع ذي أتلانتيك يتحدى كل ما كتب من قبل حول نشأة تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش والذي ربط ظهور هذه المنظمة بالغزو الأمريكي مباشرة.

الدراسة استندت إلى كتاب تم تداوله مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي المدارة من قبل الإسلاميين. مؤلف الكتاب هو ابن أحد أهم قياديي داعش: عبد الرحمن القادولي، وهو عراقي من محافظة نينوى والمعروف باسمه الحركي أبو علي الأنباري، ويتعامل الكتاب المؤلف من 93 صفحة مع حياة أبو علي الأنباري ونشاطاته خلال فترة التسعينات إلى أن قتل في 2016. استند مؤلف الكتاب على يوميات تركها أبو علي الأنباري نفسه وعلى لقاءات عدة مع الجهاديين الذين عملوا معه. واستند حسن حسن في دراسته على هذا الكتاب وعلى لقاءاته الخاص مع الخبراء بل وبعض المتمردين السوريين الذين احتكوا بأبو علي وداعش خلال الحرب في سوريا.

قبل الدراسة، كانت هناك قراءة مجتزأة لقضية ظهور داعش، قراءة أهملت ما حصل في المجتمع العراقي قبل الغزو، خاصة في الفترة الواقعة ما بين تحرير الكويت والغزو نفسه. لجوء نظام صدام حسين للدين في تلك الفترة كان واضحاً، خاصة في إضافة شعار الله الأكبر إلى العلم الوطني. بل تم عقد مؤتمرات سنوية للتنظيمات الإسلامية المتشددة في بغداد، كامتداد لحملة تشجيع التدين التي تم أطلاقها في ذلك الحين.

وهذا ما يقودنا إلى النقطة التالية: 

في رأيي أن جذور قضية التشدد الإسلامي في العراق أقدم حتى من هذا. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حالة الضعضعة التي شهدها المجتمع العراقي نتيجة الحرب مع إيران. على السطح بقي المجتمع علمانياً، والتزم صدام حسين بتشدقه بالعروبة، لكن الواقع أن حروب لعبت فيها الطائفية دوراً كبيراً في التجييش الشعبي، وفي مجتمع كان للتركيبة الطائفية فيه أهميتها الوجودية حتى قبل ذلك من حيث اعتماد صدام ومن معه على تأييد طائفة معينة وعشائر معينة، لا يمكن للتشدد الديني ألا يلعب دوره في الموضوع. صحيح أن الانتماءات الطائفية لا تكون دائماً دينية الطابع، وغالباً ما تأخذ طابعاً عشائرياً وقبلياً، لكن، في العمق، الدين هو الأساس، والاختلافات الطائفية والتمايز الطائفي هي في جوهرها تعبير على اختلافات عقائدية. ومن الطبيعي أن يصبح هذا التعبير أكثر فجاجة وتقليدية وتشدد وطهرانية في أوقات الأزمات. بمعنى، أن المجتمع العراقي الذي ظهر بعد الحرب كان كتلة من الاحتقانات، إذ تقوقع كل مكون، سواء عرّف نفسه على أسس دينية أو طائفية أو عشائرية على نفسه، زادت نسبة التعصب والعزلة والتشكك عند كل مكون، وأصبح الوضع مهيأ لانفجار داخلي، وأعتقد أن سياسات صدام الصدامية مع دول جوار مثل الكويت بعد الحرب مع إيران كانت تعبيراً عن ذلك، ومحاولة لإيجاد طرق لتفريغ الشحنات.

الحرب مع إيران هي التي مهدت لانهيار المجتمع العراقي وظهور التشدد العرقي والمذهبي، ومن ثم جاءت حرب الكويت وفترة الحصار لتمهد بالتدريج لتأسيس للعمل المنظم على هذا الأساس، وبالتالي لظهور القاعدة، بل جسد أكثر تطرفاً منها: كيان يضع الصراع مع الشيعة والأنظمة العلمانية في صلب اهتماماته ويعمل عليها بالتزامن مع حربه مع الغرب والولايات المتحدة والعالم.

بالعودة إلى أبو علي الأنباري، خريج كلية الشريعة في جامعة بغداد في عام 1982، والذي قاتل في الحرب ضد إيران، فمن الواضح الآن أنه بدأ نشاطاته في منتصف التسعينات، كإمام يخطب ضد الشيعة والمتصوفة في تلعفر في شمال العراق، ومن ثم كمقاتل مع التنظيمات الجهادية الكوردية. وبعد هجمات 11 أيلول الإرهابية، وبحسب سيرة أبو علي الأنباري نفسه، تم تأسيس "نواة للإمارة" الداعشية في تلعفر.

"وجهات نظر الأنباري المتطرفة، التي انعكست في وقت لاحق على "تنظيم الدولة"، تشكلت قبل الغزو الأمريكي للعراق، وقبل أن يلتقي بالزرقاوي."...  "الاستعدادات للجهاد كانت تنضج، من حيث التمويل والرجال والأسلحة... كل هذا كان يحدث في ظل حكم البعث". (الرابط)

دعنا نتوقف هنا قليلاً لنقارن الوضعين في العراق وسوريا: العراق في التسعينات تحت الحصار، أصبح مثل سوريا في الثمانيات تحت الحصار. نعم كان هناك قمع للإخوان وللإسلاميين المعادين للسلطة، لكن، كان هناك تشجيع للفكر الجهادي الموجه ضد الغرب، وكانت تجري مؤتمرات سنوية للإسلاميين المتشددين برعاية وزارة الأوقاف، واستمرت هذه النزعة عند نظام الأسد حتى في فترة التسعينات وما بعد، المؤسسات الإسلامية الرسمية وشبه الرسمية، استخدمت للتواصل مع الحركات الجهادية العالمية. طبعاً، هذا الوضع أعطى الأجهزة الاستخباراتية السورية تصور دقيق عن عمل هذه المنظمات والقدرة على اختراقها، وهذا ما جعل الكثير من الأجهزة الاستخباراتية العالمية تنسق وتتعاون معها على الرغم من التضارب في السياسات. وبعد غزو العراق، استغل النظام السوري هذه الخبرة في بناء شبكات وخلايا إسلامية لمقاومة الوجود الأمريكي هناك. ولما بدا واضحاً للنظام أنه لا يوجد نية عند إدارة بوش لغزو سوريا، بل على العكس، أن دعمه للجهاديين هو الذي يمكنه أن يدفع الأمريكيين لتوجيه ضربات عسكرية لسوريا قد تزعزع استقرار النظام، بدأ حملة من الاعتقالات بحق الجهاديين، وهم الجهاديون الذين أطلق سراحهم في بداية الثورة، أصبحوا قادة للحركات الجهادية في سوريا، بما فيها النصرة أو فتح الشام وداعش.

وهكذا نرى كيف ساهم النظامين العلمانيين الطائفيين في كل من سوريا والعراق بتسهيل ظهور وانتشار الحركات الجهادية المتطرفة في كلا البلدين.

موقف عمار

البنية التحتية السياسية والفكرية والمجتمعية اللازمة لانتشار الفكر المتشدد وظهور منظمات إرهابية كالنصرة وداعش كانت موجودة قبل عقود من الغزو الأمريكي للعراق، ونشأت عن السياسات التي انتهجتها الأنظمة الحاكمة وفشل النخب المعارضة لها، سياسياً وفكرياً، في فرز بدائل واضحة ومقنعة. داعش، النصرة، حزب الله، نظام الأسد، نظام صدام، كلها سلع محلية المنشأ، إن لم تعجبنا، فلنسعى إذن لتغيير ما بأنفسنا.

الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الدولة الحداثية والهوية والحركات الانفصالية

أحتفالات في أربيل بنتائج استفتاء الاستقلال - 29 أيلول، 2017

الحرة / من زاوية أخرى – إذا عرّفنا الدولة الحداثية على أنها ذلك الكيان الذي يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل من فيه من أفراد ومكونات، فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يتماهى مع الهوية الخاصة بأي من مكوناته المؤسسة، سواء كان الأمر يتعلق بالهوية القومية أو بالانتماء الديني أو بعقيدة سياسية بعينها
.

من هذا المنطلق، تمثل المساعي الانفصالية المختلفة والرامية إلى تأسيس دول جديدة قومية الطابع خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بعمليات التحديث والتطوير المجتمعي، سواء تجلّت هذه المساعي في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب. والأمر نفسه في الواقع ينطبق على تلك المساعي الهادفة إلى إعادة تشكيل دول قائمة على أسس دينية أو أيديولوجية، كالدعوة إلى أسلمة الدول أو تبني الشريعة الإسلامية كقانون ناظم لها. لكنا سنركز نقاشنا هنا على الحركات القومية بالذات.

لا يعني كلامنا السابق بالضرورة أن كل حركة انفصالية تشكل بالضرورة حركة رجعية من الناحية الفكرية والقيمية. إن التركيز شبه الحصري على البعد القومي هو الأمر الإشكالي هنا، وهو ما يسم الكثير من هذه الحركات بصفة الرجعية. والمثير في الموضوع عند تعاملنا مع هذه الظاهرة هو أن معظم الحركات القومية الانفصالية جاءت كردة فعل على الاضطهاد الذي تعاني منه قوميات معينة في إطار دول محكومة من قبل أنظمة وتيارات قومية التوجهات بدورها، أي أن معظم مؤيدي هذه الحركات يدركون تماماً حجم المخاطر التي غالباً ما تنجم عن تبنّي توجهات قومية في ما يتعلق بتعريف الدولة وحكمها. ومع ذلك لا يرى أصحاب هذه التيارات أي تناقض ما بين طروحاتهم وتوجهاتهم القومية وبين واقع الاضطهاد والتهميش الذي يحاولون الهروب منه، على الرغم من أنه سيكون لزاماً عليهم، فيما لو تكللت مساعيهم الانفصالية بالنجاح، أن يتعاملوا مع تحديات مماثلة، أي تحديات ناجمة عن وجود قوميات أخرى في إطار "وطنهم القومي" المنشود، قوميات قد يكون لها رؤية وتفسير مختلفان تماماً للتاريخ وللحدود، علاوة على مخاوفها المشروعة في ما يتعلق بمستقبلها في هذا الوطن الجديد. هذا ناهيك عن الإشكالية الناجمة عن أن قيام دولة قومية جديدة غالباً ما يأتي على حساب تفتيت دولة قومية قائمة وبالتالي على حساب الرؤية القومية الخاصة للتيارات والشرائح النافذة فيها. ولهذا، غالباً ما تؤدي هذه "الإشكالية" إلى اندلاع حرب ضروس نادراً ما يحسمها قيام هذا الكيان القومي الجديد، حتى في حال حصوله على اعتراف دولي.

يكمن المخرج من هذه الورطة في التركيز على المطالبة بالعدالة والحقوق الأساسية والأمان، وفي إدراك أن الانفصال لا يزيد عن كونه مجرد أداة من الأدوات التي يمكن لها أن تحقق هذه المطالب في بعض الظروف. لكنه يبقى الأداة الأكثر راديكالية، كما أن قدرته على تحقيق هذه المطالب ليست فورية في معظم الأحيان، كما تدلنا السوابق التاريخية. لذا، لا ينبغي اللجوء إليه إلا في حال فشل الأدوات الأخرى.

لقد رأينا أية شرور انبثقت من مجرد التلويح بالانفصال في كل من كوردستان العراق وكاتالونيا، وبوسعنا أن نتابع ما يحدث اليوم في جمهورية جنوب السودان التي انفصلت ولم يتحقق فيها لا الإمان ولا الاستقرار ولا الحرية، بل لم تنته مواجهاتها بعد مع النظام في الخرطوم. ورأينا ما حدث في السابق في البلقان الذي ما تزال الأوضاع الأمنية في دوله الجديدة معرضة للانهيار في أية لحظة.

نعم، لقد تحقق الانفصال في تشيكوسلوفاكيا دون حرب، ولم يسفر الاستفتاء في استكلندا عن أية اضطرابات أو قلاقل اجتماعية، وما كان من المتوقع له أن يسفر عن أية ممارسات عنفية حتى في حال جاءت نتيجته بالإيجاب، وكذلك الأمر في ما يتعلق بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروربي والذي يمثل نوعاً من الانفصال. وهنا بيت القصيد. لقد لعبت البنية المجتمعية والمنظومة السياسية الخاصة بهذه الدول دوراً كبيراً في قيادة الحوار وتشكيل الإطار الخاص بالعمليات السياسية المتعلقة بقرار الانفصال، هذا علاوة على قضية التوقيت وعلى الشروط الإقليمية والدولية الخاصة التي كانت سائدة في تلك اللحظات الحرجة التي حدثت فيها هذه العمليات وتم فيها اتخاذ القرارات الحاسمة.

على المطالبين بالانفصال أن يأخذوا كل هذه الأمور والشروط والسوابق بعين الاعتبار وأن يوازنوا ما بين رغباتهم ومطالبهم الخاصة، مهما بدت لهم مشروعة، وبين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف السائدة حالياً على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي. وإذا كانت النخب السياسية المسؤولة عن قيادة الحركات الانفصالية المختلفة تعاني في هذه المرحلة من خلخلة أو تشرذم ما ومن عدم استعداد للالتزام بشكل مناسب بالعملية الديموقراطية في عملها بما في ذلك القبول بالمساءلة الشعبية وبقواعد الشفافية وتداول السلطة والابتعاد عن المحسوبيات، فمن حق المرء، بل يتوجب عليه أن يتساءل عن طبيعة الدولة المستقلة التي ستديرها هذه النخب.

إن في التركيز على تحقيق الانفصال في هذه المرحلة، بل وعلى التعامل مع مفهوم الانفصال وكأنه الطرح الأمثل لتحقيق العدالة، تبديدا للطاقات الحيوية للشعوب المعنية، والتي ستعطي مفعولاً أكبر فيما لو جُيرت للمطالبة بالتزام أكبر من نخبها السياسية بأسس العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وبالعمل على تحقيق إدارة أكثر فاعلية لعمليات التنمية المحلية، إلى آخره من تلك القضايا التي يتم التعامل معها وكأنها مسائل فرعية في حين أنها تشكل حجر الأساس في ما يتعلق بقيام الدول العادلة القادرة على تحقيق الأمان لشعوبها، ولكل مكون من مكوناتها بصرف النظر عن خلفيته القومية أو الدينية أو المذهبية.


الاثنين، 23 أكتوبر 2017

خواطر حول التطرف والإرهاب والتغيير




الحرة / من زاوية أخرى – لا يمكن اختزال مشكلة التطرف الفكري في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة في مسألة المعتقدات وحدها، فالتطرف ظاهرة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر منها ظاهرة فكرية ودينية. ولا يشكل وجود سوابق تاريخية وفكرية للتطرف في الإسلام أو نصوصاً إشكالية في كتبه المقدسة مبرراً لهذا الاختزال أو ظاهرة فريدة في تاريخ الأمم والأديان، فهناك سوابق لهذا الأمر في معظم الأديان والمجتمعات التقليدية. وغالباً ما يقتصر دور الفكر والعقائد على التبرير والتحريض والتجييش لخدمة مخططات ومصالح لا علاقة للدين بها لا من قريب ولا بعيد.

