‏إظهار الرسائل ذات التسميات العراق. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العراق. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

ملاحظات حول أصل داعش

سمير غانم: "لا المتين بينفع ولا المتينة، علأصل دوّر!"
ابن الوردي: "لا تقل أصلي وفصلي أبداً، إن أصل الفتى ما قد حصل"


السيرة الذاتية لأحد أهم قياديي داعش الراحلين تلقي أضواء جديدة على أصول تنظيم الدولة الإسلامية – هذا هو محور حلقتنا الأساسي لهذا الأسبوع.

الجولة الإخبارية

في تونس، التونسيون يحتجون بالآلاف على زيارة بن سلمان لبلدهم
في فرنسا، استمرار احتجاجات ذوي السترة الصفراء
في واشنطن، الرئيس ترامب ينتقد قرار جنرال موتورز تخفيض موظفيها بنسبة 15%
في لقاء إعلامي، كلينتون تشجع الدول الأوروبية على تقييد الهجرة
في مصر، شيخ الأزهر يختلف مع طروحات الرئيس السيسي فيما يتعلق بدور السنة النبوية
فاز ورب الكعبة! القائد الشيشاني رمضان قاديروف يزور قبر الرسول في مكة
في الهند، مقتل مبشر أمريكي خلال محاولته التبشير في جزيرة نائية

الملاحظات التحضيرية لهذه الحلقة:

داعش – هذه المنظمة الإرهابية العالمية التي ما تركت جريمة إلا وارتكبتها عبر السنين الماضية سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو مصر أو غيرها من الدول، غالباً ما يربط الباحثون نشأتها بالغزو الأمريكي، وبفشل الإدارتين الأمريكيتين السابقتين على التعامل معها بشكل فعّال. لكن، وبعيداً عن التسييس، تبدو قصة نشأة داعش أكثر ارتباطاً بطبيعة المجتمعات في المنطقة منها برد فعل على السياسات الأمريكية.

دراسة مهمة جداً للباحث والصحفي المتميز حسن حسن نشرت مؤخراً على موقع ذي أتلانتيك يتحدى كل ما كتب من قبل حول نشأة تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش والذي ربط ظهور هذه المنظمة بالغزو الأمريكي مباشرة.

الدراسة استندت إلى كتاب تم تداوله مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي المدارة من قبل الإسلاميين. مؤلف الكتاب هو ابن أحد أهم قياديي داعش: عبد الرحمن القادولي، وهو عراقي من محافظة نينوى والمعروف باسمه الحركي أبو علي الأنباري، ويتعامل الكتاب المؤلف من 93 صفحة مع حياة أبو علي الأنباري ونشاطاته خلال فترة التسعينات إلى أن قتل في 2016. استند مؤلف الكتاب على يوميات تركها أبو علي الأنباري نفسه وعلى لقاءات عدة مع الجهاديين الذين عملوا معه. واستند حسن حسن في دراسته على هذا الكتاب وعلى لقاءاته الخاص مع الخبراء بل وبعض المتمردين السوريين الذين احتكوا بأبو علي وداعش خلال الحرب في سوريا.

قبل الدراسة، كانت هناك قراءة مجتزأة لقضية ظهور داعش، قراءة أهملت ما حصل في المجتمع العراقي قبل الغزو، خاصة في الفترة الواقعة ما بين تحرير الكويت والغزو نفسه. لجوء نظام صدام حسين للدين في تلك الفترة كان واضحاً، خاصة في إضافة شعار الله الأكبر إلى العلم الوطني. بل تم عقد مؤتمرات سنوية للتنظيمات الإسلامية المتشددة في بغداد، كامتداد لحملة تشجيع التدين التي تم أطلاقها في ذلك الحين.

وهذا ما يقودنا إلى النقطة التالية: 

في رأيي أن جذور قضية التشدد الإسلامي في العراق أقدم حتى من هذا. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حالة الضعضعة التي شهدها المجتمع العراقي نتيجة الحرب مع إيران. على السطح بقي المجتمع علمانياً، والتزم صدام حسين بتشدقه بالعروبة، لكن الواقع أن حروب لعبت فيها الطائفية دوراً كبيراً في التجييش الشعبي، وفي مجتمع كان للتركيبة الطائفية فيه أهميتها الوجودية حتى قبل ذلك من حيث اعتماد صدام ومن معه على تأييد طائفة معينة وعشائر معينة، لا يمكن للتشدد الديني ألا يلعب دوره في الموضوع. صحيح أن الانتماءات الطائفية لا تكون دائماً دينية الطابع، وغالباً ما تأخذ طابعاً عشائرياً وقبلياً، لكن، في العمق، الدين هو الأساس، والاختلافات الطائفية والتمايز الطائفي هي في جوهرها تعبير على اختلافات عقائدية. ومن الطبيعي أن يصبح هذا التعبير أكثر فجاجة وتقليدية وتشدد وطهرانية في أوقات الأزمات. بمعنى، أن المجتمع العراقي الذي ظهر بعد الحرب كان كتلة من الاحتقانات، إذ تقوقع كل مكون، سواء عرّف نفسه على أسس دينية أو طائفية أو عشائرية على نفسه، زادت نسبة التعصب والعزلة والتشكك عند كل مكون، وأصبح الوضع مهيأ لانفجار داخلي، وأعتقد أن سياسات صدام الصدامية مع دول جوار مثل الكويت بعد الحرب مع إيران كانت تعبيراً عن ذلك، ومحاولة لإيجاد طرق لتفريغ الشحنات.

الحرب مع إيران هي التي مهدت لانهيار المجتمع العراقي وظهور التشدد العرقي والمذهبي، ومن ثم جاءت حرب الكويت وفترة الحصار لتمهد بالتدريج لتأسيس للعمل المنظم على هذا الأساس، وبالتالي لظهور القاعدة، بل جسد أكثر تطرفاً منها: كيان يضع الصراع مع الشيعة والأنظمة العلمانية في صلب اهتماماته ويعمل عليها بالتزامن مع حربه مع الغرب والولايات المتحدة والعالم.

بالعودة إلى أبو علي الأنباري، خريج كلية الشريعة في جامعة بغداد في عام 1982، والذي قاتل في الحرب ضد إيران، فمن الواضح الآن أنه بدأ نشاطاته في منتصف التسعينات، كإمام يخطب ضد الشيعة والمتصوفة في تلعفر في شمال العراق، ومن ثم كمقاتل مع التنظيمات الجهادية الكوردية. وبعد هجمات 11 أيلول الإرهابية، وبحسب سيرة أبو علي الأنباري نفسه، تم تأسيس "نواة للإمارة" الداعشية في تلعفر.

"وجهات نظر الأنباري المتطرفة، التي انعكست في وقت لاحق على "تنظيم الدولة"، تشكلت قبل الغزو الأمريكي للعراق، وقبل أن يلتقي بالزرقاوي."...  "الاستعدادات للجهاد كانت تنضج، من حيث التمويل والرجال والأسلحة... كل هذا كان يحدث في ظل حكم البعث". (الرابط)

دعنا نتوقف هنا قليلاً لنقارن الوضعين في العراق وسوريا: العراق في التسعينات تحت الحصار، أصبح مثل سوريا في الثمانيات تحت الحصار. نعم كان هناك قمع للإخوان وللإسلاميين المعادين للسلطة، لكن، كان هناك تشجيع للفكر الجهادي الموجه ضد الغرب، وكانت تجري مؤتمرات سنوية للإسلاميين المتشددين برعاية وزارة الأوقاف، واستمرت هذه النزعة عند نظام الأسد حتى في فترة التسعينات وما بعد، المؤسسات الإسلامية الرسمية وشبه الرسمية، استخدمت للتواصل مع الحركات الجهادية العالمية. طبعاً، هذا الوضع أعطى الأجهزة الاستخباراتية السورية تصور دقيق عن عمل هذه المنظمات والقدرة على اختراقها، وهذا ما جعل الكثير من الأجهزة الاستخباراتية العالمية تنسق وتتعاون معها على الرغم من التضارب في السياسات. وبعد غزو العراق، استغل النظام السوري هذه الخبرة في بناء شبكات وخلايا إسلامية لمقاومة الوجود الأمريكي هناك. ولما بدا واضحاً للنظام أنه لا يوجد نية عند إدارة بوش لغزو سوريا، بل على العكس، أن دعمه للجهاديين هو الذي يمكنه أن يدفع الأمريكيين لتوجيه ضربات عسكرية لسوريا قد تزعزع استقرار النظام، بدأ حملة من الاعتقالات بحق الجهاديين، وهم الجهاديون الذين أطلق سراحهم في بداية الثورة، أصبحوا قادة للحركات الجهادية في سوريا، بما فيها النصرة أو فتح الشام وداعش.

وهكذا نرى كيف ساهم النظامين العلمانيين الطائفيين في كل من سوريا والعراق بتسهيل ظهور وانتشار الحركات الجهادية المتطرفة في كلا البلدين.

موقف عمار

البنية التحتية السياسية والفكرية والمجتمعية اللازمة لانتشار الفكر المتشدد وظهور منظمات إرهابية كالنصرة وداعش كانت موجودة قبل عقود من الغزو الأمريكي للعراق، ونشأت عن السياسات التي انتهجتها الأنظمة الحاكمة وفشل النخب المعارضة لها، سياسياً وفكرياً، في فرز بدائل واضحة ومقنعة. داعش، النصرة، حزب الله، نظام الأسد، نظام صدام، كلها سلع محلية المنشأ، إن لم تعجبنا، فلنسعى إذن لتغيير ما بأنفسنا.

الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الدولة الحداثية والهوية والحركات الانفصالية

أحتفالات في أربيل بنتائج استفتاء الاستقلال - 29 أيلول، 2017

الحرة / من زاوية أخرى – إذا عرّفنا الدولة الحداثية على أنها ذلك الكيان الذي يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل من فيه من أفراد ومكونات، فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يتماهى مع الهوية الخاصة بأي من مكوناته المؤسسة، سواء كان الأمر يتعلق بالهوية القومية أو بالانتماء الديني أو بعقيدة سياسية بعينها
.

من هذا المنطلق، تمثل المساعي الانفصالية المختلفة والرامية إلى تأسيس دول جديدة قومية الطابع خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بعمليات التحديث والتطوير المجتمعي، سواء تجلّت هذه المساعي في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب. والأمر نفسه في الواقع ينطبق على تلك المساعي الهادفة إلى إعادة تشكيل دول قائمة على أسس دينية أو أيديولوجية، كالدعوة إلى أسلمة الدول أو تبني الشريعة الإسلامية كقانون ناظم لها. لكنا سنركز نقاشنا هنا على الحركات القومية بالذات.

لا يعني كلامنا السابق بالضرورة أن كل حركة انفصالية تشكل بالضرورة حركة رجعية من الناحية الفكرية والقيمية. إن التركيز شبه الحصري على البعد القومي هو الأمر الإشكالي هنا، وهو ما يسم الكثير من هذه الحركات بصفة الرجعية. والمثير في الموضوع عند تعاملنا مع هذه الظاهرة هو أن معظم الحركات القومية الانفصالية جاءت كردة فعل على الاضطهاد الذي تعاني منه قوميات معينة في إطار دول محكومة من قبل أنظمة وتيارات قومية التوجهات بدورها، أي أن معظم مؤيدي هذه الحركات يدركون تماماً حجم المخاطر التي غالباً ما تنجم عن تبنّي توجهات قومية في ما يتعلق بتعريف الدولة وحكمها. ومع ذلك لا يرى أصحاب هذه التيارات أي تناقض ما بين طروحاتهم وتوجهاتهم القومية وبين واقع الاضطهاد والتهميش الذي يحاولون الهروب منه، على الرغم من أنه سيكون لزاماً عليهم، فيما لو تكللت مساعيهم الانفصالية بالنجاح، أن يتعاملوا مع تحديات مماثلة، أي تحديات ناجمة عن وجود قوميات أخرى في إطار "وطنهم القومي" المنشود، قوميات قد يكون لها رؤية وتفسير مختلفان تماماً للتاريخ وللحدود، علاوة على مخاوفها المشروعة في ما يتعلق بمستقبلها في هذا الوطن الجديد. هذا ناهيك عن الإشكالية الناجمة عن أن قيام دولة قومية جديدة غالباً ما يأتي على حساب تفتيت دولة قومية قائمة وبالتالي على حساب الرؤية القومية الخاصة للتيارات والشرائح النافذة فيها. ولهذا، غالباً ما تؤدي هذه "الإشكالية" إلى اندلاع حرب ضروس نادراً ما يحسمها قيام هذا الكيان القومي الجديد، حتى في حال حصوله على اعتراف دولي.

يكمن المخرج من هذه الورطة في التركيز على المطالبة بالعدالة والحقوق الأساسية والأمان، وفي إدراك أن الانفصال لا يزيد عن كونه مجرد أداة من الأدوات التي يمكن لها أن تحقق هذه المطالب في بعض الظروف. لكنه يبقى الأداة الأكثر راديكالية، كما أن قدرته على تحقيق هذه المطالب ليست فورية في معظم الأحيان، كما تدلنا السوابق التاريخية. لذا، لا ينبغي اللجوء إليه إلا في حال فشل الأدوات الأخرى.

لقد رأينا أية شرور انبثقت من مجرد التلويح بالانفصال في كل من كوردستان العراق وكاتالونيا، وبوسعنا أن نتابع ما يحدث اليوم في جمهورية جنوب السودان التي انفصلت ولم يتحقق فيها لا الإمان ولا الاستقرار ولا الحرية، بل لم تنته مواجهاتها بعد مع النظام في الخرطوم. ورأينا ما حدث في السابق في البلقان الذي ما تزال الأوضاع الأمنية في دوله الجديدة معرضة للانهيار في أية لحظة.

نعم، لقد تحقق الانفصال في تشيكوسلوفاكيا دون حرب، ولم يسفر الاستفتاء في استكلندا عن أية اضطرابات أو قلاقل اجتماعية، وما كان من المتوقع له أن يسفر عن أية ممارسات عنفية حتى في حال جاءت نتيجته بالإيجاب، وكذلك الأمر في ما يتعلق بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروربي والذي يمثل نوعاً من الانفصال. وهنا بيت القصيد. لقد لعبت البنية المجتمعية والمنظومة السياسية الخاصة بهذه الدول دوراً كبيراً في قيادة الحوار وتشكيل الإطار الخاص بالعمليات السياسية المتعلقة بقرار الانفصال، هذا علاوة على قضية التوقيت وعلى الشروط الإقليمية والدولية الخاصة التي كانت سائدة في تلك اللحظات الحرجة التي حدثت فيها هذه العمليات وتم فيها اتخاذ القرارات الحاسمة.

