السبت، 30 أبريل 2016

لم نعد أمويين، ولا عباسيين، ولم تعد الدنيا بستاناً لهشامنا

طريق الحرير للفنان الصيني جيانج هونجيانج - 2008

لم نعد أمويين، ولا عباسيين، ولم تعد الدنيا بستاناً لهشامنا، ولم يعد ريع أمطارها حكراً على مليكنا المظفر. لقد دارت علينا الدوائر، وقضي الأمر. ولن نعود كما كنا مهما فعلنا. بل لا ينبغي للعودة أن تكون هدفاً لنا. لا العودة إلى الماضي ممكنة، ولا استرجاع أمجاده ممكن، خاصة إذا بقيت الغَلَبَة في منظورنا الثقافي المعيار الأساسي للمجد. إذ لم تعد القدرة على قهر الآخرين معياراً مناسباً للأمجاد اليوم، ولا يمكن، بل، لا ينبغي لها أن تكون. فالعدالة لا تكمن في تداول القهر. وإن بدا الأمر "طبيعياً" في السابق، لم يعد هذا تعريفاً مقبولاً للنصر. وإن تلاءمت أفعال سلاطيننا مع مبادئهم فيما مضى، أصبح التناقض بينها القاعدة اليوم. وفيما يصر البعض منا على التمسك بطرق الماضي وأفكاره، بدأ شيء ما في وعينا يتمرد على هذا الأمر. المجد اليوم تنمية ومعرفة وحرية أكثر منه سلطة وغلبة وقهر، ولا تسعى الدول القوية اليوم إلى قلب الموازين العالمية القائمة، بل إلى تعديلها فحسب. نحن من يصر على ربط المجد بالغلبة، ولأننا عاجزون عن مقارعة الأقوياء بغير أفواهنا، نكاد لا نفتر عن مقارعة أنفسنا، مستعينن غالباً بالأقوياءـ لكن، لا نصر لمن يصارع نفسه ما خلا الموت. وفي سعينا المستمر إليه، حبذا لو سألنا أنفسنا للحظة تأمل خاطفة: من نحن؟ إذ علينا أن نعيد تعريف أنفسنا اليوم لننهض من جديد، وأن نقول "لا  للغلبة، لا للقهر،" وأن نطالب بدرجة أكبر من الانسجام ما بين المعايير التي أصبحت مطروحة اليوم لتقييم الأفعال، وبين الأفعال ذاتها. لأننا، وإن لم نعد أمويين أو عباسيين، ما نزال بشراً، وما يزال بوسعنا المشاركة في صنع القدر، عوضاً عن أن نكون عبئاً عليه. وإن كان ذلك لا يتسنى لنا عن طريق الإقتداء بمن رحل، فبوسعنا أن نقتدي بمن حضر، بشعوب تلك الدول التي لم تعد تتمسك بالماضي وقيمه، وأصبحت علاقتها معه، كعلاقتها بالحاضر والمستقبل، علاقة جدلية الطابع أكثر منها تبعية. مع التنويه إلى كون الاقتداء شيء، والتبعية شيء آخر، وإلى أن الإبداع هو المبتغى هنا، وهو الفعل الذي نبحث عنه، وهو مفتاح عودتنا إلى المستقبل: الموطن الحقيقي للمجد.

الجمعة، 29 أبريل 2016

لم ولن يتساووا


تعدّد القتلة في سوريا لكن لم ولن يتساووا. لماذا؟ لنفس السبب الذي يجعل القانون والمجتمع يفرقان بين من قتل عمداً فرداً، أو حتى مجموعة من الأفراد في ذات العملية، والقاتل المتسلسل الذي يتبنى طقوساً ومنهجية معينة في القتل، ويستمر فيه حتى يموت أو يقبض عليه، أو يتوقف من تلقاء نفسه لتغير ما في مزاجيته المريضة الخاصة. والدافع وراء هذا التمييز هو إدانة العقلية المريضة المسؤولة عن تصرفات القاتل المتسلسل، وإدانة منهجية القتل ذاته: أي تحويله إلى صناعة "طبيعية،" أو نشاط مثل أي نشاط آخر يقوم به الفرد للمتعة أو التنفيث أو التهجد.

لقد أصبح القتل عند نظام الأسد وحلفائه صناعة، ووحدها داعش تتبنى منهجية مماثلة، وإن على نطاق أضيق بكثير لضيق إمكانياتها بالمقارنة مع الإمكانيات المتاحة للنظام وحلفائه.

لا يستوي الارتجال والمنهاج. وكل ما أرجوه اليوم أن لا تحاول بقية أطراف الصراع في سوريا أن تمنهج عملها في هذ الصدد أيضاً، فهناك فرق ما بين تنظيم العمل العسكري، الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط له أيضاً، ومنهجة القتل، التي تتطلب تغييب إنسانية الطرف الآخر، وبالتالي إنسانية الطرف القاتل أيضاً. فالمنهجة إذن تعني أن المرض قد تفشى، وإن الجميع قد خسر، خسروا إنسانيتهم أولاً ثم الحرب، بسبب خياراتهم ذاتها.

ولا ننسى أن مصطلح الإنسانية المستخدم هنا يدل على تطلع داخلي عميق وقديم نحو الأفضل، نحو أن نصبح نحن كبشر: أفضل، أن نكون بطبيعتنا التي سميناها باسمنا: أفضل. إن خسارتنا لهذا التطلع هي خسارتنا لمعركة الوجود ذاته، لأنه سيصبح بعدها بلا معنى، في حين تتجلى الميزة الأساسية للوعي الإنساني في البحث المستمر عن المعنى.



الأربعاء، 27 أبريل 2016

التوحيد


هل هناك في عقيدتك ورؤيتك قدسية لأفكار وشخصيات بعينها تبقى دائماً فوق المسائلة، والمراجعة، والنقد، والرفض؟ إذن، أيقن بأنك وثني، مشرك، لاتفقه شيئاً في التوحيد مهما ادعيت بلسانك، فالتوحيد لا يقدس إلا الحياة، حياة الجميع، ويدعو إلى الشك دائماً، لا اليقين، لأن المعرفة لا تتوقف، التوحيد خبرة مستمرة، وتغير، وتغيير، وجدل، وتفاعل للكل مع الكل، وللماضي مع الحاضر والمستقبل. أين هذا من الجمود الذي تدعو إليه؟ 

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

حين يستوي الظالم والمظلوم

عبء الظلم للرسام باولو زيرباتو

هل هناك في عقيدتك ورؤيتك ما يبرر ويشرعن الاعتداء على الغير باسم الحق وبدعوى إخراجهم إلى النور؟ أو يشرعن تصنيف الآخرين في القانون بحسب آرائهم ومعتقداتهم، فيُحاسَب البعض ويُجرَّمون وفقها، في حين تُسبغ عليك أفضلية في المعاملة، فقط لأنك ولدت وترعرعت على عقيدة بعينها، وبصرف النظر عن سلوكك وتصرفاتك؟ إذن أيقن بأنك ظالم، حتى وإن كنت في هذه المرحلة مظلوماً، لإنك في شرعنتك لظلمك، أو بالأحرى للظلم الممارس باسمك وباسم عقيدتك ورؤيتك للأمور، قمت عملياً بشرعنة الظلم للجميع في كل مكان وعبر التاريخ، فلا يهم عندها أين موقعك من الإعراب، ويستوي هنا الظالم والمظلوم لاتفاق آرائهم حول شرعية الممارسات، بصرف النظر عن اختلاف المبررات. 

الاثنين، 25 أبريل 2016

العيش في الهامش


ألِف معظمنا العيش في الهامش، حيث لا شُبهة ولا مسؤولية، وإن لم تنتفِ جميع المخاطر فيه. فمن مأمنهم النسبي هناك بوسعهم أن يراقبوا ما يحدث من حولهم بتجرّد نابع عن البلادة، لا عن الموضوعية أو العقلانية، وأن يعلّقوا عليه وينتقدوه من منظور مثاليّ وطهرانيّ لا يرضى إلا بالكمال حلاً وإنجازاً. هكذا تبقى الضمائر مرتاحة والأيادي نظيفة، وإن لم يتم إنجاز شيء. وأنّى له أن يتمّ، وهو الذي لا ينبع إلا من الخوض في قلب المعمعة، بكل ما فيها من مخاطر وتحديات، وكل ما يتطلّبه الخوض فيها من عثرات وتنازلات ومساومات، في حين يصرّ أصحابنا على المكوث في الهامش، منتظرين أن يُعطى الإنجاز لهم مكرمة وتفضّلاً من القدر/الله/الصنم الذي يعبدون.

لكن، ولأن معظمنا ترعرع على الاعتقاد بأن "الآخرين،" ذلك المصطلح الذي غالباً ما يستخدم كمرادف للشياطين في ثقافاتنا، الشعبية منها والنخبوية، هم المسؤولون دائماً عن إخفاقاتنا المتكرّرة بمؤامراتهم التي لا تنتهي ضدنا، كوننا سرّ الخليقة وأفضل أمة أخرجت للعالمين، كما تنبئنا تعاليمنا الدينية، وأننا في الواقع مجرد ضحايا لجشعهم، لا يحرّضنا غياب الإنجاز هذا على مراجعة أفكارنا ومعتقداتنا الأساسية، بل، على العكس، نراه يكرّسها يوماً بعد يوم، وإخفاقاً بعد إخفاق، وغياباً بعد غياب. هكذا يبرّر الفشل نفسه في الثقافات التي ترى في الأمان، وبالتالي، في الجمود والثبات والتراث ومقاومة التغيير، قيمة مطلقة. وهكذا يصبح النجاح فيها مستحيلاً. 

الأحد، 17 أبريل 2016

قصة اغتيال معلن


في مثل هذا الوقت تقريباً من العام الماضي، طرحت رؤية لحل سياسي في سوريا تشمل تأسيس حكومة انتقالية، وعرض رسالة على الأسد مفادها الاستقالة من منصبه مقابل البقاء في سوريا، وتحديداً في المناطق المؤيدة، مع تحييد دور دمشق كونها العاصمة التي ينبغي أن تسمح بتمثيل كل الأطراف فيها. لم أتطرق لموضوع العدالة الانتقالية بشكل مباشر راغباً في أن تقوم الأطراف الدولية باستخدامها كورقة للضغط على الأسد لإقناعه بالقبول بالطرح. كان يمكن لهذا الطرح أن ينفع على الرغم من التدخل الروسي، لكن تعنت الأسد يجعل هذا الطرح مستحيلاً اليوم، بل يبدو من الواضح أن الاغتيال، وعلى أيد صديقة، بات هو الحل الوحيد لمعضلة الأسد.

أنا لا أدعو إلى هذا بالطبع، بل إني أفضل خيار المحكمة الدولية، لأنها تشكل رسالة أقوى إلى المستبدين الآخرين في هذا العالم أن العدالة قادمة لا محالة، لكن الدول الصديقة للأسد هي التي تجد حرجاً في الاحتكام إلى القانون الدولية، وهي التي ستضطر، مقابل الحفاظ على مكاسبها في سوريا، إلى التضحية بالأسد. لأن تعنت الأسد يحرجها بأكثر مما يحرج الأطراف الأخرى، خاصة الولايات المتحدة. إذ ما لم تتمكن من وضع حد لصلفه، بعد كل ما قدمته له من دعم، لا بد وأن تتأثر مصداقيتها عند الأطراف الأخرى، الأمر الذي سيكون له انعكاساته السلبية على ما يجري من حوارات حول حزمة هامة من القضايا العالقة.


الأحد، 3 أبريل 2016

سوريا والحوار المغيَّب حول تفاعلات الهوية والطائفية، والأقليات والأكثرية


أثبت تاريخنا المعاصر أنه لا يمكن للأقليات الدينية أو الطائفية أن تكون حامل العَلمانية في مجتمعاتنا إن إردنا لهذه المجتمعات أن تكون ديموقراطية أيضاً. كما لا يمكن للأكثرية الدينية أو الطائفية في مجتمعاتنا أن تكون ديموقراطية حقاً ما لم تكن عَلمانية أيضاً، لكن، لا يمكن لهذه الأكثرية أن تتبنى العَلمانية ما بقيت الأخيرة تستخدم كمبرر فكري وسياسي لاستبداد الأقليات، وما بقي مفهوم العلمانية بحد ذاته مشوهاً في أذهان الأقليات والأكثريات على حد سواء.

فالنزعات الأصولية المتشددة عند الأقليات في مجتمعاتنا لا تقل في الواقع تشدداً عما نراه عند الأكثريات، وإن اختلفت المظاهر، وأحياناً المسوغات. ففيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية مثلاً، لا يقل رفض الأقليات الدينية لها عنفاً عنه عند الأكثرية المعنية. علاوة على ذلك، تقوم بعض الأقليات باستخدام اختلاف عاداتها وتقاليدها وأعرافها، و/أو مظلوميتها التاريخية الخاصة، كمبرر لازدراء الأكثرية وحقوقها وللتشكيك المستمر بنواياها مستغلين وجود شرائح متشددة في صفوفها، بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى نشأة هذه الشرائح، وعن رفض الأكثرية المعنية لها كونها تشكل تهديداً لهذه الأكثرية أيضاً.

ويهيمن عند هذه الشرائح المتشددة في صفوف الأكثرية مفهوم للعلمانية يجعلها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية لهذه الأكثرية، خاصة في تلك الحالات التي تصر فيها النخب الثقافية عند هذه الشرائح على فكرة حصر "الحاكمية" بشرع الله، مما يقتضي أن تقوم الدولة على أساس الدين. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطائفة السنية، فالشيعة أيضاً يعانون منها تحت مسمى ولاية الفقيه، ومسميات أخرى.

لكن، إلى أي حد تمثل هذه الشرائح الأصولية المتشددة الطائفة التي تنتمي إليها، وما هو مدى نفوذها وتأثيرها؟

بصرف النظر عن طبيعة الإجابات التي يمكن أن تنشأ عن التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة، تكمن المشكلة الحقيقية في وجود إجابات مسبقة عليها عند الجماعات الطائفية المختلفة، إجابات لها مصداقية ووقع في نفوس المعنيين بها أكبر من أية معايير موضوعية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد.

ففي سوريا مثلاً، ترى أن وجود هذه الشرائح الأصولية عند أهل السنة يشكل سبباً كافياً عند الأقليات الدينية والطائفية  السورية لعدم الثقة بهم نهائياً فيما يتعلق بإدارة الدولة وأجهزتها الحساسة، خاصة القطاعات العسكرية والأمنية، بصرف النظر عن الحجم الديموغرافي الحقيقي لهذه الشرائح، وحقيقة كونها تشكل أقلية ضمن الأكثرية، وبصرف النظر عن وجود شرائح سنية واسعة حافظت على ولائها للأسد أبان الثورة، وأخرى صامتة. من هذا المنطلق جاء شعار "الأسد أو نحرق البلد،" والشعار الأفصح منه "كس أخت الحرية،" علاوة على هالة القداسة التي أسبغت على البسطار العسكري، لتشكل أصدق وأجلى تعبير عن المخاوف التي تجول في نفوس الأقليات في هذه المرحلة، بحيث يصبح اختيار العيش في ظل الفساد والقمع الممنهجين لنظام الأسد، أو حتى اختيار الفوضى والتفتيت، خير من حكم أهل السنة. وتأتي جهود النخب الأقلوية المثقفة لتقديم الكثير من التحاليل "العقلانية" لتبرير هذا الموقف الشعبي لطوائفهم كمؤشر على الكيفية التي يتم من خلالها تجنيد العقل لخدمة الخوف والعصبوية أولاً وأخيراً. ففي الواقع، هناك تغييب في هذه التحليلات، متعمد عند البعض، لكنه غير واعٍ عند السواد العام، بصرف النظر عن مكانتهم الفكرية، لكل المعطيات التي تناقض افتراضهم الأساسي حول طبيعة الثقافة السنية التي تبقى، من وجهة نظرهم، متعجرفة، وعنصرية، واستبدادية الطابع، وغير قابلة للتحديث، وذلك بخلاف الاعتقادات السائدة لدى معظمهم حيال عقائدهم الخاصة، والتي يخالها الكثير منهم أقرب إلى الحداثة أو  الإصلاح من عقائد أهل السنة. فقبول الشيعة الجعفريين بتساوي حصة المرأة والرجل في الإرث يجعل معتقداتهم أقرب إلى الحداثة، وكون العلويين أقل تعلقاً بمعتقداتهم الدينية يحعلهم أقرب إلى الحداثية، وكون المسيحيين مسيحيين يجعلهم أقرب إلى الحداثة لأنها الغربية المنشأ، والغرب "مسيحي." إن هذه الطروح على سذاجتها الصارخة تعتبر من المسلمات.  


لا يترك هذا الأمر  مجالاً كبيراً أمام أهل السنة للدفاع عن أنفسهم أو تبريرها. والواقع أنهم ليسوا أبرياء تماماً، فالسلطة مورست باسمهم في البلاد، أي سوريا الطبيعية، حتى ما قبل تأسيسها في العصر الحديث، على مر قرون من الزمن، ولا شك في أن لهذا الواقع  أثره الكبير على أنماطهم السلوكية والفكرية العامة، أنماط قد تغيب عن انتباههم، لكنها لا تخفى على الأقليات. فـ "نون" الجماعة التي غالباً ما تستخدم في الخطاب السوري الرسمي الموجه للعموم، وفي معرض الكلام العام عن "ثقافتنا" و "قيمنا" و "مبادئنا و "همومنا"... تشير في الواقع إلى الثقافة والقيم والمبادئ والهموم كما يفهمها أهل السنة بالدرجة الأولى، بل المحافظون والمتدينون والمدينييون منهم على وجه الخصوص. ولقد سعى نظام الأسد عن قصد وإدراك وبشكل منهجي إلى تكريس هذا الواقع لما فيه من تهميش لثقافات وقيم وتطلعات الأقليات بالذات، مما لا يترك أمامها إلا خيار الاصطفاف وراءه.

وإن كانت الخيارات الإيديولوجية السياسية للأقليات تعكس إلى درجة ما مخاوفها حيال الأكثرية، أهل السنة في الحالة السورية، فقلما عكست الخيارات السنية، حتى الآونة الأخيرة على الأقل، تفهماً حقيقياً وعميقاً لهموم ومخاوف وتطلعات الأقليات الدينية والطائفية في البلاد، ناهيك عن الأقليات القومية، ولكونها تختلف في جوهرها وفي الكثير من تفاصيلها عن نظائرها عند أهل السنة. وفي هذا الأمر بحد ذاته دلالاته الخاصة التي تسبغ بعض الشرعية على مخاوف وشكوك الأقليات حيال أهل السنة.

لكن المشكلة الأكبر تكمن في رفض الأقليات الدينية والطائفية التعامل الصريح مع هذه القضية حتى اليوم، أي في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من أهل السنة يشعرون بأهمية وحقيقة وخطورة هذه القضية، قضية حقوق الأقليات والترتيبات المتعلقة بحمايتها، وأصبحوا يبدون استعدادهم للتعامل بانفتاح أكبر معها، وإن اختلفت طروحاتهم في هذا الصدد. وربما يكمن السر وراء هذا الرفض الأقلوي لطرح حقوقهم على مائدة البحث بشكل صريح ومن خلال مناقشة ترتيبات بعينها يمكن لها أن تضمن حقوقهم في المستقبل في أن هذا الأمر يشير بوضوح إلى وجود عامل أصولي و "رجعي" في فكر وسلوكيات الأقليات أيضاً، وهو الأمر غير المقبول من قبل النخب المثقفة والسياسية عند الأقليات التي تصر على إلصاق تهمة الأصولية والرجعية بالأكثرية السنية حصراً، في الوقت الذي تطرح فيه هذه الأقليات نفسها، عن طريق نخبها الفكرية والسياسية، كرائدة التطور والتقدم والتحديث في سوريا، بل والمنطقة. لذا، ترفض هذه النخب، في خطابها على الأقل، وبصرف النظر عن طبيعة الممارسات السياسية للنظام الذي حكم سوريا بإسمها وبذريعة ضمان أمنها عبر العقود الماضية، التعامل مع قضية "حقوق الأقليات،" وتصر على اكتفائها بمفاهيم المواطنة والمساواة. ويشكل هذا الإصرار، من الناحية العملية، رفضاً لأي بديل لما هو قائم: نظام استبدادي يحكم باسم الأقليات، ويقمعها أيضاً ليكرس قبضته عليها ويمنعها من إفراز أية بدائل داخلية له، لكنه يختص بالذات ويتفنن في قمع الأكثرية.

لقد ساهم الإحساس بالمظلومية التاريخية حيال أهل السنة في صنع هوية أقلوية معاصرة ترضى لنفسها العيش تحت نير الاستبداد، طالما بقي أهل السنة بعيداً عن سدة الحكم، بصرف النظر عن الاعتبارات الديموغرافية والحقوقية والإنسانية، أو عن بوجود عوامل مشتركة في الهويات الجمعية لدى الجميع.

لقد أصبح شعور الأقليات الدينية والطائفية في سوريا بالأمان مرتبطاً ببقاء أهل السنة في القفص وتحت حكم البسطار العسكري. أضف إلى ذلك، ونظراً للكيفية التي استخدمت بها القوى الخارجية في السابق، واليوم، قضية حقوق الأقليات وحمايتها كمبرر لحملاتها الاستعمارية والاستيطانية في البلد والمنطقة، يبدو من الطبيعي أن تتجنب النخب الممثلة للأقليات أي طرح صريح يمكن أن تشتم منه رائحة التقسيم والسياسيات التفضيلية، إذ لا تريد  هذه النخب أن تتهم بأنها طابور خامس يسعى لخدمة مخططات خارجية. وإن كانت الوقائع منذ بداية الثورة تشير إلى أن من يحكمون سوريا باسم الأقليات كانوا هم السباقين إلى الاستعانة بقوى الخارجية لحمايتهم، وأنهم هم من يخلق وعن قصد واقع التقسيم على الأرض، وهم من قام بحملات تطهير عرقي قبل غيرهم، وعلى نطاق أوسع، وأحرقوا خاصة تلك المناطق من البلاد التي يسكنها أهل السنة، وأنهم هم من سعى ومن اللحظة الأولى لنهجهم القمعي حيال الثورة إلى تأمين تلك المناطق التي تسكنها أقلية بعينها، وتعتبرها موطنها الأصلي. 

هكذا، وبسبب وجود موقف عدائي مسبق من الأغلبية السنية، وبسبب جهل النخب الفكرية والسياسية السنية لهذا الواقع بمضامينه المختلفة، أو تجاهله، وبسبب التبني المسبق من قبل الجميع لنظريات المؤامرة التي، وإن كان لها مبررات تاريخية، ساهمت رؤانا المؤدلجة في تضخيمها إلى درجة لم نعد نعي فيها مقدار مساهمتنا في بناء واقعنا المعيشي والسياسي، وأنا نتحمل القسط الأكبر عما يجري في حياتنا وما يقع علينا من ظلم، كان من السهل على البعض منا تصديق أكاذيب الأسد حول "المندسين" و "المؤمرات الكونية،" ومن السهل على البعض الآخر الإنجرار وراء الأحلام الغيبية والرؤى المتشددة. لقد ساهم انغلاق الأقليات على نفسها لقرون سابقة، نتيجة للنظام المللي العثماني الذي حماها وعزلها في آن، على الأقل في أواخر عقوده، وعلى الرغم من انفتاحها على المستعمر الفرنسي خلال وجوده في البلاد، والذي ترك رحيله عندها إحساساً بالخذلان طالما تجاهلته أدبياتنا، بل على العكس، ظهر تيار فكري وأدبي ركز على تواطئ بعض التجار السنة مع المستعمرين الفرنسيين، فيما تم تجاهل التواطئ الأقلوي الأعمق والأكثر شعبية، ساهم هذا الانغلاق  في تكوين مظلومية حادة عند الإقليات الدينية والطائفية في سوريا مبنية على أساس تراكمي تحكمه المزاجيات والذاكرة الجمعية النفعية والمكرسة للعصوبية الخاصة بكل فريق، أكثر من الحقائق التاريخية والتمحيص والتحليل الموضوعي لها. بمعنى آخر، هناك الكثير من الأوهام إلى جانب الحقائق في إحساس الإقليات بالمظلومية، والكثير من التحامل على فئة مسحوقة مثلهم، حتى وإن كانت تشكل الأكثرية.

ولهذا، لن يقدم ممثلو الأقليات المقبولين شعبياً (إذ لا تهم في إطار هذا التحليل هنا المواقف الفردية لبعض الشخصيات طالما بقي نفوذهم ومصداقيتهم على المستوى الشعبي محدوداً للغاية) أي حل منطقي للأزمة، وسيدأبوا على رفض المقترحات والرؤى الموضوعة من قبل التحالفات التي تشرف عليها الأكثرية، لأنها ستبقى دائماً مقصرة، خاصة وأن الحل المثالي الذي ترتاح إليه الأقليات يبقى مرتهناً، كما نوهنا آنفاً، إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، مهما كانت سيئة. فمن الأسهل على الأقليات من الناحية النفسية أن تتمسك بإيمانها بأنها الضحية الأساسية لأهل السنة ولطموحات الأسد ومن حوله وفسادهم، ولثلة من المؤامرات الخارجية من الدول ذات الأغلبية السنية، مثل تركيا والسعودية وقطر، علاوة على أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من أن تواجه حقيقة مساهمتها الملوسة في صنع هذا الواقع.  باختصار، سيبقى ممثلو الأقليات في خطابهم العام يتمسكون بالوحدة والسيادة الوطنية، لكن ستبقى أفعالهم وخطابهم الداخلي الخاص يمهد للتقسيم والتفتيت والفوضى والإرهاب، حتى ذلك الممارس باسم أهل السنة ونصرتهم، وذلك  من خلال تورط النظام في إنشاء وتشجيع الجماعات الإرهابية. فالخوف هو الحاكم هنا: الخوف من أهل السنة، المضطهِد والظالم والمذنب الأول بحق كل الأقليات، كما يرى السواد الأعظم فيها.


ولقد ساهمت كل هذه الاعتبارات من ناحية، والنزعة أو العقلية "المركزية" عند أهل السنة من ناحية أخرى، والتي تضعهم دائماً، كما هي الحال مع سائر الأكثريات التقليدية، في مركز الصيرورات وعلى قمة الهرم، وهي الحقيقة التي تتجلي دائماً في تصرفاتهم وسلوكياتهم وكيفية اتخاذهم للقرارات التي تنم كلها عن فوقية وعنجهية يشعر بها الجميع ما خلا أصحابها... كل هذه الأمور والاعتبارات ساهمت في تشكيل ذلك الاتفاق الضمني الذي يبدو أن النخب الفكرية السياسية والاجتماعية والدينية التي شاركت في عهد التأسيس لسوريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قد توصلت إليه بطريقة أو أخرى.

ويتجلى هذا الاتفاق في التناسي المنهجـي لطبيعة التحولات السياسية المختلفة التي ساهمت في تشكيل الدولة السورية الحديثة، بما فيها الخلافات والحوارات التي دارت بين النخب السياسية والاجتماعية المختلفة حول طبيعة الدولة، والكيفية التي تم من خلالها الاتفاق على تأسيس دولة واحدة وليس دولتان، أو ثلاث، أو أربع، وتغييب الكثير من الأحداث التي ساهمت في تشكيل الوعي آنذاك، مثل أسباب محاكمة وشنق عضو البرلمان سلمان المرشد، العلوي الأصل والمنشأ، بعد مرور أقل من ثلاث أشهر على إعلان استقلال دولة سوريا بتهمتي الخيانة والردة، ومثل التفاصيل المتعلقة بالإنقلابات العسكرية المختلفة وأسبابها الحقيقة، إلخ. فالكتب المدرسية والجامعية، سواء تلك التي أنتجت في المرحلة البعثية أو التي جاءت قبلها، لم تتعامل أبداً بشكل موضوعي مع المرحلة التأسيسية، هذا علاوة على تغييب أو منع الكتب والمذكرات التي كتبتها الشخصيات السياسية والفكرية التي عاصرت هذه المرحلة الهامة وساهمت في تشكيلها. ومما لا شك فيه أيضاً وقوع الكثير من التزوير والتشويه في بعض هذه الكتابات خاصة تلك التي ما تزال متداولة بشكل مفتوح.

خلاصة الكلام: إن مسألة التنوع الطائفي وحقوق الأقليات، بل حقوق جميع المكونات، الآن وقد أصبح لأهل السنة في سوريا مظلوميتهم الخاصة حيال باقي المكونات، أهم من يتم التعامل معها عن طريق تفادي الغوص في التفاصيل، وتجاهل المظلوميات المتراكمة والانطباعات النمطية الخاطئة، والاصرار على التمظهر بالتمدن من خلال تبني شكلياته وتجاهل فحواه. لن تفيدنا في الفترة القادمة الدساتير والاتفاقيات والوثائق التي تضعها النخب من خلال حوارات ونقاشات مغلقة، نحن بحاجة إلى عقد حوار مفتوح حول مجمل قضايانا، بالتركيز على قضية تنوعنا بالذات، قبل تبني أية وثيقة نهائية. إن أية محاولة لتناسي الإشكالات والعوامل التي ساعدت على اندلاع الحرب الأهلية في ربوعنا، وسمحت بالتدخل الخارجي فيها، ستؤدي إلى إعادة إنتاج الماضي وبالتالي إلى التمهيد إلى صراع جديد في المستقبل.

وحتى ذلك الحين، علينا أن نحسن التعامل مع عهد الانتداب الجديد والمتنوع، المباشر منه وغير المباشر.