‏إظهار الرسائل ذات التسميات اقتصاد وأعمال. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اقتصاد وأعمال. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 15 يوليو 2015

الأزمة اليونانية والنظام العالمي

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس في مؤتمر صحفي عقب محادثات

(1)

بعد ما تم التوصّل إلى اتفاق بخصوص أزمة الديون اليونانية يبدو جلياً الآن أن الهدف من كل المناورات والمهاترات التي شهدتها الأشهر والأسابيع الماضية هو التحصّل على أفضل صفقة ممكنة وفقاً لقواعد اللعبة ذاتها، وليس تغيير قواعد اللعبة.

لا يوجد ما يعيب في هذا، لكنه يدل على ضرورة التفريق بين ما يُقال وما يُراد. كما يدل أيضاً على طبيعة التيارات اليسارية التي توجّه خلالها الكثير من الانتقادات إلى النظام العالمي الحالي، بأبعاده السياسية والمالية والاقتصادية، ويأتي بعضها في محلّه بالفعل، لكن لا يبدو أنها تملك أية بدائل عملية له. ولاشكّ في أن الكثير من القيادات اليسارية في اليونان وغيرها يدرك هذا الأمر، لكن أغلب الناس لا يدركونه، وينساقون بالتالي وراء ما يُقال خالطين بينه وبين ما يُراد، وهنا لبّ المشكلة. إذ عندما لا يدرك الناس حقيقة ما يجري من حولهم، يصبحون عرضة للتلاعب، خاصة من قبل الشخصيات والتيارات الوصولية الشعبوية والمتطرّفة حتى العدم.

وتقع مسؤولية ما حدث في اليونان على عاتق الكثير من الجهات، منها شركة جولدمان ساكس وصندوق النقد الدولي وعدد من المصارف الأوروبية. لكن المسؤول الأكبر هي في الواقع الأحزاب السياسية والنخب الاقتصادية اليونانية على اختلاف مشاربها. إذ طالما تلاعبت هذه الجهات بالحقائق، فأخفت بعضها، وزوّرت أخرى، وكل ذلك بهدف الحفاظ على نفوذها وخطها السياسي على المدى القصير، دون الانخراط في أية محاولة جدية لتشكيل رؤى وسياسيات للمدى الطويل. فقد رأت هذه الجهات فيما يبدو في الانخراط في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فرصة ذهبية بذاتها، وأن مجرّد المشاركة فيهما ستؤدي تلقائياً إلى إنعاش الاقتصاد وتنمية الدولة والمجتمع. أي أنهم تبنّوا نسخة تنموية لمبدأ الانتثار الاقتصادي trickledown economics  التي جاء بها الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان والتي تنصّ على أن انخفاض العبء الضريبي وزيادة الاستثمار الحكومي في المجالات الاقتصادية المختلفة سيساهم في زيادة إنتاجية قطاع الأعمال، الأمر الذي سيساهم بدوره في زيادة فرص العمل، علاوة على زيادة أجور العاملين ورواتب الموظّفين. من هذا المنطلق، أهملت الشخصيات اليونانية النافذة مهمة تطوير برامج عملية للتنمية البشرية والمؤسّساتية، مما أدى مؤخراً إلى انفجار فقاعة التوقعات التي تم بنائها والركون إليها.

فمما لاشكّ فيه هنا أن الثقافة الحياتية اليومية في اليونان ماتزال تتمحوّر حول الدولة ومؤسّساتها، كما هو عليه الحال في الدول الليفانتية الأخرى، ربما باستثناء إسرائيل نظراً لبعض النشاطات الاقتصادية التي شهدها القطاع الخاص في العقدين الأخيرين. لكن الاعتماد المستمر والدائم على الدولة في كل صغيرة وكبيرة يتعارض مع طبيعة العمليات الديموقراطية، من حيث إحباطه لمحاولات القطاع الخاص لتطوير نفسه بحيث يتمكن من المساهمة في عمليات التنمية المستدامة، فيبقيه في الطور الجنيني إن لم نقل الطفيلي.

وتهدف سياسات التقشّف المقترحة من قبل الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، إلى فكّ الارتباط الوثيق ما بين الشعب والدولة الخانق لكليهما لصالح المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة، بما في ذلك القطاع الخاص، الذي سيصبح مطالباً أكثر من ذي قبل بتطوير نفسه وقدراته ليصبح قوة قيادية في الدولة والمجتمع. ولأن القطاع الخاص يقوم أساساً على المؤسّسات الربحية الصغيرة والمتوسطة، لن تؤدي تقويته بالضرورة إلى استئثار نخبة ما بالنشاطات الأكثر ربحاً وإدارتها خدمة لمصالحها الخاصة على حساب باقي الشعب. إذ طالما بقيت عمليات صنع القرار في الدولة شفافة الطابع، وقامت مؤسّسات المجتمع المدني، بما فيها الصحافة والإعلام المرئي، بمتابعة ومراقبة التطورات يمكن الحدّ من عمليات التلاعب والاستئثار التي تمثّل جزءاً عضوياً من النشاطات العامة بمختلف أوجهها لأنها انعكاس حتمي لطبيعتنا الإنسانية.

لم يكن هناك مؤامرة ضد اليونان إذاً، ولايمثل الاتفاق الجديد لحل أزمتها محاولة لإخضاعها وإذلالها أو للقضاء على ديموقراطيتها، كما يروّج البعض. كل ما في الأمر أنه ينبغي على الدول أن تدرك أن التعامل مع النظام المالي الدولي بشكل خاص، والنظام العالمي بشكل عام، يتطلب الالتزام بذات الحكمة القديمة التي يفترض على المواطن العادي أن يأخذها دائماً بعين الاعتبار: تقع المسؤولية على عاتق المشتري caveat emptor.

(2)


وفي الواقع، نحن بحاجة ماسة إلى إصلاح تدريجي للنظام العالمي القائم، وليس لعملية ثورية ضده. إذ لايوجد شيء محدّد هنا ليثور المرء ضده. فما يزال "النظام العالمي" مجرّد مفهوم غامض في هذه المرحلة، وذلك على الرغم من وجود مؤسّسات مالية وسياسية وقانونية واقتصادية دولية الطابع تبدو وكأنها دعائم له. فالتخبّط الحاصل في إدارة هذه المؤسّسات وتوجيهها، خاصة في أوقات الأزمات، يدل على أنها ماتزال مشاريع قيد التنفيذ أكثر منها دعائم راسخة لنظام بعينه. ولاشك في أن لتعارض سياسات ومصالح الدول الأساسية الداعمة لهذه المؤسّسات دور كبير في تمييع هويتها المؤسّساتية وعرقلة مساعيها لخدمة أهدافها والالتزام بمبادئها المعلنة.

ولايمكن وصف النظام العالمي موضوعياً في هذه المرحلة لا بالديموقراطية ولا بالاستبداد، ولاوجود هناك لنخبة أو كتلة بعينها قادرة على السيطرة عليه بشكل كلّي، وتجييره لخدمة مصالحها الخاصة. لكن، لا مفرّ من الاعتراف أيضاً بأن الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ما تزال تلعب الدور الأكبر في بلورة معالمه، وماتزال، بسبب قوة أنظمتها الديمقراطية، الأكثر قدرة على التأقلم الفعّال مع متغيراته المستمرة.

وتشكّل المثابرة على المساعي الرامية لتنظيم آليات عمل المؤسّسات الدولية المختلفة، وإصلاح أنظمتها الداخلية لتعكس تغير الحقائق على الأرض، ولتصبح أكثر قدرة على تفعيل وخدمة المبادئ التي أسّست من أجل خدمتها، وسيلة أنجع وأفضل من أية ثورة عالمية في هذه المرحلة لتحقيق العدالة، إن كانت هي الهدف الحقيقي.

ولاشك في أن للإعلام المستقل دوره الهام هنا من خلال تغطية نشاطات وفعّاليات هذه المؤسسات وتببين وقعها على الواقع المُعاش لمختلف الشعوب.

إذن، يتطلّب تحقيق العدالة على المستوى الدولي استمرار عمليات الدمقرطة والترويج لها، لأن الدول غير الديمقراطية لن تسعى إلا لتحقيق مصالح النخب المتنفّذة فيها، بصرف النظر عن مصالح شعوبها. وطالما استمرت عملية تشكيل النظام الدولي من خلال الصراع النخبوي ما بين قوى ديموقراطية وأخرى غير ديموقراطية، ستبقى المساومات الحاصلة تتمحور حول المصالح الضيقة للنخب، بصرف النظر عن المبادئ الديموقراطية واعتبارات العدالة، ولن يكون للمبادئ التي نراها في التشريعات الدولية، مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و"مسؤولية الحماية،" أثر كبير على قرارات المؤسّسات الدولية، كما هو الحال في معظم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن مثلاً.