لا نهدف من خلال هذه الملاحظة إلى التقليل من أهمية البعد العقائدي في ظاهرة التطرف، وبالتالي إلى التقليل من ضرورة إصلاح الفكر الديني، لكن فهماً أعمق لدور الدين والعقيدة هنا سيساعدنا بلا شك في ترتيب أولياتنا وفي التعامل مع تحدي الإصلاح الديني بشكل أفضل وأنجع.

فإذا كان ثمة إشكال في ما يتعلق بالمقدسات والمعتقدات في هذا الأمر فلن نجده في الإسلام كظاهرة استثنائية، أو في أي دين بعينه إذا ما توخينا الدقة، ولكن في ذلك التناقض ما بين بعض المعتقدات والنزعات التقليدية من ناحية، وبعض معطيات الحداثة بظروفها وشروطها الموضوعية الخاصة والقيم الناجمة عنها من ناحية أخرى، وهذا إشكال يواجه كل الأديان والمجتمعات التقليدية ولا يقتصر على الإسلام والمجتمعات ذات الغالبية المسلمة.

لذا، يتطلب التعامل الناجع مع قضية التطرف في هذه المجتمعات أن نبتعد عن إغراءات الاختزال والتبسيط، والتي غالباً ما تنجم عن تعصبات معينة نابعة عن إشكالات الهوية، إثنية كانت أو مذهبية، فيرى بعض المسيحيين أن مشكلة التطرف توجد في الإسلام ذاته، أو يرى بعض الشيعة أن المشكلة تقع عند أهل السنة تحديداً، أو العكس، أو يرى بعض الأكراد أن المشكلة تنجم أساساً عن "العقلية العربية الصحراوية،" إلخ. علينا أن نتجاوز كل هذه النزعات اللاعقلانية وأن نواجه العوامل الحقيقية وراء ظاهرة التطرف في مجتمعاتنا والتي طالت كل مكوناتها بلا استثناء، وهي عوامل بنيوية الطابع تبدو أكثر ارتباطاً بالمنظومة الإدارية والسياسية للدولة وطريقة تعاملها مع مسألة الحكم والهوية منها بالفكر والدين، خاصة في المراحل التالية للمرحلة التأسيسية للدول في منطقتنا.

ومن هذه العوامل فشل المنظومة التعليمية الرسمية في ترسيخ المفاهيم والقيم الثقافية الحداثية، وسوء إدارة عمليات التنمية الوطنية أو إهمالها تماماً، خاصة في مناطق بعينها، وذلك نتيجة لاعتماد الأنظمة الحاكمة على الولاءات عوضاً عن الكفاءات عند القيام بتوزيع المناصب والوظائف الرسمية، أو كجزء من سياسة خاصة حيال هذه المناطق استناداً إلى اعتبارات إيديولوجية أو إثنية أو مذهبية، إلى آخر ما هنالك من عوامل.

وعلينا التعامل مع مسألة الإرهاب من المنطلق ذاته فنتجاوز إشكالية الاختزال والتبسيط. فالإرهاب اليوم يمثل ظاهرة إقليمية وعالمية أمنية بامتياز ومرتبطة بدول وأجهزة ومصالح وصراعات بعينها. إذ لا يمكن للمنظمات الإرهابية أن تتواجد وتنتشر على النطاق الواسع الملحوظ حالياً من دون دعم مستمر وممنهج من قبل حكومات وجهات أمنية معينة. ولا نشير هنا إلى الحكومة الأميركية والـ سي. أي. إيه.، كما جرت العادة في أدبياتنا المعاصرة، بقدر ما نوجه أصابع الاتهام إلى حكوماتنا الإقليمية وأجهزتها الأمنية، والتي انضم إليها الروس مؤخراً. أي أن دود الخل منه وفيه، كما يقول المثل الشامي.

إن استغلال الحكومات الإقليمية لسلاح الإرهاب، أولاً تحت مسمى المقاومة، ومن ثم ابتداعها لقضية محاربة الإرهاب والإرهابيين، وتجيير كلا الأمرين لخدمة مصالحها الفئوية الخاصة، ولإدارة صراعاتها البينية، ولإحكام قبضتها على المجتمعات المحلية، سبق بعدة عقود إعلان أميركا لحربها العالمية الخاصة على الإرهاب. ولقد جلب علينا هذا الوضع ويلات أكثر وأكبر وأخطر وأعمق مما جلبه التدخل الأميركي في العراق والمنطقة عموماً.

إن الحجم الديموغرافي للمسلمين وانتشارهم في جميع أنحاء العالم علاوة على طريقة تعامل الإعلام العالمي والإقليمي مع ظاهرة الإرهاب ككل يولد انطباعاً عاماً يحعلها تبدو أكثر ارتباطاً بالإسلام والمسلمين من غيرهم، وهذا يخدم مصالح الإرهابيين الإسلاميين أنفسهم، فالإرهابي يريد أن يُعرف لأن هذا الأمر يساعده على الترويج لرسالته وعلى كسب الدعم والمؤيدين.

لكن الإرهابي في الواقع ليس سيد نفسه، وغالباً ما يتم استغلاله، بمعرفة عنه أو جهل، لخدمة مصالح وقوى إقليمية معينة. ولا شك في أن هذا الارتباط ما بين الدول والأنظمة الإقليمية من ناحية، والإرهاب من ناحية أخرى، يعقد إلى نحو كبير عملية محاربة التطرف في مجتمعاتنا ويعرقلها. فأنظمتنا السياسية، وبصرف النظر عن ادعائاتها وتبجحاتها المتكررة، بحاجة دائمة إلى وجود المتطرفين والإرهابيين في أوساطنا كونهم يشكلون أحد أدواتها الأساسية في الحكم، وستبقى هذه الأنظمة بالتالي الراعي والداعم الأكبر للتطرف والإرهاب في مجتمعاتنا، ونكاد في تأكيدنا هذا لا نستثني أياً من الأنظمة الحاكمة في منطقتنا.

ومن هنا بالذات ينبع ذلك الارتباط البيني المصيري لقضايا التوعية والتحديث والدمقرطة والمعارضة السياسية في مجتمعاتنا. ونظراً لهذا كله، لن يكون التغيير سهلاً أبداً، وليس من الغريب على الإطلاق أن تجد شعوبنا أنفسها مراراً وتكراراً غارقة في دوامة العنف والقتل والدمار.

سيطول هذا المخاض.


الثلاثاء، 12 سبتمبر 2017

المعصية والاستبداد


الحرة / من زاوية أخرى -- إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا" مقولة مشهورة ورائجة في المجتمعات العربية والإسلامية هذه الأيام، يخالها البعض حديثا نبويا وهي ليست كذلك وإن اتفقت من حيث المضمون مع أحاديث معروفة.

وغالبا ما تستخدم هذه المقولة كطريقة لشرعنة حالة الازدواجية الأخلاقية التي بات يعيشها كثير من المسلمين حول العالم من خلال التناقض الصارخ ما بين مبادئهم المعلنة وممارساتهم الفعلية، علاوة على تجييرها كمقاربة استباقية لمنع التشكيك بالمبادئ ذاتها من خلال إيجادها آلية للتعايش مع "المعصية" من دون الانخراط في أية محاولة جدية للتدقيق فيها أو لإعادة التفكير في معناها في ضوء معطيات الواقع المعاصر، واقع القوانين المدنية ومفاهيم مثل المواطنة والديموقراطية والمساواة ما بين الجنسين، بل والحرية الجنسية.

علاوة على ذلك، تستخدم المقولة أيضا كأداة في حرب نفسية مستمرة ضد أصحاب الفكر المخالف ووسيلة لقمع أي حوار جدي حول الأعراف والتقاليد والموروث من خلال تخجيل أصحاب الفكر الجديد ودفعهم لعدم المجاهرة بآرائهم وفرض حالة من الحصار الاجتماعي عليهم. إنها وسيلة لمحاربة التغيير من خلال منع طرح الأفكار الجديدة على الساحة وحصار أصحابها وعزلهم عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية.

