* معظمنا يريد الدعم الأمريكي مع احتفاظه بحق الاستمرار في كراهية
أمريكا والتنكّر لدعمها.
* معظمنا يلوم أميركا لتعاملها معنا من منطلق مصلحي، لكن هل تختلف
منطلقاتنا في التعامل معها؟ وألا تمثل المنطلقات المصلحية في معظم الأحيان الركن
الأساسي للسياسات الدولية، بل والمحلية أيضاً؟ نعم، نحاول أن نطرح على الدوام
موضوع المبادئ الإنسانية كبديل أو رديف للمنطلقات المصلحية في التعامل، لكننا نفشل
في معظم الأحيان: فللشعوب والدول أولويات مختلفة، والهوة التنموية والثقافية
ماتزال تفصل شعوب العالم وتجعلهم غير قادرين على فهم مسؤوليتهم الإنسانية
المتبادلة على النطاق العملي وبعيداً عن التنظير. وفي الواقع، إن طريقة التعامل مع
الشأن السوري تمثّل الحالة الطبيعية وليس الاستثنائية للأمور: طريقة التعامل في
تونس ومصر وليبيا، وإلى حد ما اليمن، كلها كانت استثناءات، لكن التسويف والمماطلة وتبادل
الاتهامات والمهاترات في المحافل الدولية، فهذه هي القاعدة التي كان ينبغي علينا
أن نحضّر أنفسنا للتعامل معها. ليس خطئاً أن نحاول أن نكون استثناءاً، لكن علينا
أن نحسن التعامل مع القواعد الأساسية أيضاً.
*
إذا جاءت أميركا بشروط للتعامل سمّيناها "إملاءات" ورفضنا
"الانصياع." لكن، ألا يحقّ للدولة المطالَبة على الدوام بالتدخّل وتقديم
العون والدعم أن تضع شروطها لذلك، خاصة وأن قادتها يدركون تماماً أنهم يتعاملون مع
تيارات سياسية لها إيديولوجيات قائمة على كراهية أمريكا ومناصبتها العداء (والكلام
هنا طبعاً عن الإسلاميين واليساريين)؟ ثم، هل كانت الشروط الأمريكية تعجيزية؟ هل
طالبونا بالتخلّي عن الجولان مثلاّ؟ لا. طالبوا بتمثيل أفضل للمكونات الاجتماعية
والسياسية، وللقوى الثورية في الداخل، وطالبوا بطرح رؤى واضحة للمستقبل؟ وطالبوا
بالاستعانة بكوادر أكثر كفاءة وقدرة على التفاعل مع المجتمع الدولي وإدارة تحديات
المرحلة الانتقالية. أين العيب والتآمر هنا؟ ولماذا نحن مقصّرون في هذا الصدد
أساساً؟
*
أمريكا تريد أن يكون تدخّلها في سوريا بحدوده الدنيا، ولهذا فهي بحاجة إلى معارضة
قوية ناضجة قادرة على ضبط الأمور على الأرض، وقادرة على التعامل مع مؤسّسات صنع
القرار الدولية، ولايكفي التحجّج بقمع النظام عبر العقود الماضية لتبرير تقصير
وعجز المعارضة في هذا الصدد، فالكثير من الشخصيات الموجودة حالياً على ساحة العمل
السياسي أقامت في الخارج لسنين طويلة، لكن أدائها في الفترة السابقة يدل على أنها
لم تتعلّم الشيء الكثير عن آليات العمل السياسي وأن انتماءاتها الإيديولوجية كانت
أقوى من أن تسمح لها بالانفتاح على المجتمع الدولي. في حين أثبتت المعارضة
الداخلية انقطاعها عن نبض الشارع، وتعاملت معه بتخوّف بل وعدم احترام في كثير من
الأحيان، وهذا ما لاحظه جميع المراقبين. كل هذا جعل موضوع التدخّل قضية شائكة. بل
أصبحت أمريكا مطالبة بإعادة تأهيل المعارضة، وفي كل لقاء لمسؤولين أمريكيين مع
المعارضة كان مطلب مساعدة المعارضة على الارتقاء بأدائها وبناء قدراتها أحد
المطالب الأساسية، لكن المشكلة في هذا الصدد، وكما يقول المثل الأمريكي، أنه
"ما بوسعك أن تعلّم الكلب العجوز حيلاً جديدة." الجيل القديم للمعارضة
يريد أن يتبوّأ الصدارة ويحتكر صنع القرارات ويتعامل مع الأمور من منطلق
الاستحقاق، وكأن القيادة هي مكافأة على ما قدم من تضحيات. وأدى هذا الإصرار
إلى تهميش دور الشباب وبالتالي التكنوقراط في قيادة العمل السياسي. من ناحية أخرى،
ما تزال الإيديولوجية تلعب دورها بين الصفوف بغض النظر عن الأجيال والأعمار،
فالكثير من المعارضين والناشطين الأكثر شباباً يتعاملون مع المجتمع الدولي وأمريكا
على وجه الخصوص من منطلق "عيني في وتفو عليه،" تماماً كما يفعل الجيل
القديم، تجمعهم في ذلك الإيديولوجية أو تدفعهم إلى ذلك خلافاتهم الشخصية والرغبة
في تسقّط الهفوات وتسجيل النقاط ضد بعضهم البعض بطريقة فيها الكثير من الإسفاف
والغوغائية.