كيف سيكون بوسع الشعوب أن تراقب وتحاسب ممثليها في المؤسّسات الدولية ما لم تكن قادرة على مراقبة ومحاسبة ممثليها في المؤسسات المحلية والوطنية؟ وكيف يمكن للنظام الدولي أن يتصرّف بعدالة حيال بعض الشعوب إن كانت مستعبدة وكان ممثلوها في مؤسّساته ودهاليزه ومؤتمراته مشغولين ليل نهار بإقناع ممثلي الشعوب الحرة بأن شعوبهم غير جاهزة بعد للحرية؟ وإن كانت الدول الغربية على استعداد دائم لتناسي مبادئها الإنسانية في تعاملها معنا، وهو أمر من النادر أن تقدم عليه عند تعاملها مع شعوبها، فذلك لأن حكامنا ونخبنا المتنفّذة قد سبقوها إلى ذلك، فسوّلوا وسهّلوا لها الأمر. فإن بدا لنا النظام الدولي القائم اليوم غير عادل فربما لأن أنظمتنا المحلية والوطنية غير عادلة أيضاً.

وإن كانت العدالة، حتى في المجتمعات الديموقراطية، لا تُؤخذ أو تُصان إلا من خلال الضغوط الشعبية المباشرة، أو عن طريق مؤسّسات المجتمع المدني، فأي خيار هناك للشعوب المستعبدة من قبل أنظمتها غير الكفاح؟

والخلاصة: ما لم تتحقق مصالح الشعوب لن تتحقق العدالة، ولن يتحقق السلام، لكن الشعوب التي لا تناضل من أجل تحقيق العدالة على الصعيد الداخلي لن يكون بوسعها أن تناضل من أجلها، ومن أجل مصالحها، على الصعيد الخارجي. وإن كان اليونانيون قد ساهموا في أزمة الديون التي يمرون اليوم بها، فهم، وعن طريق العملية الديموقراطية، استطاعوا أن يتحصّلوا على صفقة أفضل من تلك التي طرحت عليهم في بادئ الأمر، وإن كانت مسيرتهم نحو الخروج من المأزق تماماً ماتزال طويلة وصعبة.


أما فيما يتعلق بالنظام العالمي بمؤسّساته وعثراته وأطماعه، فالغرب جزء من المشكلة وليس كلها، ونحن، بأنظمتنا الاستبدادية الفاسدة، وبإيديولوجياتنا العقيمة، وبعقد الاضطهاد التي ما زلنا نعاني منها، نمثل الجزء الآخر. ولن يكون بوسعنا التعامل بنجاح مع أية تحديات ناجمة عن مطامح الدول الغربية، ما لم نجد حلولاً لمشاكلنا الخاصة أولاً، أو، ربما كان علينا أن ننشط على المسارين في آن. أما الاستمرار في التذمّر والتفكير التآمري فتكريس لعقلية التخاذل والجمود.

الأحد، 12 يوليو 2015

المصلحة والنظام الدولي بين البارحة واليوم

تصوير فني لمفهوم الإمبريالية الأوروبية

(1)

من بين المصطلحات الشائعة في القاموس العربي المعاصر مصطلحا الإمبريالية والكولونيالية، وهما مصطلحان حديثان نسبياً بدأ استخدامهما في مطلع القرن التاسع عشر لوصف مساعي الدول الغربية لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على العالم مستغلّة قوتها العسكرية. لكن الظاهرة بحد ذاتها، أي محاولة بسط النفوذ بالقوة، ظاهرة موغلة في القدم، بدأت مع انطلاقة المغامرة الإنسانية على سطح هذه المعمورة، ولم تقتصر أبداَ على دولة أو حضارة أو شعب أو دين بعينه. بل يمكن قراءة قصة الحضارة الإنسانية ككل على أنها سلسلة مستمرة من الغزوات والحروب والمحاولات الاستيطانية، كما فعل معظم المؤرخين القدماء والتقليديين، على اختلاف مشاربهم وحضاراتهم.

وتشكّل محاولة ابن خلدون من خلال مقدمته المعروفة استثناءً هاماً وثورياً لهذه القاعدة. ولهذا، ما يزال علماء الاجتماع والسياسة المعاصرون يتداولونها ويشيرون إليها في كتاباتهم حتى اللحظة. ومايزال لمفهوم "العصبية" الذي اقترحه ابن خلدون دور كبير في محاولاتنا العصرية لفهم وتفسير كيفية تعامل شعوب منطقتنا بالذات مع مسألة الهوية.

وعادة ما يستخدم الباحثون الإسلاميون، القدامى منهم والمعاصرون، مصطلح "الفتوحات" عند تعاملهم مع العمليات الإمبريالية والكولونيالية الطابع التي أسّس المسلمون من خلالها حضارتهم القديمة. وهو مصطلح احتفائي بالطبع كما يدلّنا التحليل اللغوي والتفسير العقائدي له. فما دامت الجهة المحتلّة والمستيطنة إسلامية المعتقد، لم يكن عند علماء وجهابذة الإسلام اعتراض عليها.

كما يستخدم الإسلاميون أحياناً مصطلح "الغزوات،" الذي قد يبدو للوهلة الأولى، من الناحية اللغوية على الأقل، أكثر "موضوعية" من مصطلح الفتوحات. لكن توخّي الموضوعية لم يكن الهدف من وراء طرح هذا المصطلح في الواقع، بل الرغبة في الإشارة إلى المعارك الصغيرة التي انخرط بها المسلمون ضد "أعدائهم" عبر التاريخ. إذ لا يجد المسلمون حتى اللحظة أيّ إشكالٍ في إصرارهم على التعامل مع الحروب التي شنّوها، أو شُنّت باسمهم، عبر التاريخ، من منظور احتفائي بحت.

الفتوحات


(2)

ويقابل مصطلحي الفتوحات والغزوات عند الغربيين مصطلحات متعدّدة، لا تقلّ عنها احتفائية، استخدمت لتبرير وتسويغ الحملات الإمبريالية والمغامرات الكولونيالية للغربيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك باستثناء أشهرها، أي مصطلح "الحروب الصليبية،"  الذي برز على الساحة الفكرية في القرون الوسطى.

أما والمصطلحات المعاصرة فمنها: "عبء الرجل الأبيض" White Man’s Burden، الذي تبنّاه المنظّرون البريطانيون في أواخر القرن التاسع عشر، وهو بالأساس عنوان قصيدة للشاعر والروائي البريطاني رديارد كبلينج Rudyard Kipling. و "البعثة التحضيرية La Mission Civilisatrice " الذي استخدمه الفرنسيون، في حين لجأ الأمريكيون إلى استخدام مصطلح "القدر الجليّ Manifest Destiny" لتبرير توسّعهم عبر القارة الأمريكية وتهميشهم للسكان الأصليين ومحاولاتهم الفاشلة لاحتلال المسكيك.

أما الروس، وهو الشعب الذي مايزال اليسار العالمي يصرّ على تجاهل مغامراته الإمبريالية أو تبريرها على أنها استراتيجية استباقية للدفاع عن النفس والوطن، فقاموا بإطلاق مغامرتهم الإمبريالية المعاصرة، والأكبر في تاريخهم، تحت الشعار الماركسي "يا عمال العالم اتحدوا،" وغيره من الشعارات الشيوعية والسوفييتية.

في حين استخدم الصينيون، ومازالوا، مفهوم السابقة التاريخية (في إشارة إلى سيطرتهم في مرحلة تاريخية ما على المنطقة قيد البحث) ورغبتهم في مساعدة الشعوب المتخلّفة ي منطقتهم على تنمية نفسها لتبرير احتلالهم للتيبت وكشغر (شينشيانج)، وفي مطالباتهم الحالية فيما يتعلق بالجزر الواقعة في بحر الصين الجنوبي.

لاننسى طبعاً الألمان ومصطلح "المجال الحيوي lebensraum" الذي استخدموه لتبرير محاولتهم الفاشلة لإنشاء إمبراطورية عالمية جديدة هي الرايخ الثالث.

أوروبا تحت الاحتلال النازي

أما المغامرة الصهيونية، فتتفرّد وتتميّز عن المغامرات الإمبريالية والاستيطانية المعاصرة من حيث نشأتها كمحاولة يهودية لإيجاد حلّ لـِ "المسألة اليهودية" في الغرب وإنقاذ اليهود من خلال تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين. أي أن تحقيق المجد، وهو الأمر الذي غالباً ما يلعب دوراً هاماً في المغامرات الإمبريالية والكولونيالية التقليدية، لم يكن عاملاً في هذه المغامرة. أما فيما يتعلّق بتجاهل الحركة الصهيونية لحقوق الشعب الفلسطيني، فلا يعدّ هذا الأمر استثنائياً بحدّ ذاته، وإن بقي مداناً من منطلق إنساني وحقوقي، لأن محاولة شعب ما حلّ مشاكله أو تحقيق طموحاته على حساب شعب آخر هو جوهر النزعة الإمبريالية، والحركة الصهوينية إذاً لم تأت كاستثناءٍ لقاعدة الفعل الإمبريالي بل استمرار وتكريس له مع اختلاف هوية الجهة الفاعلة. ولاننسى هنا أنه عندما كان لليهود دولة ومجد في الماضي، سواء في فلسطين أوالخزر، لم تغب النزعة الإمبريالية عن ممارساتهم وكرهم. وفكرة أن اليهود هم "شعب الله المختار،" استخدم كمبرر لها بالطبع.

(3)

لكن هناك فرق هام حالياً ما بين الشعوب الغربية والشعوب الأخرى فيما يتعلّق بتعاملها مع المسألة الإمبريالية يتجلّى في المساعي الأكاديمية الغربية المستمرة لمراجعة المفاهيم المستخدمة لتبرير الإمبريالية وتبيان مغالطاتها ووجه النفاق فيها، ولاننسى في هذا الصدد أن أشهر مفكري ومنظّري اليسار العالمي هم من الغرب، وإن كانت مراجعة اليساريين لهذه الظاهرة إيديولوجية الطابع، مما يجعلها تركّز على البعد الأخلاقي والقانوني للظاهرة وعلى ممارستها من قبل الغربيين حصراً، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

وتؤثر هذه النزعة الإيديولوجية سلبياً على معظم تحليلات اليسار في هذا الصدد، خاصة من خلال تصويرها للآخرين كضحايا، وتبريرها أو تجاهلها لممارساتهم المماثلة. وأثناء ذلك يتم تغييب السياق التاريخي للظاهرة وارتباطها اللصيق بالطبيعة الإنسانية ومفهوم "المجموعة" المتميّزة عن الآخريات (قبيلة، عشيرة، قوم، دين) و مفهوم "الدولة." فحتى ما قبل تأسيس المدن والدول، كانت المجموعات تغير على أراضي بعضها البعض، وتحتلّها أو تستوطنها، وتستعبد أوتبيد سكانها الأصليين.

من ناحية أخرى، لابد من الإشارة إلى غياب أية محاولة جديّة لمراجعة المفاهيم والمصطلحات التاريخية من قبل الشعوب غير الغربية. ولهذا التقصير مدلولات أخطر من استمرار الغرب في محاولته لبسط نفوذه على العالم، لأنها فيها تجاهلاً لسرّ تفوّقه في اللعبة أساساً وهو: انفتاح شعوبه الكبير على النقد والتجديد وعلى نحو يسمح لها بإجراء تعديلات مستمرة على حسها بالهوية  الانتماءهويته. لقد أصبحت الهوية بالنسبة للشعوب الغربية عملية تفاعلية وليست إرثاً جامداً غير قابل للتعديل.

وفي هذه الأثناء تستمر المعركة، ومحاولات تبريرها. إذ راجت في الغرب والعالم في العقدين الماضيين مصطلحات مثل "العولمة،" و"صراع الحضارات،" و"الفوضى الخلاقة،"  و"ترويج الديموقراطية،" التي يرى الكثيرون فيها محاولة مستمرة لتسويغ إمبريالية جديدة والتي يرى البعض في تطورات مثل توسيع الناتو تعبيراً عنها.

الدول العضوة في حلف الناتو

ويقابل هذه المصطلحات في المعسكر الروسي مفاهيم مثل "تصحيح لخطأ تاريخي،" الذي استخدم لتبرير احتلال القرم، والدفاع عن "السيادة الوطنية" وحقوق المكون الروسي، وهما من الأعذار التي استخدمت لتبرير التدخّل في شرق أوكرانيا. بل تم استخدام مفهوم السيادة الوطنية أيضاً لتبرير دعم روسيا لنظام بشار الأسد.

بينما تسعى إيران اليوم إلى بسط نفوذها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا تحت عنوان "المقاومة" و"الممانعة،" ولقد سبق للنظام السوري أن استخدم هذين المصطلحين لتبرير احتلاله للبنان.

في المقابل تبنّت دول الخليج مهمة الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية (السنّية) من الهجوم "الشيعي الصفوي،" الأمر الذي مهّد الطريق أمام تدخّل سعودي سافر في كل من البحرين واليمن، وغير مباشر في سوريا والعراق ولبنان، بالتعاون مع دول الخليج الأخرى علاوة على مصر والأردن وتركيا.

وهناك من يرى أن "الربيع العربي" مصطلحا مخترعاً جاء لتبرير ثورات مصطنعة هدفها تحقيق مصالح عربية معينة. لكن المشكلة في هذا الطرح تكمن في تجاهله التامّ لدور الظروف الموضوعية في الأمر مثل الانفجار السكاني الذي تشهده المنطقة منذ عقود، وشحّ الموارد الطبيعية في بعض الدول، وتفشّي بعض الظواهر البيئية كالجفاف والتصحر، هذا علاوة على الممارسات الاستبدادية والفاسدة والفئوية لمعظم الأنظمة الحاكمة، ورغبة بعض القوى الإقليمية في تجيير المتغيرات الحاصلة لخدمة مصالحها الخاصة. ككما لاينبغي هنا إنكار مشروعية وجدية وأصالة المطالب الشعبية بالإصلاح وبالتحرّر من نير الاستبداد، حتى في واقع تخوّف بعض الشرائح والمكوّنات المشروع من عملية التغيير خشية أن يؤدي هذا الأمر إلى قمعها وتهميشها.

ومن الواضح، لمن لا يعاني من ظاهرة العمى الإيديولوجي، أن كل هذه الأطراف إنما تسعى وببساطة إلى تبرير ذات الظاهرة: النزعة الإمبريالية المتأصّلة في مفهوم الدولة والجماعة ذاته.

(4)

لذا، وإذا ما أردنا بالفعل أن نضع حداً لظاهرة الإمبريالية، فعلينا أن لا نقصر نقدنا على هذه الدولة أو تلك، بل علينا أن نبدأ بتحليل ونقد الظاهرة ذاتها بقواعدها المعروفة في محاولة لطرح بديل ناجع لكيفية تفاعل الشعوب والدول مع بعضها، بديل يمكن من خلاله تعزيز التعاون، وترشيد التنافس، وإيجاد وسائل سلمية لحلّ الخلافات والنزعات. لأن المشكلة هنا لا تكمن في سلوكيات بلد أو شعب بعينه، بل في السلوكيات التي دأب الأقوياء بشكل عام على تبنّيها عبر التاريخ حيال الآخرين، بصرف النظر عن المبادئ التي جاؤوا وادّعوا التمسّك بها. ففي غياب توازن مناسب للقوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، ستبقى عملية تفعيل وتطبيق المبادئ خاضعة لتلاعب الأطراف الأقوى.

جزر سبراتلي والباراسيل المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي

فلا يكفي لمحاربة هذه الظاهرة إذاً أن نكتفي بانتقاد الغرب وأمريكا، لأن تفوّق الغرب في هذا المجال مرتبط بشكل وثيق بتفوّقه في المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والمعرفية. أي أنه، ومن منطلق خضوع الجميع من الناحية العملية لقانون الغاب الذي مايزال يتحكّم في العلاقات الدولية، لا يرتكب أية جريمة هنا، ولا تشكّل سلوكياته استثناءاً للقاعدة بل تمثّلاً فاعلاً وخلّاقاً لها.

وفي الواقع، يشير التحليل الموضوعي لسلوكيات الدول اليوم، على اختلاف قدراتها، إلى غياب أية رغبة حقيقية عند النخب الحاكمة والمتحكّمة في  صنع القرار في كل دول العالم، والنخب الفكرية الخاضعة لها أو الواقعة، كلياً أو جزئياً، تحت تأثير إعلامها وأكاذيبها، في تغيير قواعد وطبيعة اللعبة. على العكس، فالكل يقبل باللعبة وقواعدها كما هي، والكل يشارك بها، والكل يسعى إلى التفوّق من خلالها لا على حسابها. ولا يوجد ما يثير الدهشة في هذا الوضع، فالرؤى الضيقة للنخب الحاكمة تجعلها غير قادرة على تخيّل وتشكيل البدائل، كما أن مخزوننا المعرفي والنفسي بتراكماته الهائلة ما زال يسوّغ لها الاستمرار في اللعبة كخيار أضمن وأكثر واقعية وعقلانية من المغامرة بتجريب وتفعيل مقاربات جديدة تماماً.