المقولة خطيرة إذن، لكنها لا تعبر عن تطرف في الفكر بقدر ما تنم عن هشاشة في الهوية وعقلية رافضة للتغيير ومشبعة بالخوف منه، ونفسية غير قادرة على الانتماء إلى العالم المعاصر لأنها لم تشارك في صنعه أو في تشكيل أدواته، الفكرية منها والمادية. بل تعكس المقولة حالة من الضياع وانعدام التوازن وتناقضا في الأهواء ما بين الرغبة في الاستفادة من منجزات العالم المعاصر، بحداثته وقوانينه وحرياته، بل والاستحواذ عليها أو بعضها على الأقل، ورغبة في الحفاظ على الماضي الذي لا يزال يشكل مصدر الهوية الأساسي وربما الوحيد عند الشعوب التي تبنّت هذه المقولة.

لكن هذا الموقف يأتينا كدليل على الاحتضار المستمر لهذه الشعوب حتى بعد مرور عقود على تجارب التحديث المجتمعي والسياسي والثقافي فيها، فهو من حيث قدرته على التأثير على مجريات الأمور لا يزيد عن كونه ردة فعل عدمية الطابع على الحضارة المعاصرة، ردة قادرة على تجميد عمليات التغيير والتحديث المجتمعي وعلى تدمير الشعوب والمجتمعات لكن ليس بوسعها أن تفرز أية بدائل ناجعة غير ما هو قائم من مؤسسات حضارية معاصرة، بحسناتها وسيئاتها.

ولهذا الموقف تجلياته في المجتمعات الأخرى بالطبع، فهو موقف نفسي في جوهره أكثر منه دينياً أو عقائدياً، كونه نابعا عن المنشأ الخارجي للكثير من المفاهيم الحضارية المعاصرة كما سبق ونوهنا في مقال سابق. لكن وجود حامل ديني وثقافي له في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، متمثل في المقولة المطروحة هنا، وغيرها، يفرض على مواطني هذه المجتمعات إيجاد طريقة ما لتفنيده ومعالجة آثاره وتبعاته.

إن الشعوب الحية هي تلك التي تستمد هويتها من نشاطاتها وإنجازاتها المعاصرة في المجالات المختلفة وليس من نجاحات الأجداد وأمجاد الماضي، فلكل الشعوب أمجادها وماضيها. إنها الشعوب القادرة على الانتماء للحاضر وعلى المشاركة في صناعته. إنها الشعوب التي تعطي للمواطن فيها حق المجاهرة بما يؤمن به، ما لم يدعُ إلى قتل أو سرقة أو أي تعدّ واضح وصريح على حقوق الآخرين، والتي لا دخل للدولة فيها بتعريف "المعصية"، تاركة الأمر في هذا الصدد للأفراد وللجماعات الإيمانية المختلفة بما يتناسب مع معتقداتها الخاصة، ما لم تتعد إحداها على أخرى أو تحرّض عليها.

ولاشك في أن الجماعات الإيمانية في مجتمعاتنا المعاصرة باتت بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم المعصية وفي طريقة التعامل معها في ضوء المتغيرات الجمة التي طرأت على الواقع المعاش خاصة في ما يتعلق بحق الفرد في تقرير سلوكه الشخصي، وربما أصبح لزاماً على المؤسسات الدينية في هذه المرحلة أن تكتفي بدور الناصح والمرشد وأن تبتعد عن دورها الوصائي التقليدي. وربما كان إفساح المجال أمام الأفراد للمجاهرة حتى بتلك التصرفات التي تعترض عليها المؤسسات الدينية يعطيها، والدولة، والمواطنين كافة، فرصة أفضل للتعامل مع الواقع كما هو بعيداً عن التكهنات والافتراضات.

أما الإصرار على ثقافة الاستتار فله أبعاد لا تتوقف عند حد المعاصي المتعارف عليها تقليدياً، فإن اختيار المرء أن يكون شيوعياً أو ليبرالياً مثلاً، ومحاولته التعبير عن توجهاته وآرائه هذه من خلال تصريحاته وتصرفاته، يعد معصية عند معظم الإسلاميين، بل والمسلمين عامة، فلا شك في أن بعض الخيارات والسلوكيات المرتبطة بالتوجهات السياسية والاجتماعية والفكرية المعاصرة، تشكّل معصية وفقاً للمفاهيم والأعراف والشرائع التقليدية، لذا تمثل الدعوة إلى الاستتار والسترة هنا وسيلة لقمع تيارات سياسية وشرائح اجتماعية بعينها، وتكريساً أو تأسيساً لأنظمة استبدادية دينية وطائفية الطابع.

أما في المجتمعات الحرة فلا حرج على امرئ جاهر بما يؤمن به، حتى وإن اعتبره البعض معصية، ما لم يدعُ إلى تعدّ صريح وواضح على حقوق الآخرين. أما المشاعر، فحمايتها ليست من مهمة الدول والحكومات، ولا ينبغي لها أن تكون، بل إنه من النضج أن يقبل الناس في مرحلة من العمر أن الحياة قد لا تتوافق مع رغباتهم وأهوائهم في الكثير من الأحيان، وأن يتعلموا كيف يدارون مشاعرهم عندما تتأذى، وأن لا يطالبوا الدولة بذلك، خاصة إذا كان الأمر يستدعي انتهاك الحقوق الأساسية لمن كان مختلفاُ عنهم في آرائه وتصرفاته.

الخميس، 31 أغسطس 2017

الإسلام بين الاستثنائية والموضوعية

مسجد الشيخ زايد - دبي

الحرة / من زاوية أخرى -- سبق وعالجنا في مقال سابق الإشكالية الناجمة عن الاعتقاد بأن للإسلام دوراً استثنائياً في الحياة، خاصة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، داعين إلى ضرورة التفرقة ما بين مفهومي الخصوصية والاستثنائية. فلكل دين ومعتقد خصوصياته من حيث التقاليد والممارسات والمصطلحات، لكن هذه الخصوصيات لا تقتضي وجود فارق جوهري في الدور المجتمعي الذي يلعبه هذا الدين، الإسلام في نقاشنا، بالمقارنة مع ذلك الذي تلعبه معظم الديانات التقليدية الأخرى (المسيحية، البوذية، الهندوسية...) في مجتمعاتها، على الأقل فيما يتعلق بالمجتمعات النامية.

لكن الإشكالية لا تقتـصر على دور الإسلام في المجتمع وحسب بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة تعاليمه كدين ومنهج. فحتى من هذا المنطلق، لا يعد الإسلام ديناً استثنائياً، فثلة الافتراضات التي يقوم عليها لا تختلف نوعياً عن تلك التي قامت أو تقوم عليها المسيحية واليهودية مثلاً، من بين غيرها من الديانات الشرقأوسطية والكثير من الديانات التقليدية الأخرى، من حيث الإيمان بوجود خالق معين (أو أكثر) لهذا الكون ميّز عبر التاريخ بعض الشخصيات والمجتمعات من خلال تواصله معها في محاولة منه لتنظيم العلاقة ما بينه وبين المجتمعات البشرية ككل.

