الخميس، 31 مارس 2016

ملاحظة مختصرة حول مسألة إعادة التوطين

لاجئون سوريون في بلغاريا

من الناحية العملية، تشكل إعادة توطين مئات الألوف من اللاجئين السوريين اعترافاً ضمنياً بالطابع الجديد لبعض المناطق في البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً، وتكريساً لهذا الواقع. لكن الهدف الحقيقي منها هو محاولة تحسين الظروف الإنسانية والمعيشية لهؤلاء اللاجئين. فالمعضلة التي تواجهنا هنا والآن، والتي ستبقى تواجهنا لفترة طويلة كسوريين، تكمن غب أن متطلبات النشاط الإنساني باتت تتعارض في بعض جوانبها مع متطلبات العمل السياسي، وما علينا أن نختار ونحسن الخيار.

بالنسبة لي، أرى أن الاعتبارات الإنسانية أهم في هذه المرحلة، لأنها لن تتعارض مع متطلبات السياسة على المدى الطويل، وذلك في حال نجاحنا في طرح رئاً سياسية مناسبة للمستقبل، وعمّقنا فهمنا للكيفية التي ينبغي علينا أن نعين من خلالها أولوياتنا للعمل في المراحل القادمة. 

الأربعاء، 30 مارس 2016

"النصر" و "الهزيمة" في عالمنا المعاصر

لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): عائلة الإمبراطور الفارسي داريوس تركع أمام الإسكندر المقدوني بعد انتصاره. 

النصر بمعناه التقليدي المألوف لدينا من خلال الأساطير و "الحواديت" التاريخية المنتشرة في ثقافتنا يقتضي عادة هزيمة الطرف الآخر بشكل تام وماحق يشمل السيطرة على المناطق التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما بشكل تام، وربط مصيره بمزاجية قائد الجانب المنتصر وحساباته المرحلية الخاصة.

وفقاً لهذا التعريف، ولاستقرائي الخاص للواقع القائم اليوم، بوسعي أن أؤكد أن ما بوسع أي طرف من أطراف النزاع الحالي في سوريا، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين، أن يحقق هذا النصر مهما فعل.

فتحقيق نصر من هذا النوع، وهو الأمر الذي يشتهيه كل طرف محلي، لا يحقق بالضرورة مصالح حلفائه، الإقليميين والدوليين، ولا ينسجم مع متطلبات مصالحهم أو مع حساباتهم الخاصة بالتطورات والتوازنات القائمة في بلدان ومناطق أخرى. إن هذه الاعتبارات تحتم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع السوري القيام بـ "إدارة الصراع" لا محاولة حسمه لحساب أي طرف، لأن الهدف بالنسبة لهم لا يتجاوز إجراء تعديل، أو تعديلات، ما في التوازنات القائمة، لا السعي وراء انهيارها، لما في ذلك من انعكاسات سلبية محتملة على الجميع. علاوة على ذلك، هناك إدراك أعمق عند الكثير من هذه الأطراف، بالمقارنة مع اللاعبين المحليين على الأقل، لحجمهم الحقيقي من الإعراب، سياسياً واقتصادياً وبنيوياً، وبالتالي لأي مدى يمكن لهم المغامرة بالتدخل وقلب الموازين.

من ناحية أخرى، هناك عامل جدي آخر لابد من التنويه إليه هنا لتأثيره المباشر على معظم القرارات المتخذة فيما يتعلق بكيفية إدارة الصراع في سوريا، ألا وهو عامل الثقة، سواء بالنوايا أو بالقدرات. ففي حين يبدو أن بوسع الأطراف الإقليمية والدولية أن تثق ببعضها البعض إلى حد معقول، بسبب التاريخ الطويل لتفاعلاتها المشتركة،  الودية منها والعدوانية، وإدراك معظمها بشكل أو آخر لضرورة الحفاظ على بعض، إن لم نقل معظم، التوازنات القائمة بينها، وتجنب التسرع والتهور في المحاولات الجارية لتعديلها، لا يبدو أن لدى أي من هذه الأطراف ثقة كبيرة بالجهات المحلية التي يدعمها لا من حيث النوايا، ولا من حيث الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها في حال تحقق لها النصر الحاسم والنهائي، ولا من حيث القدرة على تحمل مسؤولية الحكم في المرحلة التالية.

فإن كان حلفاء الأسد يريدون له أن يبقى في هذه المرحلة، فهذا لا يعني أنهم يثقون به ويريدون له أن ينتصر. بل هم يفضلون له أن يبقى في حاجة مستمرة إليهم حتى يتعبوا هم منه، ويتمكنوا من إيجاد معادلات أخرى للسيطرة على المناطق التي يرغبون بها في البلد عن طريق شخصيات وتوازنات داخلية أخرى. أي أن الأسد بالنسبة لهم لا يزيد عن كونه ستار يمكن له أن يخفي وراءه أهدافهم الحقيقية ومساعيهم إلى تقسيم سوريا لمناطق نفوذ خاضعة لهم، بشكل أو آخر: المناطق الساحلية لروسيا، والمناطق الجنوبية والوسطى لإيران وميليشياتها الشيعية المتطرفة، بحيث تحظى أخيراً بممر  بري يصل طهران بالبقاع وبيروت، عن طريق بغداد وتدمر وحمص ودمشق، خاضع لسيطرة مباشرة من قبل ميليشياتها الطائفية.

ويمثل الأسد أيضاً ورقة ضغط يمكن استخدامها في العملية التفاوضية للتسويف وللتحصل على تنازلات من حلفاء الجهات المعارضة إلى أن يأتي الوقت المناسب لحرقها. وقد تكون اللحظة قد اقتربت، بالذات لأن الأسد يبدو غير قادر على إدراك ذلك، ومايزال يتكلم ويتصرف وكأنه سيد الموقف. 

أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة، بشكل أو آخر، فإن لم تكن الحقيقة واضحة فيما قبل، فلابد أنها قد أصبحت واضحة اليوم: إن دعم هذه الدول للمعارضة كان دئماً مشروطاً برؤيتها الخاصة للكيفية التي ينبغي من خلالها إدارة الحكم في سوريا في المرحلة التالية.

لوحة للرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (1798-1863): سقوط القسطنطينية على أيدي الصليبيين في 12 نيسان/أبريل، 1204.

إذ سعت كل من تركيا وقطر إلى تحقيق انتقال يضمن استمرار الدولة المركزية لكن تحت سيطرة إخوانية "مدنية"، بحيث لا يتحقق للإكراد ما يريدون، أي دولة لامركزية أو فيدرالية، ولا يتحقق للقوى العلمانية ما تريد: دولة علمانية ديموقراطية. من هذا المنطلق جاءت سياسة العزل التي مارسها الأتراك بحق الضباط المنشقين، العلويين منهم خاصة، بالتوا زي مع محاولاتهم المستمرة لاختيار مَنْ من الضباط السنة يمكن لهم دعمه، أو بالأحرى، مَنْ منهم يبدي انفتاحاً على موضوع التعامل مع الإخوان والقبول بسلطتهم السياسية. ولنا في ما حصل مع الضابط حسين هرموش، مؤسس حركة الضباط الأحرار، خير مثال على الكيفية التي قامت بها السلطات التركية بالتلاعب بالمنشقين وتحييد من لم يرق لها منهم. وإن لم يقدر لهذه المحاولات أن تنجح تماماً، فهي لم تخفق كلية أيضاً.

أما السعودية، فكانت معنية أكثر بدعم التيارات السلفية على حساب حركة الإخوان المسلمين، لا لأسباب دينية، لكن لأن الإخوان، كما أبدوا في مصر، كانوا دائماً على استعداد لإيجاد صيغة تعاونية ما مع إيران من منطلق السياسة الشرعية، أما التيارات السلفية الوهابية فيمكن للسعودية الاعتماد عليها أكثر في هذا الصدد بسبب عدائهم الأعمى للشيعة، مما يضمن قيام حكومة غير مهادنة لإيران بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وهو الهدف الأساسي للسعودية فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، في حين لا تمثل قضية الفدرلة عائقاً كبيراً بالنسبة لحكامها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد أبدت إدارة أوباما تخوفها من الملف السوري منذ اللحظة الأولى، بسبب اهتمامها الأكبر بالمفاوضات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي، ورؤيتها الإيديولوجية التي تصور لها إمكانية إعادة تأهيل إيران كلاعب إقليمي هام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لاعب يمكن التعويل عليه لتحقيق الاستقرار في المنطقة في المستقبل، لاعب لا يمكن لمشاغباته المتكررة أن تكون مصدراً كبيراً للإزعاج، خاصة بعض تجميد وتحجيم برنامجه النووي، لأن صبغته الديموغرافية والسياسية، أي كونه بلداً شيعياً محكوماً من قبل نخبة دينية، ستحد من قدرته على التأثير على الصيرورات المختلفة من حوله، وستمنعه من التحول إلى مصدر للقلق. وفي حال تمردت إيران وأصرت على لعب دور أكبر من حجمها، سيتم تذكيرها بمدى هشاشتها من خلال تقديم دعم حقيقي للمعارضات المختلفة فيها. فإن بدت إيران مستقرة اليوم فذلك بسبب وجود إرادة دولية، غربية بل أمريكية على وجه التحديد، تحبذ ذلك، وليس لأنها تملك مقومات الاستقرار بالضرورة. وهناك ما يكفي من الحصافة عند قادتها ليدركوا حقيقة الأمر. على الأقل، هذه هي رؤية الإدارة الإمريكية الحالية والواقعيين السياسيين للأمور.

