السبت، 22 مايو 2004

هل نحن عنصريون؟


افتتاحية لموقع ثروة / 22 أيار، 2004

مع أننا لا نستطيع إنكار كون الأسباب الأكثر عمقاً للنزاع في دارفور تكمن في ندرة الموارد في تلك المنطقة وكثرة الموانع الحائلة دون الوصول إليها، وليس مجرد التوتر الإثني والذي يبدو كعامل في الأمر ليس إلا، فإن ردود الأفعال العربية إزاء ما يجري في دارفور، شعبية كانت أم رسمية، وبصريح القول، تقارب العنصرية. ويمكن قول الشيء عينه فيما يتصل بردود الأفعال المتعلقة بالآمال والتطلعات الكردية.

 ماانفك العرب يدّعون، منذ ما يقارب قرناً من الزمان الآن، بأنهم ضحايا العنصرية. وهم كذلك حقاً في كثير من الحالات. لكن يبدو أن إحساسهم بكونهم ضحايا قد أعمى بصيرتهم بحيث ما عادوا قادرين على رؤية العنصرية (وما من طريقة أخرى للتعبير عن الأمر) التي تحكم مواقفهم إزاء "الأقليات" الإثنية التي تعيش بين ظهرانيهم. فكيف يتسنى لنا مثلاً أن نفهم ردود الأفعال المعادية (خاصةً من جانب المثقفين العرب) للمطالب الكردية الهادفة إلى تحقيق نوع من الحكم الذاتي في شؤونهم وحياتهم؟ وكيف يمكن للمرء أن يفهم الصمت الذي أحاط بالتطورات في دارفور، متمثلة بمشاركة الحكومة المركزية في الخرطوم، العربية بأغلبيتها، وعشائر الجانجاويد العربية في أفعال الإبادة والإيذاء ضد الفور (Fur) وغيرهم من الإثنيات غير العربية في تلك المنطقة المعذّبة؟

لا يمثل الأكراد والفور جماعات مهاجرة بائسة لجأت إلى أرض العرب لسبب ما، وهم ليسوا بالغزاة الذين جاءوا من بلاد مجاورة، كما أنهم لم يأتوا من الفضاء. إنهم مجتمعات محلية أصلية تعيش حيث عاشت على الدوام في أرض أسلافها التاريخية، مثلهم في ذلك مثل العرب. فإن كانت الحدود الحالية التي تفصل "هؤلاء" عن العرب حدوداً غائمة وغامضة، وإذا كانت الادعاءات بحقوق تاريخية ميالة للتداخل على الأرض، فهذا مما يمكن فهمه بالنظر إلى تاريخ المنطقة بما فيه من حراكٍ ديموغرافي متميز.

لقد حكم العرب غير العرب، والعكس بالعكس، في لحظات مختلفة من التاريخ، وقد قاتلوا بعضهم بعضاً، وتصالحوا مع بعضهم البعض، وأسس كل منهم ممالك وولايات في أراضي الطرف الآخر. وفوق هذا، يعرف الجميع بأن الحدود الحالية التي تفصل شعوب المنطقة المختلفة (العرب والأكراد والبربر والفور، إلخ) لم توضع من قبلهم، بل وضعها الأوروبيون بما يتناسب مع مصالحهم ومخططاتهم الخاصة لا مع مصالح شعوب المنطقة. وهكذا، فإن لدى الجميع أسباباً وجيهة للشكوى من ترتيبات الحدود الحالية.

في هذا السياق فإن النزوع القومي لدى الأكراد أو البربر أو الفور ليس بأكثر، أو أقل، شرعيةً وتبريراً من النزوع القومي للعرب (أو الأتراك أو الإيرانيين). لكن العرب هم الوحيدون الذين تمكنوا (أو سمح لهم، إن شئنا أن نكون أكثر دقة) بأن يؤسسوا دولاً يصفونها بالعربية. في حين تم تجاهل آمال الأكراد والبربر والفور، وغيرهم، في أغلبها.

ومما جعل الأمر أكثر سوءاً هو أن الدول العربية القومية قد انغمست في محاولات متعددة لتعريب السكان المحليين من غير العرب، ولعدة عقود من السنين، بدلاً من محاولة التعامل الجاد مع اهتمامات هذه "الأقليات"، التي هي "أكثريات" في مناطقها. وعندما فشلت سياسات التعريب تلك، ورفضت الأقليات المعنيّة قبول "منافع" الثقافة العربية، عمدت الدول والأنظمة العربية لتبني إجراءات عقابية متنوعة من بينها إهمال تطوير مناطق الأقليات وإنكار فرص المشاركة في المواقع القيادية على أفرادها، مما زاد في تغذية شعورهم بالاغتراب وساهم في نمو العناصر الراديكالية بين صفوفهم.

تعكس أحداث الشغب الأخيرة في القامشلي (أو قامشلو) عدم الرضى تجاه تلك السياسة العقابية أكثر مما تعكس نزوعاً انفصالياً حقيقياً. ويسري الشيء نفسه على البربر والفور. فلن يؤدي الفشل في تقبّل الرغبة - المشروعة تماماً لدى الأقليات - بالتكامل مع النسيج السياسي الاجتماعي والاقتصادي للبلاد التي يسكنونها إلا إلى تشجيع الميول الانفصالية الراديكالية، بل قد يؤدي لزج المنطقة في كابوس من النوع الذي نرى بوادره في دارفور اليوم.

من جانب آخر، فإن الإشارة إلى التلاعب، الواقع أو الممكن، بالقضايا من قبل النخب السياسية القائدة في المنطقة (وإن لم تكن الحاكمة دائماً)، وإلى فساد تلك النخب، فيه تجاهل لواقع القضايا المطروحة.

ففي منطقة لا تزال الديموقراطية تترقب فرصةً لازدهارها ونموها فيها، لا يمكن اعتبار أيٍ من النخب السياسية القائمة الآن ممثلاً حقيقياً لآمال وتطلعات شعبها أو مسؤولة عنهم. وهذا ينطبق على كل الجماعات الإثنية المعنية. من هنا، ومع بدء الانتلجنتسيات المختلفة بالمطالبة الملحة بالحريات والحقوق الأساسية، فإن عليها أن تملأ ذلك الفراغ بأن تصبح أكثر تمثيلاً لتطلعات الشارع وأكثر جسارة في إخبار هذا الشارع بالحقائق المتصلة بواقع ما يجري على الأرض، تلك الحقائق المحجوبة عنه منذ عقود تحت عباءة الأكاذيب والأيديولوجيات المختلفة.

عندما يفشل المثقفون في الاستجابة لهذه الآمال التي تنبع من جوهر دورهم كمثقفين، وعندما يتشبثون بخطابهم القومي الذي لا يفهمه غيرهم ويستخدمونه لتبرير (أو تبييض) القمع الحكومي المستمر ضد هذه الجماعة الإثنية أو تلك (خدمة للحلم والسيادة القوميين كما يفترضون)، فسوف تستمر النخب الفاسدة والمتلاعبة بكونها الرابح الوحيد في نهاية المطاف. أما الانتلجنتسيا والشارع فسيظلان خاسرين، كحالهما الآن، مهما يكن غلافهم الإثني أو المذهبي.

عمار عبد الحميد قاص وشاعر ومحلل اجتماعي سوري يقيم في دمشق. وهو المدير الاستشاري لدار إيمار ومنسق مشروع "ثروة".

الخميس، 15 أبريل 2004

الخروج من الظلام: المسألة الكوردية في سورية تولد من جديد


افتتاحية لموقع ثروة / 15 نيسان، 2004

إن نجاح السلطات السورية في مساعيها لاحتواء التمرّد الكوردي في مدينة القامشلي خلال الأسابيع الماضية، لا يمنع من الاعتراف بأن المسألة الكوردية في سورية، والتي تم إهمالها لمدة طويلة، قد عادت إلى البروز على الساحة من جديد مطالبة بإيجاد حلّ ناجع لها. ولكن، هل يمكن للسلطات السورية أن تستجمع ما يكفي من الإرادة والدعم الداخلي لتجلس مع ممثلي الأحزاب الكوردية المختلفة فيها لتصل إلى حل مرضي للطرفين؟

من الواضح أن التعامل مع القضية الكوردية من الناحية الأمنية فقط، كما هو دأب الحكومة السورية في هذه المرحلة، لا يكفي، بل وسيؤدي إلى زيادة احتقان الوضع على المدى البعيد. لكن التركيز على تحديد الأسباب والإطراف المسئولة عن التمرّد بشكل مباشر، وإن ساعد بعض الشيء في تهدئة الأوضاع، لا يشكّل بدوره حلاً جذرياً للمسألة وذلك لأنه يهمل التعامل مع الأسباب الحقيقية لها، بما فيها توق المواطنين الأكراد للحصول على تمثيل أكبر في الحكومة المحلية ولأن يعاملوا على قدم المساواة مع سائر المواطنين السوريين وأن يحصلوا على حقوق ثقافية خاصة تنبع من كونهم أقلية متأصّلة في البلد وليست ناتجة عن هجرة ما.

من ناحية أخرى، لابد للأكراد السوريين من أن يخفّفوا من بعض تتطلّعاتهم. إذ لا يمكن للسلطات السورية قبول استقلال ذاتي على غرار ما هو كائن اليوم في العراق. كما أن الفكرة بحد ذاتها لا يمكن أن تُحظى بموافقة الأكثرية العربية في سورية والتي يجهل أغلبها حقيقة الأوضاع المعيشسة للأكراد وتختلط معرفتهم للأمور بالكثير من المفاهيم المغلوطة.

إن تصحيح هذه المفاهيم أمر ضروري بالطبع بالنسبة لمستقبل العلاقات العربية-الكوردية في البلاد. ولكن، وحتى في أحسن الأحوال، واستناداً على السوابق المسجّلة في مناطق أخرى من العالم، لا يمكن للأكثريات بشكل عام أن تقبل حلولاً تمس بأي شكل بسيادة ووحدة الدولة. فحتى إن كانت الحدود المرسومة للدول قد وُضعت من قبل أطراف خارجية وليس من قبل الناس المعنيين ذاتهم، فهذا لا يمنع من أنها اكتسبت مع مرور الوقت قداسة معينة في عقول الأكثريات على الأقل، بحيث يمكن لمحاولات تغيير هذه الحدود أن تؤدي إلى إثارة النزاعات عوضاً عن أن يحلّها.

لكن النزعة الانفصالية الكوردية ليست هي لب القضية هنا، ولا يبدو أنها ستشكّل مشكلة كبيرة، كما يدّعي البعض، هذا إذا ما تعاملت الحكومة السورية بشكل أكثر مرونة وإيجابية مع الوضع الراهن.

فبينما لا يمكن فصل سكان سورية الأكراد نفسياً عن أقربائهم في العراق وتركيا وإيران، فإن أغلبهم يدركون فرادة وخصوصية وضعهم في سورية ويدركون أيضاً أن الحلول التي أثبتت فاعليتها للأكراد في بلاد أخرى قد لا تناسبهم في سورية. ويبدو أن النزعة الانفصالية المتشدّدة التي عبر عنها البعض خلال ذروة التمرّد جاءت نتيجة حمّى اللحظة ولاتكشف عن أية مقاربة استراتيجية جديدة للزعامات الكوردية في سورية.

ومع ذلك، وطالما أن الوضع قد آل إلى ما هو عليه الآن، لم يعد بمقدورنا أن ننفي احتمال تدخّل العناصر المتشدّدة أو القوى الخارجية في المسالة مستقبلاً.

لهذا، يعتمد مجرى الأحداث في المستقبل بشكل كبير على الكيفية التي ستتعامل بها السلطات المركزية السورية مع الوضع. إذ سيؤدي الإصرار على التعامل مع المسألة على أساس أمني فقط إلى تقوية يد العناصر المتشددة والقوى الخارجية الراغبة في إضعاف النظام السوري. لذا لا بديل حيوي من التعامل مع القضية على المستوى السياسي، مما يعني أنه ينبغي على النظام السوري أن يتبنّى سياسات جديدة نحو المسألة ويتخلّى نهائياً عن سياسة التعريب التي انتهجت فيما سبق.

ولا يوجد هنا مكان للاجراءات الانتقامية، التي يبدو أن تطغى على الساحة الآن، على الصعيد المحلّي على الأقل، مما يزيد في تنامي مشاعر الغربة والإحباط عند المواطنين الأكراد ويدعم  مواقف وحجج المتطرّفين منهم. كما لا يوجد بديل هنا عن التحاور الصريح مع ممثلي القوى الكوردية الأكثر اعتدالاً. إن السلوك المتعالي الذي طالما تبنّته الحكومة السورية تجاه الأطراف المعارضة وممثلي المجتمع المدني في البلاد لن يزيد الطين إلا بلة هنا وسيكون له انعكاسات خطيرة في المستقبل الغير بعيد، مما قد يؤدي إلى مواجهات مباشرة بين السكان الأكراد والسلطات وربما إلى تدخّل أجنبي صريح ومباشر. ولا يمكن لأي شيء أن يؤذي قضية الوحدة الوطنية كما يمكن لتطور كهذا أن يفعل.

إن النظام السوري الحاكم يواجه حالياً تحدياً جديداً لا يمكن له أن يفوز به إلا إذا كان على استعداد لاجراء تغيرات عميقة في إسلوب تعامله مع الأمور وفي تركيبته الحالية سامحاً للمزيد من المشاركة في عملية صنع القرار ومتبنياً لطريقة أكثر فطنة واحتراماً في العامل مع قوى المعارضة الداخلية وممثلي المجتمع المدني. إن الارتكاس إلى الطرق القديمة في التعامل لم يعد يمثل خياراً ناجعاً.


عمار عبد الحميد، كاتب ومحلل إجتماعي سوري يعيش في دمشق. وهو المدير الاستشاري لدار إيمار ومنسق مشروع ثروة.


الخميس، 25 مارس 2004

المسألة الكوردية في سورية – للحصفاء القول الفصل


افتتاحية لموقع ثروة / 25 آذار، 2004

تستحق التطورات المؤسفة الأخيرة التي شهدتها مدينة القامشلي في أقصى الشمال السوري، وتوابعها في مناطق ومدن أخرى من سورية، رداً أعمق من مجرد إطلاق الإدانات للفاسدين والمحرّضين والسلطات، محلية كانت أم وطنية. ففي حال وجود رغبة حقيقة لاحتواء هذه الأحداث ومنع تكررها في المستقبل وتحاشي إثارة أي تلميح حول احتمال تدخل أجنبي في البلاد أو أي لجوء إلى الخطاب والإجراءات الانتقامية والكيدية، لابد إذن من التعامل الجاد مع بعض القضايا الأساسية المرتبطة بالأوضاع المعيشية لسكان سورية الأكراد.

ولعل أول ما يمكن إثارته من أمور في هذا الصدد هو تلك الإجراءات المرتبطة بسياسة التعريب التي انتهجتها سورية حيال سكانها الأكراد لعقود طويلة من الزمن، ومنها: تأسيس ودعم مستوطنات عربية في المناطق الكوردية، إهمال تطوير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية لهذه المناطق ، حظر استخدام اللغة الكوردية في الأماكن العامة، بما فيها المدارس والأبنية الحكومية، حرمان الأكراد من المشاركة في إدارة تجمعاتهم المحلية، وكتم قيد ما يزيد عن الـ 200000 ألف كوردي سوري وعدم إصدار بطاقات شخصية لهم، مما أدى إلى حرمانهم من المزايا الطبيعية للمواطنة.

في حال لم يتم التعامل مع هذه القضايا بشكل جدي، فهناك فرصة بأن تكون التطورات الأخيرة التي شهدتها أرض الوطن مجرد لمحة خاطفة عما قد يحدث في المستقبل القريب.

ولا يرمي هذا التقرير الصريح والمباشر للحقائق وانعكاساتها المحتملة إلا إلى إدخال شيء من التأني إلى عملية صنع القرار عند الأطراف المعنية. وتنبع هذه الصراحة من حقيقة كون أحد الاهتمامات الأساسية لبرنامج ثروة هو منع النزاعات في منطقة شهدت أكثر من حصتها العادلة منها، هذا إذا كان للعدالة أي دور في هذا الأمر. ويشكّل وضوح الأهداف والغايات إحدى الآليات الرئيسية للعمل في هذا المجال.

لقد أثارت أحداث الشغب التي جرت خلال الأيام الماضية مشاعر عدوانية عند الكثير من سكان سورية العرب، خاصة في المناطق الجنوبية والغربية من البلاد حيث يجهل الناس الطريقة التي يتم التعامل بها مع المواطنين الأكراد. ولذا، بدت أحداث الشغب للغالبية العظمى منهم غير مفهومة على الإطلاق، وشكّلت امتحاناً قوياً لإحساسهم الهشّ بالأمان الذي ورثوه عن حقبة الثمانينات الصعبة. وبالتالي، تبدو الأكثرية العربية في هذه المرحلة أقرب إلى الوقوف مع السلطات في حال شاءت القيام بأي عملية قمعية ضد الأكراد، ليس من منطلق عنصري بل رغبة في تجنب العودة إلى حالة العنف والفوضى التي سادت فيما مضى، أو في خلق وضع مماثل لما يحدث الآن في العراق. ولا تبشّر هذه النزعة، في حال استمرارها، بالخير فيما يتعلّق بالعلاقات ما بين المواطنين العرب والأكراد في سورية.

علاوة على ذلك، أنحت معظم التصريحات التي قام بها مسئولون سوريون حيال التطورات الأخيرة باللائمة على الأكراد وعلى تدخّل أجنبي مزعوم في الأوساط الكوردية، وذلك قبل أن يجري أي تحقيق في الموضوع، سواء كان مستقلاّ أم حكومياً. وهذه ليست بالطبع طريقة مناسبة لتقوم الحكومة السورية بالتخفيف من مشاعر الغضب والإحباط عند المواطنين الأكراد حيال وضعهم الراهن.

كما أن بعض المسئولين عرضوا في مجرى حديثهم عن الأحداث للضحايا العرب ولم يذكروا وقوع ضحايا أكراد وهم أكثر عدداً (ويبلغ عددهم حوالي الـ 40 بحسب بعض المصادر المعتدلة في المنطقة). وهكذا، يبدو الأمر وكأن الأكراد يشكّلون وجوداً أجنبياً في أعين هؤلاء المسئولين بحيث لا تستحق آلامهم وخسائرهم أن تؤخذ بعين الاعتبار. إن سلوكاً كهذا سيسهم دون شك في تنامي مشاعر التغرّب عند المواطنين الأكراد وفي زيادة الوضع اشتعالاً.

من الواضح إذن، وإذا ما أرادت الحكومة السورية التحرك إلى ما بعد الاحتواء المباشر للموقف عن طريق تبني بعض الإجراءات الأمنية، والتي ستفضي إلى المزيد من المشاكل على المدى الطويل، أن هناك حاجة إلى تبنّي سياسة أكثر وضوحاً وشمولية حيال سكانها الأكراد.

ومن المحبّذ خلال الأيام والأسابيع القادمة، علاوة على ضرورة إجراء تحقيق عاجل في الأسباب  المباشرة للأحداث، تبني خطوات مثل:

* حثّ مجموعة من المسئولين الكبار على القيام بسلسلة من الزيارات إلى المناطق الكوردية المنكوبة، للاجتماع مع المسئولين المحليين وممثلين عن التجمعات الكوردية والعربية فيها.

* إصدار توجيهات مناسبة عن الكيفية التي يجب أن يتعامل بها مسئولي الدولة ووسائل الإعلام الحكومية مع الوضع الراهن بحيث يتم تجنب اللجوء إلى الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة مما قد يسهم في زيادة مشاعر التغرّب والإحباط عند المواطنين الأكراد.

* تنظيم اجتماعات ولقاءات محلية بين السكان العرب والأكراد بهدف الحد من المخاوف وبناء الثقة وإلقاء الضوء على الظروف المعيشية للأكراد وعلى تطلّعاتهم وآمالهم (من الجدير بالذكر هنا قيام وفد من الناشطين وممثلي المنظمات الأهلية السورية، بما فيها الجمعية السورية لحقوق الإنسان، ولجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، ولجان إحياء المجتمع المدني، بالتعاون مع المنظمة الآثورية الديموقراطية، بزيارة مدينة القامشلي للقيام بمساع لتطويق الأزمة ونزع فتيل الفتنة. ومع ذلك، فمن دون شك أن مساع حكومية في هذا الصدد سيكون لها صدى أعمق، وذلك لأنها ستأتي بمثابة المؤشر على تغير رسمي في سياسة الحكومة تجاه مواطنيها الأكراد وستضفي بعضاً من الشرعية الضرورية على نظام باتت شرعيته مهزوزة أكثر من أي وقت مضى في أعين مواطنيه وناخبيه الأكراد).

 هذه كلّها إجراءات فورية بالطبع ولا تغني شيئاً عن التعامل الجدي مع القضايا الأساسية التي ذكرناها أعلاه والتي يمثّل حلّها الجواب العملي والمجدي الوحيد للمسألة الكوردية في سورية. إذ يتوجّب على سورية أن تصبح دولة لكل مواطنيها بصرف النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية – وهو تطور سيسهم في دعم الاستقرار والوحدة الوطنية للبلاد وسيجعلها أكثر قدرة على التأقلم والتجاوب مع المتطلبات المتغيرة للوقائع الجيوسياسية الجديدة في المنطقة والعالم. كما سيسهم هذا التطور في إغلاق الباب نهائياً في وجه أي تدخل أجنبي وخارجي محتمل في سورية.

عمار عبد الحميد، كاتب ومحلل إجتماعي سوري يعيش في دمشق. وهو المدير الاستشاري لدار إيمار ومنسق مشروع ثروة.


الأربعاء، 10 مارس 2004

لماذا ثروة؟ لم الآن؟


افتتاحية لموقع ثروة / آذار 10، 2004

إن التطرق لقضيّة حساسة كحقوق الأقليّات في منطقة مضطربة من العالم كالشرق الأوسط (وبخاصّة العالم العربي) في وقتنا الراهن، حيث انخرطت قِوى خارجية، ومرة أخرى، ناشطة في إعادة تشكيل المنطقة وفي حين ينادي العديد من مسئوليها و"خبرائها" بصوت عال ودون مواربة إلى إحداث"تغييرات" في الأنظمة ويدعون، بشكل أو آخر، لترتيبات جديدة على غرار سايكس بيكو، يحتّم علينا أنّ نتابع تطوّر الأحداث بشيء من الارتياب والقلق.

ولكن، ما الجديد في هذا؟ فمن وجهة نظر صانعي القرار في المنطقة (والذين، في هذه الحالة، قد يعكسون بالفعل بعض المشاعر "الشعبيّة" الحقيقية في هذا الصدد، على الأقل فيما يتعلّق "بالأكثرية" قيد الاعتبار)، لم تكن هناك أبداً، ولن تكون، أية فرصة تاريخية لطرح هذه القضيّة. إن الجو الإثني والديني المشحون لمختلف البلدان والمعاقل المكونة للمنطقة يجعل من المؤكد أن قضيّة  حقوق الأقليّات سينظر إليها باستمرار بمزيد من الريبة والخوف.

إن التفاعل التاريخي بين المجموعات الأقليّة والأكثرية طوال تاريخ المنطقة (وبخاصة أثناء القرن العشرين) والذي ترافق مع انهيار الإمبراطورية العثمانية ونظام الملل الذي أحدثته، والتدفق المفاجئ للأيديولوجيات الوطنية، والتدخل المتواصل للقوى الخارجية (والتي غالباً ما كانت تستخدم الحاجة لحماية حقوق إحدى الأقليات في المنطقة كذريعة للتدخل) كل هذا أجتمع ليساعد في جعل هذا الموضوع أحد أكثر المحظورات السياسية والثقافية تحريماً في المنطقة.

وأدت هذه التراكمات في الواقع إلى إهمال تام لأحد أخطر العوامل المسبّبة لعدم استقرار في المنطقة، مما ساهم في تفاقم حالة التوتر في العلاقات الكائنة بين المجموعات الأقليّة والأكثرية فيها (هذا علاوة على ضعضعة العلاقات القائمة بين المجموعات الأقلية نفسها). وبالتالي، صار طرح هذه القضيّة اليوم أكثر صعوبة مما كانت عليه الحال فيما مضى.

ومع ذلك، هانحن ذا نتطرق لهذه القضيّة بكل صراحة ووضوح من خلال مشروع ثروة.

لماذا؟ولِمَ الآن؟ ومن نكون بالضبط؟

الأجوبة في واقع الحال بسيطة.

ففي الوقت الذي يوجد فيه الكثير من الاهتمام لنشر قيم الديموقراطية في الشرق الأوسط ولتشجيع احترام أكبر لحقوق الإنسان الأساسيّة فيه، وفي الوقت التي ترزح فيه المنطقة تحت وطأة ضغط كبير ومتنامٍ يهدف إلى دفعها نحو التعامل الجاد مع مشاكلها التطوريّة الأساسيّة وإيجاد حلول مناسبة لها وإطلاق الطاقات الإبداعية الكامنة في المنطقة، لم يعد من الممكن بعد الآن تجاهل قضيّة أساسية مثل قضية حقوق الأقليّات بوصفها إحدى أكبر مصادر الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة، وواحدة من أشهر المبرّرات المستخدمة لاستمرار الممارسات القمعية فيها.

ففي وقت كهذا، لابد من أخذ احتياجات وتطلّعات المجموعات الأقلية بشكل جدي بعين الاعتبار بحيث نضمن أن يكون الناتج النهائي لعملية الدمقرطة في المنطقة تحقيق الرخاء والتنمية للجميع، وليس المزيد من الفوضى.

إن المنطقة بحاجة ماسّة اليوم لإيجاد حلول خلاّقة لمشاكلها الأساسية تُرضي جميع الأطراف المعنية، ولا يمكن لها أن تستمر في الحفاظ على نظام "المشاركة الانتقائية" في السلطة وفي صنع القرار، والذي يتم من خلاله أخذ تطلعات بعض الفئات المؤلّفة للدولة فقط، على حساب تطلّعات وآمال وطموحات الفئات الأخرى.

إذ لابد للعملية الديمقراطية من أن تسعى لإشراك كل الفئات الاجتماعية في عملية صنع القرار، لأن محاولة تحجيم دائرة المشاركة ستؤدي لا محالة إلى إجهاض هذه العملية وإلى الانتقاص من مشروعيتها شعبياً. وكفى بالتطورات التي شهدتها المنطقة في العقدين الأخيرين شاهداً على ذلك.

ولأجل هذا الغرض يجب النظر إلى مشروع ثروة على أنه جزأ لا يتجزّأ من جهود الرامية إلى إشاعة الديمقراطية في المنطقة، يتم من خلاله التركيز على المساعدة في بناء علاقات أفضل وتأسيس قناة حرة للتواصل والحوار بين مجموعات الأقليّة والأكثرية في كل بلد عربي" (راجع في هذا الصدد رسالة مشروع ثروة).

إن هذا التركيز الخاص على العالم العربي، وعلى المشرق العربي خصوصاً (أيّ دول الخليج العربي، وسوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، والعراق، ومصر)، لا يعني إنكار أهمية هذه القضيّة بالنسبة لباقي أرجاء الشرق الأوسط أيضاً. لكن الغاية هنا هي أن نحول دون تشتيت جهودنا في هذه المرحلة المبكرة، ونركّز بالتالي على ذلك الجزء من المنطقة الذي ازدادت فيه خطورة  قضية حقوق الأقليّات وأخذت تُحظى أكثر فأكثر باهتمامٍ محليّ ودوليًّ على حدٍ سواء.

من داخل مكاتب مؤسسة مشروع ثروة في دمشق 2004

وفي الحقيقة، تم اتخاذ قرار إطلاق المشروع في هذا الوقت الحرج على أمل تحويل هذا الانتباه المُستعاد أخيراً إلى قوّة بنّاءة و قادرة على تزويد الرؤيا الضروريّة والأدوات المناسبة لتحسين العلاقات القائمة بين مجموعات الأقلية والأكثرية في العالم العربي وعبر المنطقة. وسيتم توسيع دائرة الاهتمام بمرور الوقت لتشمل باقي دول المنطقة.

في غضون ذلك، سيندمج مسروع ثروة تدريجياً مع النشاطات والبرامج الأخرى التي تهدف إلى بناء السلام في المنطقة، وسيحاول أن يلعب دوراً فعّالاً في الجهود الرامية إلى حل ومنع النزاعات في المنطقة.

إنّ موقع برنامج ثروة على الإنترنت يمثّل جزءاً صغيراً فقط من الرؤية الإجمالية للمشروع. لكن هذا لا يقلّل من أهمية الموقع بالطبع، حيث ستعنى المقالات التي ستنشر هنا، وبعضها كُتب خصيصاً للموقع، بإلقاء الضوء على نشاطات المشروع المختلفة ولعب دور تربويّ فيما يتعلّق بقضايا الأقليات في العالم العربي وخارجه، وآخر استشاريّ موجه نحو صانعي السياسة المعنيين في المنطقة.

كما ستتضمن نشاطات مشروع ثروة الأخرى إقامة المحاضرات والمؤتمرات وورشات العمل، على مختلف الأصعدة والمستويات، تهدف إلى تبديد وتصحيح بعض الأفكار والانطباعات المغلوطة السائدة والتي تلقي ظلالاً ثقيلة على قضيّة حقوق الأقليّات. كما تهدف هذه النشاطات إلى تقديم النصح والإرشاد لصنّاع القرار والسياسة الإقليميين والدولييّن في هذا الصدد.  

علاوة على ذلك، ستصدر أسرة مشروع ثروة قريباً رسالة إخبارية تهدف إلى المساعدة في تحسين العلاقات بين الفئات الشعبية المختلفة وإشراكهم في عملية صنع القرار بحيث تتلاءم القرارات المتّخذة مركزياً مع الاحتياجات والتطلّعات الحقيقية للتجمعات المحلية.

ومن خططنا المستقبلية أيضاً إجراء دراسات وبحوث استطلاعية خاصة تهدف على تحديد نسبة مشاركة الأقليات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية السياسية في البلدان العربية المختلفة.

إن بروز مشروع ثروة كنتيجة لمبادرة إقليمية مستقلّة، وتنفيذه بالتعاون مع باحثين وخبراء وناشطين ومنظمات إقليمية ودولية مختلفة، يجعل من الممكن أيضاً استخدام المشروع كمقياس عملي لمدى جاهزية المنطقة للتعامل بشكل جدي مع مشاكلها العالقة وللسماح للمبادرات الخاصة أن تلعب دورها في هذا الخصوص.

إنّ إمكانية إطلاق مشروع كهذا في بلد كسورية، من بين كل البلدان التي كان يمكن أن تستضيفه، ومن دون أي موافقة أو تدخل حكومي، يمثّل بحد ذاته مؤشراً على نوع التقدم الذي يمكن إحرازه عندما تصرّ مبادرة خاصّة على لعب دورها في تنمية المنطقة حتى في أحلك الظروف.

إذن من نحن بالضبط؟ حسناً، نحن ببساطة مجموعة صغيرة من المراقبين والناشطين الإقليميين والدوليين الذين يعتقدون بأن هذه المنطقة وسكانها يستحقون مستقبلاً أفضل من ذاك الذي يبدو أنه يلوح في الأفق نتيجة الاستمرار في تجاهل بعض المشاكل الأساسية.

ونحن، إن لم نتمكّن من خلال جهودنا المتواضعة إلا أن نلعب دوراً صغيراً في إثارة الاهتمام من جديد بقضايا الأقليّات في المنطقة وفي بناء أسس جديدة وقوية لحوار بنّاء بين مختلف الفئات المعنية، فستكون مهمتنا مع ذلك قد أنجزت.

ولكنها ليست بالمهمة التي يمكننا أن نكملها بمفردنا بالطبع. إذ لا يمكن لمبادرة من هذا النوع أن تنجح و تستمر من دون أن تتلقّى الدعم المادي و المعنوي من أولئك الذين يتفقون مع أهدافها وأفكارها المعلنة. وإنا، ومن خلال إطلاق هذا المشروع وهذا الموقع، إنما نكون قد زرعنا بذرة صغيرة جداً بالفعل في تربةٍ وعرة، وستتطلب منا هذه البذرة الكثير من الرعاية والاهتمام لتنمو. ولهذا، لا يمكننا الإعالة نهائياً على مصادرنا الخاصة، ويتوجب علينا أن نوجه النداء إلى القراء لدعم نشاطاتنا في المستقبل. ذلك لأن المبادرات التي تسعى للارتقاء بالمجتمعات لا يمكن لها أن تنجح دون دعم هذه المجتمعات.


عمار عبد الحميد، كاتب ومحلل إجتماعي سوري يعيش في دمشق. وهو المدير الاستشاري لدار إيمار ومنسق مشروع ثروة.