على المطالبين بالانفصال أن يأخذوا كل هذه الأمور والشروط والسوابق بعين الاعتبار وأن يوازنوا ما بين رغباتهم ومطالبهم الخاصة، مهما بدت لهم مشروعة، وبين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف السائدة حالياً على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي. وإذا كانت النخب السياسية المسؤولة عن قيادة الحركات الانفصالية المختلفة تعاني في هذه المرحلة من خلخلة أو تشرذم ما ومن عدم استعداد للالتزام بشكل مناسب بالعملية الديموقراطية في عملها بما في ذلك القبول بالمساءلة الشعبية وبقواعد الشفافية وتداول السلطة والابتعاد عن المحسوبيات، فمن حق المرء، بل يتوجب عليه أن يتساءل عن طبيعة الدولة المستقلة التي ستديرها هذه النخب.

إن في التركيز على تحقيق الانفصال في هذه المرحلة، بل وعلى التعامل مع مفهوم الانفصال وكأنه الطرح الأمثل لتحقيق العدالة، تبديدا للطاقات الحيوية للشعوب المعنية، والتي ستعطي مفعولاً أكبر فيما لو جُيرت للمطالبة بالتزام أكبر من نخبها السياسية بأسس العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وبالعمل على تحقيق إدارة أكثر فاعلية لعمليات التنمية المحلية، إلى آخره من تلك القضايا التي يتم التعامل معها وكأنها مسائل فرعية في حين أنها تشكل حجر الأساس في ما يتعلق بقيام الدول العادلة القادرة على تحقيق الأمان لشعوبها، ولكل مكون من مكوناتها بصرف النظر عن خلفيته القومية أو الدينية أو المذهبية.


الأحد، 3 أبريل 2016

سوريا والحوار المغيَّب حول تفاعلات الهوية والطائفية، والأقليات والأكثرية


أثبت تاريخنا المعاصر أنه لا يمكن للأقليات الدينية أو الطائفية أن تكون حامل العَلمانية في مجتمعاتنا إن إردنا لهذه المجتمعات أن تكون ديموقراطية أيضاً. كما لا يمكن للأكثرية الدينية أو الطائفية في مجتمعاتنا أن تكون ديموقراطية حقاً ما لم تكن عَلمانية أيضاً، لكن، لا يمكن لهذه الأكثرية أن تتبنى العَلمانية ما بقيت الأخيرة تستخدم كمبرر فكري وسياسي لاستبداد الأقليات، وما بقي مفهوم العلمانية بحد ذاته مشوهاً في أذهان الأقليات والأكثريات على حد سواء.

فالنزعات الأصولية المتشددة عند الأقليات في مجتمعاتنا لا تقل في الواقع تشدداً عما نراه عند الأكثريات، وإن اختلفت المظاهر، وأحياناً المسوغات. ففيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية مثلاً، لا يقل رفض الأقليات الدينية لها عنفاً عنه عند الأكثرية المعنية. علاوة على ذلك، تقوم بعض الأقليات باستخدام اختلاف عاداتها وتقاليدها وأعرافها، و/أو مظلوميتها التاريخية الخاصة، كمبرر لازدراء الأكثرية وحقوقها وللتشكيك المستمر بنواياها مستغلين وجود شرائح متشددة في صفوفها، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى نشأة هذه الشرائح، وعن رفض الأكثرية المعنية لها كونها تشكل تهديداً لهذه الأكثرية أيضاً.

ويهيمن عند هذه الشرائح المتشددة في صفوف الأكثرية مفهوم للعلمانية يجعلها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية لهذه الأكثرية، خاصة في تلك الحالات التي تصر فيها النخب الثقافية عند هذه الشرائح على فكرة حصر "الحاكمية" بشرع الله، مما يقتضي أن تقوم الدولة على أساس الدين. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطائفة السنية، فالشيعة أيضاً يعانون منها تحت مسمى ولاية الفقيه، ومسميات أخرى.

لكن، إلى أي حد تمثل هذه الشرائح الأصولية المتشددة الطائفة التي تنتمي إليها، وما هو مدى نفوذها وتأثيرها؟

بصرف النظر عن طبيعة الإجابات التي يمكن أن تنشأ عن التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة، تكمن المشكلة الحقيقية في وجود إجابات مسبقة عليها عند الجماعات الطائفية المختلفة، إجابات لها مصداقية ووقع في نفوس المعنيين بها أكبر من أية معايير موضوعية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد.

ففي سوريا مثلاً، ترى أن وجود هذه الشرائح الأصولية عند أهل السنة يشكل سبباً كافياً عند الأقليات الدينية والطائفية  السورية لعدم الثقة بهم نهائياً فيما يتعلق بإدارة الدولة وأجهزتها الحساسة، خاصة القطاعات العسكرية والأمنية، بصرف النظر عن الحجم الديموغرافي الحقيقي لهذه الشرائح، وحقيقة كونها تشكل أقلية ضمن الأكثرية، وبصرف النظر عن وجود شرائح سنية واسعة حافظت على ولائها للأسد أبان الثورة، وأخرى صامتة. من هذا المنطلق جاء شعار "الأسد أو نحرق البلد،" والشعار الأفصح منه "كس أخت الحرية،" علاوة على هالة القداسة التي أسبغت على البسطار العسكري، لتشكل أصدق وأجلى تعبير عن المخاوف التي تجول في نفوس الأقليات في هذه المرحلة، بحيث يصبح اختيار العيش في ظل الفساد والقمع الممنهجين لنظام الأسد، أو حتى اختيار الفوضى والتفتيت، خير من حكم أهل السنة. وتأتي جهود النخب الأقلوية المثقفة لتقديم الكثير من التحاليل "العقلانية" لتبرير هذا الموقف الشعبي لطوائفهم كمؤشر على الكيفية التي يتم من خلالها تجنيد العقل لخدمة الخوف والعصبوية أولاً وأخيراً. ففي الواقع، هناك تغييب في هذه التحليلات، متعمد عند البعض، لكنه غير واعٍ عند السواد العام، بصرف النظر عن مكانتهم الفكرية، لكل المعطيات التي تناقض افتراضهم الأساسي حول طبيعة الثقافة السنية التي تبقى، من وجهة نظرهم، متعجرفة، وعنصرية، واستبدادية الطابع، وغير قابلة للتحديث، وذلك بخلاف الاعتقادات السائدة لدى معظمهم حيال عقائدهم الخاصة، والتي يخالها الكثير منهم أقرب إلى الحداثة أو  الإصلاح من عقائد أهل السنة. فقبول الشيعة الجعفريين بتساوي حصة المرأة والرجل في الإرث يجعل معتقداتهم أقرب إلى الحداثة، وكون العلويين أقل تعلقاً بمعتقداتهم الدينية يحعلهم أقرب إلى الحداثية، وكون المسيحيين مسيحيين يجعلهم أقرب إلى الحداثة لأنها الغربية المنشأ، والغرب "مسيحي." إن هذه الطروح على سذاجتها الصارخة تعتبر من المسلمات.  


لا يترك هذا الأمر  مجالاً كبيراً أمام أهل السنة للدفاع عن أنفسهم أو تبريرها. والواقع أنهم ليسوا أبرياء تماماً، فالسلطة مورست باسمهم في البلاد، أي سوريا الطبيعية، حتى ما قبل تأسيسها في العصر الحديث، على مر قرون من الزمن، ولا شك في أن لهذا الواقع  أثره الكبير على أنماطهم السلوكية والفكرية العامة، أنماط قد تغيب عن انتباههم، لكنها لا تخفى على الأقليات. فـ "نون" الجماعة التي غالباً ما تستخدم في الخطاب السوري الرسمي الموجه للعموم، وفي معرض الكلام العام عن "ثقافتنا" و "قيمنا" و "مبادئنا و "همومنا"... تشير في الواقع إلى الثقافة والقيم والمبادئ والهموم كما يفهمها أهل السنة بالدرجة الأولى، بل المحافظون والمتدينون والمدينييون منهم على وجه الخصوص. ولقد سعى نظام الأسد عن قصد وإدراك وبشكل منهجي إلى تكريس هذا الواقع لما فيه من تهميش لثقافات وقيم وتطلعات الأقليات بالذات، مما لا يترك أمامها إلا خيار الاصطفاف وراءه.

وإن كانت الخيارات الإيديولوجية السياسية للأقليات تعكس إلى درجة ما مخاوفها حيال الأكثرية، أهل السنة في الحالة السورية، فقلما عكست الخيارات السنية، حتى الآونة الأخيرة على الأقل، تفهماً حقيقياً وعميقاً لهموم ومخاوف وتطلعات الأقليات الدينية والطائفية في البلاد، ناهيك عن الأقليات القومية، ولكونها تختلف في جوهرها وفي الكثير من تفاصيلها عن نظائرها عند أهل السنة. وفي هذا الأمر بحد ذاته دلالاته الخاصة التي تسبغ بعض الشرعية على مخاوف وشكوك الأقليات حيال أهل السنة.

لكن المشكلة الأكبر تكمن في رفض الأقليات الدينية والطائفية التعامل الصريح مع هذه القضية حتى اليوم، أي في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من أهل السنة يشعرون بأهمية وحقيقة وخطورة هذه القضية، قضية حقوق الأقليات والترتيبات المتعلقة بحمايتها، وأصبحوا يبدون استعدادهم للتعامل بانفتاح أكبر معها، وإن اختلفت طروحاتهم في هذا الصدد. وربما يكمن السر وراء هذا الرفض الأقلوي لطرح حقوقهم على مائدة البحث بشكل صريح ومن خلال مناقشة ترتيبات بعينها يمكن لها أن تضمن حقوقهم في المستقبل في أن هذا الأمر يشير بوضوح إلى وجود عامل أصولي و "رجعي" في فكر وسلوكيات الأقليات أيضاً، وهو الأمر غير المقبول من قبل النخب المثقفة والسياسية عند الأقليات التي تصر على إلصاق تهمة الأصولية والرجعية بالأكثرية السنية حصراً، في الوقت الذي تطرح فيه هذه الأقليات نفسها، عن طريق نخبها الفكرية والسياسية، كرائدة التطور والتقدم والتحديث في سوريا، بل والمنطقة. لذا، ترفض هذه النخب، في خطابها على الأقل، وبصرف النظر عن طبيعة الممارسات السياسية للنظام الذي حكم سوريا بإسمها وبذريعة ضمان أمنها عبر العقود الماضية، التعامل مع قضية "حقوق الأقليات،" وتصر على اكتفائها بمفاهيم المواطنة والمساواة. ويشكل هذا الإصرار، من الناحية العملية، رفضاً لأي بديل لما هو قائم: نظام استبدادي يحكم باسم الأقليات، ويقمعها أيضاً ليكرس قبضته عليها ويمنعها من إفراز أية بدائل داخلية له، لكنه يختص بالذات ويتفنن في قمع الأكثرية.

لقد ساهم الإحساس بالمظلومية التاريخية حيال أهل السنة في صنع هوية أقلوية معاصرة ترضى لنفسها العيش تحت نير الاستبداد، طالما بقي أهل السنة بعيداً عن سدة الحكم، بصرف النظر عن الاعتبارات الديموغرافية والحقوقية والإنسانية، أو عن بوجود عوامل مشتركة في الهويات الجمعية لدى الجميع.

لقد أصبح شعور الأقليات الدينية والطائفية في سوريا بالأمان مرتبطاً ببقاء أهل السنة في القفص وتحت حكم البسطار العسكري. أضف إلى ذلك، ونظراً للكيفية التي استخدمت بها القوى الخارجية في السابق، واليوم، قضية حقوق الأقليات وحمايتها كمبرر لحملاتها الاستعمارية والاستيطانية في البلد والمنطقة، يبدو من الطبيعي أن تتجنب النخب الممثلة للأقليات أي طرح صريح يمكن أن تشتم منه رائحة التقسيم والسياسيات التفضيلية، إذ لا تريد  هذه النخب أن تتهم بأنها طابور خامس يسعى لخدمة مخططات خارجية. وإن كانت الوقائع منذ بداية الثورة تشير إلى أن من يحكمون سوريا باسم الأقليات كانوا هم السباقين إلى الاستعانة بقوى الخارجية لحمايتهم، وأنهم هم من يخلق وعن قصد واقع التقسيم على الأرض، وهم من قام بحملات تطهير عرقي قبل غيرهم، وعلى نطاق أوسع، وأحرقوا خاصة تلك المناطق من البلاد التي يسكنها أهل السنة، وأنهم هم من سعى ومن اللحظة الأولى لنهجهم القمعي حيال الثورة إلى تأمين تلك المناطق التي تسكنها أقلية بعينها، وتعتبرها موطنها الأصلي. 

هكذا، وبسبب وجود موقف عدائي مسبق من الأغلبية السنية، وبسبب جهل النخب الفكرية والسياسية السنية لهذا الواقع بمضامينه المختلفة، أو تجاهله، وبسبب التبني المسبق من قبل الجميع لنظريات المؤامرة التي، وإن كان لها مبررات تاريخية، ساهمت رؤانا المؤدلجة في تضخيمها إلى درجة لم نعد نعي فيها مقدار مساهمتنا في بناء واقعنا المعيشي والسياسي، وأنا نتحمل القسط الأكبر عما يجري في حياتنا وما يقع علينا من ظلم، كان من السهل على البعض منا تصديق أكاذيب الأسد حول "المندسين" و "المؤمرات الكونية،" ومن السهل على البعض الآخر الإنجرار وراء الأحلام الغيبية والرؤى المتشددة. لقد ساهم انغلاق الأقليات على نفسها لقرون سابقة، نتيجة للنظام المللي العثماني الذي حماها وعزلها في آن، على الأقل في أواخر عقوده، وعلى الرغم من انفتاحها على المستعمر الفرنسي خلال وجوده في البلاد، والذي ترك رحيله عندها إحساساً بالخذلان طالما تجاهلته أدبياتنا، بل على العكس، ظهر تيار فكري وأدبي ركز على تواطئ بعض التجار السنة مع المستعمرين الفرنسيين، فيما تم تجاهل التواطئ الأقلوي الأعمق والأكثر شعبية، ساهم هذا الانغلاق  في تكوين مظلومية حادة عند الإقليات الدينية والطائفية في سوريا مبنية على أساس تراكمي تحكمه المزاجيات والذاكرة الجمعية النفعية والمكرسة للعصوبية الخاصة بكل فريق، أكثر من الحقائق التاريخية والتمحيص والتحليل الموضوعي لها. بمعنى آخر، هناك الكثير من الأوهام إلى جانب الحقائق في إحساس الإقليات بالمظلومية، والكثير من التحامل على فئة مسحوقة مثلهم، حتى وإن كانت تشكل الأكثرية.

ولهذا، لن يقدم ممثلو الأقليات المقبولين شعبياً (إذ لا تهم في إطار هذا التحليل هنا المواقف الفردية لبعض الشخصيات طالما بقي نفوذهم ومصداقيتهم على المستوى الشعبي محدوداً للغاية) أي حل منطقي للأزمة، وسيدأبوا على رفض المقترحات والرؤى الموضوعة من قبل التحالفات التي تشرف عليها الأكثرية، لأنها ستبقى دائماً مقصرة، خاصة وأن الحل المثالي الذي ترتاح إليه الأقليات يبقى مرتهناً، كما نوهنا آنفاً، إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، مهما كانت سيئة. فمن الأسهل على الأقليات من الناحية النفسية أن تتمسك بإيمانها بأنها الضحية الأساسية لأهل السنة ولطموحات الأسد ومن حوله وفسادهم، ولثلة من المؤامرات الخارجية من الدول ذات الأغلبية السنية، مثل تركيا والسعودية وقطر، علاوة على أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من أن تواجه حقيقة مساهمتها الملوسة في صنع هذا الواقع.  باختصار، سيبقى ممثلو الأقليات في خطابهم العام يتمسكون بالوحدة والسيادة الوطنية، لكن ستبقى أفعالهم وخطابهم الداخلي الخاص يمهد للتقسيم والتفتيت والفوضى والإرهاب، حتى ذلك الممارس باسم أهل السنة ونصرتهم، وذلك  من خلال تورط النظام في إنشاء وتشجيع الجماعات الإرهابية. فالخوف هو الحاكم هنا: الخوف من أهل السنة، المضطهِد والظالم والمذنب الأول بحق كل الأقليات، كما يرى السواد الأعظم فيها.


ولقد ساهمت كل هذه الاعتبارات من ناحية، والنزعة أو العقلية "المركزية" عند أهل السنة من ناحية أخرى، والتي تضعهم دائماً، كما هي الحال مع سائر الأكثريات التقليدية، في مركز الصيرورات وعلى قمة الهرم، وهي الحقيقة التي تتجلي دائماً في تصرفاتهم وسلوكياتهم وكيفية اتخاذهم للقرارات التي تنم كلها عن فوقية وعنجهية يشعر بها الجميع ما خلا أصحابها... كل هذه الأمور والاعتبارات ساهمت في تشكيل ذلك الاتفاق الضمني الذي يبدو أن النخب الفكرية السياسية والاجتماعية والدينية التي شاركت في عهد التأسيس لسوريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قد توصلت إليه بطريقة أو أخرى.

ويتجلى هذا الاتفاق في التناسي المنهجـي لطبيعة التحولات السياسية المختلفة التي ساهمت في تشكيل الدولة السورية الحديثة، بما فيها الخلافات والحوارات التي دارت بين النخب السياسية والاجتماعية المختلفة حول طبيعة الدولة، والكيفية التي تم من خلالها الاتفاق على تأسيس دولة واحدة وليس دولتان، أو ثلاث، أو أربع، وتغييب الكثير من الأحداث التي ساهمت في تشكيل الوعي آنذاك، مثل أسباب محاكمة وشنق عضو البرلمان سلمان المرشد، العلوي الأصل والمنشأ، بعد مرور أقل من ثلاث أشهر على إعلان استقلال دولة سوريا بتهمتي الخيانة والردة، ومثل التفاصيل المتعلقة بالإنقلابات العسكرية المختلفة وأسبابها الحقيقة، إلخ. فالكتب المدرسية والجامعية، سواء تلك التي أنتجت في المرحلة البعثية أو التي جاءت قبلها، لم تتعامل أبداً بشكل موضوعي مع المرحلة التأسيسية، هذا علاوة على تغييب أو منع الكتب والمذكرات التي كتبتها الشخصيات السياسية والفكرية التي عاصرت هذه المرحلة الهامة وساهمت في تشكيلها. ومما لا شك فيه أيضاً وقوع الكثير من التزوير والتشويه في بعض هذه الكتابات خاصة تلك التي ما تزال متداولة بشكل مفتوح.

خلاصة الكلام: إن مسألة التنوع الطائفي وحقوق الأقليات، بل حقوق جميع المكونات، الآن وقد أصبح لأهل السنة في سوريا مظلوميتهم الخاصة حيال باقي المكونات، أهم من يتم التعامل معها عن طريق تفادي الغوص في التفاصيل، وتجاهل المظلوميات المتراكمة والانطباعات النمطية الخاطئة، والاصرار على التمظهر بالتمدن من خلال تبني شكلياته وتجاهل فحواه. لن تفيدنا في الفترة القادمة الدساتير والاتفاقيات والوثائق التي تضعها النخب من خلال حوارات ونقاشات مغلقة، نحن بحاجة إلى عقد حوار مفتوح حول مجمل قضايانا، بالتركيز على قضية تنوعنا بالذات، قبل تبني أية وثيقة نهائية. إن أية محاولة لتناسي الإشكالات والعوامل التي ساعدت على اندلاع الحرب الأهلية في ربوعنا، وسمحت بالتدخل الخارجي فيها، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الماضي وبالتالي إلى التمهيد إلى صراع جديد في المستقبل.

وحتى ذلك الحين، علينا أن نحسن التعامل مع عهد الانتداب الجديد والمتنوع، المباشر منه وغير المباشر.

الثلاثاء، 8 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (1)



| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

لا يهدف النشاط العسكري الأمريكي في شمال-شرق سوريا، وبصرف النظر عن محاولة البنتاجون تمييع الأخبار في هذا الصدد، إلى بناء قواعد جوية لمحاربة داعش فحسب، بل هناك حسابات أخرى أهم وأطول أمداً، على رأسها الاستعداد للانفجارات المحتملة في المستقبل القريب في كل من آسيا الوسطى والقفقاز ودول الخليج، خاصة السعودية، وربما في تركيا وإيران أيضاً. إن وجود قواعد عسكرية في تلك المنطقة بالذات يعطي أمريكا خيارات أكثر وأفضل مما هو متاح الآن للتعامل مع هذه المتغيرات واستثمارها لخدمة مصالحها. وتأتي هذه الخطوة وفقاً لسيناريوهات تم وضعها منذ عقود، وتم تحديث تفاصيلها بشكل دوري لتعكس التغيرات الإقليمية والدولية المتعاقبة.

وبسبب وجود هذه المخططات من ناحية، نلمس تلكؤاً واضحاً لدى إدارة أوباما فيما يتعلق بمحاربة داعش، فبناء القواعد المنشودة وتجهيزها بشكل يتناسب مع احتياجات الاستخدام المستدام يتطلب بعض الوقت، ربما سنتين أو ثلاث أو أكثر. من ناحية أخرى، فلدى البنتاجون وإدارة أوباما حزمة من المخاوف المشروعة فيما يتعلق بالمواجهة مع داعش في هذه المرحلة، خاصة من حيث قدرتها على التصعيد من خلال تدمير الجسور والمنشآت النفطية الرئيسية الواقعة تحت سيطرتها، وذلك في حال قررت قياداتها أن المواجهة أصبحت خاسرة، وأن الأوان قد آن لتفعيل خيار شمشون الشهير: "علي وعلى أعدائي." إذ سيكون لهذا التطور، في حال وقوعه، تبعات خطيرة جداً على شرائح واسعة من السوريين والعراقيين، وقد يؤدي إلى مقتل مئات الألوف من الناس خلال ساعات قليلة فقط، علاوة على تشريد الملايين، وانقطاع الطاقة الكهربائية في معظم المدن الرئيسية لفترة قد تمتد لأشهر، وهي فترة كافية لتفعيل انهيار كارثي في الاقتصديات والأوضاع المحلية وعلى المستوى الوطني. لذا، تتطلب المواجهة مع داعش في هذه المرحلة وضع استراتيجيات دقيقة لتجنب وقوع هذه الاحتمالات الأسوأ، وللتعامل الفاعل معها في حال وقوعها، ومعظم هذه اللاسترتيجيات تتطلب أن تكون المواجهة مع داعش في هذه المرحلة الحساسة استنزافية الطابع، في حين يتم التحضير لسلسلة سريعة من عمليات خاطفة تهدف إلى استعادة السيطرة على معظم المنشآت الحيوية في فترة قصيرة، أو لعملية كبيرة واحدة تهدف إلى استعادة السيطرة على هذه المنشآت بالتزامن.

ومن الأسباب الأخرى وراء الطريقة الحذرة التي تتعامل بها إدارة أوباما مع داعش، والتي لا تقل أهمية عما سبق ذكره، وجود لاعبين آخرين على الساحة يقومون باستغلال داعش وتجييرها بأساليب مختلفة لخدمة مصالحهم، ونخص بالذكر هنا إيران التي كانت وراء قرار الجيش العراقي التخلي عن الموصل والانسحابات التي تلت ذلك، والتي هدفت من خلال ذلك إلى إيجاد ساحة أخرى للتعاون والتقارب مع إدارة أوباما، بعدما أدركت إيران طبيعة الخطوط الحمر الحقيقية لها.


إذ يخطأ هنا من يسند كل تحليلاته على ثبات الموقف الإيراني حيال الولايات المتحدة ودورها في الشرق المتوسط. ففي الواقع، بدأ قادة إيران في المرحلة الأخيرة يدركون مدى استحالة طرد الولايات المتحدة من المنطقة كلية ومدى حماقة معاداتها بشكل أعمى. قد لا يكون بوسع القادة الإيرانيون التخلي نهائياً عن نزعاتهم الإيديولوجية الإسلاموية الطابع في هذه المرحلة، أو في أي وقت، لكنهم، كالصين من قبلهم، والروس اليوم، باتوا يدركون وجود إمكانية للتعاون مع عدوهم الأول في بعض الأمور، مع استمرار التنافس بل الصراع في أمور أخرى. هذا هو جوهر الاعتدال الإيراني الذي تتكلم عنه إدارة أوباما ومؤيدوها من أتباع الواقعية السياسية  اليوم. إنه اعتدال فيما يتعلق بالتعامل مع الولايات المتحدة خصوصاً، والغرب عموماً، ومصالحهما في المنطقة والعالم، ولا علاقة له بأية نزعات إصلاحية داخلية.

إن استجرار إيران للولايات المتحدة إلى الساحة العراقية من جديد إذاً ساهم في شرعنة وجودها ونفوذها ليس فقط في العراق بل وفي سوريا ولبنان (من خلال حزب الله) واليمن وأفغانستان أيضاً. ولا ننسى قيام الإدارة في مثل هذا الوقت من العام الماضي بشطب اسم حزب الله اللبناني من لائحة المنظمات الإرهابية. وتكللت هذه الخطوات من قبل الطرفين بتوقيع الاتفاق حول برنامج إيران النووي، وهو الاتفاق الذي يكتفي بتأخير البرنامج لمدة عشر أعوام، يسعى خلالها الطرفان إلى بناء المزيد من الثقة بينهما.


على المدى الطويل، قد تدفع إيران غالياً ثمن هذه الخطوة، لكنها، وفي هذه المرحلة على الأقل، تبقى هي المستفيد الأكبر بالمقارنة مع القوى الإقليمية الأخرى ماخلا روسيا. فإيران اليوم باتت ترسم سياساتها وتحركاتها بحرفية ودقة أكبر من تلك التي نراها عند الأتراك أو السعوديين اللذين ما تزال سياساتهم في هذه المرحلة تتميز بالتخبط والارتجالية. 

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الأحد، 24 يناير 2016

النصر الحضاري

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قام بزيارة إلى إيران في 23 تشرين الثاني، 2015 التقى فيها مع علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني.

إلى كل من يرى في الصفقة النووية انتصاراً ذا أبعاد حضارية وليس مجرد انتصاراً دبلوماسياً، اسمحو لي أن أذكركم أن العراق قبيل قرار صدام غزو الكويت كان على وشك تصنيع قنبلة ذرية وكان قد طور صواريخاً باليستية قادرة على إطلاق أقمار صناعية، وكان صدام يدير دولة مؤسسات قوية، وإن كانت خاضعة للعائلة الحاكمة وعدد من حلفائها، وهنا بالذات لب المشكلة التي أطاحت بكل ما تم إنجازه في عهده على حساب تضحيات ومعاناة الشعب العراقي. ففي مرحلة ما، وبعد فترة من النشاط، يؤدي الاستبداد بطبيعته التي تعظم من شأن الطبقة الحاكمة الحاكم، وتهتم بتنمية الولاء أكثر من اهتمامها بتنمية القدارات، إلى تعطيل الإنجازات وتهديمها.

لذا، ونظراً للطبيعة الاستبدادية الراسخة في النظام الحاكم الإيراني، يعد الكلام عن وجود أبعاد حضارية لـ "النصر" الإيراني الحالي ضرباً من  الهراء، فبضعة من الإنجازات التقنية والعسكرية المحدودة مصطحبة بشيء من المهارة الدبلوماسية لا تكفي لصنع حضارة. ففي عالمنا المعاصر هذا لا يمكن بناء الحضارة في غياب الحرية، ولا يمكن للدول القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو العقيدة السياسية أو القومية المغلقة (أي القومية التي تصر على التنكر لحقوق عناصر قومية أخرى في ربوعها)، والتي تعد بالضرورة دولاً رافضة للحداثة، أن تصنع حضارة. وعبر التاريخ بأسره لم تؤد الانتصارات العسكرية إلى قيام الحضارات ما لم تأت مصحوبة بانفتاح على المعرفة والعلم. إذاً، وفي الوقت الحالي، وبالمعنى الحضاري، لا وجود لمنتصر في منطقتنا. هناك فقط ثلة من الأشقياء يتصارعون على الفتات.


الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الطريق إلى الفوضى!

أوباما والمالكي

في وقت يقوم فيه البلهاء ذاتهم الذين نصحوا أوباما بـ "ضبط النفس" فيما يتعلق بالتدخل في سوريا بتحريضه على توجيه ضربات عسكرية في العراق للدفاع عن حكومة المالكي الطائفية بالتعاون مع إيران، والإنخراط في تحرك ضد قوات التمرد السني، التي لا تشكل فيه داعش إلا جزءاً من تحالف واسع، بخلاف ما يُشاع عبر وكالات الإعلام، من المهم في هذه المرحلة لبعض ما تبقى من أصوات عقلانية على الساحة أن تضغط من أجل صياغة سياسة واضحة الهدف فيما يتعلق بالتطورات الراهنة في المنطقة، بخاصة في سوريا والعراق.

ففي السابق، أدى التقاعس الناجم عن الخوف من العواقب المحتملة إلى تحويل هذه العواقب إلى  نبوءات ذاتية التحقيق (سوريا)، وأدت ردود الأفعال غير المدروسة والضربات التي وجهتها طائرات بدون طيار في غياب عملية سياسية للتعامل مع النتائج إلى تطورات كارثية على الأرض (اليمن، باكستان)، من حيث تعزيز التطرف وتسريع عمليات التفتيت المحلية. لم يعد من الحكمة بمكان للولايات المتحدة أن تثابر على هذا النمط الكارثي للتعامل مع المجريات، إذ لم يعد شعوب المنطقة تحمل المزيد من الآلام الناجمة عن ذلك.

إن تدخل الولايات المتحدة في العراق في هذه المرحلة، ما لم يترافق بإطلاق عملية سياسية إقليمية تهدف إلى معالجة الأوضاع في العراق وسوريا، سيضعها وبشكل مباشر في صف المعسكر الشيعي في المنطقة في معركته المستجدة ضد نظيره السني، وستكون الولايات المتحدة بذلك قد اختارت التدخل في صراع طائفي عنيف لم يبلغ ذروته بعد. ولا يهم في هذه المرحلة إذا كان الجانب المستهدف أولاً هو داعش أو غيرها من المجموعات التابعة لتنظيم القاعدة، فالتدخل العسكري ضد داعش في غياب عملية سياسية تهدف إلى التعامل بشكل فعال مع المظلومية السنية ومخاوفهم الوجودية الحقيقية والبينة أمر سيكون له انعكاسات سلبية كبيرة في المجتمعات السنية في المنطقة، بما فيها الأوساط العلمانية.

ودعونا لا ننسى هنا أن بروز داعش على الساحة ما كان ليحدث بهذه السرعة والقوة لولا دعم نظام الأسد وإيران. نعم، لقد نوهت في السابق أن داعش ليست عميلة للأنظمة الاستخباراتية السورية والإيرانية، كما يدعي البعض، وأنها منظمة مستقلة لها رؤيتها وأهدافها الخاصة، لكني نوهت أيضاً، أنه ومنطلق هذه الرؤية والمصالح، هناك عملية تنسيق واضحة بين داعش والنظامين في سوريا وإيران، وإن التركيز الإعلامي على داعش وتضخيم دورها على الساحة أمر يخدم مصلحة النظامين فيما يتعلق بالتحصل على تعاطف الغرب، ومصلحة داعش كذلك التي تريد أن تفرغ الساحة الثورية لها.

ولقد أكدت مؤخراً أيضاً أن الرئيس أوباما في رأيي على استعداد لرؤية المنطقة بأكملها تذهب إلى الجحيم، بدلاً من التدخل بأي شكل من الأشكال فيما يحدث فيها مرة أخرى، لكن، ونظراً لتزايد الضغوط عليه للتدخل في العراق، وفي مسعى محتمل لإقناع إيران بتقديم بعض التنازلات بخصوص برنامجها النووي، ربما يكون الرئيس أوباما على وشك القيام بتصرف غبي جديد. فتدخل أوباما في العراق بعد تقاعسه في سوريا سيخدم من جديد إيران وحلفائها، أي المعسكر الشيعي في المنطقة. وهكذا، سيكون أوباما، مستخدماً أقل ما يمكن من موارد مادية وبشرية، قد أقحم أمريكا في قلب الأحداث والتطورات المتسارعة في المنطقة، داعماً معسكراً بعينه ضد آخر، متخلياً عن حلفاء قدامى ومحتملين، ومتجاهلاً ما يجري من إبادة جماعية في سوريا، إن لم يكن مساهماً غير مباشر فيها، ومع كل ذلك، يُراد لنا الاعتقاد بأن هذا الموقف يعبر عن سياسات حكيمة ورشيدة.

هناك شيء ما أخرق في هذا كله، شيء يساهم في تمزيق نسيج المنطقة، وتحويلنا إلى وقود، ونحن، على ما يبدو، قد قبلنا هذا الدور.


الأحد، 15 يونيو 2014

داعش الغريبة

داعش في الموصل

تمثل الدولة الإسلامية في العراق والشام منظمة متطورة لها رؤيتها الخاصة لتي تسعى إلى فرضها على سكان بلاد الشام بالحديد والنار، تمااص كمعظم القوى على الساحة. لكن، وبسبب كثرة اللاعبين وتشابك الملفات، يبقى الوضع الحالي في المنطقة وضع سائل جداً وشديد التعقيد، مما يخلق فرصاً كثيرة لظهور أنواع مختلفة من التحالفات الانتقالية الغربية، بصرف النظر عن الطريقة التي يتم بها التفاوض عليها بين الأطراف المختلفة، وبصرف النظر عن العداءات الإيديولوجية، إذ لاتهدف هذه التحالفات إلى إنهاء حالة العداء بين الأطراف، بل إلى تحقيق أهداف قريبة المدى، منها إخلاء الساحة من الخصوم الآخرين، وفي هذه الحالة القوى الأكثر اعتدالاً، وبالتالي قدرة على التواصل مع المجتمع الدولي للتحصّل على دعمه في مرحلة ما.

يمكن لهذه الوقائع والتطورات أن تكون مربكة بالنسبة للكثير من المراقبين، الذي يلجوء بعضهم، في سعيهم لفهم الأشياء، إلى تبني نظريات مثل ضلوع الأجهزة الاستخباراتية في سوريا وإيران بتأسيس وإدارة داعش. هذا لاينفي بالضرورة وجود اختراقات للأجهزة الاستخباراتية التابعة للنظامين في صفوف داعش، فهذا أمر ليس وارداً فقط بل هناك الكثير من الأدلة على وقوعه فعلاً، فهذه هي طبيعة اللعبة في هذه المرحلة، المرشحة للمزيد من التعقيد في المستقبل.

لكن، أحياناً، قد تصبح بعض الأمور أكثر وضوحاً مع مرور الوقت. فهاهي التطورات في العراق تجبر نظام الأسد على قصف مواقع تابعة لوحدات داعش. ولكن وبمجرد إضعاف داعش وعودة بعض التوازن إلى الأوضاع في العراق، كفكّ الضغط على بغداد على الأقل، قد يعود طرفا معادلة التطرف في سوريا: داعش والنظام إلى تنسيق جهودهم ضد الآخرين من جديد مما قد يسبب المزيد من الاستقالات في صفوف القيادات الأكثر اعتدالاً.


السبت، 14 يونيو 2014

بالطبع أوباما هو المسؤول!

بعض أهالي الموصل يغادرونها عقب دخول المتمردين

هل ستتدخل الولايات المتحدة لتنصر المالكي في العراق؟ إذا كان أوباما صادقاً عندما قال، في إشارة إلى الأوضاع في سوريا، أن أمريكا لن تتدخل لتحسم نتائج "حرب الآخرين الأهلية،" فلا يبدو من المحتمل أن تقدم أمريكا دعماً جدياً إلى المالكي.

أما فيما يتعلّق بالغارات الجوية، فأمريكا ستكون بحاجة إلى أهداف واضحة للقيام بذلك، لكن المتمردين السنة في الموصل والبلدان لأخرى أصبحوا اليوم مختلطين مع السكان المحليين، لأن معظمهم عراقيين أساساً، بل ومن سكان المدن المعنية ذاتها، وليسوا مقاتلين أجانب في صفوف داعش، بحسب ما تتناقله وسائل الإعلام.

علاوة على ذلك، وفي الوقت الذي بدأت فيه ساحتا القتال في سوريا والعراق بالاندماج، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتوخى الحذر فيما يتعلّق بموضوع التدخّل في أي من البلدين الآن: إذ لدينا، من جهة، نظامان حاكمان فقدا كلية ما كان لديهما من بقايا شرعية واهية بسبب ارتكاسهما إلى حسابات طائفية صرفة، خاصة نظام الأسد المشغول حالياً بتنفيذ مخطط بشع للإبادة جماعية، ومن ناحية أخرى، هناك داعش وجماعات أخرى تابعة لتنظيم القاعدة. وفي الوسط هناك معظم السكان والثوار المعتدلون.

نعم، لقد خلقت أمريكا لنفسها، ولنا بالطبع، ومن خلال نشاطات وسياسات الإدارتين، السابقة والحالية، وضعاً لا يُحسد أحد عليه.

ونعم، لا يقع اللوم في هذا الصدد على معسكر إيديولوجي بعينه، لأن كل المتورّطين في الأمر من محافظين جدد وليبراليين جدد مواطنون أميركيون، ولقد قام الطرفان عبر السنين الماضية بتوجيه لكمة ثنائية قاضية ضد النظام الإقليمي القائم في الشرق الأوسط. لذا، لاتشكّل المسألة المتعلٌقة بهوية الشخص المقيم حالياً في البيت الأبيض أمراً هاماً بالنسبة للمراقبين على الساحة العالمية، وذلك بصرف النظر عن قناعاته الإيديولوجية، لأن مسؤوليته حيال ما يجري في العراق وسوريا لن تتغير.

لكن، وبالنسبة للمنتمين إلى معسكر أوباما، لابد وأن يكون سعر التباطؤ في التعامل وبحزم مع المجريات في سوريا قد أصبح واضحاً لهم اليوم، لذا عليهم أن يهرعوا الآن لوضع السياسات المناسبة للتعامل مع هذه المستجدات لكي يحتفظوا بما تبقّى لهم من مصداقية وماء وجه كقادة في هذا العالم، إذ ستكون عواقب استمرارهم في التسويف وخيمة للجميع، وليس فقط فيما يتعلّق بالأوضاع في الشرق الأوسط.

وبالطبع، أنا لست ممن ينكر مسؤولية السوريين والعراقيين والإيرانيين، والسعوديين، والقطريين، والكويتيين، والأتراك، والروس وغيرهم، في خلق هذه الفوضى. لكن، ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لعبت دوراً رئيسياً أيضاً، فالحقائق في هذا الصدد جلية جداً. ولا يشكل تبادل اللوم وتوجيه كل معسكر بأصابع الاتهام للآخر استجابة مناسبة للتعامل مع هذه التطورات، ولا يمكن لهذا السلوك أن يساعدنا على احتواء الفوضى التي تلوح في الأفق. أمريكا هي المسؤولة، وهذا يعني أنه ينبغي على إدارة أوباما أن تتحرّك لمعالجة الأمور قبل اندلاع حرب إقليمية.

لذا، أقول للقاطنين في البيت الأبيض، ولكل أعضاء الكونجرس، من رجال ونساء، ونواب وشيوخ، أن يكفّوا عن تبادل اللوم والتصرف كالأطفال المشاغبين، وأن يحاولوا التعامل مع تحديات المرحلة كقادة، بالغين، راشدين، عاقلين، مسؤولين، لأن أمريكا والعالم بحاجة إلى قادة من هذا النوع أكثر من أي وقت مضى. أم هل مايزال هذا المطلب يشكّل تحدياً مستحيلاً في أمريكا حتى وهي قد دخلت وتوغّلت في غمار القرن الحادي والعشرين؟


الخميس، 12 يونيو 2014

ملاحظات حول التطورات الراهنة في العراق

آلاف من العائلات العراقية تغادر الموصل بعد استيلاء تحالف من المتمردين السنة عليها

وحدها إيران وحكومة المالكي الخاضعة لها يريدان لنا أن نصدق أن هناك جهة وحيدة مسؤولة عن الهجوم الحالي في شمال ووسط العراق، والذي أدى إلى سقوط مجموعة هامة من المدن والبلدات العراقية في أيدي المتمردين السنة، ألا وهي الدولة الإسلامية في العراق والشام. لكن الواقع أن الدولة لاتزيد عن كونها جزءاً، وإن كان هاماً، من تحالف سني أوسع يضم قوى أخرى، إسلامية، وقبائلية، وبعثية، همه الأول والأساسي في هذه المرحلة هو الدفاع عن مصالح السنة في العراق عن طريق إخضاع المناطق السنية لسيطرته المباشرة، وذلك بعد سنين طويلة من فشل الحكومة العراقية في التعامل مع الملف السني بتعقّل وحكمة. 

من ناحية أخرى، تبدو الرؤية التي يطرحها البعض حول كون إيران العقل المدبّر الحقيقي لهذا الهجوم، والداعم والمستفيد الأكبر منه، وذلك في إطار محاولتها المزعومة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بالسماح لها بالتدخل مباشرة في العراق ساذجة إلى حد كبير. لأن مثل هذا التدخّل سيكون مكلفاً جداً بالنسبة إيران، التي لاتحتاج إلى إذن أساساً، فهي متورّطة بما يكفي في المستنقعين العراقي والسوري ومنذ سنين، ولا حاجة حقيقية لها للتورّط أكثر من ذلك، خاصة بشكل سافر. وإذا ما قررت إيران التدخّل بشكل سافر بالفعل فيما يجري في العراق حالياً، محاولة رد الهجوم واستعادة ما سقط من المدن، فسيمثّل ذلك سوء التقدير كبير للعواقب المحتملة من جانبها.

إن أفضل ما يمكن أن تفعله إيران في هذه المرحلة هو القيام بمساعدة حكومة المالكي لتأمين والدفاع عن جيب شيعي في جنوب العراق، تماماً كما قامت بمساعدة نظام الأسد على إنشاء جيب موالٍ في الأجزاء الغربية من سوريا، والذي سيكون أكثر تنوّعاً ديموغرافياً من أن يتمّ تعريفه بدقة على أنه جيب علوي، لكن السيطرة الهيكيلية ستكون للعلويين بالفعل، وسيكون صنع القرارات المفصلية دائماً حكراً على عائلة الأسد وعلى حلفائها من الطائفة العلوية، وغيرها من الشرائح والطوائف، ومن خلفهم جميعاً، بل وفوقهم، إيران.

إن التطورات الجارية حالياً في العراق وسوريا هي في الواقع متعلّقة وبشكل واضح بعملية إعادة رسم للحدود وإعادة تصميم للمنطقة. وملا تنتهي مرحلة تأمين الحدود المبدئية لكل طيف، سينخرط كل معسكر في خلافاته الداخلية حول ما يتعلّق بالسيطرة على المناطق المختلفة الواقعة تحت سيطرته، وحول طبيعة النظام الحاكم في كل منها، وبالتحديد درجة أسلمته.

ومن المنطقي في هذه المرحلة أن يسعى الأكراد للاستفادة من هذه التطورات فيحاولوا تأمين وتوسيع الجيوب المختلفة الخاضعة لسيطرتهم في البلدين، وخاصة في العراق. ومن المرجح أن تتمتّع الجيوب ذات الأغلبية الكوردية في العراق بشكل خاص، وربما في محافظة القامشلي في الطرف الشمالي الشرقي من سوريا أيضاً، بقسط أكبر من الأمن والاستقرار بسبب وجود هياكل سياسية وأمنية، وميليشيات مثل البيشمركة، أكثر نضجاً من مثيلاتها في المناطق ذات الأغلبية العربية،  وخاضعة لإدارة أكثر حرفية وانضباطاً منها. وبسبب الطبيعة العلمانية للقوى الحاكمة في المناطق الكوردية، وبصرف النظر عن نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق السورية والمثير دائماً للجدل، من المرجح أن تتلقّى المناطق الكوردية دعماً غربياً أكثر من غيرها مما سيساعدها في الحفاظ على استقرارها، وعلى إدارة عملية التنمية المحلية بشكل أنجع في المستقبل.

لقد كانت الفرصة المتاحة لتجنب وقوع كل هذه التطورات في منطقتنا دائماً محدودة، وتطلّبت وجود نخب سياسية أكثر نضجاً ومعرفة مما كان متاحاً. لكن، فات أوان الوقوف في وجه هذه الصيرورات اليوم. ولقد أصبحت المهمّة الرئيسية للناشطين في مجال حقوق الإنسان والدمقرطة اليوم تتلخّص في محاولة إدارة هذه المرحلة بشكل يسمح بتقليل الخسائر ويفسح المجال لتضميد الجروح ومعالجتها في المستقبل. وما بالوسع في مواجهة هذا كله إلا أن نأمل في أن يكون لدينا ما يكفي من النضج والفهم لنستوعب طبيعة المرحلة القادمة، وطبيعة تحدّياتها، ونهيئ أنفسنا لإدارتها بشكل ناجع.