من ناحية أخرى، ما كان بوسع الإدارة أن تترك الحكم في بلد محوري مثل سوريا يقع في أيدي معارضة متخبطة كالمعارضة السورية، معارضة لا تملك أية مقومات تؤهلها للتعامل مع الملفات المعقدة المتعلقة بشكل أو آخر بسوريا. لذا، نرى الإدارة مصرة على بقاء مؤسسات الدولة، الذي يستتبع بقاء الكثير من الشخصيات التابعة للنظام في مكانها.

جانب من لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): الإسكندر المقدوني يعاين حال غريمه حاكم مدينة بور أثناء معركة هيداسبيس. 

نظراً لكل هذا، لا شك هناك في لاجدوى الجدال الجاري بين فئات المعارضة حول موضوع طبيعة المرحلة الانتقالية والفدرلة، لأنا ما زلنا في الواقع نرزح تحت "انتداب لين" وغير معلن، بل لا يمكن له أن يعلن، من قبل قوى إقليمية ودولية مختلفة، تتطلب مصالحها ورؤاها الخاصة، المتعارضة في الكثير من الأحيان، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، إجراء بعض التعديلات فيما يتعلق بالحدود وآليات إدارة الدول للحكم، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة. وليس ما يجري من صراعات في سوريا والمنطقة إلا ضرباً من ضروب التفاوض بين هذه القوى.

ويبدو اليوم أن اعتماد النظام الفدرالي في سوريا مع رحيل اللأسد في المستقبل القريب، أو اغتياله، وهو الاحتمال الأكبر، بات يمثل حلاً مقبولاً لهذه القوى.

من أعطى هذه الدول الحق في التصرف هكذا؟ قوتها طبعاً، كما هي العادة. فهناك معادلات موضوعية تحكم تصرفات الدول مع بعضها، سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، علمانية أم دينية، ولا تغير الديموقراطية في هذه الأمر شيئاً إلا من خلال قدرتها على إسباغ نوع من المرونة والحصانة على تلك الدول التي تبنتها بحيث تصبح أكثر قدرة وفعالية في تعاملها مع المتغيرات الدولية، على المديين المتوسط والطويل على الأقل. 

ولن نستطيع كشعوب شرقأوسطية تغيير هذه المعادلات بقوة السلاح، لأن هذه القوى هي مصدر السلاح، ولن تقوم بتسليحنا لنهزم مخططاتها. فعلى الرغم من حالة التنافس القائمة بينها، هناك أيضاً تنسيق كبير لم يجر مثيله خلال الحرب الباردة، لذا لا توجد لدينا اليوم فرصة حقيقية للعب طرف ضد آخر كما فعلت أنظمتنا في السابق. إن هامش المناورة المتاح لدينا اليوم محدود للغاية، ويتطلب تحقيق أي تقدم حكمة ومهارة دبلوماسية وسياسية كبيرة لا يبدو أنها متوفرة اليوم. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهنا: ها نحن نمر بمرحلة حرجة أخرى من تاريخنا المعاصر ولا توجد لدينا، فيما يبدو، لا الشخصيات ولا الخبرات ولا الرؤى المناسبة لإدارتها بحيث نتحصل على بعض المكاسب، أو على الأقل نقلل حجم الخسائر.

ولمن يرى في تسليمنا بهذا الواقع هزيمة، أود تذكيرهم بأن في المقاومة العسكرية هزيمة أكبر، إذ حتى عندما تنجح هذه المقاومة في أيامنا هذه، كما حدث مع الشعوب الأفغانية في مواجهتهم مع الاتحاد السوفييتي، سيأتي هذا النجاح مصحوباً بدمار شامل للدولة والمجتمع، وبنزوح للعقول والمهارات عن البلد، مما يفسح المجال أمام بروز قوى ظلامية متناحرة كالقاعدة، والطالبان، وداعش، أو قوى الحشد الشعبي وغيرها من الميليشات الشيعية المنافحة عن الأسد والمصالح الإيرانية. ولا يمكن لهذه القوى أن تصنع حضارة أو تقود نهضة. ولا شك في أن السماح ببروزها وبتقويتها هو الهزيمة الحقيقية. ولأنها أصبحت هي المسيطر على الساحة اليوم، ينبغي علينا أن نقلل من حجم الخسائر ونسعى إلى اتفاق ينهي حالة النزيف والاستنزاف، ويسمح للقوى الانتدابية بتحويل عملياتها إلى ساحات أخرى للصراع. لقد دفعنا ما يكفي من أثمان باهظة في سوريا. لندع القوى إياها تخطط كما يحلو لها، ولنحاول التحصل على أفضل شروط ممكنة لنا.

لكن، وفي خاتم المطاف، علينا أن نتعامل مع هذه المرحلة مسلحين بإدراك أفضل لطبيعة المتغيرات من حولنا، وبإيمان بقدرتنا في التأثير على الصيرورات مع مرور الوقت من خلال العمل الدبلوماسي والنشاط الفكري والإنساني. هذه هي المقاومة التي نحن بحاجة إليها اليوم، وإن كان ثمة نصر في مستقبلنا فلن يتحقق لنا إلا من خلالها. ولابد أن يؤدي هذا النصر في مرحلة ما إلى تحييد دور شخصيات بعينها، ومحاسبة بعضها، لكنه لا يتطلب هزيمة الطرف الآخر، أو تهديد وجوده، أو وضعه تحت حكم البوط العسكري الطائفي، فالهدف هنا هو الاتفاق على آلية تحقق توازناً جديداً بين الجميع يحافظ على حقوقهم الأساسية، يأخذ بعين الاعتبار توازن القوى العام في الداخل والخارج، مما يسمح لنا بالتعامل على نحو أفضل مع ضغوط وتدخلات القوى الخارجية في المراحل القادمة.


الاثنين، 28 مارس 2016

احتضار ثم مخاض


الثورة الشعبية احتضار قبل أن تكون مخاضاً، ومازلنا في سوريا نعيش طور الاحتضار، إذ مايزال القديم الذي ثرنا ضده، برواسبه وتجلياته المختلفة، سواء في صفوف النظام أم المعارضة، يتحكم بالصيرورات العامة والخاصة، مستخدماً وسائله القديمة ذاتها:  شيطنة الآخر، الخطاب الشعاراتي، النزعات الأصولية، الفردانية والشخصنة في العمل السياسي والاجتماعي، الارتجالية، الكذب المنهجي، إلى آخره من وسائل. الدرب الممتد أمامنا إذاً طويل جداً، لكن، لا ضير في ذلك، فالتحولات العميقة قد تبدأ بلحظة، لكنها تتطلب تتابع أجيال عدة قبل أن تأتي بثمارها الأولى. 

الأربعاء، 23 مارس 2016

سراديب الرغبة


أصبح توقهم غُلمة وحنينهم مجونا، مذ تاهت عقولهم في سراديب الرغبة، وخلطوا ما بين الحق والسلطة.

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (5)



| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

إن الولايات المتحدة الأمريكية، بخلاف ما يُشاع، لا تلجأ عادة إلى التآمر فيما يتعلق بالصيرورات الإنسانية العامة، أي بالتطورات العامة في منطقة ما على المديين البعيد أو المتوسط، إذ لا يتسنى هذا الأمر لأحد في الواقع بسبب تشابك وتناقض أجندات القوى الدولية والإقليمية المختلفة من جهة، وبسبب التغيير المستمر الذي يطرأ على الأولويات والرؤى الموجِّهة من إدارة أمريكية لأخرى من جهة أخرى.  إن تورط أمريكا في أحيان كثيرة، وفي إطار تعاملها مع قضايا وتطورات بعينها، في مغامرات تآمرية الطابع، مثل قضية إيران-كونترا وغيرها، يشكل استثناءاً للقاعدة يسعى لتحقيق أهداف معينة قصيرة المدى ومحدودة التأثير. أما على الصعيد الأكبر، فما بوسع أمريكا، وغيرها من الدول المتقدمة والطامحة، إلا أن تقوم بوضع مجموعة من السيناريوهات محتملة تستند على استقراء أقرب ما يكون للموضوعية للوقائع والأوضاع القائمة في مناطق العالم المختلفة، ومن ثم تقوم باقتراح ثلة من المقاربات تهدف لتمكين الإدارات المختلفة من التعامل مع هذه السيناريوهات وإدارتها على نحو يحقق لأمريكا مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، وفقاً للأولويات والرؤى الخاصة للإدارة المعنية. وفي الحقيقة، غالباً ما ترحب الإدارات الأمريكية بمشاركة الدول الأخرى في رسم هذه السيناريوهات والخطط وتنفيذها، إذ يمتلك قادة أمريكا على اختلاف مشاربهم ما يكفي من الثقة بمقدارت بلادهم، وبقدرتها على حماية نفسها ومصالحها، ما يمكنهم من تقديم الكثير من التنازلات بغية تجنب الصراعات وبناء الشراكات. وتكمن المشكلة هنا في تنافي هذا الأسلوب المباشر والصريح في التعامل السياسي مع الثقافة السائدة في منطقتنا ومجتمعاتنا حيال الصيرورات المختلفة، والتي تتصور دائماً وجود دوافع وأهداف أخرى للأمور، مما يجعلها تضيع فرص التعاون وتحتم احتمالات النزاع، سواء في علاقاتها مع أمريكا والغرب، أو في علاقاتها البينية.