وتنطبق هذه الملاحظة أيضاً على المسلمين عامة، فطالما أن الإسلام ليس ديناً استثنائياً كذلك المسلمون، فهم أيضاً، وعلى اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وقومياتهم، ليسوا شعوباً استثنائية، لا بالمعنى السلبي ولا الإيجابي. بل هم بشر كسائر البشر، عرفوا النصر في تاريخهم وذاقوا الهزيمة، خبروا المجد في بعض الأحيان وتجرّعوا الذل في أخرى، تماماً كباقي الشعوب. وهذا يعني أن للنصر والهزيمة، وللتقدم والتخلف، ولقيام الدولة وسقوطها، شروط ومقومات لا علاقة لها بالدين، حتى لو كان هذا الدين هو الإسلام. فما معنى الإصرار على استثنائية الإسلام ودوره في الحياة إذن؟

قد تبدو هذه التصريحات بدهية للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تتعارض مع الكثير من الطروحات السياسية والفكرية الفاعلة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة (وغيرها) وبالتحديد مع الطروحات الإسلاموية، وهو الأمر الذي يسبغ عليها طابعها الفاشي المميز، لأن الهدف الأساسي وراء الطرح الاستثنائي هنا هو ادعاء التفوق والأفضلية، خاصة في المجال الأخلاقي، بصرف النظر عن أية ظروف أو شروط موضوعية ما خلا ولادة المرء ونشأته في بيئة دينية معينة. في عصر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم تعد هذه الطروحات الاستثنائية مقبولة أو مبررة حتى في إطار الدول القومية.

إذ لا يسبغ كون المرء مسلماً عليه أي تفوق مسبق أخلاقي أو معنوي، ولا ينبغي له أن يمنحه أفضلية في التعامل لا في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة ولا في غيرها. كما لا تلتصق بالمسلم أية دونية أخلاقية أو معنوية نتيجة انتمائه للإسلام، سواء التزم بتعاليمه أم لم يلتزم، وتخطئ كل الدول والمجتمعات، غربية كانت أم شرقية، نامية أم متطورة، ديموقراطية أم استبدادية، التي تفرض قوانين أو تتبنى ممارسات تمييزية ضد المسلمين، بصرف النظر عن المبررات.

ومرة أخرى نقول: قد تبدو كل هذه التأكيدات والتصريحات منطقية وبدهية للوهلة الأولى، لكن ثقافاتنا التقليدية تبقى مجبولة بثلة من الممارسات التي تتناقض معها، كاحتفائنا المستمر بانتماءنا لدين بعينه وإصرارنا على كونه "الحل" لمشاكلنا حتى في الوقت الذي نبقى فيه غارقين في مستنقع الاستبداد والتخلف، في حين يبدو واضحاً أن تقدم المجتمعات الأخرى ليس مرتبطاً بعلاقتها مع الأديان لا من حيث التمسك ولا التخلي.

فمن منطلق موضوعي، يبدو واضحاً أن الخالق (أو الكون) لا يذلّ أو ينقم على قوم نتيجة سوء التزامهم بدين ما، أو حتى تخليهم عنه، بل تنجم معاناتهم عن فشلهم بالتعامل مع القوانين الموضوعية للوجود بشكل ناجع. أو لنقل أن رضى الخالق يبدو أكثر ارتباطاً بقدرة الناس على استيعاب القوانين الموضوعية للوجود وعلى التعامل الناجع معها منه بمسألة الإلتزام بطقوس أو ممارسات أو شعائر بعينها.

ولهذا، بوسعنا أن نأكد مرة أخرى على أن المسلمين ليسوا شعوباً استثنائية، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الثقافية، بل ولا من حيث مظلومياتهم السياسية والاجتماعية المعاصرة، ولا يشكّل إصرارهم على الطروح الاستثنائية من الناحية العملية إلا استدامة لكل الأمراض التي تعاني مجتمعاتهم منها، ورفضاً للتغيير، بل مقاومة عدمية له، لأن إصرارهم على التمسك باستثنائيتهم، وضعاً ومعتقداً، لم يفرز حتى اللحظة حلاً لأي من المشاكل والتحديات التي تواجههم، بل أصبح من الواضح أنه يمثل عائقاً أساسياً أمام قدرتهم على التعلم من الشعوب الأخرى وعلى استيعاب القوانين الموضوعية للوجود بمضامينها العميقة التي لا تحابي أحداً ولاتفرق بين الناس، أفراداً كانوا أو جماعات، إلا بناءاً على طاقاتهم وأعمالهم وقدراتهم التنظيمية الخاصة.   

إن الاصرار على تجاهل هذه المعطيات الموضوعية ينبثق عن عقلية أو ذهنية معينة وليس فقط عن موقف إيديولوجي، كما نوهنا في مقال آخر، فعلى الرغم من وجود تيارات فكرية وسياسية ترفض من حيث المبدأ الطروحات القائمة على الإيمان بالطبيعة الاستثنائية لفكر أو شعب بعينه، غالباً ما تنم تصرفات أتباع هذه التيارات عن تأثر مستمر وعميق بالطروحات الاستثنائية نتيجة نشأتهم في ثقافة تقليدية مشبعة بها. ومن هذا المنطلق، لا مفر لمجتمعاتنا وشعوبنا من المرور بمراحل الغليان التي نعيشها اليوم لأن الوعي، الفردي منه والجمعي، لا يُصاغ ولا يُشكل إلا من خلال مروره في آتون التجربة.


الجمعة، 25 أغسطس 2017

الإسلام ليس المشكلة وليس الحل


الحرة / من زاوية أخرى -- في خضم المواجهات التي يقوم بها المسلمون اليوم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ومشاربهم وتوجهاتهم، مع تحديات العيش في عالمنا "الحديث،" ذلك العالم الذي ماتزال مشاركتهم في بنائه والتأثير على مجرياته هامشية إلى درجة كبيرة، هناك مغالطة كبيرة بات لزاماً عليهم أن يتفادوا ارتكابها لما في ذلك من تبديد لجهودهم وطاقاتهم النفسية والفكرية.

تنبع المغالطة من الاعتقاد أن للإسلام دوراً استثنائياً في حياتهم: فهو إما المشكلة الأساسية التي ينبغي عليهم مواجهتها ومعالجتها، أو أنه الحل الأمثل والأنجع الذي لا يمكن لغيره أن ينتشلهم مما هم فيه من تخلف وجهل.

لكن الواقع أن تخلف المجتمعات ذات الغالبية المسلمة اليوم ينبع في الدرجة الأولى من غياب الإرادة السياسية في التغيير، والدليل أن دولاً ذات غالبية مسلمة مثل ماليزيا وأندونيسيا وتركيا ومن خلال تبنيها لأنظمة سياسية أكثر انفتاحاً وديموقراطية، على الأقل نسبياً، عما هو سائد في الدول العربية استطاعت أن تحقق درجة جيدة من التنمية والتقدم على الرغم من وجود تيارات محافظة بل ومتشددة فيها.

نعم، ما تزال هذه الدول تعاني من مشاكل جمة تتعلق ببعض العادات والمعتقدات الدينية الإسلامية أو المأسلمة، لكن هذا لا يعني أن الإسلام هو المشكلة الأساسية فيها. لأن ظاهرة الصدام والصراع ما بين قيم الحداثة من جهة والعادات التقليدية السائدة في المجتمعات من جهة أخرى هي ظاهرة عالمية الطابع لا تنجو منها حتى المجتمعات الغربية التي نشأت قيم الحداثة من تفاعلاتها الخاصة.

إذ ماتزال ظاهرة الصراع ما بين قيم الحداثة، تلك القيم التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق القانونية الدولية، وبين العادات والمعتقدات المرتبطة بالديانات التقليدية مثل الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها، تفرز تناقضات كثيرة في كل المجتمعات البشرية، وهذا ما يعطي كل منها خصوصيته الحالية، فنجد دولة مثل الهند تنجح في تطوير تقنيات تمكنها من إطلاق الأقمار الصناعية في ذات الوقت الذي تستمر فيه معاناتها من التبعات الهائلة الاجتماعية والسياسية لنظام الكاست. جاء نجاح الهند نتيجة لوجود قناعة حقيقية بضرورة التغيير والتحديث عند النخب المتنفذة وإرادة سياسية كافية لديها لتبني السياسيات المناسبة لتحقيقه، أما الفشل فيعود لصعوبة تغيير العادات والتقاليد الراسخة والتي يؤمن الكثيرون بقداستها، فالتغيير هنا لا يعتمد على التعليم فقط وتقليص الفجوة التتموية ما بين الريف والمدينة بل على القدرة على إفراز قفزة أو طفرة في الوعي الفردي والجمعي للناس وهو أمر لا يحدث إلا من خلال التجربة والسياق التاريخي على مدى عقود من الزمن ولا يمكن فرضه أو تعجيله بالقوة. ويشكل وجود تيارات سياسية ترى في استغلال المقدسات ومعارضة التغيير وسيلة لتحقيق مآرب بعينها عقبة كبيرة على الطريق. وتوجد هذه التيارات في كل المجتمعات، وعادة ما يطلق عليها في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة التيارات السلفية أو الإسلامية أو الإخوانية.

وتجيد هذه التيارات التلاعب بمشاعر الناس من خلال اللعب على وتر المقدس مع خلطه بالنزعات القومية وصراعات الهوية المحلية، لكن الهدف الأساسي لها يبقى دائماً مرتبطاً باشتهاء السلطة. إن المجازر البشعة التي يقودها الرهبان البوذيون في ميانمار ضد الروهينجا، الأقلية المسلمة في دولتهم، لا تنبع من عداء حقيقي حيال المسلمين بقدر ما تهدف إلى تحسين موقف تيارهم السياسي وتحسين العلاقة بينه وبين القيادات العسكرية التي ماتزال تدير شؤون الدولة من وراء الستار. وربما كان الأمر محاولة لخلق هوية بوذية جامعة لهذه الدولة متعددة القوميات والأعراق التي تؤمن غالبية شعوبها بالديانة البوذية وتنتمي إلى طائفة التيرافادا.

الهدف من وراء هذه الملاحظة هو التنبيه إلى محورية الصراعات والأجندات السياسية فييما يتعلق بكل هذه التطورات، وإلى كون الدين مجرد وسيلة للتعبئة والتجييش. إن التعامل مع الدين على أنه المشكلة الأساسية يخدم قضية من يطرحونه كالحل الوحيد ويسهل عليهم مهمة تصوير خصومهم السياسيين على أنهم أعداء للدين والأمة. ولهذه الظاهرة تجلياتها في كل المجتمعات، وغالباً ما تتخذ هذه التجليات منحاً عنفياً في المجتمعات التي تعاني من مشاكل تنموية عميقة ومن هشاشة بنيتها السياسية مما لا يسمح لها بوقاية نفسها من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية.

لا يشكل الإسلام والمجتمعات الإسلامية إذن حالة استثنائية. نعم، للمجتمعات الإسلامية خصوصياتها من دون شك، لكن الخصوصية شيء والاستثنائية شيء آخر. إن إصرار المتطرفين على التعامل مع وجودهم ومعتقداتهم على أنها استثنائية الطابع يعكس وجود عقد نقص بعينها عندهم كأفراد، وعلى وجود طموحات وأجندات سياسية خاصة عند النخب المؤثرة في صفوفهم، لكن المتشددين في خاتم المطاف لا يملكون حلولاً للمشاكل التنموية والاجتماعية التي تواجها مجتمعاتهم بل هم في الواقع جزء من هذه المشاكل، ولا يمكن لهم أن ينموا كتيارات وجماعات سياسية إلا من خلال استثمارها واستدامتها، مما يجعلهم الوجه الآخر للأنظمة الاستبدادية.

وللحديث بقية.

السبت، 25 يونيو 2016

عن الرِّدة والغَلَبَة وحرية الاعتقاد




أنَّ الرِّدة كمصطلح فقهي إسلامي هي الخروج عن الإسلام بعد الدخول فيه سواء رجع إلى دينه الأصلي قبل الإسلام أو إلى دين آخر أو أصبح لا دينيًّا أو أصبح ملحدًا، ويجب أن نعلم أن حرية الاعتقاد شيء وحرية الارتداد شيء آخر؛ لأن المرتد عرف الحق ودخل فيه ثم أدار ظهره له وخرج إلى شيء آخر، وهذا في حد ذاته انحراف... وتابع: «المرتد قد يشكل خطراً على المجتمع الإسلامي، لأن تصميمه على الخروج من عباءة الدِّين الذي كان عليه غالباً ما تصاحبه مشاعر عدائية ضد هذا الدين، لكن قد تكون هناك أزمات فكرية تمر ببعض الأفراد جعلته لم يعد يؤمن بهذا الدين، سواء تحت إغراءات مادية أو إغراءات فكرية بدين آخر أو بمذهب آخر، واكتفى بأن يخرج من دينه ويتدين بطريقة أخرى، وهذا لا يشكل خطورة على المسلمين ولا على المجتمع الإسلامي، لكن فقه القديم كله فيه أن الردة بشكل عام خطر على الإسلام وخطر على المجتمع الإسلامي. واختتم شيخ الأزهر حديثه بأن البيئة والمنطلقات والثقافات التي أنتجت حرية الردة وحرية تغيير الدين وحرية العودة إلى الدين وحرية اللادين، تختلف تمامًا مع الأرضية والثقافة التي ينشأ فيها حكم إسلامي يتعامل مع الردة، ولذلك من الظلم أن نتحاكم إلى حقوق إنسان نشأت في بيئة تختلف مع الآخر اختلافًا جذريًّا.

من حق المرء أن يغير رأيه ومعتقده، خاصة فيما يتعلق بقضايا وجدانية مثل الدين. نعم قد يشكل هذا الأمر تحدياً للمجتمع وقيمه الراسخة كما حذر الدكتور الطيب، لكن هذا الأمر لا يعطي للمجتمع الحق في تقييد حرية وجدانية كهذه، بل على المجتمع أن يوجد طرقاً أخرى للتعامل هنا غير الحد من حرية الناس، أفراداً وجماعات. إذ لم تعد حقيقة نشأة مفهوم حقوق الإنسان في بيئة غير إسلامية بذات الأهمية التي يخالها الشيخ، فبعد مرور أكثر من قرن على طرحه، وغيره من المبادئ المرتبطة بالحداثة عموماً، برزت في "ديار الإسلام" شرائح بشرية واسعة تأثرت به وأصبح لدى مكوناتها قناعة قوية بضرورته في تشكيل مصيرها. من هذا المنطلق، أصبح مفهوم حقوق الإنسان قضية مصيرية داخلية ولم يعد من الممكن التعامل معه كشأن خارجي أو فرعي.

ولا ننسى هنا أيضاً أن الإسلام نفسه مر بمرحلة من هذا النوع في بداية ما يسمى بعهد الفتوحات، مرحلة مثّل هو فيها الفكرة غريبة المنشأ في المجتمعات السورية والمصرية والمغاربية، فكرة فرضت نفسها على الساحة مستفيدة من الفرص الكثيرة التي أتيحت أمامها جراء ارتباط أصحابها ومعتنقيها بالسلطة السياسية القائمة.

 لا، لم يُجبر الناس في هذه المجتمعات على اعتناق الإسلام، لكنه أصبح واقعاً سلطوياً فيها بقوة السلاح، ومن خلال سيطرة أصحابه على مؤسسات الدولة ونفوذها، وليس بقوة معتقداته وأفكاره وحسب. لقد جاء دور الفكر لاحقاً هنا، ولقد كان للشخصيات والنخب الجديدة التي اعتنقت الإسلام وحاولت التقريب بينه وبين الثقافة السائدة في الأوساط الإجتماعية والمختلفة، دوراً كبيراً في تسهيل تقبل شرائح واسعة له من خلال محاولاتها تأسيس مصدر جديد للتشريع في الإسلام، ألا وهو الحديث – ذلك الباب الواسع الذي سمح بإسباغ غطاء إسلامي على الكثير من الأعراف والتقاليد المحلية المقدسة عن طريق إيجاد، أو بالأحرى ابتكار، سوابق لها في حياة الرسول وصحبه.

ومع ذلك، وبسبب التعقيدات الناجمة عن الاقتتال الداخلي بين المسلمين، من الصعب تصور نمو الإسلام ليصبح دين الأغلبية قبل مرور قرنين من الزمن، لكن يبقى هذا الطرح مجرد افتراض شخصي في هذه المرحلة، ولا شك أن الأمر يتطلب الكثير من التمحيص قبل البت فيه.

وتكمن القضية الأساسية هنا في أهمية إدراك أن الإسلام كان لفترة طويلة من الزمن دين الأقلية الحاكمة في معظم الأراضي الواقعة تحت سيطرته، ومع ذلك، من الواضح أن المسلمين طوّروا نظرتهم وأفكارهم وتشريعاتهم المتعلقة بالسلطة من منطلق قوة وهيمنة، سمح لهم بتجاهل حجمهم الديموغرافي الأقلوي من جهة، وبتقسيم العالم  إلى دار حرب ودار صلح ودار سلام من ناحية أخرى.

في عالمنا المعاصر هذا، أصبحت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قائمة على مبدأ التوازنات، الداخلية منها والخارجية. لقد أصبح مبدأ الغلبة مرفوضاً بالكامل، ليس من منطلق فكري أخلاقي وحسب، بل من منطلق عملي.  ففي عصر الأسلحة النووية والحروب الشاملة وتداخل المصالح، بل والعوالم، الافتراضي منها والمادي، وما في ذلك من تمييع لمفهوم السيادة ومناطق النفوذ، يؤدي التعامل مع المتغيرات استناداً إلى مبدأ الغَلَبَة إلى استدامة الصراعات ونشر الفوضى في كل مكان. قد يناسب هذا الأمر الحركات الإرهابية، لكنه لا يمكن أن يمهّد لقيام الدول، ناهيك عن الحضارات.

ولأن المسلمين يتعاملون مع العالم اليوم من واقع قائم على الضعف والشرذمة يشكّل الإصرار على مبدأ الغَلَبَة تكريساً لهذا الواقع.

لكن الانتقال نحو رؤية مختلفة للأمور يتطلب تحقيق قفزة أو طفرة على مستوى الوعي، إذ لا يكفي التراكم المعرفي هنا ما لم يؤدي إلى إعادة تشكيل الحدس ذاته، والدليل تعامل معظم اليساريين والقوميين العلمانيين المسلمين وفقاً لمنطق الغلبة التقليدي إياه.

من ناحية أخرى، تشكل فكرة رفض الردة من قبل علماء المسلمين، على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم، بل وتجريمها، تمثلاً داخلياً لمبدأ الغلبة. ولهذا بالذات، لا يكمن التساهل في تعاملنا معها أو اعتبارها قضية ثانوية، بل هي القضية الأساس ونقطة الانطلاق نحو إعادة تشكيل وعينا، الفردي منه والجمعي.

ولكي لا نظن أن موضوع الردة قضية تخص الطوائف السنية وحسب، ربما كان من المفيد الإطلاع على هذه الفتوى من فتاوى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني:
  

السؤال: ما هو تعريفكم للمرتد بالتفصيل؟
الجواب: المرتد وهو من خرج عن الاِسلام واختار الكفر على قسمين: فطري وملّي، والفطري من ولد على اسلام احد ابويه أو كليها ثم كفر، وفي اعتبار اسلامه بعد التمييز قبل الكفر وجهان اقربهما الاعتبار. وحكم الفطري انه يقتل في الحال، وتبين منه زوجته بمجرد ارتداده وينفسخ نكاحها بغير طلاق، وتعتد عدة الوفاة ـ على ما تقدم ـ ثم تتزوج ان شاءت، وتُقسّم امواله التي كانت له حين ارتداده بين ورثته بعد اداء ديونه كالميت ولا ينتظر موته، ولا تفيد توبته ورجوعه الى الاسلام في سقوط الاحكام المذكورة مطلقاً على المشهور، ولكنه لا يخلو عن شوب اشكال، نعم لا اشكال في عدم وجوب استتابته. وأما بالنسبة الى ما عدا الاحكام الثلاثة المذكورات فالاقوى قبول توبته باطناً وظاهراً، فيطهر بدنه وتصح عباداته ويجوز تزويجه من المسلمة، بل له تجديد العقد على زوجته السابقة حتى قبل خروجها من العدة على القول ببينونتها عنه بمجرد الارتداد، والظاهر انه يملك الاموال الجديدة باسبابه الاختيارية كالنجارة والحيازة والقهرية كالارث ولو قبل توبته. واما المرتد الملّي ـ وهو من يقابل الفطري ـ فحكمه انه يستتاب، فان تاب وإلاّ قتل، وانفسخ نكاح زوجته إذا كان الارتداد قبل الدخول أو كانت يائسة أو صغيرة ولم تكن عليها عدة، وأما إذا كان الارتداد بعد الدخول وكانت المرأة في سن من تحيض وجب عليها ان تعتد عدة الطلاق من حين الارتداد، فان رجع عن ارتداده الى الاسلام قبل انقضاء العدة بقي الزواج على حاله على الاقرب وإلاّ انكشف انها قد بانت عنه عند الارتداد. ولا تقسم أموال المرتد الملي إلاّ بعد موته بالقتل أو غيره، وإذا تاب ثم ارتد ففي وجوب قتله من دون استتابة في الثالثة أو الرابعة اشكال. هذا إذا كان المرتد رجلاً، واما لو كان امرأة فلا تقتل ولا تنتقل اموالها عنها الى الورثة إلاّ بالموت، وينفسخ نكاحها بمجرد الارتداد بدون اعتداد مع عدم الدخول أو كونها صغيرة أو يائسة وإلاّ توقف الانفساخ على انقضاء العدة وهي بمقدار عدة الطلاق كما مر في المسألة (٥٦٣). وتحبس المرتدة ويضيّق عليها وتضرب على الصلاة حتى تتوب فان تابت قبلت توبتها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون مرتدة عن ملة أو عن فطرة.


السبت، 11 يونيو 2016

مؤمنون هم


مؤمنون هم، أعماهم تكثف اليقين في الأحداق والقلوب، وأذابت عصارته العقول.  

مؤمنون هم، تتجلى مواهبهم الأساسية في إتقانهم لفنون التقليد وتعمقهم في عوالمه، وتهدف أبحاثهم العلمية دائماً لإثبات أنهم على حق، دائماً.

مؤمنون هم. أُهديت لهم "الحقيقة" بتفاصيلها جاهزة، كاملة ومنسقة. جاءتهم وحياً، وإرثاً وعنعنة، فكيف يتحرّرون؟ وكيف يبدعون؟ وكيف يحكّمون العقل في أية مسألة وهم من ضحّى بجلّه حرصاً على "قدسية" إيمانهم و "أصالته،" وكرّسوا ما بقي منه للتشكّي من هوانهم على الكون؟

مؤمنون هم، لذا، ضالّون هم. نهلوا من الماضي حتى الثمالة، وخاضوا فيه حتى الغرق، فأضاعوا حاضرهم والمستقبل. وفيما تلهج أقلامهم وألسنتهم بالتوحيد تبقى قلوبهم وضمائرهم عامرة بالشرك والوثنية، وهاهي ذي ألسنتهم اليوم، كما في كل يوم، تغزل أزياء جديدة لأكاذيب وأوهام قديمة، فيما أضحت صدورهم قبوراً للرحمة، ورؤوسهم توابيت للمعرفة.

مؤمنون هم.


الثلاثاء، 26 أبريل 2016

حين يستوي الظالم والمظلوم

عبء الظلم للرسام باولو زيرباتو

هل هناك في عقيدتك ورؤيتك ما يبرر ويشرعن الاعتداء على الغير باسم الحق وبدعوى إخراجهم إلى النور؟ أو يشرعن تصنيف الآخرين في القانون بحسب آرائهم ومعتقداتهم، فيُحاسَب البعض ويُجرَّمون وفقها، في حين تُسبغ عليك أفضلية في المعاملة، فقط لأنك ولدت وترعرعت على عقيدة بعينها، وبصرف النظر عن سلوكك وتصرفاتك؟ إذن أيقن بأنك ظالم، حتى وإن كنت في هذه المرحلة مظلوماً، لإنك في شرعنتك لظلمك، أو بالأحرى للظلم الممارس باسمك وباسم عقيدتك ورؤيتك للأمور، قمت عملياً بشرعنة الظلم للجميع في كل مكان وعبر التاريخ، فلا يهم عندها أين موقعك من الإعراب، ويستوي هنا الظالم والمظلوم لاتفاق آرائهم حول شرعية الممارسات، بصرف النظر عن اختلاف المبررات. 

الأحد، 20 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (4)

لقاء ما بين وفدي الخارجية الأمريكية والخارجية الإيرانية في مدينة لوزان، سويسرا في 28 أذار/مارس 2015

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

يتبين لنا عند معاينتنا للسياسات الأمريكية عبر السنين الخمس عشر الماضية، حيال منطقة الشرق الأوسط خاصة، تعاقب تيارين فكريين في تشكيلها: تيار المحافظين الجدد، وحلفائهما من الليبراليين التدخليين، الذين أسسو لسياسات جورج و. بوش الخارجية في الفترة التالية لهجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية وحتى نهاية عام 2007، وتيار الواقعيين الليبراليين، وحلفائهم من المحافظين والليبرتاريين الانعزاليين،الذين ساهموا في توجيه سياسات الرئيس الحالي باراك أوباما منذ بداية عهده وحتى الحظة، وخاصة في الفترة التي أعقبت ظاهرة الربيع العربي.

لكن، وقبل أن نتكلم عن نقطة الخلاف الأساسية ما بين التيارين، ينبغي أن نشير إلى اتفاقهما أولاً فيما يتعلق في استقرائهما للموقف، فكلاهما مقتنع بحتمية التحول إلى عالم متعدد الأقطاب وحتمية انتشار الفوضى خلال المرحلة الانتقالية، وثانياً فيما يتعلق بالهدف الأساسي: أن تبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى عالمياً.

أما الفرق الأساسي بين التيارين فيتجلي في الرؤية وفي الأسلوب. فالمحافظون الجدد يرون أن للولايات المتحدة دور أساسي وضروري في قيادة عملية التحول وتوجيهها لضمان المصالح الأمريكية والتي، في رؤيتهم، تتطلب نشر الديموقراطية في معظم دول العالم بغية تحقيق سلام دائم، مع الاستمرار في عزل بعض الدول المشاغبة، أو القلقة والمقلقلة، مثل إيران وكوريا الشمالية والسودان وغيرها. ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الرؤية الإقدام على التدخل العسكري في بعض المناطق والدول لتغيير بعض الأنظمة وللحد من نفوذ أخرى، ولنصرة قوى التغيير المنفتحة على التعاون مع أمريكا والغرب، والتي يتوقع لها المحافظون أن تكون ديموقراطية أو قابلة للدمقرطة.

وتختلف رؤية الواقعيين للأمور كلية، فالواقعيون يرون أنه، وبسبب حتمية الطبيعة العنفية للتغيير القادم، ينبغي على الولايات المتحدة أن تخفف من تواجدها المباشر في الأحداث العالمية في الفترة القادمة لتفادي الوقوع في أخطاء ومصائب، كما حدث في العراق، بل وأفغانستان، وتفادي دفع تكاليفها المادية والمعنوية الباهظة. أن الواقعيين يفضلون أن تكتفي الولايات المتحدة في المرحلة القادمة بالدفاع عن نفسها ومصالحها الضيقة وتترك باقي ما تبقى من دول في هذا العالم، بما في ذلك حلفاؤها، حتى الأوروربيين منهم بل والمشاركين في حلف الناتو، ليقوموا بفرز أنفسهم. وفي هذه الأثناء تقوم الحكومات الأمريكية بالتعامل مع القوى الجديدة والقديمة القادرة على فرض نفسها على الساحة بقوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية لتتعاون معها في بناء نظام عالمي جديد وإعادة بعض الاستقرار العالم. ولا مانع عند الواقعيين حتى ذلك الحين من التلاعب بالقوى الإقليمية الصاعدة من بعيد لتحقيق بعض المصالح، فأمريكا تبقى قادرة على ذلك. أو على الأقل، هذا ما يحاول الواقعيون إقناع أنفسهم والآخرين به.

كولاج لمجموعة من اللقاءات التي عقدها أعضاء المجلس الوطني الإيراني-الأمريكي، وهو واحد من أهم مجموعات الضغط الإيرانية الناشطة في الولايات المتحدة، مع أعضاء في الكونجرس الأمريكي لدعم الاتفاق النووي مع إيران 

ومن الدول التي يبشر الواقعيون بضرورة التعامل معها في منطقتنا: إيران، التي سبق وكانت حليفة للولايات المتحدة، والتي نجحت القوى الأكاديمية اليسارية والتي تضم مجموعة كبيرة من المغتربين الإيرانيين ممن دفعهم مزيج فريد من الإيديولوجية والحنين والشعور القومي إلى الدفاع عن نظام لا يرضى معظمهم في العيش في ظلاله لكنهم يتأملون في إصلاحه، أو في قدرته على إصلاح نفسه. فمنذ تسعينات القرن العشرين وحتى اللحظة، نجحت هذه المجموعة من خلال نشاطها الأكاديمي والبحثي المكثف ولجوء بعض أعضائها إلى تشكيل جماعات ضغط والاستعانة بشركات العلاقات العامة، في إقناع عدد كبير من المنتمين إلى المعسكري الديموقراطي الليبرالي والإشتراكي بإمكانية وضرورة التوصل إلى سلسلة من الاتفاقات مع إيران تسمح لها بتبوء "مكانها الطبيعي" في المنطقة كقوة عقلانية براجماتية ومهنية قادرة على تحقيق الاستقرار.

وترافق هذا الانفتاح على إيران بعداء واضح حيال السعودية ودول الخليج الأخرى، وتركيا. ولا تكفي الإيديولوجية تفسيراً لهذه النزعة، لأن كل الاعتراضات التي يمكن سوقها ضد هذه الدول من الناحية الإيديولوجية يمكن أن تستخدم أيضاً فيما يتعلق بإيران. وفي الواقع، يبدو أن دور الأكاديميين الإيرانيي الأصل كان له أثره هنا، وكذلك، دور الأكاديميين العَلمانيين اليساريين المنحدرين من أصول إسلامية والذين يلومون السعودية ودول الخليج على كل المشاكل التي تواجهها بلادهم الأم، وربما يكون بعضهم قد تعرض لمعاملة الخليجيين العنصرية حيال سائر المسلمين والتي تتخذ من العروبة مبرراً لها. وفي الحقيقة، للعنصرية دورها هنا، فيما يتعلق بالشعور تجاه العرب، وفيما يتعلق بالإسلام السياسي بشقه السني الذي تجعله تعددية مراجعه أكثر خطورة من نظام الملالي في طهران في نظر الواقعيين. وبهذا، يكون الاستشراق قد عاد إلى الساحة عن طريق اليساريين أكبر منتقد للنزعة الاستشراقية التقليدية، متجلياً في نزعة عدوانية وعنصرية تجاه العرب خاصة، والمسلمين السنة عموماً، المتهمين بالتعصب دائماً، إلا من ثبت ولائه للتيار الواقعي.

وما إدارة أوباما وسياساتها الشرقأوسطية إلا تعبيراً عن هذا الواقع بما فيه من تناقضات.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |