الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

الشرق الأوسط والواقعية السياسية: اللحظة الراهنة

الشرق الأوسط



 

الحرة / من زاوية أخرى – تتعامل الكثير من الشعوب اليوم وخاصة الشعوب الشرقأوسطية مع حقها في تشكيل دول سيادية مستقلة من منطلق قانوني صرف، متجاهلة التوابع السياسية والاقتصادية للأمر وتأثيره على التوازنات الإقليمية والدولية القائمة. لكن تأسيس الدول، خاصة في عالمنا المترابط هذا والذي ما فتئنا نتكلم فيه عن المجتمع الدولي والشرعية الدولية، يمثل قضية تفاوضية بالدرجة الأول، وتبقى سيادة الدول في عالمنا المعاصر نسبية، بصرف النظر عن تصريحات القادة السياسيين. على جميع شعوب المنطقة، سواء تلك التي نجحت في تأسيس دول لها أو تلك التي ما زالت تطمح إلى ذلك، أن تأخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار. وفي الواقع، يمكننا الجزم، بناء على مراجعة سريعة للتاريخ المعاصر، أن الأنظمة الحاكمة أكثر إدراكا لهذه الحقيقة ومضامينها من شعوبها، بل ومن النخب الفكرية الأكثر شهرة وتأثيرا على الصعيد الشعبي. لكن فساد هذه الأنظمة وطبيعتها الاستبدادية يمنعانها من التعبير عن هذا الإدراك إلا من خلال اللقاءات والصفقات السرية التي تستغلها الأنظمة للتأقلم مع الواقع ومتغيراته، في حين تصر على التعامل مع الأمور في العلن من منطلق إيديولوجي وعاطفي، وتصر على تربية شعوبها على ثقافة رافضة للمرونة السياسية والواقعية.

لا وجود هنا لقناعة فكرية حقيقية بضرورة التعامل مع الواقع بمرونة من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، بل يهدف أسلوب الأنظمة في التعامل مع الأمور إلى تحقيق مصلحتها الخاصة حصرا وإن تطلب الأمر المساهمة في تجهيل الشعوب واستغلال عواطفها. لكن هناك حدودا لما يمكن إنجازه في السر، إذ لا يسمح هذا الوضع بإيجاد حلول حقيقية للقضايا المصيرية، بما فيها تحديات الحوكمة والتنمية وقضايا أمنية مثل القضية الفلسطينية وقضية مرتفعات الجولان، وغيرها، بل غالبا ما يؤدي إلى عرقلتها وبالتالي إلى استدامة حالة التخلف والصراع، وذلك حتى مجيء تلك اللحظة الحرجة التي تصل فيها الانعاكاسات السلبية لهذه الازدواجية في التعامل حدا يتجاوز قدرة الأنظمة على الحفاظ على الاستقرار القائم من خلال الأساليب القمعية ذاتها، فتندلع الثورات وتسود القلاقل وتأخذ الصراعات طابعا اجتماعيا معقدا، كما حدث في منطقتنا عبر السنين القليلة الماضية.

فإلى أين المضي؟

من الواضح أنه حتى في هذه اللحظة التي غابت فيها السكرة وحضرت الفكرة، تلميحا إلى المثل الشامي المعروف، لا يمكننا التعويل على معظم الأنظمة الحاكمة للمساهمة من تلقاء نفسها في تبني مقاربات أكثر واقعية وشفافية عند التعامل مع المتغيرات، لأن أولوياتها تبقى مختلفة تماما عن الأولويات الوطنية. ويضع هذا الواقع مسؤولية كبيرة على عاتق حركات المعارضة السياسية والنخب الفكرية ومنظمات المجتمع المدني للاستمرار في دفع الأنظمة دفعا نحو التغيير والمضي في الاتجاه الصحيح على الرغم من الصعوبات البالغة والتحديات العملية التي تواجهها. وهذا يحتم على هذه الحركات والمنظمات والنخب أن تجد طريقة للتخلص من تكلسها الخاص، ومن ارتكاسها المستمر إلى الأيديولوجيات العقيمة متبنية مقاربات أكثر مرونة في النشاط والعمل. فهل تنجح في التصدي لهذا التحدي الأساسي أم هل تقع في الفخ ذاته الذي دأبت الأنظمة على الوقوع فيه؟

لا تبشر تجربة السنين الأخيرة بخير في هذا الصدد، فللشعوبية إغراءاتها القوية خاصة في زمن المحن. وعلى الرغم من إدراك النخب الراغبة في التغيير في المنطقة أهمية تبني مقاربات أكثر واقعية، يبدو من الواضح أن رغبتها في الحفاظ على مكانتها الاجتماعية والسياسية وبعض المكتسبات القليلة التي حققتها مؤخرا، مادية كانت أم معنوية، تجعلها ترفض تقديم طروحات فكرية جديدة تتعارض مع ما ألفته الشعوب رغبة منها في تفادي أية ردة فعل سلبية من الشرائح المؤيدة لها. وهكذا، يبدو أن هذه النخب "المعارضة" للأنظمة والداعية للتغيير في خطابها السياسي، لم تتمكن بعد من الانسلاخ عن التركيبة الثقافية التي ينبغي معارضتها وتغييرها، الأمر الذي يسبغ طابعا خلبيا أو زائفا على عملها ونشاطاتها.

لا يمكن لمعارضة من هذا النوع أن تغير شيئا أو تنجح في ما فشلت فيه الأنظمة حتى لو توصلت إلى سدة الحكم. تماما كما لا يمكن لثقافة يتم من خلالها خيانة الواقعية السياسية باسم الواقعية السياسية من قبل معظم القوى الفاعلة فيها أن تفرز حراكا سياسيا واجتماعيا قادرا على قيادة انتقال سلس نحو الديموقراطية. إن خير ما يمكن التوصل إليه في هذه المرحلة هو الكشف على الملأ عن صراع الأضداد هذا الدائر في مجتمعاتنا وقلوبنا منذ عقود طويلة لكي نتحمل تبعاته في العلن، آملين أن يفرز هذا الأمر مع الوقت وعيا جديدة ونخبا فكرية وسياسية واجتماعية أكثر قدرة على تحمل أعباء القيادة.

الاثنين، 20 نوفمبر 2017

محمد بن سلمان ومستقبل المملكة السعودية



الحرة / من زاوية أخرى – يريد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن يعطي انطباعاً لكل من يتابع أخباره وأخبار المملكة بأنه صاحب رؤية عصرية وجريئة للمستقبل، وأنه رجل حزم لا يتوانى عن اتخاذ القرارات الحاسمة لإدراكه التام أهمية تسريع وتيرة الإصلاحات في المملكة. ومع ذلك، فإن الانطباع العام الذي خلفته قرارات بن سلمان عبر السنين القليلة الماضية عند معظم المراقبين في المنطقة والعالم، حتى أولئك الذين يتمنون له النجاح، يصوره كرجل متسرع ومتهور وربما غير قادر على تحمل أعباء الدور القيادي الذي أسند إليه بصرف النظر عن نواياه وأحلامه. ولا ينبغي لبن سلمان أن يتجاهل هذا الواقع إذا ما أراد أن يتغلب عليه ويحصل على مبتغاه، فللانطباعات قدرتها الكبيرة على التأثير على السياسات المتخذة حيال المملكة في عدد من الدول المحورية الإقليمية والعالمية.

من ناحية أخرى، وفي هذه المرحلة الحافلة بالتحزبات والاستقطابات والصراعات، لا يمكن فصل الانطباعات المتراكمة بشأن تصرفات وسياسات بن سلمان عن خلفيات أصحابها وتعصباتهم الخاصة، بما في ذلك انتماءاتهم القومية والطائفية والسياسية. ويضفي هذا الأمر بعداً آخر على المعضلة التي تواجه الأمير الشاب. ومن هذا المنطلق، كثفت المملكة منذ بروزه على الساحة من اعتمادها على شركات العلاقات العامة الغربية، لكن هناك حدود لما يمكن لهذه الشركات أن تقوم به، خاصة في جو نشاطات مضادة تقوم بها شركات أخرى لصالح إيران وقطر وحلفائهما في الأوساط السياسية الغربية. هذا علاوة على أن المشكلة الأساسية تبقى مرتبطة بنهج بن سلمان ذاته الذي بات مطالباً في هذه المرحلة بأن يقوم بمراجعة معمقة لما اتخذ من خطوات وتدابير حتى اللحظة قبل أن يقدم على المزيد.

فإذا كان الهدف من وراء تدخله في الأزمة اليمينة هو احتواء خطر التوغل الإيراني عن طريق الثوار الحوثيين من ناحية، وخطر تمدد القاعدة (ربما بدعم إيراني أيضاً) من ناحية أخرى، فمن الواضح أن التدخل السعودي لم يحقق مبتغاه بعد على الرغم من تكلفته المادية المرتفعة بالنسبة للسعودية واليمن معاً، وعلى الرغم من الأزمة الإنسانية الضخمة التي نجمت عنه والتي باتت السعودية تتحمل وحدها المسؤولية عنها على الصعيد الدولي، على الرغم من أنها ليست الطرف الوحيد المعني بما آلت إليه الأوضاع، بل إن مسؤولية إيران هنا قد تكون أكبر كونها هي التي مهدت الطريق إلى هذه المواجهة وهي التي ما تزال تمد الحوثيين بالأسلحة المتقدمة. لكن سرية التدخل الإيراني علاوة على طابعه التدريجي وغير المباشر تعطي إيران وحلفائها القدرة على الإنكار والمناورة الإعلامية، فيما جاء التدخل السعودي على نحو سافر راهن من خلاله بن سلمان على قدرته إحراز نتائج سريعة، ثم فشل. لذا، بات لزاماً عليه اليوم أن يجد طريقة لتبرير هذا الفشل وتغطيته، بل والتكفير عن نتائجه.

وتنطبق الملاحظة نفسها على كيفية تعامل بن سلمان مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والأزمة التي أثارتها استقالته الممسرحة. فمرة أخرى أدى أسلوب بن سلمان في إدارة الأمور إلى توجيه أصابع الاتهام إلى السعودية فيما يتعلق بمحاولة زعزعة الاستقرار في لبنان، فيما تناسى الجميع الدور الإيراني الأخطر والأقدم والأكثر دموية ذلك لأنه يتم بالوكالة عن طريق حزب الله.

ما لم يتمكن بن سلمان من إيجاد طرق أكثر مرونة وحنكة في التعامل مع المتغيرات في المنطقة عند دفاعه عن المصالح الجيوسياسية السعودية، ستؤدي سياساته مع الوقت إلى إضعاف الموقف الاستراتيجي للمملكة وإلى فرض نوع من العزلة الدبلوماسية عليها، وهو أمر سيكون له انعكاساته الخطيرة على مستقبل بن سلمان السياسي وعلى الوضع الداخلي ككل.

فعلى الرغم من ضرورة تحجيم الدور العائلي لآل سعود في صنع القرارات وضرورة تحديد عدد الشخصيات المؤهلة للمشاركة في العملية القيادية فيها وإيجاد آلية مناسبة لذلك، وعلى الرغم من استحالة القيام بهذه العملية من دون استخدام أساليب قمعية في دولة أمنية الطابع كالمملكة العربية السعودية، لا يمكن التعويل على القبضة الحديدية وحدها في إدارة العملية الانتقالية في هذا الصدد، بل ينبغي على بن سلمان أن يقدم رؤية ما جذابة ومقنعة لما ستؤول إليه الأوضاع من الناحيتين السياسية والإدارية في المملكة في المستقبل القريب. فبدون القيام بخطوة من هذا النوع، أي من دون تقديم رؤية سياسية لمستقبل البلد، سيكون من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، لولي العهد أن يحصل على مصداقية دولية كافية تسمح للشركات العالمية بالمساهمة بشكل فعال في إدارة العملية الانتقالية والاستثمار فيها بما يتماشى مع احتياجات بن سلمان وطموحاته. ومع الوقت سيكتشف بن سلمان أن الإغراءات المادية وحدها لن تكون كافية للحفاظ على تأييد الكوادر التكنوقراطية التي ستتولى إدارة الإصلاحات، وأن الأحوال لن تنضبط من دون تقديم تنازلات سياسية مناسبة.

إن الدعم النسبي الذي يتلقاه بن سلمان حالياً من الرئيس الأميركي لا يعد مؤشراً كافياً على ما يمكن لهذه الإدارة أن تقدمه بالفعل عند الامتحان، بسبب الإشكاليات الخاصة التي تعاني منها، أو على الكيفية التي ستتعامل فيها دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا مع المملكة عموماً ومع رؤية وسياسات بن سلمان على وجه الخصوص. إن السعي لإعادة تأسيس المملكة على قواعد جديدة وعصرية يتطلب حنكة أكبر في التعامل مع الظروف والمتغيرات وليس جرأة فقط. فالجرأة من دون حنكة تهور، ولن يراهن المجتمع الدولي، وخاصة الغرب، على متهور.


الاثنين، 13 نوفمبر 2017

العرب والواقعية السياسية: فلسطين نموذجاً

مسجد قبة الصخرة في القدس


 

الحرة / من زاوية أخرى – ماذا لو قبلت الدول العربية بقرار 181 للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني، 1947، والذي دعا إلى قيام دولتين في فلسطين، واحدة عربية وأخرى يهودية، تجمعهما اتفاقيات مختلفة للتعاون الاقتصادي والتجاري؟ من الواضح اليوم أن قراراً من هذا النوع كان سيجنب العرب عموماً والفلسطينيين تحديداً نكبة 1948 وما تبعها من مواجهات وتشريد وحروب، مانحاً الفلسطينيين دولة عاصمتها القدس غير مقسمة. وإن كانت معرفتنا بطبيعة الأنظمة العربية تجعلنا نخلص إلى أنهم كانوا سيجدون قضايا ووسائل أخرى لجلب المصائب والويلات لشعوبهم، لا ينبغي على هذه القناعة أن تمنعنا من التفكر في الإيجابيات المحتملة التي كان يمكن أن تنشأ عن هذا السيناريو الافتراضي.

لا نهدف من وراء طرح هذا السيناريو إلى تحميل العرب وحدهم مسؤولية ما حدث في فلسطين، أو إنكار دور بريطانيا وقادة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل في ما واجهه ويواجهه الفلسطينيون اليوم من مآس. الهدف هو الاعتراف بما ارتكبته نخبنا السياسية والاجتماعية والفكرية من أخطاء في ذلك العصر، بصرف النظر عن النوايا، بغية التنبه إلى أهمية تكوين فهم أفضل للأرضية والوقائع السياسية، المحلية والإقليمية والعالمية، عند تعاملنا مع قضايانا المصيرية.

فالقرار العربي في 1947 وما بعدها شكّل في الحقيقة تمرداً على الشرعية الدولية دون تقدير لتوابع هذا الأمر، ودون القيام بأية محاولة جدية للتعامل معها ما خلا بعض الاستعدادات العسكرية المرتجلة. إن للمجتمع الدولي حساباته المعقدة ولن تكون قراراته صائبة في كل حين وشأن، لكن أسوأ خطأ يمكن لأي عضو فيه أن يقترفه هو أن يرفض أيا من قراراته أو يعترض عليها دون دراسة معمقة للتبعات المحتملة لهذا الأمر، ودون إعداد العدة المناسبة للتعامل معها. لكن هذا بالذات ما فعله العرب آنذاك، وربما اليوم أيضاً.

ولاشك في أن أية قراءة موضوعية للواقع الدولي في ذلك الوقت كانت ستكشف أنه ما كان يمكن للأمم المتحدة أن تقترح حلاً للصراع في فلسطين لا يشمل التقسيم وقيام دولة يهودية إلى جانب دولة عربية فلسطينية، خاصة بعد مآسي الحرب العالمية الثانية، ونظراً لطبيعة التوازنات الدولية التي نجمت عنها، وللواقع على الأرض في فلسطين ذاتها في تلك المرحلة. فمن الناحية العملية، كان رفض التقسيم سيأتي بمثابة إعلان حرب على التجمعات اليهودية في فلسطين، وهو الأمر الذي ما كان يمكن له أن يلقى تأييداً من أي من الأطراف الدولية الفاعلة في ذلك الوقت، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي. جاء قرار 181 إذن كمحاولة لاحتواء الأزمة وإنهاء حالة الصراع، بصرف النظر عن أية اعتبارات متعلقة ببداياتها التاريخية بما في ذلك ظروف الانتداب البريطاني ووعد بلفور ونشاطات الحركة الصهيونية الدبلوماسية. إذ لا ترتكز الإرادة الدولية على المراجع القانونية وكتب التاريخ بقدر ما تنبثق من المساعي الرامية لاحتواء الصراعات، أو إنهائها، أو تجنبها، ومن التنازلات الناجمة عنها.

من هذا المنطلق، كان على الأنظمة العربية، وبضمنهم ممثلو الحراك السياسي الفلسطيني في ذلك الوقت، أن تتعامل مع الموضوع بشكل أكثر واقعية وأن تدرك أن القبول بقيام دولة يهودية هو الثمن الذي ينبغي عليها أن تدفعه، وهي الدول التي قامت أساساً على أنقاض الإمبراطورية العثمانية والانتدابين الفرنسي والبريطاني، لكي تتمكن من تثبيت مشروعيتها الدولية وتعزيز مكانتها العالمية المكتسبة حديثاً.

إن هذه النشأة الحديثة للدول العربية المعاصرة ودور المجتمع الدولي من خلال أطرافه الفاعلة، خاصة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، في إسباغ الشرعية عليها، بل وفي التمهيد لها، تدلنا بشكل واضح على أن سيادة الدول المعاصرة وإسباغ الشرعية عليها لا تأتي كتحصيل حاصل، ولا تنبثق بشكل تلقائي عن القوانين والمواثيق الدولية المعاصرة، بما في ذلك حق الشعوب في تقرير مصائرها، بل تبقى خاضعة لعمليات دبلوماسية معقدة تشمل تقديم الكثير من التنازلات وأخذ التوازنات الإقليمية والدولية القائمة ومصالح الدول العظمى بعين الاعتبار. هذا على الأقل، ما نخلص إليه عندما نعاين الأمور من منطلق موضوعي وواقعي.

لكن تبقى الواقعية السياسية أمراً مرفوضاً في العرف السياسي العربي، وغالباً ما يخوّن أصحابها، على الصعيدين النخبوي والشعبي، في وقت تتكاثر فيه الصراعات في منطقتنا ودولنا وتتعاظم فيه قيمة الخسائر الناجمة عنها على كل الأصعدة. ولنا في استمرارية القضية الفلسطينية إلى يومنا هذا وفي الضعف المطرد للموقف الفلسطيني خير دليل على ذلك. فعوضاً عن التعامل مع دولة فلسطينية عاصمتها القدس، علينا اليوم أن نتعامل مع تجمعات سكانية مفككة لا تجمعها إلا مظلوميتها. لكن المظلومية لا تكفي لقيام الدول.

نعم، من الواضح أننا لن نتمكن من تغيير الماضي، لكن القدرة على الاعتراف بأننا بحاجة إلى التعامل بشكل أكثر واقعية مع قضايانا المصيرية في وقت يبدو فيه أن الإدارة الأمريكية الحالية تتوجه نحو تقديم رؤيتها الخاصة لحل الصراع قد يمهد الطريق لتبني مقاربات عربية وفلسطينية أفضل في هذا الشأن، مقاربات يمكن لها أن تساعدنا على التوصل إلى حل يسمح لنا بالتركيز على قضايا التنمية في مجتمعاتنا عوضاً عن الارتكاس إلى ذات العقلية والاستراتيجيات العدمية التي نقلتنا من نكبة إلى أخرى.

الاثنين، 6 نوفمبر 2017

نحو مفهوم جديد للأخلاق

"لا يمكن للتغيرات السلوكية، لا على الصعيد الفردي ولا الجمعي، أن تتحقق دون الاعتراف أولاً بوجود أبعاد ثقافية واجتماعية ونفسية عميقة لها، ودون مراجعة فكرية وسلوكية مستمرة، ودون الالتزام بعمليات دورية من المصارحة والمكاشفة والمساءلة، ودون استعداد لقبول النقد والتصحيح بنسبة معينة من الأريحية."
















الحرة / من زاوية أخرى – عندما تكون النزعة السلوكية متأصلة في النفس البشرية، سواءً على المستوى الفردي أو الجمعي، نتيجة لارتباطها بسمات وراثية معينة و/أو بالشروط الأولية المتعلقة بالبيئة الحاضنة، بما في ذلك طبيعة التركيبة الأسرية ودور الدين والتقاليد في المجتمع وطبيعة النظام السياسي القائم، إلى آخر ما هنالك من شروط، لا يمكن للفكر وحده أن يتغلب عليها ويتجاوزها في لحظة معينة، بل يتطلب الأمر الالتزام بعملية رقابية جادة ومستمرة ومتعددة الأوجه للنفس وللمجتمع وذلك لتجنب الارتكاس إلى السلوكيات القديمة من خلال طرحها ضمن قوالب اجتماعية وسياسية جديدة أو تقديم مبررات فكرية جديدة لها.

على سبيل المثال، يمثل ميل الجماعات والدول إلى فرض نفوذها خارج إطار تواجدها الجغرافي نزعة قديمة ومتأصلة في السلوك الجمعي للبشر، نزعة كانت لها مبرراتها المادية والفكرية في كل مرحلة تاريخية للمسيرة الإنسانية، وفي كل حضارة ومجتمع. لذا، وعلى الرغم من بروز وانتشار أفكار ومفاهيم جديدة في المجتمعات الغربية في القرون الماضية حول حقوق الإنسان والإخوة والعدالة والمساواة، لم تتمكن هذا الظاهرة من لجم النزعة الإمبريالية التوسعية عند هذه المجتمعات، بل، على العكس، فقد ساهمت هذه الأفكار بتزويد مجتمعاتها الحاضنة بمبررات فكرية جديدة لبسط نفوذها خارج حدودها عن طريق الحروب التوسيعية والنشاطات الاستيطانية، مثل مبدأ "المهمة التحضيرية Mission Civilisatrice" و إطروحة "عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden،" كما نوهنا في مقال سابق.

أما على الصعيد الفردي، فقد تعطينا سلوكيات الرجل حيال المرأة مثالاً مناسباً في هذا الصدد، خاصة في هذه اللحظة الحرجة التي تشهد نقاشات متشعبة وحادة حيال قضايا مثل الاغتصاب والتحرش الجنسي في مجتمعات ودول عديدة. إذ لا يمكن للتغيير أن يحدث هنا جراء اقتناع الرجال بوجهة النظر النسوية المنادية بالمساواة الإنسانية والقانونية والاجتماعية وحسب، فغالباً ما تقترن تصرفات هؤلاء الرجال، بصرف النظر عن تصريحاتهم وتأكيداتهم، بتناقضات تنمّ عن عدم قدرتهم على استيعاب المضمون السلوكي الحقيقي لقناعاتهم المعلنة، أو على تمثّله إلى درجة يتلاشى معها البعد الفوقي والوصائي، إن لم نقل الاستغلالي، في تعاملهم مع المرأة.

وليس هذا بالأمر الغريب، وإن كان مستهجناً. ففي الواقع، لا يمكن للتغيرات السلوكية، لا على الصعيد الفردي ولا الجمعي، أن تتحقق دون الاعتراف أولاً بوجود أبعاد ثقافية واجتماعية ونفسية عميقة لها، ودون مراجعة فكرية وسلوكية مستمرة، ودون الالتزام بعمليات دورية من المصارحة والمكاشفة والمساءلة، ودون استعداد لقبول النقد والتصحيح بنسبة معينة من الأريحية.

ولا شك في هذا الصدد في أن المجتمعات الديموقراطية تبقى أكثر قدرة على توفير المناخ الحر اللازم للانخراط في عمليات من هذا النوع. بل بوسعنا الجزم هنا أن هذه العمليات بالذات تمثل مفتاح تقدم هذه المجتمعات ومنبع قوتها الحقيقية، وذلك على الرغم من الأزمات والفضائح التي تفرزها بين الحين والآخر، إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي. إذ تبقى المجتمعات الديموقراطية أكثر قدرة على التأقلم مع الأزمات وتوابعها من خلال التغيرات الدورية للشخصيات الفاعلة في صياغة القرارات فيها، ومن خلال نشاطات المنظمات والناشطين المدنيين والشخصيات الاعتبارية الأخرى من باحثين وأكاديميين وفنانين، ومن خلال تداول السلطة بين التيارات السياسية المختلفة، ومن خلال تغيير هذه التيارات لأولوياتها السياسة بناءً على الضغوط والمساءلة الشعبية من ناحية، وعلى نشاطات مراكز الأبحاث واللوبيات من ناحية أخرى. لا تتوفر هذه المرونة في المجتمعات الاستبدادية والتقليدية، وهذا ما يرشح كل قضية فيها، مهما بدأت جزئية، مثل حق المرأة في التجنيس أو قيادة السيارات أو تولي المناصب العامة، للتحول إلى أزمة وجودية متعددة الأبعاد في حال اختارت بعض القوى السياسية تجييرها لذلك.

لذا، ونظراً لكل ما سبق، يبدو واضحاً أن التغيير المنشود في مجتمعاتنا الشرق أوسطية هو تغيير قيمي وسلوكي بالدرجة الأولى، أي تغيير ناتج عن تحديث مفهومنا للأخلاق ذاته، وهو الأمر الذي يتطلب إفراز طفرة ما في وعينا الفردي والجمعي. وتعلمنا التجربة التاريخية هنا أن طفرة من هذا النوع لا يمكن أن تحدث دون الخوض في آتون تجارب ومحن صعبة من النوع الذي نراه في مجتمعاتنا اليوم.

وفي خضم هذا كله، وكما أكدنا في مقال سابق، "ما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية." ويتطلب هذا الأمر بدوره العمل على التنسيق ما بين النشاطات الرامية إلى تحديث المجتمعات وتلك المنادية بالحريات وبالديموقراطية.


الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الدولة الحداثية والهوية والحركات الانفصالية

أحتفالات في أربيل بنتائج استفتاء الاستقلال - 29 أيلول، 2017

الحرة / من زاوية أخرى – إذا عرّفنا الدولة الحداثية على أنها ذلك الكيان الذي يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل من فيه من أفراد ومكونات، فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يتماهى مع الهوية الخاصة بأي من مكوناته المؤسسة، سواء كان الأمر يتعلق بالهوية القومية أو بالانتماء الديني أو بعقيدة سياسية بعينها
.

من هذا المنطلق، تمثل المساعي الانفصالية المختلفة والرامية إلى تأسيس دول جديدة قومية الطابع خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بعمليات التحديث والتطوير المجتمعي، سواء تجلّت هذه المساعي في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب. والأمر نفسه في الواقع ينطبق على تلك المساعي الهادفة إلى إعادة تشكيل دول قائمة على أسس دينية أو أيديولوجية، كالدعوة إلى أسلمة الدول أو تبني الشريعة الإسلامية كقانون ناظم لها. لكنا سنركز نقاشنا هنا على الحركات القومية بالذات.

لا يعني كلامنا السابق بالضرورة أن كل حركة انفصالية تشكل بالضرورة حركة رجعية من الناحية الفكرية والقيمية. إن التركيز شبه الحصري على البعد القومي هو الأمر الإشكالي هنا، وهو ما يسم الكثير من هذه الحركات بصفة الرجعية. والمثير في الموضوع عند تعاملنا مع هذه الظاهرة هو أن معظم الحركات القومية الانفصالية جاءت كردة فعل على الاضطهاد الذي تعاني منه قوميات معينة في إطار دول محكومة من قبل أنظمة وتيارات قومية التوجهات بدورها، أي أن معظم مؤيدي هذه الحركات يدركون تماماً حجم المخاطر التي غالباً ما تنجم عن تبنّي توجهات قومية في ما يتعلق بتعريف الدولة وحكمها. ومع ذلك لا يرى أصحاب هذه التيارات أي تناقض ما بين طروحاتهم وتوجهاتهم القومية وبين واقع الاضطهاد والتهميش الذي يحاولون الهروب منه، على الرغم من أنه سيكون لزاماً عليهم، فيما لو تكللت مساعيهم الانفصالية بالنجاح، أن يتعاملوا مع تحديات مماثلة، أي تحديات ناجمة عن وجود قوميات أخرى في إطار "وطنهم القومي" المنشود، قوميات قد يكون لها رؤية وتفسير مختلفان تماماً للتاريخ وللحدود، علاوة على مخاوفها المشروعة في ما يتعلق بمستقبلها في هذا الوطن الجديد. هذا ناهيك عن الإشكالية الناجمة عن أن قيام دولة قومية جديدة غالباً ما يأتي على حساب تفتيت دولة قومية قائمة وبالتالي على حساب الرؤية القومية الخاصة للتيارات والشرائح النافذة فيها. ولهذا، غالباً ما تؤدي هذه "الإشكالية" إلى اندلاع حرب ضروس نادراً ما يحسمها قيام هذا الكيان القومي الجديد، حتى في حال حصوله على اعتراف دولي.

يكمن المخرج من هذه الورطة في التركيز على المطالبة بالعدالة والحقوق الأساسية والأمان، وفي إدراك أن الانفصال لا يزيد عن كونه مجرد أداة من الأدوات التي يمكن لها أن تحقق هذه المطالب في بعض الظروف. لكنه يبقى الأداة الأكثر راديكالية، كما أن قدرته على تحقيق هذه المطالب ليست فورية في معظم الأحيان، كما تدلنا السوابق التاريخية. لذا، لا ينبغي اللجوء إليه إلا في حال فشل الأدوات الأخرى.

لقد رأينا أية شرور انبثقت من مجرد التلويح بالانفصال في كل من كوردستان العراق وكاتالونيا، وبوسعنا أن نتابع ما يحدث اليوم في جمهورية جنوب السودان التي انفصلت ولم يتحقق فيها لا الإمان ولا الاستقرار ولا الحرية، بل لم تنته مواجهاتها بعد مع النظام في الخرطوم. ورأينا ما حدث في السابق في البلقان الذي ما تزال الأوضاع الأمنية في دوله الجديدة معرضة للانهيار في أية لحظة.

نعم، لقد تحقق الانفصال في تشيكوسلوفاكيا دون حرب، ولم يسفر الاستفتاء في استكلندا عن أية اضطرابات أو قلاقل اجتماعية، وما كان من المتوقع له أن يسفر عن أية ممارسات عنفية حتى في حال جاءت نتيجته بالإيجاب، وكذلك الأمر في ما يتعلق بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروربي والذي يمثل نوعاً من الانفصال. وهنا بيت القصيد. لقد لعبت البنية المجتمعية والمنظومة السياسية الخاصة بهذه الدول دوراً كبيراً في قيادة الحوار وتشكيل الإطار الخاص بالعمليات السياسية المتعلقة بقرار الانفصال، هذا علاوة على قضية التوقيت وعلى الشروط الإقليمية والدولية الخاصة التي كانت سائدة في تلك اللحظات الحرجة التي حدثت فيها هذه العمليات وتم فيها اتخاذ القرارات الحاسمة.

على المطالبين بالانفصال أن يأخذوا كل هذه الأمور والشروط والسوابق بعين الاعتبار وأن يوازنوا ما بين رغباتهم ومطالبهم الخاصة، مهما بدت لهم مشروعة، وبين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف السائدة حالياً على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي. وإذا كانت النخب السياسية المسؤولة عن قيادة الحركات الانفصالية المختلفة تعاني في هذه المرحلة من خلخلة أو تشرذم ما ومن عدم استعداد للالتزام بشكل مناسب بالعملية الديموقراطية في عملها بما في ذلك القبول بالمساءلة الشعبية وبقواعد الشفافية وتداول السلطة والابتعاد عن المحسوبيات، فمن حق المرء، بل يتوجب عليه أن يتساءل عن طبيعة الدولة المستقلة التي ستديرها هذه النخب.

إن في التركيز على تحقيق الانفصال في هذه المرحلة، بل وعلى التعامل مع مفهوم الانفصال وكأنه الطرح الأمثل لتحقيق العدالة، تبديدا للطاقات الحيوية للشعوب المعنية، والتي ستعطي مفعولاً أكبر فيما لو جُيرت للمطالبة بالتزام أكبر من نخبها السياسية بأسس العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وبالعمل على تحقيق إدارة أكثر فاعلية لعمليات التنمية المحلية، إلى آخره من تلك القضايا التي يتم التعامل معها وكأنها مسائل فرعية في حين أنها تشكل حجر الأساس في ما يتعلق بقيام الدول العادلة القادرة على تحقيق الأمان لشعوبها، ولكل مكون من مكوناتها بصرف النظر عن خلفيته القومية أو الدينية أو المذهبية.


الاثنين، 23 أكتوبر 2017

خواطر حول التطرف والإرهاب والتغيير




الحرة / من زاوية أخرى – لا يمكن اختزال مشكلة التطرف الفكري في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة في مسألة المعتقدات وحدها، فالتطرف ظاهرة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر منها ظاهرة فكرية ودينية. ولا يشكل وجود سوابق تاريخية وفكرية للتطرف في الإسلام أو نصوصاً إشكالية في كتبه المقدسة مبرراً لهذا الاختزال أو ظاهرة فريدة في تاريخ الأمم والأديان، فهناك سوابق لهذا الأمر في معظم الأديان والمجتمعات التقليدية. وغالباً ما يقتصر دور الفكر والعقائد على التبرير والتحريض والتجييش لخدمة مخططات ومصالح لا علاقة للدين بها لا من قريب ولا بعيد.

لا نهدف من خلال هذه الملاحظة إلى التقليل من أهمية البعد العقائدي في ظاهرة التطرف، وبالتالي إلى التقليل من ضرورة إصلاح الفكر الديني، لكن فهماً أعمق لدور الدين والعقيدة هنا سيساعدنا بلا شك في ترتيب أولياتنا وفي التعامل مع تحدي الإصلاح الديني بشكل أفضل وأنجع.

فإذا كان ثمة إشكال في ما يتعلق بالمقدسات والمعتقدات في هذا الأمر فلن نجده في الإسلام كظاهرة استثنائية، أو في أي دين بعينه إذا ما توخينا الدقة، ولكن في ذلك التناقض ما بين بعض المعتقدات والنزعات التقليدية من ناحية، وبعض معطيات الحداثة بظروفها وشروطها الموضوعية الخاصة والقيم الناجمة عنها من ناحية أخرى، وهذا إشكال يواجه كل الأديان والمجتمعات التقليدية ولا يقتصر على الإسلام والمجتمعات ذات الغالبية المسلمة.

لذا، يتطلب التعامل الناجع مع قضية التطرف في هذه المجتمعات أن نبتعد عن إغراءات الاختزال والتبسيط، والتي غالباً ما تنجم عن تعصبات معينة نابعة عن إشكالات الهوية، إثنية كانت أو مذهبية، فيرى بعض المسيحيين أن مشكلة التطرف توجد في الإسلام ذاته، أو يرى بعض الشيعة أن المشكلة تقع عند أهل السنة تحديداً، أو العكس، أو يرى بعض الأكراد أن المشكلة تنجم أساساً عن "العقلية العربية الصحراوية،" إلخ. علينا أن نتجاوز كل هذه النزعات اللاعقلانية وأن نواجه العوامل الحقيقية وراء ظاهرة التطرف في مجتمعاتنا والتي طالت كل مكوناتها بلا استثناء، وهي عوامل بنيوية الطابع تبدو أكثر ارتباطاً بالمنظومة الإدارية والسياسية للدولة وطريقة تعاملها مع مسألة الحكم والهوية منها بالفكر والدين، خاصة في المراحل التالية للمرحلة التأسيسية للدول في منطقتنا.

ومن هذه العوامل فشل المنظومة التعليمية الرسمية في ترسيخ المفاهيم والقيم الثقافية الحداثية، وسوء إدارة عمليات التنمية الوطنية أو إهمالها تماماً، خاصة في مناطق بعينها، وذلك نتيجة لاعتماد الأنظمة الحاكمة على الولاءات عوضاً عن الكفاءات عند القيام بتوزيع المناصب والوظائف الرسمية، أو كجزء من سياسة خاصة حيال هذه المناطق استناداً إلى اعتبارات إيديولوجية أو إثنية أو مذهبية، إلى آخر ما هنالك من عوامل.

وعلينا التعامل مع مسألة الإرهاب من المنطلق ذاته فنتجاوز إشكالية الاختزال والتبسيط. فالإرهاب اليوم يمثل ظاهرة إقليمية وعالمية أمنية بامتياز ومرتبطة بدول وأجهزة ومصالح وصراعات بعينها. إذ لا يمكن للمنظمات الإرهابية أن تتواجد وتنتشر على النطاق الواسع الملحوظ حالياً من دون دعم مستمر وممنهج من قبل حكومات وجهات أمنية معينة. ولا نشير هنا إلى الحكومة الأميركية والـ سي. أي. إيه.، كما جرت العادة في أدبياتنا المعاصرة، بقدر ما نوجه أصابع الاتهام إلى حكوماتنا الإقليمية وأجهزتها الأمنية، والتي انضم إليها الروس مؤخراً. أي أن دود الخل منه وفيه، كما يقول المثل الشامي.

إن استغلال الحكومات الإقليمية لسلاح الإرهاب، أولاً تحت مسمى المقاومة، ومن ثم ابتداعها لقضية محاربة الإرهاب والإرهابيين، وتجيير كلا الأمرين لخدمة مصالحها الفئوية الخاصة، ولإدارة صراعاتها البينية، ولإحكام قبضتها على المجتمعات المحلية، سبق بعدة عقود إعلان أميركا لحربها العالمية الخاصة على الإرهاب. ولقد جلب علينا هذا الوضع ويلات أكثر وأكبر وأخطر وأعمق مما جلبه التدخل الأميركي في العراق والمنطقة عموماً.

إن الحجم الديموغرافي للمسلمين وانتشارهم في جميع أنحاء العالم علاوة على طريقة تعامل الإعلام العالمي والإقليمي مع ظاهرة الإرهاب ككل يولد انطباعاً عاماً يحعلها تبدو أكثر ارتباطاً بالإسلام والمسلمين من غيرهم، وهذا يخدم مصالح الإرهابيين الإسلاميين أنفسهم، فالإرهابي يريد أن يُعرف لأن هذا الأمر يساعده على الترويج لرسالته وعلى كسب الدعم والمؤيدين.

لكن الإرهابي في الواقع ليس سيد نفسه، وغالباً ما يتم استغلاله، بمعرفة عنه أو جهل، لخدمة مصالح وقوى إقليمية معينة. ولا شك في أن هذا الارتباط ما بين الدول والأنظمة الإقليمية من ناحية، والإرهاب من ناحية أخرى، يعقد إلى نحو كبير عملية محاربة التطرف في مجتمعاتنا ويعرقلها. فأنظمتنا السياسية، وبصرف النظر عن ادعائاتها وتبجحاتها المتكررة، بحاجة دائمة إلى وجود المتطرفين والإرهابيين في أوساطنا كونهم يشكلون أحد أدواتها الأساسية في الحكم، وستبقى هذه الأنظمة بالتالي الراعي والداعم الأكبر للتطرف والإرهاب في مجتمعاتنا، ونكاد في تأكيدنا هذا لا نستثني أياً من الأنظمة الحاكمة في منطقتنا.

ومن هنا بالذات ينبع ذلك الارتباط البيني المصيري لقضايا التوعية والتحديث والدمقرطة والمعارضة السياسية في مجتمعاتنا. ونظراً لهذا كله، لن يكون التغيير سهلاً أبداً، وليس من الغريب على الإطلاق أن تجد شعوبنا أنفسها مراراً وتكراراً غارقة في دوامة العنف والقتل والدمار.

سيطول هذا المخاض.


السبت، 14 أكتوبر 2017

التيارات الديموقراطية الشرقأوسطية وضرورة التحالف مع الغرب

ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ.



الحرة / من زاوية أخرى – بدى للكثير من الناس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة عقب ثورات أوروبا الشرقية المخملية في أواخر القرن المنصرم أن ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم أصبحت في طريقها للانقراض، وأن تأسيس نظام عالمي جديد قائم على الديموقراطية والليبرالية، على الأقل في ما يتعلق بمبادئه الاقتصادية، بات أمراً وشيكاً.

من هذا المنطلق، لا شك أن لعودة روسيا اليوم إلى الساحة السياسية العالمية مصحوبة بالإنجازات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لإيران، وباستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في الصين وتمدد نفوذها عبر العالم، علاوة على نجاح الكثير من الأنظمة الاستبدادية التقليدية في البلدان النامية في الحفاظ على بقائها في وجه ثلة من التحديات الداخلية والخارجية وبعد أن بدت آيلة للزوال في تلك الفترة الواعدة، لا شك أن لهذا كله وقعاً سلبياً كبيراً عند كل من بنى آماله وتوقعاته على انتصار وشيك للنظام الديموقرطي الليبرالي.

لكن هذه العودة لقوى الاستبداد والرجعية ليست مفاجئة في الواقع، فهي لم تختف عن الساحة أساساً، وما كان يمكن للأسباب والعوامل التي أدت إلى ضعفها المرحلي أن تستمر إلى الأبد أو أن تمهّد الطريق إلى ذلك التغيير الجذري المرجو بالسرعة التي توقعها أو حلم بها الكثيرون. إذ لا تمثل هذه القوى ظاهرة طارئة في المجتمعات، بل هي في الواقع امتداد لإرث حضاري تراكمي قديم لا يمكن له أن يتغير أو يتطور إلا من خلال المرور بذات المراحل التي مرت بها ديموقراطيات الغرب، بما في ذلك من كر وفر، من مد وجذر، ومن صراعات وانتكاسات.

قد يرغب البعض في حرق المراحل، عن طريق المواجهات الثورية مع النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية المستفيدة من استمرار الأطر التقليدية مثلاً، لكن تحديات تشكيل الوعي الجمعي وصياغته لا تسمح بذلك، والثورات الشعبية لا تؤتي أُكُلها إلا بعد أجيال من النضال والعمل المنظم، وتبقى نتائجها مرتهنة بقدرة النخب الثورية على الارتقاء إلى التحديات التنظيمية الخاصة بكل مرحلة وكل جيل. فالمعرفة وحدها لا تكفي هنا، وإطلاع المرء على تجارب التغيير في المجتمعات الأخرى وتبنيه لأفكار مختلفة عن تلك التي نشأ عليها لا يكفي بالضرورة لإحداث تغيير جذري في تصرفاته وسلوكياته. والقضية أصعب بكثير على المستوى الجمعي. ولنا في التناقض الصارخ ما بين أفكار الليبراليين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وتصرفاتهم الشخصية خير دليل على ذلك، كما سبق ونوهنا في مقال سابق.

لقد مر أكثر من قرن على دخول الأفكار الحداثية إلى مجتمعاتنا وتغلغلها فيها، ومع ذلك، وفيما خلا بعض القشور والمظاهر، ما تزال النزعات التقليدية والإيديولوجيات السياسية المتمحورة حولها أكثر قدرة على تحديد الأنماط السلوكية السائدة في مجتمعاتنا من الأفكار والقيم الحداثية.

وفي الواقع، مازالت المجتمعات الغربية نفسها تعاني من هذا التناقض، على الرغم من أنها تمثل الحاضنة الأساسية للحداثة. وها نحن نرى كيف تعاني هذه المجتمعات اليوم من عودة صراعات الهوية إلى الساحة بما في ذلك حنين صريح ومعلن إلى تأكيد الخصوصية القومية والعرقية والدينية للغرب عموماً، وللمجتمعات المختلفة فيه، وإن أدى ذلك إلى تراجع في ما يتعلق بالالتزام بالقيم الديموقراطية والليبرالية.

فحتى في الغرب إذن، ما تزال المعركة من أجل الديموقراطية مستمرة، لأنها في جوهرها معركة ضد نزعات متأصلة في نفوسنا كبشر، ولا يمكن لمعركة كهذه أن تنتهي أبداً، كما لا يمكن لها أن تُخاض في الغرب وحده. فها نحن نرى كيف سمح التراجع الغربي على الساحة العالمية إلى عودة روسيا (وغيرها من القوى التقليدية) إليها، بأحلامها الإمبريالية القديمة إياها، بل، وكيف شجعها هذا التراجع على إعلان الحرب على الديموقراطيات الغربية من خلال تلاعبها الإلكتروني بالانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.

من هنا تنبع حاجة الغرب المستمرة إلى بسط نفوذه خارج حدوده الجغرافية، فهو ما لم يخض المعركة خارج حدوده سيخوضها داخلها. لذا، وكما عادت روسيا والنظم الاستبدادية الرجعية إلى الساحة الدولية بعد غياب، لن تطول مرحلة التراجع الغربي التي نشهدها اليوم.

من ناحية أخرى، هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم، ومهما تلكأت الحكومات المعنية هنا فهي لن تتلكأ طويلاً، بل لا يمكن السماح لها بذلك، ومهما أخطأت في تناولها لملف الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأخفقت في التوفيق ما بين مصالحها المادية وهذه القضايا، علينا أن لا نسمح لهذه الأخطاء أن تعمينا عن ضرورة إيجاد طرق للتحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول (راجع مقالي السابق: عن الإمبريالية والديموقراطية – 2)، إذ ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. كما لا يمكن لنا أن ننتصر في مواجهاتنا مع أنظمتنا الرجعية المختلفة دون هذا التحالف، لأن هذه الأنظمة ومهما تناحرت ما بينها تعرف متى تتحالف مع بعضها البعض في مواجهاتها المستمرة مع شعوبها.

ويمثل السعي وراء قيام هذا تحالف القوى الديموقراطية هذا وفي هذا الوقت بالذات التحدي الحقيقي الذي ينبغي على كل العاملين في مجال الديموقراطية والتنمية في مجتمعاتنا التصدي له.


الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

عن الإمبريالية والديموقراطية (2)


الحرة / من زاوية أخرى – ناقشنا في المقالة السابقة ظاهرة الإمبريالية التقليدية وكيف اختار الغرب التعامل معها في النصف الثاني من القرن العشرين، ونوهنا إلى تفرد الغرب إلى حد ما في تعامله الأكثر مرونة مع هذه الظاهرة، الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على آليات صنع القرار في الدول الغربية وعلى طبيعة القرارات نفسها، وذلك في ذات الوقت الذي تصر فيه دول مثل روسيا والصين على تبني سياسات إمبريالية الطابع بغرض الحفاظ على إمبراطورياتها الموروثة، بصرف النظر عن إرادة شرائح واسعة من مواطنيها.

ولا تقتصر النزعة الإمبريالية على الدول العظمى فقط. فهي كما نوهنا نابعة من التركيب الجيني للدول والتجمعات البشرية عموماً. بل ما تزال هذه النزعة مسؤولة عن تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للدول في معظم أنحاء العالم، وبوسعنا أن نرى تجليات هذا الوضع في منطقتنا، أي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في الكيفية التي تتعامل بها دول المنطقة مع بعضها البعض، والتي لا تراعي مفهوم السيادة في الكثير من الأحيان، وفي كيفية تعامل السلطات المركزية في بعض الدول مع مناطق وشرائح اجتماعية بعينها. ولهذا بوسعنا أن نتكلم عن مظلومية كوردية في كل من تركيا وإيران، ومظلومية أمازيغية في شمال إفريقيا، ومظلومية أهوازية وبالوشية في إيران، إلخ.

وما بوسعنا أن نتجاهل في هذا الصدد أيضاً أن المملكة العربية السعودية قامت على أساس نجاح تحالف مناطقي/قبائلي معين في فرض إرادته وسيطرته على أراضي قبائل أخرى. ويتوقع بعض الخبراء الدوليين أن تعود هذه القضية المناطقية/القبائلية وتفرض نفسها على الساحة من جديد في المستقبل القريب مؤدية إلى تفتت السعودية وانهيارها إلى خمس دول.

لكن، وبصرف النظر عن مدى صوابية هذه التوقعات، يبقى الهدف من وراء إثارة قضية الإمبريالية هنا التنويه إلى أمرين أساسين، أولهما الطبيعة المعقدة لذلك الجدل الكبير حول ظاهرة الإمبريالية في الغرب الذي ما يزال محتدماً فيه منذ أكثر من قرنين، وما يزال له تأثيره الكبير في تشكيل السياسات الغربية. ولا ننسى في هذا الصدد نجاح المعسكر المناهض للحرب في المملكة المتحدة في إفشال القرار البرلماني بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري عقب الهجمة الكيماوية في الغوطة في آب 2013، وهو الحدث الإشكالي الذي تم فيه الخلط ما بين مفهومي الإمبريالية والتدخل الإنساني، الأمر الذي يكشف لنا مدى تعقيد الجدل الدائر في الغرب في هذا الصدد.