وبعد نهاية الحرب الباردة، أقدمت أمريكا على إطلاع الأنظمة الشرقأوسطية المختلفة، من صديقة وعدوة، على هذه السيناريوهات بهدف حثها على تبني الإصلاحات الكفيلة بمساعدتها على تجنب القلاقل الداخلية والصراعات البينية التي تم التنبوء بها، لأن الاستقرار وحل النزاعات بالوسائل الدبلوماسية يبقى أفضل لتحقيق المصالح الأمريكية من الفوضى، حتى الخلاق منها، وذلك بعكس ما يروج له الكثير من المنظرين السياسيين اليساريين، وأحياناً اليمينيين أيضاً. إن كلام الباحثين والمسؤولين الأمريكيين عن الفوضى الخلاقة عبر العقود الماضية لم ينبع من منطلق الرغبة والتخطيط، بل من اعتقاد راسخ مستند إلى استقراء موضوعي للوقائع بحتميته وضرورة التحضير للتعامل معه. ولا يتنافى هذا التأكيد مع سعي أمريكا خاصة أبان الحرب العالمية الباردة، إلى استدامة بعض الصراعات أو إلى ترتيب بعض الانقلابات، لكن هذا المسعى، كما سبق ونوهنا، شكل استثناءاً للفلسفة الأمريكية الحاكمة نجم عن الطبيعة الوجودية للحرب الباردة والتي كان يمكن لها في أية مرحلة أن تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء في حرب نووية شاملة.

وغالباً ما ينسى مؤرخو تلك المرحلة هذا البعد النفسي العميق لها والذي كان له أثره الكبير في تشكيل تصرفات وسياسات القوى المختلفة، خاصة أمريكا. إن رعونة بعض السياسات الأمريكية في تلك المرحلة، وازدواجية معاييرها، جاءت انعكاساً لهذا الضغط النفسي الكبير في معظم الأحيان. وطبعاً بوسعنا أن نؤكد على العامل نفسه قد لعب دوراً كبيراً أيضاً، وربما أكبر، عند صناع القرار في المؤسسة السوفييتية الحاكمة التي كانت تدرك تماماً أن موقفها وقدراتها تبقى أضعف مما هو متوفر لدى أمريكا وحلفائها.


لكن ديموقراطية أمريكا والقوى الغربية الأخرى، والتي تجلت خاصة في طريقتها في التعامل مع مواطنيها واحترامها لحقوقهم الأساسية، ولاشك في أن الأوضاع الحقوقية للمواطنين الغربيين استمرت في التحسن طيلة مرحلة الحرب البادرة بسبب الضغوط الشعبية على الحكومات وذلك على الرغم من مخاطر الحرب النووية، تسبغ على هذه الدول أفضلية معنوية بل أخلاقية بالمقارنة مع المعسكر الشرقي باحتقاره للمفاهيم الديموقراطية وإصرار نخبه السياسية والعسكرية على التفرد بالحكم دون أي قابلية للمسائلة الحقيقة من قبل الشعب. إن انتصار المعسكر الشرقي كان سيؤدي بلا أدنى شك إلى تراجع كبير ليس فقط فيما يتعلق بحقوق الإنسان بل وفي مجال التنمية البشرية ككل، والتقدم العلمي والتقني. فإذاً، وعلى الرغم من قيام كلا المعسكرين بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، وبقيادة مغامرات إمبريالية وكولونيالية الطابع، وبدعم نخب حاكمة فاسدة في عدد من بلدان العالم، لا يتساوى الطرفان لا من حيث الرؤية والمبادئ العامة المؤثرة على سلوكياتهما، شعوباً وحكاماً، ولا من حيث أهمية الانجازات التي قدموها، وما يزال بوسعهما تقديمها، للإنسانية. 

ولا ننسى في هذا الصدد أن أكبر منتقدي السياسات الأمريكية خاصة والغربية عموماً هم من مواطنيها، "الأصليين" منهم والوافدين من دول المعسكر الشرقي والدول الأخرى، وأن معظمهم يعملون في الغالب في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية والغربية، وأن صوتهم ما كان ليسمع لولا تبني الدول المعنية لديموقراطية حقيقية احترمت حياتهم عامة حتى آخر قطرة.  ولها الواقع أهمية أكبر من أن تكون رمزية وحسب.


إن أكاديمياً أمريكياً مثل نعوم تشومسكي قد يملك رفاهية النقد الحاد، بل العدمي أحياناً، لوطنه أمريكا، الذي قد تعكس حديته حقيقة أن النقد أصبح أمراً عادياً ومقبولاً في أمريكا، ولا يعرض صاحبه لأي خطر، وبالتالي قد لا يتميز الإنسان بنقده في هذا المرحلة ما لم يكن هذا النقد حاداً إلى درجة كبيرة، وخارجاً عن المألوف. إن دور البعدين النفسي والإيديولوجي في تشكيل انتقادات تشومسكي حيال أمريكا والغرب أهم بمراحل من دور التحليل الموضوعي للأمور، إذ غالباً ما نراه يغفل دور العوامل المحلية والإقليمية والدولية الأخرى بل والسياق العام للقضايا التي يعالجها في كتاباته.

إن شعوب منطقتنا بالتحديد لن تتعلم شيئاً من التجربة الأمريكية خاصة والغربية عموماً إذا ما اكتفت بالاستماع إلى أصوات نقادها العقائديين أمثال تشومسكي والذين يعكس نقدهم المساحة الكبيرة المتوفرة لديهم للنقد الحاد أكثر من الحاجة الحقيقية إلى هذا النوع منه. ودعونا لا نغفل هنا دور أصحاب هذه النزعة النقدية في الغرب في تشكيل سياسات إدارة أوباما والإدارات الغربية عموماً حيال الأزمة السورية، خاصة دورهم الذي أدى إلى امتناع بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة من التدخل ضد الأسد، من منطلق ترك شعوب المنطقة لتحل مشاكلها بنفسها، في حين تتجلى الترجمة الحقيقية لهذا الموقف في تجاهل حقيقية اختلاف موازين القوة بين الدول المختلفة، وتضارب مصالح النخب الحاكمة فيها، وتدخلها في شؤون بعضها البعض عن طريق تفعيل الصراعات المذهبية والقومية، وما ينتج عن ذلك من تحييد لدور الشرائح الديموقراطية الواعية وتطلعاتها، وتفتيت للمجتمعات المحلية، علاوة على وقوع كوارث إنسانية، وانتهاكات جماعية تصل حد الإبادة الممنهجة، والتشريد، والتجويع، وما لذلك كله من انعكاسات سلبية على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الغرب ذاته، والعالم أجمع في عهد العولمة المفرطة هذا.

أي شيء يمكن لنا أن نتعلمه من رؤية إيديولوجية قاصرة كهذه، رؤية ترفض تحمل مسؤوليات التدخل في منطقتنا، حتى من منطلق إنساني بحت، ولوقف الدمار والنزيف، في وقت ما بوسعها فيه أن تمنع نخبها السياسية والاقتصادية، بل مجتمعاتها ككل، من الانتفاع مما ينجم من مكاسب عن هذا الدمار والنزيف، مثل رخص سعر الوقود إلى درجة تسهل لهذه المجتمعات الانتقال المرتقب إلى مرحلة ما بعد الوقود المستحاثي والذي يفترض حدوثه في عام 2050، من خلال توفيرها للموارد المالية اللازمة لذلك؟

إن هذه الرؤية في جوهرها ما هي إلا تعبير عن عصبية غربية جديدة أصبحت تحتل الساحة، إذ لا مجال فيها للتعبير عن وحدة المصير البشري إلا من خلال الدعاء والصدقة من خلال تقديم بعض الإمدادات الإنسانية للمحتاجين.