*
نعم، هناك تقصير أمريكي، لكن المعارضة بتعارضها ومشاكلها الداخلية ساهمت في تبريره
وتكريسه. لقد تواصل الكثير من الخبراء الدوليين والأمريكيين مع المعارضة، سواء
المجلس الوطني أو هيئة التنسيق أو الشخصيات المستقلة، وشرحوا لنا مراراً وتكراراً
كيف يمكن لنا ممارسة الضغوط على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للتحصّل على ما
نريد، قالوا لنا أن الأمر لن يكون سهلاً لكنه يبقى ممكناً في حال تبنّينا نهجاً
واضحاً ومناسباً في هذا الصدد. ومن خلال احتكاكي الشخصي مع عدة محاولات من هذا
النوع على مر الشهور الماضية، بوسعي أن أقول أن التقصير الأساسي منا في الحقيقة.
لقد شكّكنا في كل نصيحة قدّمت لنا، وتعاملنا بفوقية غريبة مع كل محاولات الدعم،
وغلّبنا المنطلقات الشخصية والإيديولوجية على المصلحة العامة، والنتيجة هي ما نرى.
*
كل من يتابع مدونتي الإنكليزية يعرف تماماً بأني لم أقصر في انتقاد الأداء
الأمريكي وفي الضغط على إدارة أوباما، وسأستمر في ذلك، ولايهمني في ذلك اعتبارات
اليمين أو اليسار، أو الاتهامات التي ما انفكّت توجّه إليّ منذ دخولي في مجال
العمل العام لرفضي الاندراج في أحد المجموعات المتعارف عليها في مجتمعنا. لكني وفي
خطابي الموجّه إلى السوريين، أرفض الانضمام إلى جوقة منتقدي الإداء الأمريكي
ومتهمي أمريكا بالتآمر، لأن هذا النقد في أغلب الأحيان إيديولوجي الطابع، يكنّ
العداء لأمريكا كأمريكا مستنداً إلى قراءة مجتزأة للتاريخ ومعرفة قاصرة
بالتجربة الأمريكية (لاتكفي قراءة تشومسكي ليتعرّف المرء على التجربة الأمريكية).
من ناحية أخرى، نقد أمريكا في هذه المرحلة بالذات واتهامها بالتآمر ضد الثورة من
خلال استخدام الصراع في سوريا لاستنزاف إيران، إلى آخره من نظريات، كل ذلك يستخدم
كشمّاعة نعلّق عليها إخفاقنا، متجنّبين بذلك ضرورة تقييم ونقد أدائنا
وإيديولوجياتنا كمعارضة، بعيداً عن تبادل الاتهامات والشتائم.
*
سوريا التي عرفناها ماتت، ولن ينبعث خلق جديد من رفاتها مالم تتوفّر الشروط
المناسبة لذلك. أول تلك الشروط: القدرة على التسامي على النزعات الفردية والإيديولوجية.
شخصياً لاأعتقد أن المعارضة قادرة على ذلك في هذه المرحلة، وهذا يعني أن أمامنا
سنين عديدة من العمل، وقد لاننجح. أما عن الدور الأمريكي في هذا، فلا، أمريكا ليست
مسؤولة عن فشل المعارضة وانهيار سوريا: ما بين معارضة ونظام، المسؤولية بالدرجة
الأولى مسؤوليتنا.