لكن، وفيما يستمر الجدل حول الإمبريالية في دول الغرب، لا يخفى علينا ذلك التغييب المستمر لأي حوار جدي حول هذا الأمر في معظم الدول الأخرى، إلا في ما يتعلق بإدانة بل وتجريم التجربة الغربية. لا وجود هنا لأي بعد أو انعكاسات داخلية لهذا النقاش، أو لأية محاولة لإلقاء الأضواء على الإرث والتجربة التاريخية الوطنية. فالإمبريالية بالنسبة لهذه الدول جريمة تُرتكب بحقها فقط ولا يمكن لها أن تنبع عن ممارساتها وسياساتها، هذا على الرغم من إصرار هذه الدول على الاحتفاء بماضيها الإمبريالي "المجيد" ومحاولتها اليائسة الحفاظ على ما تبقى من "مكتسباته،" مادية كانت أو معنوية.

إنها لثنائية خطيرة بالفعل، لكنها إن دلت على شيء فعلى ضرورة الربط ما بين قضية بث الثقافة الديموقراطية من جهة، وقضية مناهضة الإمبريالية من جهة أخرى. فالإمبريالية على أرض الواقع، وبخلاف الخطاب الإعلامي والثقافي السائد عالمياً، تبقى أكثر ارتباطاً بسياسات الدول الاستبدادية منها بسياسات الدول الديموقراطية. والدليل أن الولايات المتحدة تخطط هي وحلفاؤها لمغادرة العراق منذ اللحظة الأولى لغزوه، في حين جاءت القوات الروسية إلى سوريا وفقاً لاتفاقيات تسمح لها بالبقاء لأجل غير مسمى، بل وبتوسيع قواعدها ونفوذها أيضاً. وتنطبق الملاحظة نفسها على الوجود الإيراني في سورية أيضاً.

علينا أن لا نسمح للأخطاء التي ترتكبها الدول الديموقراطية ولفشلها الحيني في لجم نزعتها الإمبريالية أو العدوانية، بصرف النظر عن الأسباب والمبررات، أن تعمينا عن ضرورة التحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول، وعن ضرورة تبني الثقافة الديموقراطية ككل، في مواجهاتنا المتكررة مع تلك الأنظمة والدول التي ما تزال سياساتها الداخلية والخارجية تنم عن نزعة إمبريالية متجذرة لم تخضع بعد لأي مراجعة فكرية أو أخلاقية.

وما لم يتماش العمل من أجل نشر الديموقراطية مع العمل على مناهضة الإمبريالية التقليدية سنجد أنفسنا نقع مراراً وتكراراً في مطب الخلط ما بين الإمبريالية وبين التدخل الإنساني أو ضرورات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو غيرها من القضايا التي تتطلب بطبيعتها تدخلاً إقليمياً أو دولياً ما، الأمر الذي يؤدي إلى خلق فراغ وتبني سياسات تصب في خاتم المطاف في مصلحة القوى الإمبريالية والاستبدادية في جميع أنحاء العالم. ولنا فيما حدث ويحدث في سورية خير مثال على ذلك.

الاثنين، 2 أكتوبر 2017

عن الإمبريالية والديموقراطية (1)


الحرة / من زاوية أخرى -- على الرغم من أن مصطلح الإمبريالية غالباً ما يستخدم هذه الأيام عند الكلام عن الحروب التوسعية التي شنتها الأمم الغربية خصوصاً على حساب الدول والممالك الأخرى، فإن الظاهرة بحد ذاتها، أي ظاهرة الحروب التوسعية الرامية إلى احتلال أراضي الغير وضمها إلى دولة أو مملكة بعينها بصرف النظر عن رغبة سكانها الأصليين، ظاهرة قديمة قدم التاريخ وطالت كل المجتمعات والدول، وماتزال. إذ يبدو أن النزعة الإمبريالية/الاستيطانية توجد متجذرة في التركيب البنيوي أو الجيني ذاته للدول والجماعات. فإن كانت الشعوب قد أدركت ومنذ آلاف السنين أن احتلال أراضي الغير واستيطانها يعد عملاً مستنكراً وفعلاً شنيعاً، لم يكن من الممكن لهذا الإدراك بحد ذاته أن يلغي الدوافع والمصالح الكامنة وراء المطامح الإمبريالية، العقلاني منها، أي ذلك المرتبط بتحقيق مصالح مادية واقتصادية واستراتيجية معينة، والذاتي، أي ذلك المتعلق بشخصية الحاكم أو النخب الحاكمة، واقتصر دوره على "إجبار" القوى الإمبريالية على تبرير حملاتها الاستعمارية بوسائل مختلفة بما في ذلك: إنكار إنسانية الغير ككل، كما كان دأب قبائل ما قبل التاريخ بحسب بعض الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، أو اعتبارهم أدنى شأناً لاختلاف ما في الدين أو العرق أو اللغة أو الثقافة، أو إسباغ دوافع نبيلة على الحروب التوسعية مثل الادعاء أننا "جئنا لنخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام،" كما فعل المسلمون الأوائل، أو الاعتقاد بأن القدر ألقى على عاتقنا عبء القيام بـ "مهمة نشر الحضارة Mission Civilisatrice" أو "عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden،" كما أدعى المستعمرون الأوروبيون في القرون السابقة.

وقد يسرع البعض هنا ليضيف المساعي الحينية (أي المتفرقة) للولايات المتحدة الأميركية لنشر الديموقراطية إلى اللائحة السابقة، لكن ينبغي توخي الحذر هنا، فهناك فرق كبير ما بين الترويج لفكر سياسي معين، وبين السعي لضم واحتلال أراضي الآخرين. فمن الواضح لمن يتابع التاريخ الأميركي المعاصر والمشهد السياسي الأميركي أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية، لم تهدف أبداً إلى التوسع والاستيطان أو بناء المستعمرات بل إلى تحقيق مكاسب معينة مرتبطة بالمواجهة مع الاتحاد السوفييتي أبان الحرب الباردة وبالحرب على الإرهاب العالمي مؤخراً. ولا يشرعن تأكيدنا هذا التدخل الأميركي في أي من الدول، ولا يبرره، فليست هذه القضية المطروحة هنا، كما أنه لا ينفي وجود نزعة إمبريالية مستحدثة ومستبطنة مختلفة عما عهدناه سابقاً، نزعة نابعة من مطامح ومصالح وحسابات القوى المتدخِّلة والتي قد لا تنسجم بالضرورة مع مصالح شعوب الدول المستقبلة لهذا التدخل.

وهنا بيت القصيد.

لقد قامت الإمبرطوريات الغربية عبر العقود الماضية بتفكيك نفسها وبوضع قيود جديدة على تصرفاتها في مجال السياسة الخارجية جعلت من الارتكاس إلى النزعة الإمبريالية التقليدية أمراً في غاية الصعوبة، إذ لم يعد تقديم المسوغات والمبررات أمراً كافياً لتبرير التدخل في شؤون الدول الأخرى، بل أصبح من الضروري وضع ضوابط معينة له ولأدواته، بما في ذلك: بناء التحالفات الإقليمية والدولية لشرعنة التدخل، وتحديد الأهداف المزمع تحقيقها، ووضع جدول زمني ما لذلك، إلى آخر ما هنالك من قيود وشروط. وإن كانت هذه الخطوات تبقى قاصرة في ما يتعلق بمقاومة النزعات الإمبريالية عند الدول، لا ينفي هذا القصور أنها ساهمت، على عواهنها، في تغيير قواعد اللعبة على نحو جذري.

هناك ثلاثة أسباب أساسية وراء هذا القرار الغربي بالتخلي عن النزعة الإمبريالية: أولاً، رغبة القوى العظمى في تحقيق توازنات جديدة تجنبها مغبة الاقتتال البيني، ثانياً، رغبة الشعوب التي كانت خاضعة للاحتلال الغربي في تقرير مصيرها وسعيها لتحرير أنفسها، ثالثاً، الحوار الداخلي الطويل والصعب الذي شهدته المجتمعات الغربية حول حقوق الإنسان والشعوب، وبالتالي حول مدى شرعية النزعات الإمبريالية وجدواها الاقتصادية والسياسية.

لم تتبن كل الإمبراطوريات التقليدية هذه المقاربة الغربية، فالاتحاد الروسي مثلاً، وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي، ما يزال يشكل في بنيته وجوهره إمبراطورية إمبريالية تقليدية قائمة على احتلال أراضي الغير واستيطانها واستغلال ثرواتها الطبيعية لصالح سكان المركز، وعلى قمع حقوق السكان الأصليين بمختلف الوسائل، سواء في القفقاس أو الفولغا أو الأورال أو سيبيريا.

وتسري هذه الملاحظة أيضاً على جمهورية الصين المصرة بدورها ومن خلال تواجدها في شينشيانغ والتبت على تجاهل حقوق السكان الأصليين وإرادتهم، بل تسعى جاهدة إلى تحويلهم إلى أقلية مهمشة من خلال سياسات التهجير والتوطين.

والغريب هنا أننا نادراً ما نسمع أي انتقاد لهذا الوضع من قبل الدول والقوى التي تدعي أنها مناهضة للإمبريالية في العالم، في حين لا تتوقف وسائل إعلامها وتعليمها عن انتقاد التجربة الاستعمارية الغربية على الرغم من أنها انتهت منذ عقود.


الأحد، 24 سبتمبر 2017

من أين ينبع الفساد؟ من أين يبدأ التغيير؟

مظاهرة في حي السكري في حلب، سوريا -- 11 أذار، 2016


الحرة / من زاوية أخرى -- من أين ينبع الفساد في المجتمعات العربية المعاصرة: من رغبات الحاكم وتصرفاته أم من صنائع وفعال حاشيته؟ هذا هو السؤال الذي تمحورت حوله حلقة برنامج " تقرير خاص " التي كان لي شرف المشاركة فيها مؤخراً. وكان جوابي على هذا السؤال أن مشكلة الفساد التي تواجهنا في مجتمعاتنا المعاصرة عموماً هي أكبر من قضية الحاكم وحاشيته وتنبع من الطبيعة الخاصة لثقافتنا السياسية السائدة والتي تشكّلت في بيئة استبدادية يعد فيها الحفاظ على السلطة واستدامتها الهدف الأول والأساسي للحاكم.

ومن هذا المنطلق يصبح الفساد واحداً من الأدوات الأساسية للحكم كونه أحد أهم الوسائل لمكافأة الولاءات. إذ لا يشكل توزيع المناصب على المخلصين خطوة كافية في هذا الصدد ما لم يتم السماح لهم باستخدامها للتحصّل على منافع مادية من خلال جملة من الترتيبات غير الرسمية، وهذا بالذات هو التعريف القاموسي للفساد. هذا علاوة على أن الحاكم نفسه، وفي غياب آليات حقيقية للمكاشفة والمساءلة الشعبية، بل وفي إطار سياق تاريخي لم تكن فيه مسألة وجود هذه الآليات وضرورتها مطروحة أساساً، طالما اعتاد على اعتبار نفسه المتصرف والمتنفذ الأول والأخير في كل ما يتعلق بموارد الدولة، بل هكذا تعامل الناس معه، شعباً وحاشية. في ظل ثقافة من هذا النوع، كان من الطبيعي أن ينظر الحكام إلى المطالبات الشعبية بالشفافية والمساءلة وتداول السلطة ومحاربة الفساد على أنها تعدّ على شخصهم، وأن يتم التعامل معها كنوع من العصيان والتمرد على السلطة بل وعلى شرعية الحكام أنفسهم.

وفي سياق تاريخي لم يعتد فيه الحاكم على مكافأة الولاءات وإدارة آليات الفساد في الدولة فحسب، بل على التعامل مع شعبه كمكونات منفصلة، في غياب ومن ثم تغييب مقصود لمفهوم المواطنة، أصبح التفتت الاجتماعي هو القاعدة في معظم الدول وأصبح الفساد مرتبطاً بشكل وثيق بذات الآليات والمؤسسات المسؤولة عن الاستبداد والتفتيت وأصبحت مكافحة الفساد تستدعي نقاشاً ومعالجة جدية للعلاقات القائمة ما بين المكونات والمناطق المختلفة في كل دولة، وليس فقط للعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم. وبالتالي أصبحت مسألة الفساد ومكافحته مرتبطة بشكل وثيق بقضية الهوية وليس فقط بقضية الحكم وشخصية الحاكم وحاشيته وسلوكياتهم.

وإذ كان الصحفي الأميركي المعروف توماس فريدمان قد تحدث مؤخراً، وإن بشكل عابر، عن حاجة الدولة في كل من سوريا والعراق إلى "قبضة حديدية" تحكمها بغية الحفاظ على وحدتها، وأشار إلى السرعة التي انهارت بها الدولتان عندما تم رفع هذه القبضة عنهما، فمن الواضح أنه في معرض حديثه هذا يبدي جهله السافر بدور هذه القبضة الحديدية في تفتيت المجتمعات المحلية في البلدين وغيرهما من البلدان العربية ومساهمتها بالتالي في تفعيل الإضطرابات والمواجهات الطائفية وفي إضرام نيران الحروب الأهلية. وفي الواقع، لا يتناسب الإصرار على ضبط الأمور من خلال القبضة الحديدية إياها على الإطلاق مع متطلبات التطوير والتحديث المجتمعي، ولا يحقق إلا استقراراً مؤقتاً وزائفاً، وتبقى الديموقراطية على علاتها الوسيلة الأنجع لإدارة المجتمعات المفتتةبالذات لأنها مفتتة.

لكن الانتقال نحو الديموقراطية والمساءلة الشعبية يتطلب وجود إرادة حقيقية عند النخب السياسية في تحقيق هذه النقلة النوعية وهذا بدوره يتطلب تشكّل قناعة لديهم بضرورة إحداث هذه النقلة. ولكن كيف يمكن لهذه القناعة أن تتشكّل في ظل الثقافة السياسية الشعبية السائدة، وفي ظل ارتباط المصالح المادية الشخصية للحكام وحاشيتهم بالأنظمة والمؤسسات القائمة وتغلغل الفساد في سائر الطبقات والنشاطات الاجتماعية، وفي سياق الارتباط المصيري لمسألة الهوية الجمعية للمكونات الاجتماعية المختلفة بموضوع التغيير السياسي والمجتمعي؟

من أين يبدأ التغيير في هذه الحال؟ هذه هو السؤال الذي يختزل جوهر المعضلة التي تواجه معظم المجتمعات العربية المعاصرة.

بالعودة إلى مشاركتي في برنامج " تقرير خاص، " أكرر ما قلته في ختامه: يبدأ التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا من اللحظة التي يدرك فيها المواطن أنه هو نقطة البداية في عملية التغيير وأنه هو المسؤول الأساسي عنها وليس الحاكم أو حاشيته. الحكام ليسوا الحل: نحن الحل.

هذا بالفعل ما أدركه كل من شارك في تفعيل ثورات الربيع العربي. ويخطئ جداً كل من يعتقد أن هذه الثورات قد باءت بالفشل لأنها لم تنجح في تغيير شخصيات بعينها مثل رأس النظام السوري وغيره، أو لأنها فتحت الأبواب على اتساعها أمام كل أصناف القمع والعنف والتدخلات الإقليمية والدولية. على العكس، لقد أحدثت هذه الثورات تغييرات جذرية عميقة في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة بأسرها، علاوة على بناها المجتمعية الأساسية، حتى في تلك الدول التي لم تشهد تحركات ثورية في هذه المرحلة، لكن، لا يمكن لمعالم هذه التغيرات، بسلبياتها وإيجابياتها، أن تتضح إلا بالتدريج وعبر عقود قادمة. هذه هي طبيعة الثورات الشعبية وتوابعها. ولا يمكن للاضطرابات العنيفة أو للمواجهات والتصفيات والاصطفافات الداخلية ولا حتى للتدخلات الخارجية أن تزيل مشروعية التحركات الشعبية التي حصلت وتحصل في المنطقة، إذ يشكّل هذا الأمر أيضاً واحداً من التوابع الأساسية للثورات الشعبية وطريقة لتوثيق الروابط ما بين الصيرورات المحلية والعالمية.

وعلى أية حال، لم تنته هذه المرحلة الانتقالية الثورية بعد، إذ مازالت القدر تغلي بما فيها.