والأنكى هنا أن دعاة هذه الرؤية يصرون على أنها يسارية الطابع، والكثير منهم بالفعل يساريون قدامى، وأن مصلحتنا ستتحقق من خلالها على المدى البعيد. لكن تراكم المظلوميات عند شعوب ما تزال لاتحسن إلا اجترارها للعيش لن يؤسس لمستقبل أفضل، بل لصراعات أطول. إن قدرتنا على تمثل الدروس الصحيحة من أزماتنا المتراكمة ما تزال محدودة بالذات بسبب تبني معظم نخبنا لرؤى تبني على إيديولوجيات عقيمة كهذه، باسم الإشتراكية والإسلام.


إن كان ثمن نهضة في مستقبل أيامنا كشعوب ذات تاريخ مشترك ما، وبعض المصالح الأساسية، فلن تأتي إلا من خلال تبني مقاربات براجماتية وعقلانية في الصميم، مقاربات لا علاقة لها لا بالإيديولوجية ولا بالدين ولا بالنزعات القومية، مقاربات قائمة على جملة من الاعتبارات السياسية والأمنية، وبعض المصالح الاقتصادية والتنموية، مقاربات تحسن صياغة الأولويات المناسبة لكل مرحلة، وتسعى لتحقيق توازنات ما بين الأطراف الفاعلة في المنطقة. إن مفتاح الحل لأزمتنا بسيط في جوهره الفكري، إنه التنظيم والعمل الجماعي المؤسساتي، وفهم بل قبول عميق لطبيعة التفاعلات الدولية، خاصة هذه النقاط الأساسية:

·      ما تزال القوة، بأبعادها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والعسكرية، هي العنصر المحرك الأساسي للحضارة والتفاعلات الحضارية
·      لا يمكن للمبادئ والقوانين وحدها أن تقيد الدول القوية وتمنعها من محاولة تحقيق مصالحها وإن على حساب الدول الضعيف وشعوبها
·      تتطلب القدرة على الإلتزام بالمبادئ والقوانين تحقيق توازن قوة معين ما بين الأطراف المتفاعلة المختلفة على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية
·      إن الأنظمة الديموقراطية وحدها القادرة على النهوض بشعوبها بطريقة تحفظ المكاسب والاستقرار على المدى البعيد. في حين لا يمكن للتناقضات الكامنة في الأنظمة الاستبدادية، بصرف النظر عن قدرتها على تحقيق بعض المكاسب على المدى القصير، إلا أن تسفر في مرحلة ما عن صراعات داخلية كفيلة بتدمير كل ما تحقق من انجازات. إن إدراك أمريكا والدول الغربية لهذا الواقع هو ما يجعلها تتنبؤ بانهيار دول تبدو قوية، عسكرياً على الأقل ، مثل روسيا  وإيران. بل حتى الصين. وفي الواقع، إن كل دولة من هذه الدول تعاني من صراعات عديدة مجمدة لكنها بلا حل حتى اللحظة، مثل الصراعات في القفقاس وسيبيريا، ومهاباد والأهواز، والتيبت وشينجيانج. في حين يندر وجود هذه الصراعات في الدول الديموقراطية، وعادة ما يتم التعامل مع هذه الصراعات بالوسائل الديموقراطية السلمية، من قبيل عقد الاستفتاءات والانتخابات الدورية، كما رأينا في اسكتلندا وكاتالونيا. ولقد أدى تبني النظام الفيدرالي في الحكم في دول كثيرة إلى إيجاد حل نهائي لمعظم هذه الصراعات أساساً.
·   إن الحروب، في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الإنسانية، تشكل وسيلة أساسية في أيدي النخب الحاكمة في الدول الاستبدادية للتهرب من استحقاقات التغيير في الداخل، وللتحصل على المكاسب والمغانم، غالباً على حساب بعضها البعض، لكن، أحياناً، على حساب بعض دول الجوار الديموقراطية الطابع لكن الضعيفة من الناحية العسكرية. وتعتقد النخب الحاكمة لأنها بذلك تحمي نفسها من تهديد الغرب الديموقراطي. لكن الديموقراطية فكرة أصبح لها مؤيدوها في كل مكان، وهي إن لم تنتصر نهائياً لن تهزم نهائياً، ما لم يتم تدمير البنية التعليمية للمجتمع ككل، كما حدث في أفغانستان والصومال والكونغو، وكما قد يحدث في سوريا واليمن اليوم في حال استمر الصراع الحالي لسنين قادمة.  عندما تُدمر الحضارة في بلد ما، ويُهجر حاملوها، لا يمكن لها أن تعود إلا بعد مضي عقود بل قرون طويلة من العمل المضني والممنهج.

هذا هو جوهر الخطر الذي نواجهه اليوم في منطقتنا، وهذا ما يتجاهله الواقعيون من يسار ويمين: فنحن، شعوب هذا الشرق الأوسط، وفي هذه المرحلة بالذات التي انضمت فيها العوامل البيئية، مثل الانحباس الحراري، إلى العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياتنا، أصبحنا مؤهلين للخروج من التاريخ نهائياً، ببعده الحضاري.  

إن استدامة حالة الصراع في المنطقة، ومحاولة التشبث بالأنماط التقليدية للحكم، واللجوء الدائم إلى الماضي بمقدساته المتراكمة بحثاً عن حل، هي من العوامل المساهمة في هزيمتنا الحضارية، ولن نتمكن من الخروج من أزمتنا الراهنة ما لم نجد طرق للتعامل معها بشكل مختلف عما سبق. ويقتضي تحقيق هذا الأمر قفزة على مستوى الوعي، الفردي والجمعي. ولايمكن لهذه القفزة أن تتحقق ما لم نعود أنفسنا على التفكير خارج الأنماط المألوفة لنا، وعلى الإستماع إلى الأصوات الناشزة عن الإجماع الثقافي التقليدي. وفي غضون ذلك كله، علينا أن نتعلم عادة العمل الجماعي المؤسساتي الممنهج والمنظم، والمتمحور حول برامج عملية وليس الشعارات أو الأشخاص. فما لم نجترح هذه المعجزة لن نحقق شيئاً.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الأحد، 20 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (4)

لقاء ما بين وفدي الخارجية الأمريكية والخارجية الإيرانية في مدينة لوزان، سويسرا في 28 أذار/مارس 2015

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

يتبين لنا عند معاينتنا للسياسات الأمريكية عبر السنين الخمس عشر الماضية، حيال منطقة الشرق الأوسط خاصة، تعاقب تيارين فكريين في تشكيلها: تيار المحافظين الجدد، وحلفائهما من الليبراليين التدخليين، الذين أسسو لسياسات جورج و. بوش الخارجية في الفترة التالية لهجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية وحتى نهاية عام 2007، وتيار الواقعيين الليبراليين، وحلفائهم من المحافظين والليبرتاريين الانعزاليين،الذين ساهموا في توجيه سياسات الرئيس الحالي باراك أوباما منذ بداية عهده وحتى الحظة، وخاصة في الفترة التي أعقبت ظاهرة الربيع العربي.

لكن، وقبل أن نتكلم عن نقطة الخلاف الأساسية ما بين التيارين، ينبغي أن نشير إلى اتفاقهما أولاً فيما يتعلق في استقرائهما للموقف، فكلاهما مقتنع بحتمية التحول إلى عالم متعدد الأقطاب وحتمية انتشار الفوضى خلال المرحلة الانتقالية، وثانياً فيما يتعلق بالهدف الأساسي: أن تبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى عالمياً.

أما الفرق الأساسي بين التيارين فيتجلي في الرؤية وفي الأسلوب. فالمحافظون الجدد يرون أن للولايات المتحدة دور أساسي وضروري في قيادة عملية التحول وتوجيهها لضمان المصالح الأمريكية والتي، في رؤيتهم، تتطلب نشر الديموقراطية في معظم دول العالم بغية تحقيق سلام دائم، مع الاستمرار في عزل بعض الدول المشاغبة، أو القلقة والمقلقلة، مثل إيران وكوريا الشمالية والسودان وغيرها. ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الرؤية الإقدام على التدخل العسكري في بعض المناطق والدول لتغيير بعض الأنظمة وللحد من نفوذ أخرى، ولنصرة قوى التغيير المنفتحة على التعاون مع أمريكا والغرب، والتي يتوقع لها المحافظون أن تكون ديموقراطية أو قابلة للدمقرطة.

