افتتاحية
لموقع ثروة / 22 أيار، 2004
مع
أننا لا نستطيع إنكار كون الأسباب الأكثر عمقاً للنزاع في دارفور تكمن في ندرة
الموارد في تلك المنطقة وكثرة الموانع الحائلة دون الوصول إليها، وليس مجرد التوتر
الإثني والذي يبدو كعامل في الأمر ليس إلا، فإن ردود الأفعال العربية إزاء ما يجري
في دارفور، شعبية كانت أم رسمية، وبصريح القول، تقارب العنصرية. ويمكن قول الشيء
عينه فيما يتصل بردود الأفعال المتعلقة بالآمال والتطلعات الكردية.
ماانفك
العرب يدّعون، منذ ما يقارب قرناً من الزمان الآن، بأنهم ضحايا العنصرية. وهم كذلك
حقاً في كثير من الحالات. لكن يبدو أن إحساسهم بكونهم ضحايا قد أعمى بصيرتهم بحيث
ما عادوا قادرين على رؤية العنصرية (وما من طريقة أخرى للتعبير عن الأمر) التي
تحكم مواقفهم إزاء "الأقليات" الإثنية التي تعيش بين ظهرانيهم. فكيف
يتسنى لنا مثلاً أن نفهم ردود الأفعال المعادية (خاصةً من جانب المثقفين العرب)
للمطالب الكردية الهادفة إلى تحقيق نوع من الحكم الذاتي في شؤونهم وحياتهم؟ وكيف
يمكن للمرء أن يفهم الصمت الذي أحاط بالتطورات في دارفور، متمثلة بمشاركة الحكومة
المركزية في الخرطوم، العربية بأغلبيتها، وعشائر الجانجاويد العربية في أفعال
الإبادة والإيذاء ضد الفور (Fur) وغيرهم من الإثنيات غير العربية في تلك المنطقة المعذّبة؟
لا
يمثل الأكراد والفور جماعات مهاجرة بائسة لجأت إلى أرض العرب لسبب ما، وهم ليسوا
بالغزاة الذين جاءوا من بلاد مجاورة، كما أنهم لم يأتوا من الفضاء. إنهم مجتمعات
محلية أصلية تعيش حيث عاشت على الدوام في أرض أسلافها التاريخية، مثلهم في ذلك مثل
العرب. فإن كانت الحدود الحالية التي تفصل "هؤلاء" عن العرب حدوداً
غائمة وغامضة، وإذا كانت الادعاءات بحقوق تاريخية ميالة للتداخل على الأرض، فهذا
مما يمكن فهمه بالنظر إلى تاريخ المنطقة بما فيه من حراكٍ ديموغرافي متميز.
لقد
حكم العرب غير العرب، والعكس بالعكس، في لحظات مختلفة من التاريخ، وقد قاتلوا
بعضهم بعضاً، وتصالحوا مع بعضهم البعض، وأسس كل منهم ممالك وولايات في أراضي الطرف
الآخر. وفوق هذا، يعرف الجميع بأن الحدود الحالية التي تفصل شعوب المنطقة المختلفة
(العرب والأكراد والبربر والفور، إلخ) لم توضع من قبلهم، بل وضعها الأوروبيون بما
يتناسب مع مصالحهم ومخططاتهم الخاصة لا مع مصالح شعوب المنطقة. وهكذا، فإن لدى
الجميع أسباباً وجيهة للشكوى من ترتيبات الحدود الحالية.
في
هذا السياق فإن النزوع القومي لدى الأكراد أو البربر أو الفور ليس بأكثر، أو أقل،
شرعيةً وتبريراً من النزوع القومي للعرب (أو الأتراك أو الإيرانيين). لكن العرب هم
الوحيدون الذين تمكنوا (أو سمح لهم، إن شئنا أن نكون أكثر دقة) بأن يؤسسوا دولاً
يصفونها بالعربية. في حين تم تجاهل آمال الأكراد والبربر والفور، وغيرهم، في
أغلبها.
ومما
جعل الأمر أكثر سوءاً هو أن الدول العربية القومية قد انغمست في محاولات متعددة
لتعريب السكان المحليين من غير العرب، ولعدة عقود من السنين، بدلاً من محاولة
التعامل الجاد مع اهتمامات هذه "الأقليات"، التي هي "أكثريات"
في مناطقها. وعندما فشلت سياسات التعريب تلك، ورفضت الأقليات المعنيّة قبول
"منافع" الثقافة العربية، عمدت الدول والأنظمة العربية لتبني إجراءات
عقابية متنوعة من بينها إهمال تطوير مناطق الأقليات وإنكار فرص المشاركة في
المواقع القيادية على أفرادها، مما زاد في تغذية شعورهم بالاغتراب وساهم في نمو
العناصر الراديكالية بين صفوفهم.
تعكس
أحداث الشغب الأخيرة في القامشلي (أو قامشلو) عدم الرضى تجاه تلك السياسة العقابية
أكثر مما تعكس نزوعاً انفصالياً حقيقياً. ويسري الشيء نفسه على البربر والفور. فلن
يؤدي الفشل في تقبّل الرغبة - المشروعة تماماً لدى الأقليات - بالتكامل مع النسيج
السياسي الاجتماعي والاقتصادي للبلاد التي يسكنونها إلا إلى تشجيع الميول
الانفصالية الراديكالية، بل قد يؤدي لزج المنطقة في كابوس من النوع الذي نرى
بوادره في دارفور اليوم.
من
جانب آخر، فإن الإشارة إلى التلاعب، الواقع أو الممكن، بالقضايا من قبل النخب
السياسية القائدة في المنطقة (وإن لم تكن الحاكمة دائماً)، وإلى فساد تلك النخب،
فيه تجاهل لواقع القضايا المطروحة.
ففي
منطقة لا تزال الديموقراطية تترقب فرصةً لازدهارها ونموها فيها، لا يمكن اعتبار
أيٍ من النخب السياسية القائمة الآن ممثلاً حقيقياً لآمال وتطلعات شعبها أو مسؤولة
عنهم. وهذا ينطبق على كل الجماعات الإثنية المعنية. من هنا، ومع بدء الانتلجنتسيات
المختلفة بالمطالبة الملحة بالحريات والحقوق الأساسية، فإن عليها أن تملأ ذلك
الفراغ بأن تصبح أكثر تمثيلاً لتطلعات الشارع وأكثر جسارة في إخبار هذا الشارع
بالحقائق المتصلة بواقع ما يجري على الأرض، تلك الحقائق المحجوبة عنه منذ عقود تحت
عباءة الأكاذيب والأيديولوجيات المختلفة.
عندما
يفشل المثقفون في الاستجابة لهذه الآمال التي تنبع من جوهر دورهم كمثقفين، وعندما
يتشبثون بخطابهم القومي الذي لا يفهمه غيرهم ويستخدمونه لتبرير (أو تبييض) القمع
الحكومي المستمر ضد هذه الجماعة الإثنية أو تلك (خدمة للحلم والسيادة القوميين كما
يفترضون)، فسوف تستمر النخب الفاسدة والمتلاعبة بكونها الرابح الوحيد في نهاية
المطاف. أما الانتلجنتسيا والشارع فسيظلان خاسرين، كحالهما الآن، مهما يكن غلافهم
الإثني أو المذهبي.
عمار
عبد الحميد قاص وشاعر ومحلل اجتماعي سوري يقيم في دمشق. وهو المدير الاستشاري لدار
إيمار ومنسق مشروع "ثروة".