كما يشكّل غياب حسّ هذه النخب بالانتماء لأيّ شيء خارج الأطر والدوائر الضيقة التي بنوها من حولهم، وتحصّنوا وراء أسوارها، عاملاً إضافياً هاماً لتمسّكها باللعبة كما هي. وإذا كان بوسعنا أن نلحظ وجود هذه النزعة عند النخب الفاعلة في الدول الديموقراطية، فما بالك بالواقع المعاش في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية؟

(5)

وبسبب الطغيان الإيديولوجي على الفكر العالمي في هذه المرحلة، والانتشار الواسع للتحليلات المجتزأة، بل والمأجورة في الكثير من الأحيان، وهي ظاهرة لم تنجو منها حتى الأوساط الأكاديمية في الجامعات العالمية الأكثر شهرة ورقياً، قلة هم اليوم أولئك الأشخاص الذين يدركون الطبيعة الحقيقية وغير المنمّقة لما يجري من حولهم من تطورات، ويحاولون تحليل الأمور بالموضوعية والعقلانية الملائمة.

ومن هذا المنطلق، مانزال نجد أعضاء اليسار العالمي مصرّين على الاستمرار في نقد تصرفات أمريكا والغرب وحسب، في حين يدافع أغلبهم عن تصرفات مماثلة لروسيا وإيران والصين وغيرها من الدول، بل وعن تصرّفات طغاة من أمثال الراحل صدام حسين وذلك الآخر الذي اختار المشي في خطاه، بشار الأسد، ويبرّرونها، هذا إن لم ينكروها جملة وتفصيلاً من خلال طرحهم لتفسير تآمري مرتجل. لكن الواقع أن الأنظمة الحاكمة في هذه الدول "الطاهرة" و "البريئة،" لا تسعى من خلال نقدها لأمريكا ودول الغرب لقلب الأمور وتحقيق العدالة للجميع، أو حتى لشعوبها، بل إلى التعويض عن قلّة مهارتها في إدارة التفاعلات الدولية بغية تحقيق مصالح فئوية خاصة.

فالتوصيف الأدقّ لما يجري في العالم اليوم هو صراع مصالح، لا صراع حضارات ولاثقافات، فالحضارة الوحيدة الفاعلة على الساحة اليوم هي الحضارة الغربية، وكل ثقافاتنا المعاصرة متأثرة بها.

الحضارات بحسب طرح صامويل هانتينحتون


(6)

ومن العوامل الأخرى المساهمة في تخلّف الدول عن اللحاق بركب الغرب وحضارته التي أصبحوا جزءاً منها رغماً عنهم، مُكرهين على ذلك بقوة فكرها وثقافتها أولاً، ثم اقتصادياتها، ثم جيوشها: فساد النخب الحاكمة والمؤثرة، أو تمسّكها بتراث بالٍ للحفاظ على مراكزها، أو لجوئها إلى التقليد الأعمى للغرب من دون إجراء أية مراجعة نقدية للأفكار الوافدة منه، أو للتراث على ضوء المبادئ الوافدة. ذاته، علاوة على تراجع العمليات التنموية، أو غيابها نهائياً في بعض الأحيان، أو أي خليط من هذه الأمور.

ولايغرنّنا في هذا الصدد الخطوات الإيجابية التي تحققها الصين حالياً، أو تعنّت ورعونة الروس بقيادة قيصرهم الجديد، إذ سبق للاتحاد السوفييتي أن حقق إنجازات مماثلة قبل تراجعه وانهياره.

وحتى لو نجحت هاتان الدولتان وشركائهما حول العالم في مساعيهم لتقليص النفوذ الغربي من خلال اللعب وفق نفس القواعد، فلن يشكّل هذا الأمر تطوراً إيجابياً من الناحية الحضارية، بل انتاكسة كبيرة ومفجعة. فعلاوة على تعزيز الطبيعة السينيكية للعبة من خلال هذا "النصر،" ستتعزز أيضاً شرعية الطريقة النخبوية المنغلقة، فكرياً وسياسياً ومجتمعياً، في الحكم والتي لا يمكن مقاومتها إلا من خلال العمل لتأسيس أنظمة سياسية ومجتمعية منفتحة وديموقراطية ولامركزية.

إذ ترتبط عمليات الدمقرطة والتنمية المستدامة والتجديد الفكري والثقافي ببعضها البعض بشكل لصيق، ولايمكن إدارتها بفعّالية من فوق ومن المركز حصراً، إلا لفترت وجيزة في أفضل الحالات، ولايمكن استدامة أي انجاز أو نجاح تنموي أو "خارجي" مالم نحصّنه بتغييرات سياسية وحقوقية عميقة في الداخل. لأن التضحية بالحرية من أجل التنمية تفريط بهما معاً، وتأجيل التجديد الفكري والتحديث المجتمعي تخوّفاً من ردود أفعال القوى المتطرّفة، وتذرّعاً بذلك، هو استسلام وتمكين لهذه القوى بالذات، والإصرار على التعامل مع الشعوب وكأنها قطعان لا تبالي إلا بالرعي والمرعى هو البِذار الذي يفرز الثوارت الشعبية والفوضى.

وخلاصة الكلام: لايكفي أن يستنبط العالم مواثيق ومفاهيم جديدة حول العدالة والإخوة والمساواة، وحول حقوق الإنسان وعلاقته بالبئية المحيطة، ولايكفي أن نتبنّى أنظمة جديدة ناظمة للعلاقة ما بين الدولة والمواطن، وما بين الدول ذاتها، مالم نغير موازين القوى ما بين الدول والكتل والجماعات المشتركة في هذا العالم، وما بين المكونات والطبقات المختلفة لكل دولة على حدة. و لايمكن تحقيق أي من هذه الأمور وصولاً إلى تفعيل وتطبيق ما طوّرناه من مفاهيم ومواثيق إنسانية وحقوقية استناداً إلى تجربتنا التاريخية ومخزوننا المعرفي والخبراتي المشترك، بين ليلة وضحاها، وبلا تنظيم عالمي الطابع.

وتتلخّص مأساتنا اليوم بالذات في غياب تنظيم من هذا النوع عن الساحة العالمية بل ربما في غياب حتى تلك الشخصيات القادرة على بناءه والترويج له.


الثلاثاء، 7 يوليو 2015

التغيير في اليونان: النصر الزائف

صورة من الاحتفالات في ساحة أومونيا في أثينا قبيل فوز حزب سيريزا اليساري بالانتخابات اليونانية في كانون الثاني 2015.
 لقد صوّت اليونانيون مرتين ضد سياسات التقشف، مرة حين انتخبوا حزب سيريزا ومرة حين صوتوا بـ "لا" في الاستفتاء الأخير. لكن سيريزا لم يتمكّن من إلغاء سياسات التقشف، فازداد بالتالي الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد سوءاً في الأشهر التالية لانتخابه. والآن، وما لم تكن ألمانيا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي على استعداد لتقديم تنازلات صعبة، أي ما لم يكن موقفها التفاوضي السابق للاستفتاء مجرد محاولة للخداع، سيجد اليونانيون أنفسهم أمام سياسات تقشّف أسوأ من سابقاتها، وقد يؤدي هذا الوضع إلى تفكّك كارثي وانهيار للدولة.

فلا روسيا ولا الصين قادرتان على تقديم أي دعم كافٍ لسد الفراغ الذي سيتركه خيار الانعزال هذا. ولقد طرح محلل إسرائيلي أن تعود اليونان إلى حضن الليفانت وتشكل مع تركيا وإسرائيل  وسوريا ولبنان ومصر وقبرص اتحاد ما، لكن، يبقى هذا الطرح مجرد فكرة في هذه المرحلة، لا يمكن لها أن تأثر في مجريات الأمور على المدى القصير. مشكلة اليونان ليس نتيجة ما قام به الأوروبيون فقط، بل ما قامت به النخب الفكرية والسياسية في اليونان من اليمين واليسار عبر العقدين الماضيين: مشكلة فساد وكذب على الشعب وسوء إدارة وتعلّق بالأوهام. والغريب في الأمر أن أثينا استضافة على مدى عقد ونيف الكثير من النشاطات واللقاءات الهامة المتعلقة باستقراء مستقبل المنطقة ككل والتي تم فيها مناقشة سيناريوهات التفيكيك المحتملة في المنطقة.

ولنذكر هنا أن كل شيء جرى في وضح النهار: فالمساعدة التي قدمتها شركة جولدمان زاكس للحكومات اليونانية السابقة على تزوير دخولها وميزانيتها مما سمح لها باقتراض مبالغ كبيرة من صندوق النقد العالمي عن طريق عدد من البنوك الأوروبية كما جرت العادة، لم يكن بذلك السر الدفين. ولم تكن التنمية هي السبب الأساسي الذي دفع الحكومات السابقة على الاقتراض، بل كانت رغبة اليونانيين بالتمسّك بدعم الدولة لهم، دون التسائل عن قدراتها المالية الحقيقية في هذا الصدد. إن كان ما يجري في اليونان مؤامرة فالكل شريك بها، بمن فيهم اليومانيو أنفسهم.

من ناحية أخرى، من الواضح أن لا الصين ولا روسيا بوسعهما تقديم بديل آخر لليونانيين، ما خلا استغلال الوضع لتوجيه بعض الرسائل السياسية للغرب، وقد ترغب روسيا بالذات باستخدام المرافئ اليونانية لتعزيز وجودها في البحر المتوسط. لكن لن يعود هذا الأمر بفائدة كبيرةعلى اليونان، بل سيضع أمنها على المحكّ. ومهما بلغت قيمة المساعدات الاقتصادية المحتملة أو المتوهّمة التي يمكن أن تقدمها هاتان الدولتان فلن تكفي لوضع حدّ لسياسات التقشّف.

فما معنى الجو الاحتفالي في اليونان وبعض الأوساط اليسارية في هذه المرحلة إذاً؟ هل يدرك اليونانيون أن النصر الذي حقّقوه هو نصر زائف Pyrrhic victory؟ أم تراهم يتعاملون مع موضوع الاستفتاء كوسيلة للضغط على الاتحاد الأوروبي الذي أقنعهم ساساتهم وخبرائهم بأنهم مجبرون على تقديم التنازلات المطلوبة والتي ستستمح لهم بالحفاظ على المعونات الحكومية التي ألفوها؟ وهل هم مستعدون لما سيأتي في حال خسروا رهانهم هذا؟

التعثّر، أي الامتناع عن تسديد القروض لأسباب قاهرة، هي إحدى مخاطر عمليات الإقراض، فعملية الإقراض، كما نوّهت مجلة "بيزنيس إنسايدر،" بطبيعتها مغامرة خطيرة من حيث كونها رهان، لا يمكن ضمانه 100%، على قدرة المقترض على التسديد خلال الفترة المتفق عليها وبالطريقة المتفق عليها مع الفائدة المتفق عليها، فالفائدة هي مصدر الربح وهي الدافع الأساسي وراء القبول بهذا الرهان. لذا لا يمكن اعتبار موقف سيريزا هنا خارج عن تقاليد النظام الرأسمالي.

لكن لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتوقّف كثيراً عند هذه الاعتبارات. لأن وجود دول أوروبية أخرى تعاني هي أيضاً من مشكلة الديون مثل إسبانيا والبرتغال وإيرلندا وإيطاليا سيجعلها تفكير عميقاً فيما إذا كان بوسعها خلق سابقة يمكن لهذه الدول الاعتماد عليها في علاقتهم مع الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب. لقد بات مستقبل منطقة اليورو وربما الاتحاد الأوروبي ذاته على المحك الآن. ومن هذا المنطلق، يمكن لدول الاتحاد أن تختار معاقبة اليونان وتعويض البنوك المتضرّرة بغية توجيه رسالة واضحة للدول الأخر في هذا الصدد بأن إعلان التعثّر أو الخروج من منطقة اليورو قرار له توابع خطيرة وضارة بالبلد ذاته قبل الاتحاد.

صورة لقادة البريكس خلال قمة البريكس السادسة والتي عقدت في البرازيل في تموز 2014 وأعلن خلالها عن تأسيس مصرف البريكس.
وعلينا أن نذكّر اليسار العالمي للمرة الألف أن لابديل في المرحلة الحالية عن النظام العالمي القائم، وأنه ما بوسع، لا روسيا ولا الصين ولا إيران ولا غيرها من الدول، أن تأسس هذا البديل في هذه المرحلة لأن كل هذه الدول باتت تلعب اللعبة نفسها، ووفقاً لذات القواعد، وإن قدّمت في بعض الأحيان ما يمكن اعتباره شروطاً أفضل، كما تحاول الصين أن تفعل من خلال تأسيس مصرف التنمية العالمي الجديد الذي أسّسته بالتعاون مع دول البريكس الأخرى (أي روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا). لكن هذه الخطوة، إن أثبتت نجاحها، لن تغير قواعد اللعبة كثيراً، لأنها لا تمثّل إلا نوعاً من المضاربة على بعض مؤسّسات النقد العالمية الغربية المنشأ أو الواقعة تحت تأثيره.

لن تؤدي أية من هذه التطوّرات إلى انتصارات للفلاحين والعمال والفقراء، بل ستعود عليهم بالويلات، وسيدفعون ثمنها أولاً وغالياً. وإذا لم يكن بوسع اليساريون أن يستوعبوا هذه الحقيقة بمضامينه الخطيرة، كما تدلنا على ذلك احتفالاتهم الحالية، فذلك لأنهم ماهوا في منظورهم الإيديولوجي ما بين الشر والغرب. إذ لم يعد بوسع الشرّ أن يأتي من الشرق في منظورهم على ما يبدو، لأن شعوب الشرق أضعف وأكثر تخلّفاً من أن تقدر على ذلك. فالشرق ضحية، الشرق خصيّ. نعم، لقد أصبح اليساريون المفكرين الأكثر استشراقاً في العالم. واليونان المعاصر، على الرغم من كل ما قدمه اليونان القديم للحضارة الغربية، بات يعد في منظور الكثيرين جزءاً من الشرق لا الغرب.

بل لقد قام الباحث الإسرائيلي آموتز أسائيل مؤخراً استناداً إلى التطورات الحالية في اليونان بتشجيع اليونان على مغادرة الاتحاد الأوروبي والعمل على إحياء رؤية أسكندر المقدوني القديمة من خلال تأسيس اتحاد ليفانتي بالتعاون مع تركيا وقبرص ومصر وإسرائيل والفلسطينيين، مع ترك المجال أمام سوريا ولبنان للانضمام لاحقاً عندما تسمح أوضاعهما الداخلية بذلك.

ولا يوجد أية مشكلة في هذا المقترح، بل، ومن منطلق شخصي، أرى أن مشروعا من هذا النوع يتماشى مع الرؤية التي طرحتها "مؤسسة ثروة" في بيانها الصادر في دمشق في عام 2003 الذي حفّز الحكومات والمنظمات المدنية الإقليمية على العمل لإطلاق كمنويلث مناطقي يمكن له أن يشجع العملية التنموية في المنطقة ويسمح لها بالتعامل مع بعض القضايا المناطقية والقومية والفئوية الحسّاسة بمرونة أكثر، لأن أية تنازلات سيادية وأي تعديل في الحدود إذا ما ترافق مع عملية تجميع من خلال الانضمام إلى كمنويلث مناطقي مشترك لن يخلّف الكثير من الآثار السلبية على الدول المعنية وشعوبها، بل على العكس، سيساهم هذا التطور في بناء جسور للثقة ما بين المكونات المختلفة للمنطقة سامحاً لشعوبها بتركيز جهودها على القضايا التنموية.

ويبقى هذا الطرح في هذه المرحلة حلماً، ولن يكون له تأثير إيجابي ملحوظ فيما يجري في اليونان وسوريا، وغيرها من دول المنطقة، من تطورات مأساوية.



الأحد، 3 مايو 2015

ما بعد الإيديولوجيا


1.

السياسة بمفهومها المعاصر هي فن وعلم إدارة المصالح الجمعية الحيوية. وللمبادئ دورها الهام هنا، خاصة في المجتمعات الديموقراطية، لكن ليس على حساب المصالح، وهذا سرّ تخبّط الغرب المستمر في تعامله مع المجتمعات الأضعف والأفقر. إن إغراء استغلال التفوّق المادي والحضاري لخدمة مصالح جوهرية يبدو أقوى من أي مبدأ.

ومع ذلك، وخلافاً للاعتقاد السائد في منطقتنا وربما العالم، الأمر ليس بهذه السهولة، فهناك نقاش جدي يجري في الغرب حول ضرورة وكيفية الموازنة ما بين المبادئ والحقوق من جهة، والضرورات والمصالح الجمعية الحيوية للدول الغربية والنامية من جهة أخرى. ولهذا النقاش دور كبير ومتزايد في صنع القرارات المصيرية في الغرب خاص حيالنا. لكنا وما بقينا ضعفاء ومصرّين على الاصطفاف وراء أنظمة وعقائد بائدة لا تنتج إلا الموت ولا تستقطب إلاه، لا يمكن لنا أن نضغط على الغرب لتغيير سياساته حيالنا. وسيبقى الغرب يتأرجح ما بين سياسات منفتحة على مصالحنا الجمعية وتلك اللامبالية بها إلى حين ننجح في خلق توازن تنموي وسياسي معه. وللغرب، ولأمريكا تحديداً، دور إيجابي محتمل فيما يتعلق في بناء نظام أكثر عدلاً فيما لو عرفنا كيف ندفع في ذلك الاتجاه عن طريق العمل على بناء شركات مع التيارات المختلفة فيه، عوضاً عن الانكفاء على أساليب وخطاب الممانعة العدمية.

2.

ولا نملك في الواقع رفاهية العمل مع تيار سياسي واحد في الغرب، سواء كان يمينياً أم يسارياً، فمن الواضح أن أولويات هذه التيارات لا علاقة لها باحتياجاتنا، بل باحتياجات مجتمعاتها المادية والمعنوية، وبرؤى إيديولوجية قد لاتتناسب مع مصالحنا العميقة. إن انتقادات هذه التيارات لمجتمعاتها حتى فيما يتعلق بالسياسات الخارجية هو انتقاد داخلي بحت يهدف إلى الكشف عن حقائق وأطراف وعمليات لها علاقة بتحولات داخلية في هذه المجتمعات وتفعالات مراكز القوى المختلفة فيها. إن استخدام هذه الانتقادات من قبلنا دون فهم للأبعاد الداخلية المكونّة لها يجعلنا نتعاطى مع العالم من منظور مشوَّه ومشوِّه.



ودعونا لا ننسى في هذا الصدد أن هذا النقد الداخلي ليس موضوعياً دائماً، بل غالباً ما يعكس الصراعات الإيديولوجية والمصلحية الدائرة ما بين القوى المختلفة المشكّلة للمجتمع، لذا، فغالباً ما يصلنا مشوباً بالأكاذيب والمبالغات والاتهامات المغرضة التي يصعب تحليلها والتعرّف عليها حتى من قبل أذكى المحللين والخبراء المحليين ناهيك عنّا بجهلنا المدقع لواقع الحياة السياسية في الغرب، أو للحياة السياسية بشكل عام. لذا، ترى معظمنا يأخذ من هذه الانتقادات ما يناسب تصوراته المسبقة عن الغرب وحسب.

3.

لكنا لا نملك رفاهية الإيديولوجية والتصورات المسبقة، ولا رفاهية الخلط ما بينها وبين المبادئ المستندة إلى الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. إن الدعوة إلى تعاملنا مع الأمور من منطلق ذرائعي لن يؤدي إلى التخلي عن المبادئ، كما يروّج البعض، بل هو انتصار وتفعيل لها. لا ينبغي على الصراعات الداخلية للغرب وللمنظومة السياسية والأمنية الدولية والإقليمية أن تملي علينا أولوياتنا، بل عليها أن تنبع من احتياجاتنا الخاصة واستقرائنا لواقعنا المعاش. وأذا اقتضى الأمر من أجل تلبية هذه الاحتياجات أن نتواصل مع أمريكا أو فرنسا أو حتى إسرائيل فليكن، فالتواصل لا يعني التنازل عن الحقوق ولايؤدي إليه. إن إعادة بناء أي جزء من سوريا على أية حال، سيتطلب منا الكثير من التواصل والتنازل في المستقبل. وربما لو عرفنا كيف نتواصل في الماضي لما وجدنا أنفسنا في هذا الموقف اليوم.

4.

آن الأوان لندرك أن معظم منتقدي النزعة الإمبريالية عند القوى الغربية لا يسعون في الواقع إلى وضع حدّ للمغامرات الإمبريالية بشكل عام بل فقط إلى المغامرات الغربية وذلك لتعارضها مع مغامراتهم الخاصة. لذا، نرى أن انتقاد إيران لإمبريالية أمريكا والغرب لم يمنعها من الانخراط في مغامرات إمبريالية خاصة بها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكذلك نرى أن انتقادات روسيا لأمريكا لم تمنعها عن اجتياح جورجيا أو القرم أو شرق أوكرانيا.

أما فيما يتعلق بانتقادات شخصيات يسارية تعيش في الغرب لسياسات الغرب مع امتناعها عن انتقاد سياسات مثيلة لروسيا وإيران فهي إما ناتجة عن عماء إيديولوجي يرى في المغامرات الإمبريالية الغربية خطورة أكبر على أمن العالم من تلك التي تقوم بها روسيا وإيران وغيرها من الدول الاستبدادية، أو محض سذاجة، أو، وبصريح العبارة، عمالة.

ولنسأل أنفسنا هنا، وفيما يتعلّق بالثورة السورية تحديداً، هل قدّمت هذه الشخصيات اليسارية الغربية التي طالما ادعت أنها تدعم قضايانا، وطالما انتقدت المغامرات الإمبريالية الغربية، والسياسيات الإسرائيلية الصهيونية، أي مقترح منطقي وعملي لحلّ الأزمة في سوريا؟ وماذا فعلت غير أنها دافعت عن الأسد ونظامه واتهمتنا وبإصرار بالسذاجة والعمالة، وساهمت بنجاح بتقيّض محاولاتنا للتحصّل على دعم حقيقي للثوار أو حتى إنشاء منطقة حظر جوي كان يمكن لها فيما لم تم فرضها عندما طالبنا بها في منتصف 2011 أن تمنع التصعيد الذي نراه الآن، إن لم توقفه؟

إن في هذه المواقف أكبر دلالة على أننا لا نتعامل مع أشخاص منسجمين مع المبادئ التي يدّعون الإيمان بها، أو التي نظنّ جهالة منا أنهم يؤمنوا بها، وأن الاتهامات التي كالوها لنا عبر السنين الماضية ربما انطبقت عليهم أكثر.

لكن الواقع أن معظم هذه الشخصيات اختارت خوض غمار صراع داخلي لتغيير بنية مجتمعاتها، مدفوعة إلى ذلك بمزيج من المصالح الطبقية والرؤى الإيديولوجية، وأنها لا تقل استعداداً للمتاجرة بنا وقضايانا من خصومها الإيديولوجيين، بل هذا ما دأبت عليه عبر العقود الماضية، لكن معظمنا لم يتنبّه إلى ذلك لأن الأمر كان يتطلّب فهماً أعمق للعالم من حولنا، بثقافاته المتنوّعة والطبيعة المتشابكة لصيروراته الحقيقية. ولن نتمكن أبداً من فهم طبيعة هذه الصيرورات طالما أصرّينا على معالجة الأمور من ذات المنظور الذي أخذناه عن هذه الشخصيات. نحن بحاجة لمعالجة الأمور بتجرّد أكثر، وبعيداً عن أية أحكام مسبقة.

5. 

غالباً ما تجد الدول القوية وعبر التاريخ نفسها عرضة لإغراء المغامرات الإمبريالية، حتى دولة ضعيفة مثل سوريا لم تستطع أن تقاوم طويلاً إغراء استغلال الصراع الدائر في لبنان (الأضعف) في سبعينات القرن الماضي للانخراط في مغامرتها الإمبريالية الخاصة. الإمبريالية إذاً موجودة في البنية الجينية للدول، وعلينا أن نتعامل مع الأمر من هذا المنطلق. ومن هذا المنطلق، لا يوجد أي مبرر إيديولوجي للعداء مع الغرب، وأفضل طريقة لمقاومة أي توجه إمبريالي غربي هو السعي إلى تقوية موقفنا التفاوضي معه من خلال إجراء تحالفات إقليمية مصلحية، ولا تقوم هذه التحالفات إلا على أساس التنمية، والتبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي والأمني والعسكري، أما قضايا مثل الانتماءات  القومية أو الدينية أو الطائفية فغالباً ما تثبت أنها عوامل تفتيت وتهديم للتحالفات خاصة في حال تم محاولة استخدامها كحجر أساس لها، وذلك نظراً للتنوع المدهش الذي تعرفه المنطقة بهذا الخصوص، ونظراً لبروز شرائح اجتماعية هامة لم تعد ترى في هذه الانتماءات، الديني منها خاصة، طريقة مناسبة للتعريف عن نفسها وآمالها.

الإمبريالية: نهج سياسي يسعى لتوسيع رقعة نفوذ بلد ما من خلال النشاط الدبلوماسي، أو القوة العسكرية لمت في ذلك المغامرات الاستيطانية وتأسيس المستعمرات والتبعيات.

من ناحية أخرى، هناك دائماً مجال حقيقي للحوار مع الدول الديموقراطية، خاصة في حال نجحنا في تقوية موقفنا عن طريق بناء تحالفات إقليمية و/أو من خلال بناء علاقات مع التيارات السياسية المختلفة في هذه الدول والمؤسسات الفاعلة فيها. لكن هذه الفرصة غير متاحة فيما يتعلق بالدول ذات الأنظمة الاستبدادية، التي غالباً ما ستصرّ على تبعية الدول الضعيفة لها، دون أن تترك مجال للحوار إلا فيما يتعلق بطبيعة الالتزامات الناجمة عن هذه التبعية.

6.

نحن نعيش هذه الأيام في زمن الشركات العابرة للحدود، وهو الأمر الذي يرى فيه الكثيروا من منظّري اليسار واليمين شراً مستطيراً. لكن الحقيقة كالمعتاد أعقد من كل نظرياتهم.

فهذه الشركات، وإن مثّلت من خلال مجالسها الإدارية مصالح نسبة مئوية محدودة فقط، ربما أقل من 0.1%، فهي تمثّل، بشكل أو آخر، من خلال مكاتبها ومعاملها وأملاكها الشاسعة وارتباطاتها بالأسواق المحلية والعالمية مصالح عشرات بل مئات الملايين من الناس. وقد لا يكون هذا التمثيل عادلاً، لكن العدالة فيه لن تتحقّق من خلال إعلان الحرب على هذه الشركات والدعوة إلى تدميرها، الأمر الذي سيضرّ بمصالح الفئات الاجتماعية الأضعف قبل أن يؤثّر على مصالح الفئات النافذة والتي بحكم موضعها ستبقى أكثر قدرة على المناورة والتأقلم من باقي الفئات.

وهل سيصبح العالم أفضل فعلاً فيما لو غابت عن الوجود فيه شركات مثل إكزون وشل وتوتال وبريتيش بتروليوم، وفورد ومرسيدس وتويوتا، وكرافت ونستله وبيبسي كو، وجوجل وأبل ومايكروسوفت، وجونسون وجونسون وبفيتزر وآسترا زينيكا ونوفارتيس، وغيرها وغيرها؟ وهل أفرز منتقدو هذه الشركات ورأسماليتها "الاحتكارية البغيضة" بدائل أفضل عنها لإدارة الاقتصاد العالمي وإنتاج وتوزيع الأدوية والأغذية وتحسين حياتنا المعيشية على مختلف الأصعدة؟ وفي حال توفّر بدائل محلية هنا وهناك، فهل يمكن من الناحية العملية تصدير هذه البدائل وتفعيلها على المستوى العالمي؟ وهل هناك من يعمل بجدّ على هذا الأمر؟

من ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار الشركات النفطية والغذائية والإلكترونية والدوائية التي تتخذ من الصين وروسيا وغيرها من البلدان مقراً لها بديلاً أفضل عن الشركات الغربية، على الرغم من أنها تلعب وفق القواعد المبهمة إياها، بل وتستغلّ تواجدها في بلدان غير ديموقراطية للتلاعب بالسوق والناس بأكثر مما يمكن لنظيراتها العاملة في الدول الديموقراطية أن تفعل؟

الواقع أن معظم الانتقادات التي تتعرّض لها الممارسات الرأسمالية والإمبريالية لدول الغرب بشركاته ومؤسساته، قديمها وجديدها، لا تزيد عن كونها غطاءاً لمخطّطات لا تقلّ في جوهرها، إن لم يكن في حجمها، رأسمالية وإمبريالية عنها، ون اختلفت هوية اللاعبين والمستفيدين.



7.

ولا يتناقض اعترافنا بهذا الواقع مع حاجتنا إلى دفع الشركات العابرة للحدود لتصبح أكثر شفافية وعدلاً فيما يتعلّق بكيفية إدارة نشاطاتها وتوزيع أرباحها. لكن قدرتنا على النجاح في هذا المسعى ستبقى مرتبطة وبشكل حميم بمدى ديموقراطية النظم السياسية التي تنشط فيها هذه الشركات. من هذا المنطلق، فلاشكّ في أن العمل على تسهيل انتشار الديموقراطية في المزيد من الدول حول العالم سيعطينا فرصة أكبر لإصلاح عمل هذه الشركات وإعادة هيكليتها بما يتناسب مع تطلّعاتنا إلى عالم أفضل وأكثر عدالة لكل من فيه. في حين لا يمكن لإعلان الحرب عليها إلا أن يؤدّي إلى انتشار الفوضى. وحدها المجتمعات التي تحترم الحسّ الإبداعي في كل شيء من الفن إلى إدارة الإعمال يمكن لها أن تنمو وتنتعش. علينا أن نأخذ هذه الحقيقة بالاعتبار ونحن نطالب بوضع قواعد ناظمة لعمل المبدعين على اختلاف مشاربهم.

8.

وربما تواجهنا في الحياة أوقات قد لايكون لدينا فيها رفاهية الخيار، ونضطر فيها إلى التعامل مع الفوضى بكل مخاطرها، السافرة والكامنة، لكن السعي الواعي والحثيث وراء الفوضى ظنّاً منّا أنها الحل، أو أنها ستمهّد الطريق إليه، فهو نمط من الفكر لا ينجم إلا عن عقلية حاقدة وعدمية لا يمكن لها أن تفضي إلا إلى الدمار، والدمار فقط. وعلينا لذلك أن نناضل ضدّها كما نناضل ضدّ أية منظومة استبدادية، لأن ما ينتعش في أوقات الفوضى هو الاستبداد والظلم، لا الحرية والعدالة.

9.

قبل أن ندعو إلى دمار الشركات الرأسمالية الكبيرة العابرة للحدود، دعونا نسأل أنفسنا أولاً: هل بنينا بدائل حقيقية عنها قادرة على تمثيل مصالح الملايين من البشر الذين يعتمدون في معيشتهم عليها؟ وهل يمكننا أن ندّعي فعلاً أننا ندرك بالفعل مدى توغّل هذه الشركات ومساهمتها في تشكيل حياتنا اليومية، بحاضرها ومستقبلها، بإيجابياتها وسلبياتها؟

ولايغرنّنا في تعاملنا مع هذه الشركات تلك القصص التي نسمعها بين الحين والآخر عن مدى فساد كبار مدرائها ومستثمريها، ومدى غرائبية أولوياتهم الناجمة عن انقطاعهم عن الواقع المعاش لمعظم البشر. فهذه القصص تنبؤنا أكثر عن حدود النفس البشرية منها عن واقع عمل هذه الشركات وتأثيرها في حياتنا.

وفي الحقيقة، تتطلب منا احتياجاتنا اليومية أن نتعامل مع هذه الشركات كما نتعامل مع أية مؤسّسة تعمل في الفضاء العام وتؤثّر فيه، فهذا بحدّ ذاته يعطينا حقّ مسائلتها عن طبيعة نشاطاتها، وحقّ تحديد هذه النشاطات، وحقّ محاسبة هذه الشركات وفق القوانين المتفق عليها في المجتمع. وكلما كان المجتمع حراً وديموقراطياً كلما كانت فرصنا في مسائلة هذه الشركات ورسم الحدود المناسبة لها ولنا أفضل. أما المبالغة في العدوانية تجاهها فغالباً ما يجعلنا عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل قوى وجهات ربما كانت أجنداتها بالنسبة لنا أخطر لأنها تبقى مستبطنة.

وهنا لبّ المشكلة، فهذه الحرب التي نرى البعض يعلنها على الشركات الكبيرة العابرة للحدود هي في الواقع حرب كاذبة، زائفة، واهمة وخلّبية، وهي حرب على الشركات الغربية تحديداً من قبل أخرى طامحة إلى إضعافها وتبادل الموقع معها وحسب. إذ لا توجد أية نية هنا لتغيير قواعد اللعبة بشكل إيجابي، وكيف يمكن أن يتأتى هذا ومعظم اللاعبين هنا هم في الواقع ممثّلون للنخب الحاكمة في بلدان استبدادية الطابع مثل روسيا والصين وإيران. أي أن اللعبة هنا هي مجرّد امتداد للعبة السياسية التي أشرنا إليها سابقاً، بل هي الدافع الحقيقي وراء اللعبة السياسية.

10.

إن اليسار الذي نجح في الغرب هو اليسار الذي عمل ضمن الإطار العام لاقتصاد السوق، فنبذ التوجّهات الإيديولوجية المطّاطة وفضّل التركيز على القضايا التفصيلية مثل النقابات وحقوق العمال، والرعاية الصحية، والتعليم، وحقوق المرأة، والشؤون البيئية، وحماية المستهلك، إلخ. إن نسيان أو تناسي هذا الأمر من قبل النخب اليسارية اليوم سيعيد اليسار عقوداً إلى الوراء، وسيحوّله إلى حركة عدمية مفرزة  للإرهاب على غرار الحركات الفوضوية في مطلع القرن العشرين.

إن اليسار الذي عاد إلى البروز على الساحة السياسية الغربية اليوم هو يسار زائف تحركّه أيدي ونوايا وقوى احتكارية استبدادية فاسدة تجعل من انتقاداتنا واعتراضاتنا على الحكومات والمؤسسات والشركات الغربية تبدو وكأنها شكاوى طفولية. وماعلينا هنا إلا معاينة سلوكيات الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الروسية والصينية والإيرانية، وتصرفات كبار مدرائها ومستثمريها لنعرف ما الذي ينتظرنا. أنه ليس عالماً أفضل وأكثر حرية وشفافية وامتثالاً للمسائلة الشعبية، وأكثر عدلاً فميا يتعلّق بتعامله مع العامل والفلاح والمدرّس والفنان والمبدع، بل هو عالم أكثر صلافة فيما يتعلّق باستهتاره بحقوق الناس وقدراتهم واحتياجاتهم الأساسية.

11.

لكن، ومن الواضح أن اليمين في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، بات يتصرّف بالصلافة ذاتها، وذلك من خلال تلاعبه بالأنظمة السياسية والقانونية، وسعيه المستمر لإعفاء الشركات الكبرى ومستثمريها من أية مسائلة، على الرغم من تكاثر فضائحها وتعالي وتيرة الانتقادات الموجّهة لها فيما يتعلّق بكيفية إدارتها، وأدائها، واعتمادها المستمر، خاصة في أوقات الأزمة، على الدعم الحكومي. ولقد بات الكثير من الأكاديميين الغربيين ينظرون إلى بعض هذه الأنظمة السياسية، وخاصة النظام الأمريكي، على أنها باتت في جوهرها أقرب إلى الأوليجارشية منها إلى الديموقراطية. في الأمر الكثير من المبالغة بالطبع، خاصة في هذه المرحلة، لكنه جرس الإنذار يُقرع.

هناك في الواقع حاجة ملحّة إلى مراجعة الكثير من القواعد والقوانين الناظمة لعمل الشركات الكبرى في الغرب، والتي بات صلف بعضها يهدّد أمن الغرب ذاته من خلال تلاعبها بالنظام السياسي والضريبي، والتسهيلات المصرفية التي تقدمها لكثير من الجهات المريبة (التي ينحدر أغلبها من خارج الغرب)، إلى استعدادها للتعامل مع الأنظمة المعادية للغرب وتصدير التقنية لها، إلخ.

12.

أما فيما يتعلّق ببعض القوى الصاعدة والديموقراطية الطابع مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، فالواقع أنها، وبسبب أنظمتها الديموقراطية، وبصرف النظر عن تصريحات زعمائها السياسيين والتي غالباً ما تعكس حسابات سياسية داخلية ونادراً ما تؤثر على السياسات العملية الناظمة لعلاقة هذه الدول مع الدول الغربية، ستبقى تحافظ على علاقات ودية مع الغرب، وستبقى تتمحور حول البنى العالمية الاقتصادية والمالية والسياسية والقانونية التي بناها، وجلّ ما ستحاول التوصّل إليه هو بناء شركات أكثر تكافئاً معه.

13.

إن سرد بعض الحقائق مثل كون نصف الثروة المالية في العالم مملوكاً من قبل أقل من 80 شخصاً قد يبدو وكأنه إدانة واضحة للرأسمالية، لكن التدقيق في الأسماء يوضح مدى تعقيد القضية، فالائحة تشمل شخصيات مثل بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، ومارك زكربيرج، مؤسس شركة فيسبوك، ولاري بيج وسيرجي برين، مؤسسي شركة جوجل، وغيرهم. أي أننا نتعامل هنا ليس فقط  مع شخصيات قد يكون لبعضها ارتباطات ونشاطات مشبوهة (ومعظم هذه الشخصيات بالمناسبة تقطن دولاً غير ديموقراطية، مثل روسيا والصين والسعودية، أو دولاً ما تزال عمليات التنمية والتحديث فيها متأخرة مثل الهند والمكسيك ونيجيريا)، بل مع الكثير من الشخصيات الإبداعية التي لعبت وماتزال أدوراً إيجابية في حياتنا عن طريق الشركات التي أسّستها. ليس من العدل أو الحكمة أن نتعامل مع كل هذه الشخصيات وكأنها مجبولة من عجينة واحدة.



لكن، ما بوسعنا إنكار الإشكالية المتمثّلة في ظاهرة الثراء الفاحش، لأن الثراء نفوذ ذو تجليات سياسية واجتماعية جمّة ومتشابكة، بل مستترة، وبصرف النظر عن النوايا، وهنا لبّ المشكلة. من ناحية أخرى، لا يمكننا تجريم الإبداع، أو التعامل معه بكثير من الارتياب، أو وضع حدود غير مدروسة لمدى قدرة المرء على تحويل إبداعه إلى ثروة.

الواقع أن الثروة، كما الإبداع، مسؤولية والتزام، أي قضية ذات أبعاد سياسية واجتماعية وأخلاقية، لكن التعامل مع القضية من هذا المنطلق يتطلّب خطاباً أقل عدوانية وأكثر عقلانية من الخطاب السائد حالياً في الأوساط اليسارية التقليدية.

14.

إن استغلال الشركات الغربية للعمالة الرخيصة في مجموعة من الدول النامية يستحق الإدانة في بعض تجلّياته المتمثّلة في عمالة الأطفال وعدم احترام القواعد المتعلّقة بشروط العمل الآمنة والعادلة، لكن الإدانة العامة للظاهرة تتجاهل الدور الإيجابي لهذه الشركات في تحسين الشروط المعاشية للمجتمعات المحلية عند توفر الرقابة المناسبة بالطبع. وعلينا أن لا ننسى هنا مسؤولية الدول المضيفة في الإشراف على نشاطات هذه الشركات، ولاشك في أن العمل على تقوية المجتمعات المدنية المحلّية وعلى زيادة نسبة الانفتاح السياسي في البلاد المضيفة سيلعب دوراً هاماً وفاعلاً فيما يتعلّق بقضية الرقابة.

15.

إخفاقاتنا المتكرّرة في تحقيق أهدافنا ليست مفاجأة، وعليها أن لا تثبط من عزائمنا، فنحن ومنذ ولدنا نعمل في الزمن الضائع في وجه تحدّيات شبه مستحيلة، لكن نجاحاً واحداً قد يكفي لقلب المعادلة، وهو لن يتحقّق من خلال العمل ضمن القوالب المعهودة. نحن لسنا بحاجة لأفكار جديدة وحسب، بل إلى طرق وأنماط جديدة للتفكير والتحليل لكي نتمكّن من تحقيق النجاح المنشود.

16.

علينا أن نضع الإنسان قبل أي اعتبار أو مفهوم سياسي في حساباتنا، بما في ذلك مفاهيم كالسيادة والحدود، فهذه الأمور كانت وستبقى دائماً عرضة للتغير، وحده الإنسان هو الثابت هنا، والتنمية هي الضرورة الحقيقية التي تواجهنا، لأنها مفتاح تحقيق التوازن الذي قد يسمح لنا بالحفاظ على وجودنا في خضم صراعات لم نختارها لكننا، شئنا أم أبينا جزء منها، وسنبقى.

17.

نحن لا نمثّل لا الأمويين ولا العباسيين ولا العرب ولا المسلمين، بل ولا أحد من الشعوب الماضية أو الحاضرة، لا أحد ما خلا أنفسنا. وإذا كانت هويتنا كسوريين بحدّ ذاتها ما تزال مائعة بحيث أخفقت في منع اندلاع هذه الحرب التي نخوضها اليوم، فكيف لنا أن نفكّر بما هو أكبر منها؟ نحن بحاجة إلى بداية جديدة، ولا يمكن لهذه البداية أن تبدأ من دون نقاش مفتوح حول هويتنا المعاصرة.

من نحن؟ لا، لسنا بحاجة للاتفاق على جواب واحد واضح لهذا السؤال، بل على طريقة تسمح لنا بتقديم إجابات مختلفة دون أن ننقلب على بعضنا البعض ونمعن تخويناً وتكفيراً وتقتيلاً في أنفسنا، نحن بحاجة للاتفاق على كيفية مناسبة لرسم الحدود ما بين فضائاتنا الحيوية المختلفة لكي نعيش، ونحسن العيش، فننمو وننضج.

18.

نحن لسنا مسؤولين أمام آبائنا وأجدادنا بقدر ما نحن مسؤولون أمام أبنائنا وأحفادنا. رأي السلف فينا لا يقدم ولايؤخّر، لأنه لا يمكن لنا إلا التكهّن حول طبيعته وحسب. أما رأي أبنائنا وأحفادنا فينا، فمعظمنا سيسمعه قبل موته، ولا أعتقد، نظراً لواقعنا المعاش، أنه سيكون إيجابياً بمجمله، فمن كان أكثر اهتماماً بما ومن مضى منه بما ومن سيأتي لن يزرع ما يكفي من المحبة والاستحقاق في حاضره ليكترث به ذلك الأتي.

نحن نحصد اليوم كشعب أو شعوب ذات اللامبالاة التي زرعناها في أنفسنا بالأمس القريب، وسيبقى حالنا كذلك حتى نتّخذ أولادنا وأحفادنا غايات سامية تستحقّ منّا كلّ تضحية، ونتوقّف عن استخدامهم كوسائل وأدوات لخدمة نرجسياتنا، وقرابين وأضاحيّ لها.

19.

لقد جاءت ثورات الربيع العربي بالنسبة للكثير منا كثأر للماضي واستجرار لآلامه أكثر منها انفتاحاً على المستقبل وعلى التغيير الذي لابد له أن يجلبه في طياته، ولهذا فشلت، على الأقل في مراحلها الأولى هذه، فهي في الواقع ما تزال مستمرة. والأمر نفسه بالنسبة ينطبق على من عارض الثورات ووالى الأنظمة، فولا تغلغل الماضي في وعيهم وذواتهم، لأبصروا الاحتمالات الإيجابية التي يمكن للتغيير أن يجلبها لهم فيما لو شاركوا في تشكيله.