وتختلف رؤية الواقعيين للأمور كلية، فالواقعيون يرون أنه، وبسبب حتمية الطبيعة العنفية للتغيير القادم، ينبغي على الولايات المتحدة أن تخفف من تواجدها المباشر في الأحداث العالمية في الفترة القادمة لتفادي الوقوع في أخطاء ومصائب، كما حدث في العراق، بل وأفغانستان، وتفادي دفع تكاليفها المادية والمعنوية الباهظة. أن الواقعيين يفضلون أن تكتفي الولايات المتحدة في المرحلة القادمة بالدفاع عن نفسها ومصالحها الضيقة وتترك باقي ما تبقى من دول في هذا العالم، بما في ذلك حلفاؤها، حتى الأوروربيين منهم بل والمشاركين في حلف الناتو، ليقوموا بفرز أنفسهم. وفي هذه الأثناء تقوم الحكومات الأمريكية بالتعامل مع القوى الجديدة والقديمة القادرة على فرض نفسها على الساحة بقوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية لتتعاون معها في بناء نظام عالمي جديد وإعادة بعض الاستقرار العالم. ولا مانع عند الواقعيين حتى ذلك الحين من التلاعب بالقوى الإقليمية الصاعدة من بعيد لتحقيق بعض المصالح، فأمريكا تبقى قادرة على ذلك. أو على الأقل، هذا ما يحاول الواقعيون إقناع أنفسهم والآخرين به.

كولاج لمجموعة من اللقاءات التي عقدها أعضاء المجلس الوطني الإيراني-الأمريكي، وهو واحد من أهم مجموعات الضغط الإيرانية الناشطة في الولايات المتحدة، مع أعضاء في الكونجرس الأمريكي لدعم الاتفاق النووي مع إيران 

ومن الدول التي يبشر الواقعيون بضرورة التعامل معها في منطقتنا: إيران، التي سبق وكانت حليفة للولايات المتحدة، والتي نجحت القوى الأكاديمية اليسارية والتي تضم مجموعة كبيرة من المغتربين الإيرانيين ممن دفعهم مزيج فريد من الإيديولوجية والحنين والشعور القومي إلى الدفاع عن نظام لا يرضى معظمهم في العيش في ظلاله لكنهم يتأملون في إصلاحه، أو في قدرته على إصلاح نفسه. فمنذ تسعينات القرن العشرين وحتى اللحظة، نجحت هذه المجموعة من خلال نشاطها الأكاديمي والبحثي المكثف ولجوء بعض أعضائها إلى تشكيل جماعات ضغط والاستعانة بشركات العلاقات العامة، في إقناع عدد كبير من المنتمين إلى المعسكري الديموقراطي الليبرالي والإشتراكي بإمكانية وضرورة التوصل إلى سلسلة من الاتفاقات مع إيران تسمح لها بتبوء "مكانها الطبيعي" في المنطقة كقوة عقلانية براجماتية ومهنية قادرة على تحقيق الاستقرار.

وترافق هذا الانفتاح على إيران بعداء واضح حيال السعودية ودول الخليج الأخرى، وتركيا. ولا تكفي الإيديولوجية تفسيراً لهذه النزعة، لأن كل الاعتراضات التي يمكن سوقها ضد هذه الدول من الناحية الإيديولوجية يمكن أن تستخدم أيضاً فيما يتعلق بإيران. وفي الواقع، يبدو أن دور الأكاديميين الإيرانيي الأصل كان له أثره هنا، وكذلك، دور الأكاديميين العَلمانيين اليساريين المنحدرين من أصول إسلامية والذين يلومون السعودية ودول الخليج على كل المشاكل التي تواجهها بلادهم الأم، وربما يكون بعضهم قد تعرض لمعاملة الخليجيين العنصرية حيال سائر المسلمين والتي تتخذ من العروبة مبرراً لها. وفي الحقيقة، للعنصرية دورها هنا، فيما يتعلق بالشعور تجاه العرب، وفيما يتعلق بالإسلام السياسي بشقه السني الذي تجعله تعددية مراجعه أكثر خطورة من نظام الملالي في طهران في نظر الواقعيين. وبهذا، يكون الاستشراق قد عاد إلى الساحة عن طريق اليساريين أكبر منتقد للنزعة الاستشراقية التقليدية، متجلياً في نزعة عدوانية وعنصرية تجاه العرب خاصة، والمسلمين السنة عموماً، المتهمين بالتعصب دائماً، إلا من ثبت ولائه للتيار الواقعي.

وما إدارة أوباما وسياساتها الشرقأوسطية إلا تعبيراً عن هذا الواقع بما فيه من تناقضات.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |


الخميس، 17 مارس 2016

حوار مع ناشط صريح


أعجبتني جداً بساطة هذه الأسئلة وطبيعتها الصريحة وغير المتكلفة، لذا قررت نشرها هنا، تاركاً للناشط الخيار فيما إذا أراد التعريف بنفسه أم لا. وراجياً أن تنمّ أجوبتي عن التزام مماثل بالبساطة والصراحة وعدم التكلف، وإن كنت قد قمت بتعديلات بسيطة عليها للتوضيح وتصحيح ما ورد من أغلاط الإملائية.

أستاذ عمار ماهو تعريف الحقيقة بالنسبة لك؟
بحث.

هل ممكن أن تصل لها أو هي تصل لك؟
بشكل نهائي؟ لا أعتقد. لكن يمكن الوصول إلى بعض الحقائق الجزئية بالطرق الموضوعية.

ما هي الطرق الموضوعية؟
العلوم المختلفة.

هل هي شيء حي أو جامد؟
موضوعياً، هي مكونة من الحياة والجماد، علاوة على ما نتوصل إليه من معرفة بخصوصهما، وما ننسج حولهما من خيال.

أستاذ عمار هل لديك فرق بين الخير  والشر في منظار  فرضيتك للحقيقة؟
الانتهاكات المتعمدة لحقوق الناس شر، ما سوى ذلك خير، على الأقل بالمعنى الاجتماعي والقانوني. أما بالمعنى الأخلاقي، فالخير يتمثل في المبادرة المتعمدة المقصود منها خدمة الناس والمجتمع والبيئة المحيطة.

ولكن هل يمكن تحديد معيار جوهري للخير والشر ما لم نكن قد توصلنا للحقيقة أولاً وعرفنها بشكل مطلق؟
لا أعتقد هذا. الشر والخير ينبعان من تصرفاتنا وخياراتنا، ولا علاقة لهما بالمطلق.

هل الحقيقة ثابتة أم تختلف وتتغير من عصر لعصر؟ وهل يوجد بكل عصر أشخاص هم أسياد الحقيقة يقدمون مايحتاجه العصر؟
لا أستطيع أن أتكلم عن الحقيقة المطلقة، فالحقيقة التي أؤمن بها هي عملية بحث واستكشاف مستمرة. وإدراكنا لها يتطور ويتغير مع كل اكتشاف. بل، وبحسب الفيزياء الكمية أو الكوانتية، نحن نقوم بتغيير طبيعة بعض الحقائق عندما نراقبها، فالعلاقة مع الحقيقة على هذا المستوى إذاً هي علاقة تفاعلية. وليس من السهل على الإطلاق أن نعي كنه هذا الأمر ومضامينه الأعمق لأننا نتكلم هنا عن أمور بعيدة عن التصورات المتعلقة بمشاهدات الحياة اليومية. وهذا يعني أن علينا أن نتأقلم مع الشك والحيرى في الحياة.

من ناحية أخرى، فإن للحقائق الموضوعية أسيادها بالفعل، وعلينا أن نحاول النهل من علومهم ما استطعنا. أما الحقائق المتعلقة بتفاعلاتنا كبشر، أي الحقائق بمفهمومها الأخلاقي والآدابي، ففهمها متاح لكل من لم يعم الطمع أو النرجسية أو العقيدة بصيرته، فلا وجود لأسياد هنا، بصرف النظر عن ادعاءات البعض.

شكراً أستاذ عمار.
العفو.


في التوحيد، وعنه

(3/16/2016) ...التوحيد قرار وصيرورة مستمرة قد لا تثمر عن أية نتيجة، في أية لحظة اخترنا فيها معاينتها، ما خلا استمراريتها. أما فيما يتعلق بالفطرة، فالدلائل كلها تشير إلى كون الإنسان قد فُطر على الشرك والوثنية، لا التوحيد. ولسنا بحاجة لمعاينة الآثار التي خلّفتها الجماعات الإنسانية الأولى لندرك ذلك، يكفينا أن نعاين الكيفية التي يقدّس من خلالها كل مدّعوا التوحيد الرموز والأشخاص لنفعل. إنّ التوحيد إن دلّ على شيء في جوهره فعلى وجود توق عميق ومستمر لدينا نحو التكامل، وكيف لا يتوق إلى الكمال من كان النقصان قدره؟ لكن  هذا التوق، موضوعياً، لا يدل إلا إلى حاجة صاحبه، ولايمكننا من خلاله الاستدلال على وجود ما يتوق المرء إليه. إن التوحيد أمنية وتطلع إذاً أكثر منه واقعاً ومنطلقاً. ولا عيب أو ضير في ذلك، بل يتمثل العيب والضرر في تجاهل ذلك...

الأربعاء، 16 مارس 2016

في الوجود، وعنه

(3/ 9/2016) ...لأننا، وفي خضم بحثنا عن الحقيقة، لا يمكن لنا أن نتخلى عن الحدس والخيال. فبالنسبة لنا كبشر، لا يمكن لنا  أن ندرك الوجود إلا من خلال المخيلة، ولذا، يأتي إدراكنا للواقع الموضوعي مشوباً، وإن اختلفت درجات الإشابة من فرد لآخر، بل، ربما، من جماعة لأخرى...

الثلاثاء، 15 مارس 2016

في الإيمان، وعنه

(3/15/2016) ...كل العقائد شرك ووثنية وإلحاد، لأنها تبني على ما بوسعنا كبشر إدراكه وفهمه والذي سيبقى دائماً مشوباً بنقصاننا وتناقضاتنا. لذا، لا فائدة ترجى من الحروب المقدسة والتكفير: فكلنا مهرطقون، كلنا مرتدون، كلنا زنادقة وملاحدة. كلنا مخطئون...  

الاثنين، 14 مارس 2016

مضامين القرار الروسي بخصوص الانسحاب من سوريا: قراءة مبدئية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو

القرار الروسي بالنسبة لي لم يكن متوقعاً على الإطلاق، لكنه أيضاً، ومن حيث محتواه، ليس مفاجئاً إلى هذا الحد، ولا يغير، في هذه المرحلة، الحقائق التي أصبحت قائمة على الأرض نتيجة التدخل. فهو، من ناحية، لا يشكل تراجعاً عن الهدف الأساسي الروسي من وراء التدخل، والذي جاء لتأمين القاعدة الروسية في المتوسط وتوسيعها، من خلال مساعدة نظام الأسد على تأمين المناطق الساحلية وبعض المناطق الوسطى، خاصة حمص، والجنوبية، خاصة دمشق، والشمالية، بما في ذلك حلب والرقة.

ولعل توقيت الانسحاب قبل تحقيق المراد في حلب والرقة يأتي كورقة ضغط على نظام الأسد في هذه المرحلة لكي يتفهم الأسد بالذات أن الروس لم يتدخلوا إكراماً له وأنه لا يمكن التعويل عليهم لإعادة بسط سيطرته على كل البلاد، وأن بوسع الأسد أن يستفيد من التدخل الروسي لإنقاذ رأسه ولكن ليس لإنقاذ منصبه، على الأقل، ليس على المدى الطويل.

ولقد سبق ونوهت إلى أن الروس ليسوا متمسكين بالأسد ذاته كقرار نهائي ولكن كورقة تفاوضية مرحلية، بعدها يفقد الأسد قيمته. وها قد وصلنا فيما يبدو إلى هذه المرحلة، ولابما بأسرع مما كنت أتوقع، وقد يعكس هذا الأمر تعنت الأسد وغبائه من جهة، وما يجري من تنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى.

وقد يكون بوسع الأسد التعويل على الدعم الإيراني من جديد في المرحلة التالية، ولكن ضمن حدود. ففي الواقع لم يبقى أمام الأسد من مخرج من أزمته إلا العملية التفاوضية، وذلك لإنقاذ رأسه، وربما تحصين نفسه وعائلته وبعض أزلامه من أية محاسبة مستقبلية. لكن، عليه أن يتصالح مع ضرورة تخليه بشكل أو آخر عن منصبه خلال الشهر الـ 18 القادمة، وإلا فأن رأسه وبعض رؤوس من حلو قد يكون هو الثمن.

ونعم، هناك بعد مادي للقرار الروسي. فروسيا قد خفضت ميزانيتها العسكرية هذا العام بأكثر من 5%، وذلك للمرة الأولى منذ تقلد بوتين سدة الحكم فيها.

لكن، علينا ألا ننسى في غضون هذه التحليلات المبدئية أن روسيا ستتابع عملياتها الجوية في الشمال على الأقل بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

وفي هذه الأثناء، لاشك أن هذا التطور يشكل مغنماً للمعارضة السورية التي أصبح بوسعها أن تفاوض بثقة أكبر في جنيف، ولكن بذكاء وحنكة وبإدراك للحدود المرسومة. نعم لقد أرسل الروس رسالة واضحة إلى الجميع وعلى رأسهم الأسد، حول عدم تمسكهم به لذاته، لكنهم يبقوا فيما يبدو متمسكين بالكيفية التي سيتم من خلالها إزالته، وهي: انتخبات يرشح فيها الأسد نفسه إلى جانب منافسيه. عوضاً عن الإصرار على رفض هذا الأمر بالتحديد، ربما كان على المعارضة أن تصر على ضرورة استقالة الأسد من منصبه قبل موعد انعقاد الانتخبات بعدة أشهر لكي لا يستغل منصبه في الدعاية لنفسه، وضرورة محافظة مؤسسات الدولة على حياديتها خلال الفترة الانتخابية، خاصة وسائل الإعلام الحكومية، وضمان ذلك من خلال إدراتها من قبل لجان انتقالية خاصة تجمع ما بين ممثلين للمولاة والمعارضة والكجتمع الدولي، وغيرها من الخطوات.  

باختصار، لقد باتت محادثات جنيف تشكل فرصة حقيقية اليوم للتوصل إلى حل لأزمتنا  السورية لا ينبغي إضاعتها.

من ناحة أخرى، فإن تجنب إدارة أوباما لتقديم إية وعود علنية فيما يتعلق برغبتها في إيجاد حل سياسي في سوريا قبل انتهاء فترة حمكها، لا يعني أنها غير جادة في مساعيها الدبلوماسية في هذا الصدد. إذ لم يعد يغفل على أحد أن المجتمع الدولي، والكثير من القوى السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، من اليمين واليسار، تنحي باللوم على أوباما شخصياً فيما يتعلق بالكارثة السورية. ومهما بلغ الصلف به، فلا شك أن أوباما يدرك ذلك جيداً، ومن هنا رغبته في التوصل إلى حل قبل رحيله.


عن المواطنة والهوية والعَـلمانية

سوريا - حماة، مطلع القرن العشرين: القنصل الروسي يتنزه على نهر العاصي. المسيحيون الأورثوكس في الإمبراطورية العثمانية كانوا تحت حماية الإمبراطور الروسي آنذاك.

يتعامل الكثيرون منا مع فكرة المواطنة على أنها تتعارض مع الانتماء الطائفي أو القومي أو المناطقي، بل يعتبر مثقفونا هذا التعارض من المسلمات والبديهيات التي لا يمكن بل لا يجوز الخوض فيها. لكن الواقع غير ذلك. فالمواطن كفرد له هوية تشكلها مجموعة من العوامل، منها بيئته المحلية التي يبدأ تأثيرها فيه منذ لحظة ولادته ويستمر إلى أن تتحول العلاقة مع الوقت فتصبح أكثر تفاعلية مع تقدم عمره وازدياد خبراته، وبحسب موقعه الاجتماعي وتحصيله العلمي، وكيفية تعامل المجتمع المحلي والدولة مع مسألة الحريات الفردية، إلى آخره من ظروف.

ولا يمكن للفرد أن يشعر بالأمان كمواطن ما لم تتيح له الدولة فرصة التعبير بحرية عن هويته بأبعادها وجزئياتها المختلفة، مثل القدرة على التكلم بلغته الأم وتعليمها لأطفاله، وممارسة الطقوس التي نشأ عليها أو أصبح يؤمن بها، وغيرها من أمور.

إن عادتنا التي نفخر بها في سوريا والمتمثلة في تجاهلنا الحديث علنياً عن جزئيات الهوية، أي من منا السني أو العلوي أو المسيحي أو الكوردي، ليست بالإيجابية التي نعتقد، بل كانت وما تزال تعبيراً عن المشكلة الأساسية التي هيئت الأرضية لظهور نظام الأسد ولما يحصل اليوم من تفتيت: خوفنا من بعضنا البعض وانعدام الثقة ما بيننا. لأن الواثق والآمن لا يخشى أن يعبر بحرية عن أمور تعد جزءاً لا يتجزأ من هوية المرء وانتمائه.

تحتوي المناهج التعليمية في سوريا على حصص خاصة للتربية الدينية، يتم فيها الفصل ما بين الطلاب المسلمين والمسيحيين فيتعلم كل دينه. لكن، الواقع أن منهج التربية الإسلامية يعكس وجهة النظر السنية التقليدية فحسب، فهو يغيب بالتالي كل من الشيعي الجعفري والعلوي والإسماعيلي والدرزي والصوفي وأي آراء وتفسيرات معاصرة وحداثية. ويدعي رجال النظام فيما يتعلق بهذه المسألة، باستخدام الوسائل غير الرسمية بالطبع وذلك لأن نقاش هذه المواضيع لا يتم في العلن، أن لا حيلة للنظام في مسعاه لحماية الأقليات من تقديم هذه التنازلات لأهل السنة الذين لا فرق بينهم عنده. لكن النظام في الواقع هو المستفيد الأكبر من هذه الحال، لأن هذا الواقع يساعده على بسط سيطرته على هؤلاء المغيبين وعلى التلاعب بمشاعرهم ومخاوفهم. ولقد ساهمت النخبة المثقفة لهذه الفئات ولأهل السنة في تكريس هذا الواقع من خلال تبنيها لمفهوم خاطئ للمواطنة، مفهوم يغيب جزئيات الهوية عند كل المكونات ما عدا العرب السنة، ما خلا بعض المظاهر المسيحية.  

كان بوسع نظام الأسد أن يغير هذه المناهج في أية مرحلة، لكنه اختار ألا يفعل، لأن هذا الواقع يخدم مخططه الهادف على اللعب على هاجس الخوف من البعبع السني عند المكونات الأخرى.


في الولايات المتحدة الأمريكية هناك ظاهرة اجتماعية تعرف باسم "امتيازات الرجل الأبيض" في إشارة إلى كيفية تعامل المؤسسات المختلفة في البلاد، العمومية منها والخاصة، مع موظفيها وزبنائها، إذ تتعامل هذه المؤسسات بشكل أفضل مع البيض منها مع السود والأقليات العرقية الأخرى. لكن، معظم البيض لا يدركون ذلك لأنهم ألفوا هذه الطريقة في التعامل، لكن بوسع السود والأقليات العرقية الأخرى، أن يروا هذا الاختلاف في التعامل  بذلك، فهو جزء أساسي من واقعهم اليومي، ومن الطبيعي أن يشعورا بالاضطهاد جراء ذلك. وتؤيد الإحصائيات والدرسات الإكاديمية المستقلة وجهة نظرهم.

في سوريا، نجح نظام الأسد في التأسيس لعلاقات بينية للمكونات المختلفة جعلت كلاً منها يشعر وكأنه العنصر الأقلوي المضطهد في المعادلة، وأنه يواجه تحالفاً بين المكونات الأخرى ضده.  فالعلوي مثلاً يشعر بأنه مضطهد جراء تغييب هويته الدينية، في حين يشعر السني بأنه هو المضطهد بسبب سياسات التوظيف التي تفضل العلويين والأقليات الأخرى على حساب السنة، بصرف النظر عن المؤهلات.

ويشكل تغييب الحوار الصريح حول هذه الأمور تكريساً لهذا الواقع لا حلاً له. وليس بالضرورة على الإطلاق أن يؤدي الحوار الجدي حول هذا الأمور إلى تبني نظام محاصصة طائفي أو إثني قد يخشى الكثيرون. وإذ أدى الحوار في سوريا في هذه المرحلة من الصراع إلى تبني محاصصة من هذا النوع، فيمكن التعلم من النموذج اللبناني كيف نتحاشى مساوئه، مع الاتفاق على طرق لتحديث نظام المحاصصة هذا وتعديله مع الوقت وصولاً إلى إلغائه. فالمواطنة عملية مستمرة الرغبة فيها هي نقطة الإنطلاق، وتحقيقها هو الغاية التي نسعى إليها.

ولا شك في أن العَلمانية هي مكون أساسي من مفهوم المواطنة. وكما هو الحال مع المواطنة، لا يتنافي مفهوم العَلمانية مع كون المرء منتمياً إلى طائفة معينة أو مؤمناً بدين معين.

وفي هذه المرحلة بالذات من تطورنا الاجتماعي، تبقى العَلمانية خياراً فكرياً عقلانياً عند معظم المؤمنين بها أكثر منها عنصراً مشكلاً للهوية، لأنها لم تتأصل في مجتمعاتنا بعد، ولاتشكل جزءاً أساسياً من البيئة المحيطة والموروث لتؤثر بشكل فعال في تشكيل هوية المرء وسلوكياته وعقليته ووجدانه منذ طفولته. وقد يجمعنا الفكر العَلماني على أسس معينة في هذه المرحلة، لكن سيبقى للمؤثرات البيئية التأثير الأكبر على سلوكياتنا وعقلياتنا لعقود قادمة. وتبدو هذه الحقيقة واضحة من خلال معاينة التناقض الظاهر في سلوكيات الكثير من شبابنا ومثقفينا وسياسيينا ممن يدعون "التحرر" والعَلمانية بل والليبرالية من الناحية الاجتماعية، الذين عندما يوضعون على المحك، خاصة فيما يتعلق بتصرفاتهم حيال المرأة، نجدهم وقد ارتكسوا إلى سلوكيات تقليدية نمطية تتناقض تماماً مع ما يدعون. 

على قوانينا الناظمة لحياتنا السياسية والاجتماعية ولمناهجنا التربوية أن تتمتع بالمرونة الكافية للتعامل مع هذا الواقع. ولاشك في أنه سيكون للاتفاق على رؤية واضحة لما نريد للأحوال أن تؤل إليه في المستقبل دور كبير في مساعدتنا في هذا المجال. وقد لا تكون الشروط متوفرة إطلاق عملية سياسية من هذا النوع الآن، لكن طالما وضعنا هذا الأمر نصب أعيينا وطالما سعينا لتمهيد الأرضية له، لابد وأن نتمكن من خلق الفرصة المناسبة.

ومن الإشكاليات التي تواجهنا في هذا الصدد أيضاً، وجود فئات في مجتمعاتنا، بل وفي معظم المجتمعات هذه الأيام، تشعر بأن الحداثة، بما جلبته من مفاهيم مثل المواطنة والعَلمانية والديموقراطية وحقوق الإنسان، تهدد قيمها وهويتها. إذ لا يكفي هذه الفئات الأصولية أن تحترم الدول حريتها في الاعتقاد والتعبير والتجمع، بل تريد أن تجد طريقة ما، بما في ذلك التلاعب بالعمليات السياسية والثورية، أو الاستيلاء على الحكم بالقوة، لتفرض قيمها الخاصة على المجتمع ككل باسم الأصالة والتراث والحق المقدس، وغيرها من المبررات. ولن يكون التعامل مع هذه الفئات سهلاً على الإطلاق. وفي سوريا بالتحديد، نجد أن معظم هذه الفئات تنحدر من خلفية سنية، وأنها، في هذه المرحلة من الصراع، ونتيجة لظهور مظلومية سنية مشروعة وقوية نظراً لما تعرض له أهل السنة، بصرف النظر عن مدى تعلقهم بالدين، وطبيعة هذا التعلق، من اضطهاد في السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت قادرة على التأثير على شرائح أكبر من السنة قد لا تتفق معها في الرؤية لكنها ترى فيها الحامي الأفضل لها في هذه المرحلة، وهذا بعينه ما يراه الكثير من الجماعات الأقلوية في نظام الأسد إلى هذه اللحظة.

وهنا علينا أن نتعامل مع هذا الإشكال الآخر،  المتمثل في شعور الكثير من أبناء الأقليات الذين قد لا تربطهم بالماضي عقلية أصولية دينية، لكن تربطهم ذاكرة جمعية مؤسسة على الخوف، خاصة من الأغلبية السنية، وهو خوف وجودي الطابع ومتجذر، خوف على الهوية وعلى الذات، لا علاقة له بالحقائق التاريخية أو الوقائع الحاضرة بالضرورة، لكنه أيضاً لم ينبع من فراغ، وهو خوف لم تتمكن النخب السنية من التعامل معه بشكل ناجع، لأنها لم تحس به في العمق. فالمجتمع السوري العاصر مايزال مصبوغاً بمعطيات الهوية السنية (والعربية) إلى درجة كبيرة، والنظام الأسدي، كما ذكرنا سابقاً، أراد أن يبقي هذا الطابع حاضراً ومرأياً بوضوح ليكرس قبضته السياسية والأمنية على الأقليات.   

من هذا المنطلق، لا يمكن أن تكون المواطنة والعَلمانية هما الحل لما نواجهه من إشكاليات سياسية واجتماعية اليوم، ما لم نتعامل معها كصيرورتين أو عمليتين جاريتين تتطلبان منا إدارة حذرة وعقلانية على مدى سنين وعقود من الزمن. إذ لا وجود لمنتج جاهز هو المواطنة والعَلمانية والديموقراطية.


الجمعة، 11 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (3): سوريا والمسألة الفدرالية

التقاسيم الإدارية للإمبراطورية العثمانية

المعارضة في سوريا، ومنذ ربيع دمشق وليس الربيع العربي فحسب، تبدي استعدادها لمناقشة كل القضايا المتعلقة بوطننا ومستقبله، بما في ذلك حقوق المكونات والمناطق، ومسألة الفدرالية، بل وكيفية سقوط نظام الأسد ذاته. لكنها تشترط لهذا الحوار أن لا يجري إلا بعد سقوط النظام. فتأمل يا رعاك الله! على لسان الراحل توفيق البجيرمي.

لكن، وبعيداً عن التهكم والسخرية، ماذا عن الواقع؟ واقع اليوم، والأمس؟

التقسيمات الإدارية للمناطق السورية في مطلع الحرب العالمية الأولى
الواقع أن الحكم المركزي حتى في أيام حافظ الأسد لم يكن مركزياً في كل شيء. فالأسد الأب وضع لكل محافظة معادلة خاصة بها لضمان السيطرة عليها على حدة، وأعطى، ضمن حدود معنية، صلاحيات واسعة للمحافظين الذين عينهم عليها، وللأجهزة الأمنية فيها، صلاحيات واسعة للتصرف ضمن الحدود المرسومة، فالأسد الأب لم يعد معنياً بالتفاصيل الصغيرة بعيد حركته التصحيحية، وكان يفضل أن يتعامل الآخرون من حوله معها. إن اضطرار السكان في المناطق والمدن السورية المختلفة الذهاب إلى العاصمة كلما احتاجوا إلى القيام بمعاملة ما، واضطرار الكثير من السوريين إلى النزوح إلى العاصمة والمدن الكبرى في سوريا لا يتنافيان مع رغبة النظام بل ونجاحه في تشجيع سكان كل محافظة ومنطقة على التقوقع والانغلاق. الحركة في الاتجاه المعاكس، أي من العاصمة والمدن الكبرى إلى الأرياف، ومن المناطق الغربية في سوريا إلى شرقها، كانت شبه معدومة لانعدام الحوافز وضعف التنمية، وبقيت السياحة الداخلية محدودة بأماكن وأنماط معينة، والتجارة الداخلية محصورة في أيد معينة.

المعنى: لم يعرف سكان المحافظات والمناطق المختلفة في سوريا الكثير عن بعضهم البعض، إلا من خلال المسلسلات والإشاعات. ولقد ساهمت المناهج التعليمية في عملية تجهيل هذه، خاصة فيما يتعلق بتعاملها مع تاريخ سوريا الحديث وجغرافيتها البشرية المعاصرة. ولقد كان للنخب الفكرية ايضاً دورها السلبي هنا من خلال طروحاتها الإيديولوجية المختلفة التي رفض معظمها التعامل مع سوريا كواقع قائم وشرعي وضروري بذاته. بالنسبة لهم كانت سوريا دائماً جزءاً من أحجية أكبر وأهم، في نظرهم، من سوريا، بصرفت النظر عن ادعائاتهم. الدليل في السلوكيات والأفعال.

حتى حركات النزوح الداخلي، الممنهج منها وغير الممنهج، لم تؤدي إلى زيادة الاختلاط بالشكل البناء الذي يمكن أن يسمح بنوع من الاندماج السلس الناتج عن التبني الطوعي لقيم حداثية ما. إذ سكن أغلب النازحين مناطق وأحياء معينة في المدن الكبرى، وساهموا في تأسيس العشوائيات. وسادت حالة واضحة من التوتر والتنافر ما بين المكونات المختلفة لتمسك كل منها بسلوكياتها وعقلياتها الأساسية.

إذاً سوريا كانت مفككة حتى في مرحلة ما قبل الثورة. بل، وفي الواقع لقد كانت مفككة حتى في مرحلة ما قبل الأسد، وما قبل الاستعمار الفرنسي. لأن سوريا كما نعرفها اليوم كانت لقرون طويلة عبارة عن مجموعة من المناطق المستقلة إدارياً والخاضعة لقرارات الباب العالي في أستانة. حتى المدن الكبيرة كانت في معظم الأحيان مقسمة إلى مجموعة من الأحياء المتجانسة دينياً وإثنياً تحكمها نخب خاصة من التجار والحرفيين ورجال الدين والقبضايات هم الذين يمثلون هذه الأحياء عند السلطان. إن هذه الحقائق تترك أثراً كبيراً على العقليات والسلوكيات، ولا ينبغي تجاهل ذلك.

إن تجربتنا مع الحكم المركزي في سوريا قصيرة من الناحية التاريخية، واقتصرت في المرحلة الأسدية على الجانب العسكري والأمني، وبعض المسائل الإدارية، الأمر الذي ناسب أولوياتهم  الخاصة ورغبتهم في تسهيل سيطرتهم على البلد.

هذا هو واقع الأمس من الناحية التاريخية.

مناطق السيطرة والنفوذ الفرنسية والبريطانية في الشرق الأوسط في عام 2016

أما اليوم، وبعد خمس سنين ونيف من العنف والعنف المضاد، بصرف النظر عن مدى مشروعية هذا أم ذاك، ونظراً لتدخل قوى خارجية إقليمية ودولية، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى جانب هذا الطرف أم ذاك، ونظراً للتكاثر المطرد لهذه الأطراف، ولسيطرة كل منها على مناطق معينة، فالواقع أن سوريا اليوم أصبحت مقسمة، وما الطرح الفدرالي في هذه المرحلة إلا محاولة للاعتراف بهذا الواقع، ولتجميع بعض ما تبعثر، ولوقف النزيف والدمار، وبتحويل الصراع من نزاع عسكري إلى علمية سياسية.

هل ستؤدي الفدرالية في خاتم المطاف إلى تقسيم نهائي؟ إن حسابات القوى الإقليمية والدولية المتعلقة بهذا الشأن أكثر تعقيداً من أن تسمح بذلك اليوم أو في المستقبل القريب. هذا من ناحية. من ناحية أخرى، وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول التقسيم، هناك مسألة أهم تواجهنا هنا، مسألة تتمحور حول طبيعة العلاقات التي ستسود ما بين المناطق المختلفة في ظل النظام الفدرالي وكيفية تطورها في المستقبل. إذ ما بوسع أحد من الأطراف أن يأخذ أرضه ويرحل، مهما بلغت به كراهيته للطرف الآخر ونفوره منه. هذا البعد للمسألة، علاوة على ثلة من الاعتبارات المتعلقة بالاقتصاد والنظام المالي، والوضع الأمني، وتطوير البنى التحتية وإعادة الإعمار، وحركة السكان، ومسألة العدالة الانتقالية، وإعادة توطين اللاجئين، وأية عملية محتملة لتبادل السكان بين المناطق، إلى آخره من هذه الشؤون العملية، كلها أمور تفتح مجالاً واسعاً للعمل على إعادة بناء جسور الثقة  ما بين المناطق بمكوناتها المختلفة، وبالتالي على بناء تدريجي لدولة أقوى تماسكاً وأكثر عدالة فيما يتعلق بقدرتها على تمثيل طموحات وتطلعات مكوناتها المختلفة، وأكثر قدرة على مراعاة مخاوفهم وهمومهم المتعلقة بسلامتهم وأمنهم الشخصي والجماعي.

سوريا في مطلع الانتداب الفرنسي

وفي حال تزامنت هذه العملية مع عملية سياسية أكبر تقوم من خلالها الدول الإقليمية المعنية على الاتفاق على معادلة جديدة للتعاون الإقليمي في مجالات عدة، على غرار ما تم اقتراحه في مطلع عام 2003 في بيان ثروة مثلاً، فقد تتمكن دول المنطقة من تجنب الدخول في صراعات مأساوية وعدمية على غرار ما يجري في سوريا حالياً، وقد يتمكن السوريون أنفسهم من خلال تبنيهم لطرح من هذا النوع من التسامي فوق آلام هذه المرحلة وتحويلها إلى انتصار معنوي وأخلاقي وفكري لهم، بكل مكوناتهم، وقد يجدون في هذه الرؤية دافعاً كبيراً للعمل على مواجهة التحديات الهائلة لمرحلة إعادة الإعمار.


إن رفض الطروح الفدرالية في هذه المرحلة يشكل، من الناحية العملية، استدامة للصراع في سوريا. فمهما كانت إرادتنا حديدية الجوهر ما بوسع أحدنا منع وقوع شيء قد وقع: إذ أصبح التفتيت واقعنا المعاش، ولا يمكننا إعادة البناء في لحظة، أو على أسس تتجاهل تماماً كيف وصلنا، وأُوصِلنا، إلى ما نحن عليه اليوم.  كل ما بوسعنا أن نفعله هو أن نتعامل مع نتائج ما وقع بأكبر قدر ممكن من العقلانية، بعيداً عن الإيديولوجيات والرومانسيات. فالواقع بشع، ما في ذلك من شك، وإعادة البناء صعبة جداً، وطويلة، ومضنية، والخسائر التي تكبدناها، والخيبات التي واجهناها، تكاد لا توصف أو تصدق. ومع ذلك، مع كل ذلك، ورغماً عنه، علينا أن نقبل ما هو كائن ونفهم طبيعته لنعمل على تغييره. ولعل نجاحنا في تبني رؤية أوضح لما نريد بناءه يعطينا القوة والأمل الذين نجد أنفسنا اليوم، في وسط هذا الخراب، بأمس الحاجة إليهما.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |