‏إظهار الرسائل ذات التسميات المعارضة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المعارضة. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 31 مارس 2016

ملاحظة مختصرة حول مسألة إعادة التوطين

لاجئون سوريون في بلغاريا

من الناحية العملية، تشكل إعادة توطين مئات الألوف من اللاجئين السوريين اعترافاً ضمنياً بالطابع الجديد لبعض المناطق في البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً، وتكريساً لهذا الواقع. لكن الهدف الحقيقي منها هو محاولة تحسين الظروف الإنسانية والمعيشية لهؤلاء اللاجئين. فالمعضلة التي تواجهنا هنا والآن، والتي ستبقى تواجهنا لفترة طويلة كسوريين، تكمن غب أن متطلبات النشاط الإنساني باتت تتعارض في بعض جوانبها مع متطلبات العمل السياسي، وما علينا أن نختار ونحسن الخيار.

بالنسبة لي، أرى أن الاعتبارات الإنسانية أهم في هذه المرحلة، لأنها لن تتعارض مع متطلبات السياسة على المدى الطويل، وذلك في حال نجاحنا في طرح رئاً سياسية مناسبة للمستقبل، وعمّقنا فهمنا للكيفية التي ينبغي علينا أن نعين من خلالها أولوياتنا للعمل في المراحل القادمة. 

الأربعاء، 30 مارس 2016

"النصر" و "الهزيمة" في عالمنا المعاصر

لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): عائلة الإمبراطور الفارسي داريوس تركع أمام الإسكندر المقدوني بعد انتصاره. 

النصر بمعناه التقليدي المألوف لدينا من خلال الأساطير و "الحواديت" التاريخية المنتشرة في ثقافتنا يقتضي عادة هزيمة الطرف الآخر بشكل تام وماحق يشمل السيطرة على المناطق التي خضعت لسيطرته في مرحلة ما بشكل تام، وربط مصيره بمزاجية قائد الجانب المنتصر وحساباته المرحلية الخاصة.

وفقاً لهذا التعريف، ولاستقرائي الخاص للواقع القائم اليوم، بوسعي أن أؤكد أن ما بوسع أي طرف من أطراف النزاع الحالي في سوريا، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين، أن يحقق هذا النصر مهما فعل.

فتحقيق نصر من هذا النوع، وهو الأمر الذي يشتهيه كل طرف محلي، لا يحقق بالضرورة مصالح حلفائه، الإقليميين والدوليين، ولا ينسجم مع متطلبات مصالحهم أو مع حساباتهم الخاصة بالتطورات والتوازنات القائمة في بلدان ومناطق أخرى. إن هذه الاعتبارات تحتم على القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع السوري القيام بـ "إدارة الصراع" لا محاولة حسمه لحساب أي طرف، لأن الهدف بالنسبة لهم لا يتجاوز إجراء تعديل، أو تعديلات، ما في التوازنات القائمة، لا السعي وراء انهيارها، لما في ذلك من انعكاسات سلبية محتملة على الجميع. علاوة على ذلك، هناك إدراك أعمق عند الكثير من هذه الأطراف، بالمقارنة مع اللاعبين المحليين على الأقل، لحجمهم الحقيقي من الإعراب، سياسياً واقتصادياً وبنيوياً، وبالتالي لأي مدى يمكن لهم المغامرة بالتدخل وقلب الموازين.

من ناحية أخرى، هناك عامل جدي آخر لابد من التنويه إليه هنا لتأثيره المباشر على معظم القرارات المتخذة فيما يتعلق بكيفية إدارة الصراع في سوريا، ألا وهو عامل الثقة، سواء بالنوايا أو بالقدرات. ففي حين يبدو أن بوسع الأطراف الإقليمية والدولية أن تثق ببعضها البعض إلى حد معقول، بسبب التاريخ الطويل لتفاعلاتها المشتركة،  الودية منها والعدوانية، وإدراك معظمها بشكل أو آخر لضرورة الحفاظ على بعض، إن لم نقل معظم، التوازنات القائمة بينها، وتجنب التسرع والتهور في المحاولات الجارية لتعديلها، لا يبدو أن لدى أي من هذه الأطراف ثقة كبيرة بالجهات المحلية التي يدعمها لا من حيث النوايا، ولا من حيث الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها في حال تحقق لها النصر الحاسم والنهائي، ولا من حيث القدرة على تحمل مسؤولية الحكم في المرحلة التالية.

فإن كان حلفاء الأسد يريدون له أن يبقى في هذه المرحلة، فهذا لا يعني أنهم يثقون به ويريدون له أن ينتصر. بل هم يفضلون له أن يبقى في حاجة مستمرة إليهم حتى يتعبوا هم منه، ويتمكنوا من إيجاد معادلات أخرى للسيطرة على المناطق التي يرغبون بها في البلد عن طريق شخصيات وتوازنات داخلية أخرى. أي أن الأسد بالنسبة لهم لا يزيد عن كونه ستار يمكن له أن يخفي وراءه أهدافهم الحقيقية ومساعيهم إلى تقسيم سوريا لمناطق نفوذ خاضعة لهم، بشكل أو آخر: المناطق الساحلية لروسيا، والمناطق الجنوبية والوسطى لإيران وميليشياتها الشيعية المتطرفة، بحيث تحظى أخيراً بممر  بري يصل طهران بالبقاع وبيروت، عن طريق بغداد وتدمر وحمص ودمشق، خاضع لسيطرة مباشرة من قبل ميليشياتها الطائفية.

ويمثل الأسد أيضاً ورقة ضغط يمكن استخدامها في العملية التفاوضية للتسويف وللتحصل على تنازلات من حلفاء الجهات المعارضة إلى أن يأتي الوقت المناسب لحرقها. وقد تكون اللحظة قد اقتربت، بالذات لأن الأسد يبدو غير قادر على إدراك ذلك، ومايزال يتكلم ويتصرف وكأنه سيد الموقف. 

أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة، بشكل أو آخر، فإن لم تكن الحقيقة واضحة فيما قبل، فلابد أنها قد أصبحت واضحة اليوم: إن دعم هذه الدول للمعارضة كان دئماً مشروطاً برؤيتها الخاصة للكيفية التي ينبغي من خلالها إدارة الحكم في سوريا في المرحلة التالية.

لوحة للرسام الفرنسي يوجين دولاكروا (1798-1863): سقوط القسطنطينية على أيدي الصليبيين في 12 نيسان/أبريل، 1204.

إذ سعت كل من تركيا وقطر إلى تحقيق انتقال يضمن استمرار الدولة المركزية لكن تحت سيطرة إخوانية "مدنية"، بحيث لا يتحقق للإكراد ما يريدون، أي دولة لامركزية أو فيدرالية، ولا يتحقق للقوى العلمانية ما تريد: دولة علمانية ديموقراطية. من هذا المنطلق جاءت سياسة العزل التي مارسها الأتراك بحق الضباط المنشقين، العلويين منهم خاصة، بالتوا زي مع محاولاتهم المستمرة لاختيار مَنْ من الضباط السنة يمكن لهم دعمه، أو بالأحرى، مَنْ منهم يبدي انفتاحاً على موضوع التعامل مع الإخوان والقبول بسلطتهم السياسية. ولنا في ما حصل مع الضابط حسين هرموش، مؤسس حركة الضباط الأحرار، خير مثال على الكيفية التي قامت بها السلطات التركية بالتلاعب بالمنشقين وتحييد من لم يرق لها منهم. وإن لم يقدر لهذه المحاولات أن تنجح تماماً، فهي لم تخفق كلية أيضاً.

أما السعودية، فكانت معنية أكثر بدعم التيارات السلفية على حساب حركة الإخوان المسلمين، لا لأسباب دينية، لكن لأن الإخوان، كما أبدوا في مصر، كانوا دائماً على استعداد لإيجاد صيغة تعاونية ما مع إيران من منطلق السياسة الشرعية، أما التيارات السلفية الوهابية فيمكن للسعودية الاعتماد عليها أكثر في هذا الصدد بسبب عدائهم الأعمى للشيعة، مما يضمن قيام حكومة غير مهادنة لإيران بعد سقوط النظام الأسدي في سوريا، وهو الهدف الأساسي للسعودية فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، في حين لا تمثل قضية الفدرلة عائقاً كبيراً بالنسبة لحكامها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلقد أبدت إدارة أوباما تخوفها من الملف السوري منذ اللحظة الأولى، بسبب اهتمامها الأكبر بالمفاوضات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي، ورؤيتها الإيديولوجية التي تصور لها إمكانية إعادة تأهيل إيران كلاعب إقليمي هام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لاعب يمكن التعويل عليه لتحقيق الاستقرار في المنطقة في المستقبل، لاعب لا يمكن لمشاغباته المتكررة أن تكون مصدراً كبيراً للإزعاج، خاصة بعض تجميد وتحجيم برنامجه النووي، لأن صبغته الديموغرافية والسياسية، أي كونه بلداً شيعياً محكوماً من قبل نخبة دينية، ستحد من قدرته على التأثير على الصيرورات المختلفة من حوله، وستمنعه من التحول إلى مصدر للقلق. وفي حال تمردت إيران وأصرت على لعب دور أكبر من حجمها، سيتم تذكيرها بمدى هشاشتها من خلال تقديم دعم حقيقي للمعارضات المختلفة فيها. فإن بدت إيران مستقرة اليوم فذلك بسبب وجود إرادة دولية، غربية بل أمريكية على وجه التحديد، تحبذ ذلك، وليس لأنها تملك مقومات الاستقرار بالضرورة. وهناك ما يكفي من الحصافة عند قادتها ليدركوا حقيقة الأمر. على الأقل، هذه هي رؤية الإدارة الإمريكية الحالية والواقعيين السياسيين للأمور.

من ناحية أخرى، ما كان بوسع الإدارة أن تترك الحكم في بلد محوري مثل سوريا يقع في أيدي معارضة متخبطة كالمعارضة السورية، معارضة لا تملك أية مقومات تؤهلها للتعامل مع الملفات المعقدة المتعلقة بشكل أو آخر بسوريا. لذا، نرى الإدارة مصرة على بقاء مؤسسات الدولة، الذي يستتبع بقاء الكثير من الشخصيات التابعة للنظام في مكانها.

جانب من لوحة للرسام الفرنسي شارل لبرون (1616-1690): الإسكندر المقدوني يعاين حال غريمه حاكم مدينة بور أثناء معركة هيداسبيس. 

نظراً لكل هذا، لا شك هناك في لاجدوى الجدال الجاري بين فئات المعارضة حول موضوع طبيعة المرحلة الانتقالية والفدرلة، لأنا ما زلنا في الواقع نرزح تحت "انتداب لين" وغير معلن، بل لا يمكن له أن يعلن، من قبل قوى إقليمية ودولية مختلفة، تتطلب مصالحها ورؤاها الخاصة، المتعارضة في الكثير من الأحيان، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، إجراء بعض التعديلات فيما يتعلق بالحدود وآليات إدارة الدول للحكم، سواء في منطقتنا أو المناطق المجاورة. وليس ما يجري من صراعات في سوريا والمنطقة إلا ضرباً من ضروب التفاوض بين هذه القوى.

ويبدو اليوم أن اعتماد النظام الفدرالي في سوريا مع رحيل اللأسد في المستقبل القريب، أو اغتياله، وهو الاحتمال الأكبر، بات يمثل حلاً مقبولاً لهذه القوى.

من أعطى هذه الدول الحق في التصرف هكذا؟ قوتها طبعاً، كما هي العادة. فهناك معادلات موضوعية تحكم تصرفات الدول مع بعضها، سواء كانت ديموقراطية أم استبدادية، علمانية أم دينية، ولا تغير الديموقراطية في هذه الأمر شيئاً إلا من خلال قدرتها على إسباغ نوع من المرونة والحصانة على تلك الدول التي تبنتها بحيث تصبح أكثر قدرة وفعالية في تعاملها مع المتغيرات الدولية، على المديين المتوسط والطويل على الأقل. 

ولن نستطيع كشعوب شرقأوسطية تغيير هذه المعادلات بقوة السلاح، لأن هذه القوى هي مصدر السلاح، ولن تقوم بتسليحنا لنهزم مخططاتها. فعلى الرغم من حالة التنافس القائمة بينها، هناك أيضاً تنسيق كبير لم يجر مثيله خلال الحرب الباردة، لذا لا توجد لدينا اليوم فرصة حقيقية للعب طرف ضد آخر كما فعلت أنظمتنا في السابق. إن هامش المناورة المتاح لدينا اليوم محدود للغاية، ويتطلب تحقيق أي تقدم حكمة ومهارة دبلوماسية وسياسية كبيرة لا يبدو أنها متوفرة اليوم. وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهنا: ها نحن نمر بمرحلة حرجة أخرى من تاريخنا المعاصر ولا توجد لدينا، فيما يبدو، لا الشخصيات ولا الخبرات ولا الرؤى المناسبة لإدارتها بحيث نتحصل على بعض المكاسب، أو على الأقل نقلل حجم الخسائر.

ولمن يرى في تسليمنا بهذا الواقع هزيمة، أود تذكيرهم بأن في المقاومة العسكرية هزيمة أكبر، إذ حتى عندما تنجح هذه المقاومة في أيامنا هذه، كما حدث مع الشعوب الأفغانية في مواجهتهم مع الاتحاد السوفييتي، سيأتي هذا النجاح مصحوباً بدمار شامل للدولة والمجتمع، وبنزوح للعقول والمهارات عن البلد، مما يفسح المجال أمام بروز قوى ظلامية متناحرة كالقاعدة، والطالبان، وداعش، أو قوى الحشد الشعبي وغيرها من الميليشات الشيعية المنافحة عن الأسد والمصالح الإيرانية. ولا يمكن لهذه القوى أن تصنع حضارة أو تقود نهضة. ولا شك في أن السماح ببروزها وبتقويتها هو الهزيمة الحقيقية. ولأنها أصبحت هي المسيطر على الساحة اليوم، ينبغي علينا أن نقلل من حجم الخسائر ونسعى إلى اتفاق ينهي حالة النزيف والاستنزاف، ويسمح للقوى الانتدابية بتحويل عملياتها إلى ساحات أخرى للصراع. لقد دفعنا ما يكفي من أثمان باهظة في سوريا. لندع القوى إياها تخطط كما يحلو لها، ولنحاول التحصل على أفضل شروط ممكنة لنا.

لكن، وفي خاتم المطاف، علينا أن نتعامل مع هذه المرحلة مسلحين بإدراك أفضل لطبيعة المتغيرات من حولنا، وبإيمان بقدرتنا في التأثير على الصيرورات مع مرور الوقت من خلال العمل الدبلوماسي والنشاط الفكري والإنساني. هذه هي المقاومة التي نحن بحاجة إليها اليوم، وإن كان ثمة نصر في مستقبلنا فلن يتحقق لنا إلا من خلالها. ولابد أن يؤدي هذا النصر في مرحلة ما إلى تحييد دور شخصيات بعينها، ومحاسبة بعضها، لكنه لا يتطلب هزيمة الطرف الآخر، أو تهديد وجوده، أو وضعه تحت حكم البوط العسكري الطائفي، فالهدف هنا هو الاتفاق على آلية تحقق توازناً جديداً بين الجميع يحافظ على حقوقهم الأساسية، يأخذ بعين الاعتبار توازن القوى العام في الداخل والخارج، مما يسمح لنا بالتعامل على نحو أفضل مع ضغوط وتدخلات القوى الخارجية في المراحل القادمة.


الاثنين، 14 مارس 2016

مضامين القرار الروسي بخصوص الانسحاب من سوريا: قراءة مبدئية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو

القرار الروسي بالنسبة لي لم يكن متوقعاً على الإطلاق، لكنه أيضاً، ومن حيث محتواه، ليس مفاجئاً إلى هذا الحد، ولا يغير، في هذه المرحلة، الحقائق التي أصبحت قائمة على الأرض نتيجة التدخل. فهو، من ناحية، لا يشكل تراجعاً عن الهدف الأساسي الروسي من وراء التدخل، والذي جاء لتأمين القاعدة الروسية في المتوسط وتوسيعها، من خلال مساعدة نظام الأسد على تأمين المناطق الساحلية وبعض المناطق الوسطى، خاصة حمص، والجنوبية، خاصة دمشق، والشمالية، بما في ذلك حلب والرقة.

ولعل توقيت الانسحاب قبل تحقيق المراد في حلب والرقة يأتي كورقة ضغط على نظام الأسد في هذه المرحلة لكي يتفهم الأسد بالذات أن الروس لم يتدخلوا إكراماً له وأنه لا يمكن التعويل عليهم لإعادة بسط سيطرته على كل البلاد، وأن بوسع الأسد أن يستفيد من التدخل الروسي لإنقاذ رأسه ولكن ليس لإنقاذ منصبه، على الأقل، ليس على المدى الطويل.

ولقد سبق ونوهت إلى أن الروس ليسوا متمسكين بالأسد ذاته كقرار نهائي ولكن كورقة تفاوضية مرحلية، بعدها يفقد الأسد قيمته. وها قد وصلنا فيما يبدو إلى هذه المرحلة، ولابما بأسرع مما كنت أتوقع، وقد يعكس هذا الأمر تعنت الأسد وغبائه من جهة، وما يجري من تنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى.

وقد يكون بوسع الأسد التعويل على الدعم الإيراني من جديد في المرحلة التالية، ولكن ضمن حدود. ففي الواقع لم يبقى أمام الأسد من مخرج من أزمته إلا العملية التفاوضية، وذلك لإنقاذ رأسه، وربما تحصين نفسه وعائلته وبعض أزلامه من أية محاسبة مستقبلية. لكن، عليه أن يتصالح مع ضرورة تخليه بشكل أو آخر عن منصبه خلال الشهر الـ 18 القادمة، وإلا فأن رأسه وبعض رؤوس من حلو قد يكون هو الثمن.

ونعم، هناك بعد مادي للقرار الروسي. فروسيا قد خفضت ميزانيتها العسكرية هذا العام بأكثر من 5%، وذلك للمرة الأولى منذ تقلد بوتين سدة الحكم فيها.

لكن، علينا ألا ننسى في غضون هذه التحليلات المبدئية أن روسيا ستتابع عملياتها الجوية في الشمال على الأقل بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

وفي هذه الأثناء، لاشك أن هذا التطور يشكل مغنماً للمعارضة السورية التي أصبح بوسعها أن تفاوض بثقة أكبر في جنيف، ولكن بذكاء وحنكة وبإدراك للحدود المرسومة. نعم لقد أرسل الروس رسالة واضحة إلى الجميع وعلى رأسهم الأسد، حول عدم تمسكهم به لذاته، لكنهم يبقوا فيما يبدو متمسكين بالكيفية التي سيتم من خلالها إزالته، وهي: انتخبات يرشح فيها الأسد نفسه إلى جانب منافسيه. عوضاً عن الإصرار على رفض هذا الأمر بالتحديد، ربما كان على المعارضة أن تصر على ضرورة استقالة الأسد من منصبه قبل موعد انعقاد الانتخبات بعدة أشهر لكي لا يستغل منصبه في الدعاية لنفسه، وضرورة محافظة مؤسسات الدولة على حياديتها خلال الفترة الانتخابية، خاصة وسائل الإعلام الحكومية، وضمان ذلك من خلال إدراتها من قبل لجان انتقالية خاصة تجمع ما بين ممثلين للمولاة والمعارضة والكجتمع الدولي، وغيرها من الخطوات.  

باختصار، لقد باتت محادثات جنيف تشكل فرصة حقيقية اليوم للتوصل إلى حل لأزمتنا  السورية لا ينبغي إضاعتها.

من ناحة أخرى، فإن تجنب إدارة أوباما لتقديم إية وعود علنية فيما يتعلق برغبتها في إيجاد حل سياسي في سوريا قبل انتهاء فترة حمكها، لا يعني أنها غير جادة في مساعيها الدبلوماسية في هذا الصدد. إذ لم يعد يغفل على أحد أن المجتمع الدولي، والكثير من القوى السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، من اليمين واليسار، تنحي باللوم على أوباما شخصياً فيما يتعلق بالكارثة السورية. ومهما بلغ الصلف به، فلا شك أن أوباما يدرك ذلك جيداً، ومن هنا رغبته في التوصل إلى حل قبل رحيله.


عن المواطنة والهوية والعَـلمانية

سوريا - حماة، مطلع القرن العشرين: القنصل الروسي يتنزه على نهر العاصي. المسيحيون الأورثوكس في الإمبراطورية العثمانية كانوا تحت حماية الإمبراطور الروسي آنذاك.

يتعامل الكثيرون منا مع فكرة المواطنة على أنها تتعارض مع الانتماء الطائفي أو القومي أو المناطقي، بل يعتبر مثقفونا هذا التعارض من المسلمات والبديهيات التي لا يمكن بل لا يجوز الخوض فيها. لكن الواقع غير ذلك. فالمواطن كفرد له هوية تشكلها مجموعة من العوامل، منها بيئته المحلية التي يبدأ تأثيرها فيه منذ لحظة ولادته ويستمر إلى أن تتحول العلاقة مع الوقت فتصبح أكثر تفاعلية مع تقدم عمره وازدياد خبراته، وبحسب موقعه الاجتماعي وتحصيله العلمي، وكيفية تعامل المجتمع المحلي والدولة مع مسألة الحريات الفردية، إلى آخره من ظروف.

ولا يمكن للفرد أن يشعر بالأمان كمواطن ما لم تتيح له الدولة فرصة التعبير بحرية عن هويته بأبعادها وجزئياتها المختلفة، مثل القدرة على التكلم بلغته الأم وتعليمها لأطفاله، وممارسة الطقوس التي نشأ عليها أو أصبح يؤمن بها، وغيرها من أمور.

إن عادتنا التي نفخر بها في سوريا والمتمثلة في تجاهلنا الحديث علنياً عن جزئيات الهوية، أي من منا السني أو العلوي أو المسيحي أو الكوردي، ليست بالإيجابية التي نعتقد، بل كانت وما تزال تعبيراً عن المشكلة الأساسية التي هيئت الأرضية لظهور نظام الأسد ولما يحصل اليوم من تفتيت: خوفنا من بعضنا البعض وانعدام الثقة ما بيننا. لأن الواثق والآمن لا يخشى أن يعبر بحرية عن أمور تعد جزءاً لا يتجزأ من هوية المرء وانتمائه.

تحتوي المناهج التعليمية في سوريا على حصص خاصة للتربية الدينية، يتم فيها الفصل ما بين الطلاب المسلمين والمسيحيين فيتعلم كل دينه. لكن، الواقع أن منهج التربية الإسلامية يعكس وجهة النظر السنية التقليدية فحسب، فهو يغيب بالتالي كل من الشيعي الجعفري والعلوي والإسماعيلي والدرزي والصوفي وأي آراء وتفسيرات معاصرة وحداثية. ويدعي رجال النظام فيما يتعلق بهذه المسألة، باستخدام الوسائل غير الرسمية بالطبع وذلك لأن نقاش هذه المواضيع لا يتم في العلن، أن لا حيلة للنظام في مسعاه لحماية الأقليات من تقديم هذه التنازلات لأهل السنة الذين لا فرق بينهم عنده. لكن النظام في الواقع هو المستفيد الأكبر من هذه الحال، لأن هذا الواقع يساعده على بسط سيطرته على هؤلاء المغيبين وعلى التلاعب بمشاعرهم ومخاوفهم. ولقد ساهمت النخبة المثقفة لهذه الفئات ولأهل السنة في تكريس هذا الواقع من خلال تبنيها لمفهوم خاطئ للمواطنة، مفهوم يغيب جزئيات الهوية عند كل المكونات ما عدا العرب السنة، ما خلا بعض المظاهر المسيحية.  

كان بوسع نظام الأسد أن يغير هذه المناهج في أية مرحلة، لكنه اختار ألا يفعل، لأن هذا الواقع يخدم مخططه الهادف على اللعب على هاجس الخوف من البعبع السني عند المكونات الأخرى.


في الولايات المتحدة الأمريكية هناك ظاهرة اجتماعية تعرف باسم "امتيازات الرجل الأبيض" في إشارة إلى كيفية تعامل المؤسسات المختلفة في البلاد، العمومية منها والخاصة، مع موظفيها وزبنائها، إذ تتعامل هذه المؤسسات بشكل أفضل مع البيض منها مع السود والأقليات العرقية الأخرى. لكن، معظم البيض لا يدركون ذلك لأنهم ألفوا هذه الطريقة في التعامل، لكن بوسع السود والأقليات العرقية الأخرى، أن يروا هذا الاختلاف في التعامل  بذلك، فهو جزء أساسي من واقعهم اليومي، ومن الطبيعي أن يشعورا بالاضطهاد جراء ذلك. وتؤيد الإحصائيات والدرسات الإكاديمية المستقلة وجهة نظرهم.

في سوريا، نجح نظام الأسد في التأسيس لعلاقات بينية للمكونات المختلفة جعلت كلاً منها يشعر وكأنه العنصر الأقلوي المضطهد في المعادلة، وأنه يواجه تحالفاً بين المكونات الأخرى ضده.  فالعلوي مثلاً يشعر بأنه مضطهد جراء تغييب هويته الدينية، في حين يشعر السني بأنه هو المضطهد بسبب سياسات التوظيف التي تفضل العلويين والأقليات الأخرى على حساب السنة، بصرف النظر عن المؤهلات.

ويشكل تغييب الحوار الصريح حول هذه الأمور تكريساً لهذا الواقع لا حلاً له. وليس بالضرورة على الإطلاق أن يؤدي الحوار الجدي حول هذا الأمور إلى تبني نظام محاصصة طائفي أو إثني قد يخشى الكثيرون. وإذ أدى الحوار في سوريا في هذه المرحلة من الصراع إلى تبني محاصصة من هذا النوع، فيمكن التعلم من النموذج اللبناني كيف نتحاشى مساوئه، مع الاتفاق على طرق لتحديث نظام المحاصصة هذا وتعديله مع الوقت وصولاً إلى إلغائه. فالمواطنة عملية مستمرة الرغبة فيها هي نقطة الإنطلاق، وتحقيقها هو الغاية التي نسعى إليها.

ولا شك في أن العَلمانية هي مكون أساسي من مفهوم المواطنة. وكما هو الحال مع المواطنة، لا يتنافي مفهوم العَلمانية مع كون المرء منتمياً إلى طائفة معينة أو مؤمناً بدين معين.

وفي هذه المرحلة بالذات من تطورنا الاجتماعي، تبقى العَلمانية خياراً فكرياً عقلانياً عند معظم المؤمنين بها أكثر منها عنصراً مشكلاً للهوية، لأنها لم تتأصل في مجتمعاتنا بعد، ولاتشكل جزءاً أساسياً من البيئة المحيطة والموروث لتؤثر بشكل فعال في تشكيل هوية المرء وسلوكياته وعقليته ووجدانه منذ طفولته. وقد يجمعنا الفكر العَلماني على أسس معينة في هذه المرحلة، لكن سيبقى للمؤثرات البيئية التأثير الأكبر على سلوكياتنا وعقلياتنا لعقود قادمة. وتبدو هذه الحقيقة واضحة من خلال معاينة التناقض الظاهر في سلوكيات الكثير من شبابنا ومثقفينا وسياسيينا ممن يدعون "التحرر" والعَلمانية بل والليبرالية من الناحية الاجتماعية، الذين عندما يوضعون على المحك، خاصة فيما يتعلق بتصرفاتهم حيال المرأة، نجدهم وقد ارتكسوا إلى سلوكيات تقليدية نمطية تتناقض تماماً مع ما يدعون. 

على قوانينا الناظمة لحياتنا السياسية والاجتماعية ولمناهجنا التربوية أن تتمتع بالمرونة الكافية للتعامل مع هذا الواقع. ولاشك في أنه سيكون للاتفاق على رؤية واضحة لما نريد للأحوال أن تؤل إليه في المستقبل دور كبير في مساعدتنا في هذا المجال. وقد لا تكون الشروط متوفرة إطلاق عملية سياسية من هذا النوع الآن، لكن طالما وضعنا هذا الأمر نصب أعيينا وطالما سعينا لتمهيد الأرضية له، لابد وأن نتمكن من خلق الفرصة المناسبة.

ومن الإشكاليات التي تواجهنا في هذا الصدد أيضاً، وجود فئات في مجتمعاتنا، بل وفي معظم المجتمعات هذه الأيام، تشعر بأن الحداثة، بما جلبته من مفاهيم مثل المواطنة والعَلمانية والديموقراطية وحقوق الإنسان، تهدد قيمها وهويتها. إذ لا يكفي هذه الفئات الأصولية أن تحترم الدول حريتها في الاعتقاد والتعبير والتجمع، بل تريد أن تجد طريقة ما، بما في ذلك التلاعب بالعمليات السياسية والثورية، أو الاستيلاء على الحكم بالقوة، لتفرض قيمها الخاصة على المجتمع ككل باسم الأصالة والتراث والحق المقدس، وغيرها من المبررات. ولن يكون التعامل مع هذه الفئات سهلاً على الإطلاق. وفي سوريا بالتحديد، نجد أن معظم هذه الفئات تنحدر من خلفية سنية، وأنها، في هذه المرحلة من الصراع، ونتيجة لظهور مظلومية سنية مشروعة وقوية نظراً لما تعرض له أهل السنة، بصرف النظر عن مدى تعلقهم بالدين، وطبيعة هذا التعلق، من اضطهاد في السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت قادرة على التأثير على شرائح أكبر من السنة قد لا تتفق معها في الرؤية لكنها ترى فيها الحامي الأفضل لها في هذه المرحلة، وهذا بعينه ما يراه الكثير من الجماعات الأقلوية في نظام الأسد إلى هذه اللحظة.

وهنا علينا أن نتعامل مع هذا الإشكال الآخر،  المتمثل في شعور الكثير من أبناء الأقليات الذين قد لا تربطهم بالماضي عقلية أصولية دينية، لكن تربطهم ذاكرة جمعية مؤسسة على الخوف، خاصة من الأغلبية السنية، وهو خوف وجودي الطابع ومتجذر، خوف على الهوية وعلى الذات، لا علاقة له بالحقائق التاريخية أو الوقائع الحاضرة بالضرورة، لكنه أيضاً لم ينبع من فراغ، وهو خوف لم تتمكن النخب السنية من التعامل معه بشكل ناجع، لأنها لم تحس به في العمق. فالمجتمع السوري العاصر مايزال مصبوغاً بمعطيات الهوية السنية (والعربية) إلى درجة كبيرة، والنظام الأسدي، كما ذكرنا سابقاً، أراد أن يبقي هذا الطابع حاضراً ومرأياً بوضوح ليكرس قبضته السياسية والأمنية على الأقليات.   

من هذا المنطلق، لا يمكن أن تكون المواطنة والعَلمانية هما الحل لما نواجهه من إشكاليات سياسية واجتماعية اليوم، ما لم نتعامل معها كصيرورتين أو عمليتين جاريتين تتطلبان منا إدارة حذرة وعقلانية على مدى سنين وعقود من الزمن. إذ لا وجود لمنتج جاهز هو المواطنة والعَلمانية والديموقراطية.


الجمعة، 11 مارس 2016

ملاحظات حول الشرق الأوسط والمستقبل (3): سوريا والمسألة الفدرالية

التقاسيم الإدارية للإمبراطورية العثمانية

المعارضة في سوريا، ومنذ ربيع دمشق وليس الربيع العربي فحسب، تبدي استعدادها لمناقشة كل القضايا المتعلقة بوطننا ومستقبله، بما في ذلك حقوق المكونات والمناطق، ومسألة الفدرالية، بل وكيفية سقوط نظام الأسد ذاته. لكنها تشترط لهذا الحوار أن لا يجري إلا بعد سقوط النظام. فتأمل يا رعاك الله! على لسان الراحل توفيق البجيرمي.

لكن، وبعيداً عن التهكم والسخرية، ماذا عن الواقع؟ واقع اليوم، والأمس؟

التقسيمات الإدارية للمناطق السورية في مطلع الحرب العالمية الأولى
الواقع أن الحكم المركزي حتى في أيام حافظ الأسد لم يكن مركزياً في كل شيء. فالأسد الأب وضع لكل محافظة معادلة خاصة بها لضمان السيطرة عليها على حدة، وأعطى، ضمن حدود معنية، صلاحيات واسعة للمحافظين الذين عينهم عليها، وللأجهزة الأمنية فيها، صلاحيات واسعة للتصرف ضمن الحدود المرسومة، فالأسد الأب لم يعد معنياً بالتفاصيل الصغيرة بعيد حركته التصحيحية، وكان يفضل أن يتعامل الآخرون من حوله معها. إن اضطرار السكان في المناطق والمدن السورية المختلفة الذهاب إلى العاصمة كلما احتاجوا إلى القيام بمعاملة ما، واضطرار الكثير من السوريين إلى النزوح إلى العاصمة والمدن الكبرى في سوريا لا يتنافيان مع رغبة النظام بل ونجاحه في تشجيع سكان كل محافظة ومنطقة على التقوقع والانغلاق. الحركة في الاتجاه المعاكس، أي من العاصمة والمدن الكبرى إلى الأرياف، ومن المناطق الغربية في سوريا إلى شرقها، كانت شبه معدومة لانعدام الحوافز وضعف التنمية، وبقيت السياحة الداخلية محدودة بأماكن وأنماط معينة، والتجارة الداخلية محصورة في أيد معينة.

المعنى: لم يعرف سكان المحافظات والمناطق المختلفة في سوريا الكثير عن بعضهم البعض، إلا من خلال المسلسلات والإشاعات. ولقد ساهمت المناهج التعليمية في عملية تجهيل هذه، خاصة فيما يتعلق بتعاملها مع تاريخ سوريا الحديث وجغرافيتها البشرية المعاصرة. ولقد كان للنخب الفكرية ايضاً دورها السلبي هنا من خلال طروحاتها الإيديولوجية المختلفة التي رفض معظمها التعامل مع سوريا كواقع قائم وشرعي وضروري بذاته. بالنسبة لهم كانت سوريا دائماً جزءاً من أحجية أكبر وأهم، في نظرهم، من سوريا، بصرفت النظر عن ادعائاتهم. الدليل في السلوكيات والأفعال.

حتى حركات النزوح الداخلي، الممنهج منها وغير الممنهج، لم تؤدي إلى زيادة الاختلاط بالشكل البناء الذي يمكن أن يسمح بنوع من الاندماج السلس الناتج عن التبني الطوعي لقيم حداثية ما. إذ سكن أغلب النازحين مناطق وأحياء معينة في المدن الكبرى، وساهموا في تأسيس العشوائيات. وسادت حالة واضحة من التوتر والتنافر ما بين المكونات المختلفة لتمسك كل منها بسلوكياتها وعقلياتها الأساسية.

إذاً سوريا كانت مفككة حتى في مرحلة ما قبل الثورة. بل، وفي الواقع لقد كانت مفككة حتى في مرحلة ما قبل الأسد، وما قبل الاستعمار الفرنسي. لأن سوريا كما نعرفها اليوم كانت لقرون طويلة عبارة عن مجموعة من المناطق المستقلة إدارياً والخاضعة لقرارات الباب العالي في أستانة. حتى المدن الكبيرة كانت في معظم الأحيان مقسمة إلى مجموعة من الأحياء المتجانسة دينياً وإثنياً تحكمها نخب خاصة من التجار والحرفيين ورجال الدين والقبضايات هم الذين يمثلون هذه الأحياء عند السلطان. إن هذه الحقائق تترك أثراً كبيراً على العقليات والسلوكيات، ولا ينبغي تجاهل ذلك.

إن تجربتنا مع الحكم المركزي في سوريا قصيرة من الناحية التاريخية، واقتصرت في المرحلة الأسدية على الجانب العسكري والأمني، وبعض المسائل الإدارية، الأمر الذي ناسب أولوياتهم  الخاصة ورغبتهم في تسهيل سيطرتهم على البلد.

هذا هو واقع الأمس من الناحية التاريخية.

مناطق السيطرة والنفوذ الفرنسية والبريطانية في الشرق الأوسط في عام 2016

أما اليوم، وبعد خمس سنين ونيف من العنف والعنف المضاد، بصرف النظر عن مدى مشروعية هذا أم ذاك، ونظراً لتدخل قوى خارجية إقليمية ودولية، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى جانب هذا الطرف أم ذاك، ونظراً للتكاثر المطرد لهذه الأطراف، ولسيطرة كل منها على مناطق معينة، فالواقع أن سوريا اليوم أصبحت مقسمة، وما الطرح الفدرالي في هذه المرحلة إلا محاولة للاعتراف بهذا الواقع، ولتجميع بعض ما تبعثر، ولوقف النزيف والدمار، وبتحويل الصراع من نزاع عسكري إلى علمية سياسية.

هل ستؤدي الفدرالية في خاتم المطاف إلى تقسيم نهائي؟ إن حسابات القوى الإقليمية والدولية المتعلقة بهذا الشأن أكثر تعقيداً من أن تسمح بذلك اليوم أو في المستقبل القريب. هذا من ناحية. من ناحية أخرى، وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول التقسيم، هناك مسألة أهم تواجهنا هنا، مسألة تتمحور حول طبيعة العلاقات التي ستسود ما بين المناطق المختلفة في ظل النظام الفدرالي وكيفية تطورها في المستقبل. إذ ما بوسع أحد من الأطراف أن يأخذ أرضه ويرحل، مهما بلغت به كراهيته للطرف الآخر ونفوره منه. هذا البعد للمسألة، علاوة على ثلة من الاعتبارات المتعلقة بالاقتصاد والنظام المالي، والوضع الأمني، وتطوير البنى التحتية وإعادة الإعمار، وحركة السكان، ومسألة العدالة الانتقالية، وإعادة توطين اللاجئين، وأية عملية محتملة لتبادل السكان بين المناطق، إلى آخره من هذه الشؤون العملية، كلها أمور تفتح مجالاً واسعاً للعمل على إعادة بناء جسور الثقة  ما بين المناطق بمكوناتها المختلفة، وبالتالي على بناء تدريجي لدولة أقوى تماسكاً وأكثر عدالة فيما يتعلق بقدرتها على تمثيل طموحات وتطلعات مكوناتها المختلفة، وأكثر قدرة على مراعاة مخاوفهم وهمومهم المتعلقة بسلامتهم وأمنهم الشخصي والجماعي.

سوريا في مطلع الانتداب الفرنسي

وفي حال تزامنت هذه العملية مع عملية سياسية أكبر تقوم من خلالها الدول الإقليمية المعنية على الاتفاق على معادلة جديدة للتعاون الإقليمي في مجالات عدة، على غرار ما تم اقتراحه في مطلع عام 2003 في بيان ثروة مثلاً، فقد تتمكن دول المنطقة من تجنب الدخول في صراعات مأساوية وعدمية على غرار ما يجري في سوريا حالياً، وقد يتمكن السوريون أنفسهم من خلال تبنيهم لطرح من هذا النوع من التسامي فوق آلام هذه المرحلة وتحويلها إلى انتصار معنوي وأخلاقي وفكري لهم، بكل مكوناتهم، وقد يجدون في هذه الرؤية دافعاً كبيراً للعمل على مواجهة التحديات الهائلة لمرحلة إعادة الإعمار.


إن رفض الطروح الفدرالية في هذه المرحلة يشكل، من الناحية العملية، استدامة للصراع في سوريا. فمهما كانت إرادتنا حديدية الجوهر ما بوسع أحدنا منع وقوع شيء قد وقع: إذ أصبح التفتيت واقعنا المعاش، ولا يمكننا إعادة البناء في لحظة، أو على أسس تتجاهل تماماً كيف وصلنا، وأُوصِلنا، إلى ما نحن عليه اليوم.  كل ما بوسعنا أن نفعله هو أن نتعامل مع نتائج ما وقع بأكبر قدر ممكن من العقلانية، بعيداً عن الإيديولوجيات والرومانسيات. فالواقع بشع، ما في ذلك من شك، وإعادة البناء صعبة جداً، وطويلة، ومضنية، والخسائر التي تكبدناها، والخيبات التي واجهناها، تكاد لا توصف أو تصدق. ومع ذلك، مع كل ذلك، ورغماً عنه، علينا أن نقبل ما هو كائن ونفهم طبيعته لنعمل على تغييره. ولعل نجاحنا في تبني رؤية أوضح لما نريد بناءه يعطينا القوة والأمل الذين نجد أنفسنا اليوم، في وسط هذا الخراب، بأمس الحاجة إليهما.

| الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس |

الثلاثاء، 9 فبراير 2016

"لا تفاوضوا، لا تشرعنوا" – غُلُوٌّ ولَغَطٌ ولَغُوُ كَلَام

جانب من مظاهرة في لندن معارضة للتدخل البريطاني ضد الأسد جرت في 31 آب/أغسطس 2013
يخطئ من يقول ويعتقد أن المحادثات اليوم تشرعن ما يجري من إجرام بحق السوريين، فالعالم سيبقى منقسماً حول هذا الأمر، وسيبقى حلفاء النظام يشرعنون له ما يفعل، وسيبقى خصومه يلعنونه، وأن لم تتجاوز أفعالهم اللعن في معظم الأحوال. الشرعنة لم تعد هي المشكلة اليوم، ولم تكن. بل تكمن المشكلة في الانهيار المستمر للبلد، وللتدهور المستمر في الأحوال المعيشية للسوريين في الداخل، بل وللكثير من اللاجئين أيضاً، وهي أمور تتطلب الانخراط في أنواع  مختلفة من الحوارات واللقاءات والمشاورات والمفاوضات، ومع كل الأطراف المسؤولة عن هذا الوضع الذي توصلنا إليه.  

فأي فائدة ترجى من ساسة يجدون حرجاً في الكلام والتفاوض، بل يفتقرون إلى أساليبه الأساسية، ويتنصلون من مسؤوليتهم حياله. الكلام سلاح الساسة، وعليهم أن يحسنوا استخدامه، وما الأمر بمستحيل، فالممارسة مفتاح الإتقان لمن فتح عقله.

فاوضوا وإن من باب رفع العتب، فاوضوا وإن لمجرد إحراج الطرف الآخر، فاوضوا لكي لا تتركوا الساحة فارغة فيحتلها المنافقون والوصوليون، فاوضوا لكي تُعرفوا ويألفكم العدو قبل الصديق، فهذه الألفة قد تفتح أبواباً وتخلق احتمالات ما كان يمكن لها أن تخطر على بال أحد، فاوضوا لتفضحوا ما يجري من جرائم أمام شعوب العالم، فتحرجوا ممثليها على الساحة الدولية، فاوضوا لكي تطلعوا الناس على حقيقية ما يجري كل لحظة في سوريا، ولتفضحوا الأكاذيب التي يروج لها الآخرون، فالناس، خلاف ما تعتقدون، لا يدرون شيئاً، وغالباً ما ينسون، أو ينساقون وراء تصريحات ساستهم التي تهدف لتجنب التدخل من أساسه.  فلا رغبة عند الشعوب الغربية عموماً في التدخل في شؤون الآخرين، وما لم يبرر لها حكامها هذا التدخل، سواء عن طريق سرد الحقائق كما هي أو عن طريق تشويهها بل تزويرها في بعض الأحيان، لن تدعم هذه الشعوب التدخل، بل سترى فيه اعتداءاً سافراً على الآخرين، وستدينه كما يدينه من عانوا منه.

إن الشعوب الغربية اليوم والشعب الأمريكي بالذات، وعلى اختلاف مشاربهم السياسية، تعارض وبشدة التدخل في سوريا، ولا ننسى هنا أن البريطانيين صوتوا ضد هذا التدخل في عام 2013 على الرغم من استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، ولقد كان لهذا الموقف أثره الكبير على قرار أوباما في هذا الصدد أيضاً.  ونعم، يمكننا أن ننحي بالكثير من اللوم هنا على أداء المعارضة السياسية الهزيل منذ بداية الثورة حتى اللحظة.

إن تغييب شخصيات بعينها بسبب ميولها الأقرب إلى الليبرالية والبراجماتية، أو محاولة استقطابها من باب رفع العتب ومع الاصرار على تقليم أجنحتها واستخدامها كمجرد ديكور، كما حدث مع البعض، كان أكبر خطأ ارتكبته المعارضة، لأن هذه الشخصيات بحكم علاقاتها الدبلوماسية الواسعة، وفهمها الأعمق لطبيعة وكيفية عمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الغربية والدولية، ومعرفة بعضها بخبايا النظام وآلية عمله، بسبب ارتباطها به سابقاً، وإتقانها لعدد من اللغات الأجنبية، يجعلها أكثر قدرة من غيرها على إدارة هذه المرحلة. لكن الاعتبارات الإيديولوجية للمعارضة، التي يطغى عليها المكونين الإسلامي واليساري، علاوة على الحساسيات الشخصية والنرجسية، كانت وماتزال أقوى من أي اعتبار وطني.

ولا أتكلم هنا عن نفسي بالضرورة، فأنا أدرك تماماً أني شخصية إشكالية، لكني لا أجد سبباً مقنعاً لتحييد دور شخصيات مثل جهاد المقدسي، أو سمير التقي، أو عبد الله الدردري، أو بسمة قضماني، أو شادي الخش، أو سمير سعيفان، أو أيمن عبد النور، أو سامي الخيمي، أو ريم علاف، أو ريم التركماني، أو رضوان زيادة، أو نجيب غضبان، أو مصطفى إسماعيل، إلخ. قد أكون قد انتقدت أداء بعض هذه الشخصيات في السابق، لكن النقد ليس رفضاً أو دعوة إلى التهميش والإقصاء.

هذه هي الشخصيات التي كان يجب أن تتصدر العمل المعارض في السابق والتي ينبغي أن تتصدره الآن، وفي حال حدوث ذلك، سيكون بوسع هذه الشخصيات استقطاب الكثير من الشخصيات التكنوقراطية الأخرى المتاجدة في الوطن وفي المهجر/المنفى.

علاوة على ذلك، هناك دور استشاري هام أيضاً لبعض الشخصيات الفكرية، مثل صادق جلال العظم، وياسين الحاج صالح، وسلام كواكبي، وأدونيس، وبرهان غليون، وشخصيات دينية مثل الشيخ معاذ الخطيب، و الشيخ مراد الخزنوي، والشيخ سارية الرفاعي، والأب فيكتور حنا، وغيرهم.

نعم، هناك الكثير من الأسماء الغائبة هنا، شخصيات لها تاريخها الكبير في العمل المعارض، لكن المناصب السياسية لا تمثل تكريماً أو اعترافاً بأفضلية معنوية أو أخلاقية ما، فالتكريم يأتي لاحقاً، بعد تحقيق الاستقرار، وسيأتي من خلال خطوات رمزية معينة مثل إسباغ الأوسمة الوطنية أو إعادة تسمية بعض الصروح والمنشآت الوطنية، لكنه لن يأتي، ولا ينبغي له أن يأتي، من خلال العمل السياسي بشكل عام، والعمل السياسي في المرحلة التفاوضية بشكل خاص. فنحن، في هذه المرحلة، بأمس الحاجة إلى اختيار شخصيات تكنوقراطية قادرة على التفاوض وعلى التفاعل الفعال مع المجتمع الدولي بمؤسساته المختلفة، ومع وسائل الإعلام العربية والأجنبية.

من الناحية الأخرى، ليس من الضروري أن تمثل الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها كافة مكونات الشعبي السوري بشكل عادل، لأن التمثيل الفئوي في هذه المرحلة ليس هو الأساس، وصلاحيات الحكومة الانتقالية تبقى محدودة في إطار الإشراف على إدارة العملية الانتقالية بالتعاون مع المجتمع الدولي ووفق خطة تم الاتفاق عليها من بين الأطراف المتنازعة، خطة تهدف إلى تمهيد الطريق لانتخابات تشريعية رئاسية هي التي يفترض أن يتم من خلالها حل القضايا المتعلقة بالتمثيل الفئوي والمناطقي للبلد.

إذاً، وخلاصة القول، لكل مرحلة نمر بها تحدياتها الخاصة، والشخصيات التي نوهت إليها هي أعلاه، في رأيي، هي الشخصيات الأنسب لقيادة هذه المرحلة الحرجة، وكل ما يحول بينها وبين ذلك هي نرجسيات البعض وعقدهم الإيديولوجية، لأني أعتقد أن الحسابات الخاصة للدول الداعمة للمعارضة لا تتعارض مع اختيار هذه الشخصيات، خاصة في هذه المرحلة.

الأحد، 7 فبراير 2016

عن الحسابات السياسية للمعارضة السورية في المرحلة القادمة

1.

الهدف الأساسي من المشاركة في محادثات جنيف كان تجنب أن يقع اللوم على المعارضة، لكن انسحاب المعارضة من المحادثات، الأمر الذي أدى إلى تجميدها، سمح لوزير الخارجية الأمريكي بإلقاء اللوم على المعارضة، وهو تطور مؤسف. لماذا؟ لأن إدارة أوباما تسعى، وبكل الوسائل، في هذه المرحلة، إلى تبرير سياساتها التراجعية فيما يتعلق بالملف السوري، على الرغم من كل المآسي التي أدى إليها هذا التراجع. لوم المعارضة يحقق لها هذا الأمر أكثر مما يحققه لوم روسيا أو إيران. من هذا المنطلق كان علينا أن نذهب إلى جنيف ونبذل ما بوسعنا لكي نبدو بمظهر المتجاوب على الرغم من كل تعنت الطرف الآخر، تآمر روسيا وإيران مع الأسد، وتخاذل الأطراف الدولية التي تدعي دعم الثورة. ولقد كان موقفنا قوياً في هذا الصدد، وكان كل المطلوب منا هو الإصرار على مواصلة اللقاءات مع ديمستورا حتى في حال اضطرارنا إلى تكرير ذات الكلام في كل لقاء.

لأن هدفنا كمعارضة في هذه المرحلة، ونظراً لأهمية ومحورية الدور الأمريكي، عجبنا هذا الأمر أم لا، يكمن في تمهيد نمهد الطريق للضغط على الإدارة القادمة من أجل أن ندفعها باتجاه تبني موقف مختلف حيال الصراع في سوريا، وهذا الأمر يتطلب منا اليوم تجريد إدارة أوباما من أي مسوغ أو عذر لتبرير سياستها. لن يؤدي نجاح المعارضة في هذا الصدد إلى أي تغيير في موقف الإدارة، لكنه قد يؤدي إلى كسبنا لتعاطف المزيد من مؤيدي سياسة النأي بالنفس على المستوى الشعبي، وهو الأمر الذي سيساعدنا مستقبلاً في الضغط على الإدارة الجديدة، سواء كانت ديموقراطية أو جمهورية. نعم، هذا حساب بعيد الأمد نسيباً، وهو بالضبط نوع الحسابات التي ينبغي علينا أن ننخرط بها، والتي كان علينا أن ننخرط بها منذ البداية. فما استمرت حساباتنا السياسية بالتمحور حول الرغبة في التحصل على مكاسب عاجلة، مهما بدت لنا هذه المكاسب مستحقة وعادلة، سنبقى غارقين في إطار ردود الأفعال، ولن نتمكن من التأثير على أي قرار دولي فيما يتعلق بقضايانا، وستبقى العدالة بالنسبة لنا أمراً مؤجلاً إلى ما لا نهاية.

2.

على المعارضة في هذه المرحلة أيضاً أن تسعى للتواصل المباشر مع الطرفين الروسي والإيراني وكل الأطراف الدولية الداعمة للأسد، لأن الكثير من الحسابات السياسية لهذه الأطراف قد تتغير مع الاحتكاك المستمر. ولا ينبغي على ما تقوم به هذه القوى من مجازر في هذه المرحلة أن يضعف من رغبتنا في التواصل معها، بل عليه أن يغذي هذه الرغبة، خاصة في حال روسيا وإيران، بالذات لأن وجودهما في سوريا بات يمثل احتلالاً. ألم نتحاور مع المحتل الفرنسي في السابق؟ وهل كان يمكن لنا دون اقتران المقاومة بالحوار أن نتوصل إلى الاستقلال؟ علينا أن نحسن كيف نتعامل مع الواقع الذي تم فرضه علينا، لكي نتوصل إلى أساليب جديدة لتغييره.

فالكرامة في هذه المرحلة تكمن في استمرار النضال، لكن للنضال أوجه وأطوار مختلفة، وما لم ندرك ذلك، سنخسر الحرب كلها، وليس مجرد معركة.

3.

أما فيما يتعلق بمسألة التدخل السعودي-التركي، فنحن نسمع هذا الكلام منذ أشهر، ولا ندري مدى جديته، لكن، وعلى افتراض جديته، فمن المستبعد أن يكون الهدف منه هو الدخول في حالة صدام مباشرة مع الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً وروسياً، وقد لا يؤثر على الأوضاع إلا في منطقتي دير الزور الرقة وبعض مناطق الحسكة وشمال اللاذقية وحلب. وقد يؤدي إلى رفع الحصار على حلب في حال وقوعه في الأسابيع القادمة. وربما أدى إلى دعم الثوار في إدلب وبعض المناطق الوسطى أيضاً. أما في دمشق وجنوب سوريا، فقد لا يؤدي إلا إلى تجميد الأوضاع. ويبقى الهدف هنا هو التمهيد لمباحثات أكثر جدية بين الأطراف في جينيف أو فيينا. هذا هو السيناريو المثالي للتدخل، إذا حدث، وهو يقوم على افتراض أن إيران وروسيا سيفضلا تجنب التصعيد، وسيرضيا إلى حد ما بالواقع الجديد الذي سيفرضه هذا التدخل. وقد لا يكون هذا الافتراض في محله على الإطلاق.

وفي حال اختار الطرفان التصعيد، فالمنطقة قد تتجه تدريجياً نحو صراع طائفي شامل، قد يكون التعويل فيه على تدخل أمريكي أو حتى أوروبي إلى جانب المحور السني أمراً غير مضمون. في حال أصر الغرب على النأي بالنفس، فأن توازنات القوى ترجح انتصار المحور الروسي-الإيراني، بصرف النظر عن الحسابات الديموغرافية، فهناك أكثر من طريقة لتطويع  الأغلبيات الهلامية، كما هو الحال مع الأغلبية السنية العربية، التي لا يمكن لها في الواقع أن تتحول إلى حقيقة سياسية تحت هذا العنوان.

من هذا المنطلق، ولأن حسابات القوى الأخرى أكبر من سوريا، في حين لا يخدم استمرار الصراع على أرضنا مصلحة السوريين على اختلاف خلفياتهم، على المعارضة السورية أن تدرك أن دورها في المرحلة القادمة يهدف إلى إيجاد توازن ما لمصالح كل الأطراف المتناحرة على أرضها، وأن تكون صانع سلام أكثر من كونها طرفاً في النزاع. لا أحد يلعب هذا الدور حالياً، ولن يلعبه أحد أفضل من طرف سوري يتكلم مع الجميع ولا يرهن حساباته السياسية بمصالح أي طرف ما خلا الشعب السوري بكل مكوناته، طرف ثار أساساً لتحقيق مصلحة الوطن ضد طغمة لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الخاصة وإن على حساب الوطن.

إن تبني النظام وأتباعه لشعار "الأسد أو نحرق البلد" قد يصلح لهم، ويتناسب مع عقليتهم ومخاوفهم، لكنه لا يسوغ للثوار تبني عقلية مماثلة، عقلية شعارها العملي، وإن بقي غير منطوق، "الثورة أو نحرق البلد." لم تكن الثورة أبداً هدفاً بذاته بالنسبة لمن قاموا بها، ولا ينبغي لها أن تكون، إنما هي أداة من أدوات النضال المختلفة من أجل تحقيق التغيير الديموقراطي المنشود، والتوصل إلى مجتمع الحقوق المتساوية. والعمل السياسي وجه آخر من هذا النضال. ولن تأتي تسوياته وتنازلاته، كما يتوقع البعض، على حساب الهدف الأساسي، لكن الفرج والعدالة لا يأتيان دفعة واحدة دائماً، بل لا يتحققان في معظم الأحيان إلا بالتدريج.

لقد أصبحت عودة الاستقرار إلى سوريا في هذه المرحلة ضرورة كبيرة، وقد يتطلب الأمر قبولنا بتنازلات ما كنا نتوقعها منذ عام أو أكثر، لكن الواقع أن موازين القوى حالياً ليست في صالحنا. وفي حال وقع التدخل السعودي-التركي، فهذا لا يعني تجميد العمل السياسي، بل على العكس، على المعارضة وقتها أن تستغل وقوعه، وهو الأمر الذي سيصب في مصلحتها في المرحلة الأولى، لتكثيف العمل السياسي بغية تجنب تصعيد روسي-إيراني. وقد تكون التنازلات المطلوبة في هذه الحال أقل إيلاماً، لكن، علينا أن لا نغامر في المراهنة على حل عسكري بالكامل، كما يفعل الروس والإيرانيون اليوم. لأن ثمن الخسارة سيدفعه الشعب السوري أولاً.

باختصار، علينا أن لا نمتنع عن العودة إلى المحادثات في آخر شباط، إن تم عقدها، لكن علينا أن ندرك أن صنع السلام هو الهدف الحقيقي لنا في هذه المرحلة. لأن عودة السلام ستسمح لنا في مرحلة قريبة بمتابعة النضال من أجل بناء مجتمع ديموقراطي، مهما كانت الظروف الصعبة. وفي هذه الأثناء، على المعارضة أن تواصل تفاعلها مع القوى السياسية المختلفة، ولا تكتفي بالانتظار.

الأربعاء، 27 يناير 2016

إلى المعارضة السورية: لا تقاطعوا محادثات جنيف، على علاتها

مشهد من مؤتمر جنيف 2


المفاوضات أو المحادثات المزمع عقدها في جنيف يوم الجمعة لن تجري، ولا ينبغي لها أن تجري، على أساس الجمع ما بين النظام والمعارضة، إذ فقد هذا المفهوم واقعيته نظراً لحالة التفكك التي تشهدها الدولة اليوم ولتدخل مجموعة من القوى الخارجية في الصراع. بل ينبغي العمل في هذه المرحلة على أساس الجمع ما بين مجموعة من الأطراف المتنازعة التي احتفرت لنفسها مناطق وقواعد على الأرض بشكل مباشر أو عن طريق المجموعات المسلحة والميليشيات المدعومة من قبلها.

من هذا المنطلق، فإن الإصرار على إقصاء ممثلي حزب الاتحاد الديمقراطي من المشاركة بحجة العمالة للنظام أو مهادنة النظام يشكل تجاهلاً لواقع سيطرة هذا الحزب، بصرف النظر عن الأساليب التي يستخدمها في فرض هذه السيطرة، على مناطق معينة في سوريا، ولقيامه بمواجهة داعش هناك بدعم أمريكي، كل هذه الاعتبارات، علاوة على علاقاته مع روسيا والنظام، تجعل من هذا الحزب طرفاً حقيقياً في الصراع الدائر في سوريا، مما يعني أن في محاولة تغييبه عن المفاوضات تغييب لأي حوار جدي حول مستقبل المناطق الخاضعة لسيطرته. نعم، للنظام تواجده في هذه المناطق، لكنه تواجد مشروط بحسابات الحزب السياسية، وهي حسابات معقدة لها علاقة بالتوازنات الإقليمية، بل والدولية المتعلقة بمستقبل المنطقة ككل.

وفي الواقع يعد حزب الاتحاد الديموقراطي، بصرف النظر عن أية اعتراضات تتعلق بعقيدته السياسية أو قادته أو أساليبه في الحكم، واحداً من أهم الأحزاب السورية في هذه المرحلة، بل وأكثرها خبرة وتمرساً في العمل السياسي. وكان من المفترض على الائتلاف ومن قبله المجلس الوطني أن يجريا محادثات جدية ومباشرة مع قادته بغية التوصل لمعادلة ما تسمح بالتعاون معه بدلاً من ترك المجال مفتوحاً أمام شخصيات أخرى غير مرتبطة بالائتلاف.   

إذ علينا أن لا نتجاهل هنا وجود طاقات أخرى في المعارضة غير الإئتلاف، طاقات تم إقصائها أو تهميشها أو تجاهل تطلعاتها وطموحاتها ومخاوفها، طاقات قد يكون بعضها إشكالياً لكنها تبقى حاضرة بنرجسياتها وهمومها وقدراتها وتطلعاتها، وهاهي قد نجحت الآن في تحقيق اختراق هام لها بالتعاون مع بعض الجهات الدولية أو الإقليمية لتعود فتفرض نفسها على الساحة، فهل يكون الجواب على وجودها اليوم أن يقوم الإئتلاف بإقصاء نفسه عن العملية السياسية الوحيدة على الساحة الدولية والتي سيتم من خلالها تحديد مستقبل البلد؟ هل يعتقد أحد أن هذه القوى الدولية والإقليمية ستجتمع كل يوم من أجل سوريا، وعلى هذا المستوى العالي من التمثيل؟ هل سنستمر في التسويف إلى يندلع صراع آخر في منطقة ما يشغل العالم عنا؟ قضيتنا تشغل العالم اليوم، لكنها لن تشغله كل يوم. وإن كان من المستحيل اليوم أن نحصل إلا على جزء بسيط مما نريد، فليكن، ثورتنا اليوم عرتنا لكنها لن تكسينا، وما تزال طريقنا إلى الحرية معبدة بثورات أخرى مختلفة.

وإن كان لابد من تسجيل اعتراض ما على العملية المزمعة في جنيف، والدوافع في هذا الصدد مفهومة تماماً بل ومشروعة، فليكن الأمر عن طريق تخفيض مستوى المشاركة لا عن طريق المقاطعة الكلية. فليرسل الإئتلاف مندوباً أو مندوبين له إلى جنيف للمشاركة بصفة مراقب، فبهذه العملية يمكن للإئتلاف المشاركة في المحادثات والتأثير فيها إلى حد ما دون أن يضطر إلى التصديق على أية من القرارات التي ستتخذ حتى تتم مراجعتها لاحقاً من قبل الهيئة.



الخميس، 2 يوليو 2015

مبادرة ثروة للحل السياسي في سوريا: ملاحظات استباقية

من المؤتمر الصحفي الذي عقد عقب انتهاء لقاء الأستانة في 28 أيار، 2015

قبل قراءة نص مبادرة مؤسسة ثروة فيما يتعلّق بإيجاد حل للأزمة السورية، أريد أن ألفت انتباه المهتمين إلى النقاط التالية:

(1)

أرجو عدم الخلط ما بين المبادرة المطروحة باسم مؤسسة ثروة لحل النزاع في سوريا (والتي سأنشرها قريباً جداً)، واللقاء الذي جرى في أستانة، والذي شاركت فيه للإستئناس بآراء شخصيات لم ألتق معها سابقاً وما تزال تلعب دوراً ما في العمل السياسي، بصرف النظر أعجبنا هذا الدور أم لم يعجبنا. لقاء الأستانة لم يتبن المبادرة، ولم يكن مطلوباً منه أن يتبناها.

ففي الواقع، ومن منطلق سياسي بحت، لا يمكن، بل لا ينبغي، لأي مجموعة من مجموعات المعارضة، بما فيها الإئتلاف، أن تتبنى هذه المبادرة في هذه المرحلة. بل ينبغي على هذه المبادرة أن تطرح من قبل أشخاص قادرين على تحييد مشاعرهم والوقوف على مسافة متساوية من كل أطراف النزاع في الداخل والخارج، بما فيها الدول المعنية بالشأن السوري، وذلك بصرف النظر عن الآراء والمشاعر المتعلقة بشخصيات بعينها، مثل بشار الأسد وغيره.

(2)

لم يسبق لي أن خوّنت أي شخص في المعارضة، حتى لو كان حديث العهد بها، مهما كان اختلافي معه، ولن أفعل. ومما لاشك فيه عندي أن الكثير من الشخصيات التي كانت مواقفها "رمادية" في مرحلة سيصبح لها دور هام في المرحلة القادمة بسبب تغير على الأرض.

(3)

نعم، الحل في سوريا أصبح بيد القوى الإقليمية والدولية، بل كان بيدها من البداية، وهو أمر نوّهت إلى أهميته عندما بدأت قوى المعارضة تدعو إلى ثورة في سوريا في شباط 2011، وتم حينها ليس فقط تجاهلي، بل تخويني أيضاً.

(4)

لكنّ كون مفتاح الحل بيد قوى خارجية لا يعني أنه لا يوجد دور للمعارضة وللناشطين، بل من واجبنا أن نتواصل مع الجميع لكي نطرح الحل الذي يناسبنا، ولكي لا نسمح لهم بتدويم الصراع، كما فعلوا في السودان والصومال وأفغانستان، وغيرها من الدول المنكوبة. هذا يبقى واجبنا في هذه المرحلة بصرف النظر عن ضآلة فرص النجاح المتاحة لنا.

(5)

السياسية ممارسة وكلنا يتعلمها الآن، أو هذا ما أرجوه على الأقل، لأن فرصة العمل لم تكن متاحة لنا في السابق، حتى فيما يتعلق بمعارضة الخارج المقيمة في الدول الديموقراطية لأنها بقيت رهينة القيود الإيديولوجية التي فرضتها على نفسها.

(6)

لقد تكلمت عن التقسيم منذ بدايات الثورة وقبل أن يصبح موضة. أرجو قراءة هذا المقال مرة أخرى لأنه قد يفسر ما أحاول أفعله اليوم بشكل أفضل، ربما، من أي كلام جديد.

(7)

مشكلتي ليست مع التقسيم، فالحدود ما بين الدول، الصغيرة والكبيرة، تبقى عرضة للتغيير، وقد يجلب تغيير الحدود معه منافع كثيرة للجميع، إن ترافق مع عملية سياسية جدية وأحسن الجميع إدارة العملية الانتقالية. ما يهمني في هذه المرحلة هو إيقاف الدمار وتحويل عملية التغيير القائمة من عملية عسكرية صرفة إلى عملية سياسية جدية يتم من خلالها مناقشة جملة من القضايا الحساسة التي ما يزال الكثيرون يصرّون على تجاهلها من منطلقات إيديولوجية وعاطفية ومصلحية.

(8)

التقسيم لا يمنع أو يوقف الحروب بالضرورة، بل غالباً ما يسعّرها (السودان وجنوبه مثلاً). وحدها العمليات السياسية الجدية، بما فيها من مساومات وتنازلات، قادرة على تحقيق السلام وإعادة الاستقرار والسماح بالمضي قدماً على طريق إعادة البناء والدمقرطة والتنمية.

العراق وسوريا واحتمالات التقسيم


(9)

ما أسعى إلى تحقيقه حالياً هو تشكيل مجموعة عمل صغيرة مؤلفة من عدد من الناشطين والتكنوقراط للتواصل مع كافة الأطراف الداخلية ولإقليمية والدولية، لدفع هذه المبادرة إلى الأمام، وتحقيق هدنة طويلة الأمد على الأرض تسمح بإطلاق عملية سياسية جدية للتدارس الوضع السيادي والقانوني والإداري النهائي لسوريا. على من أراد المشاركة في هذا الأمر أو تقديم الدعم له التواصل معي.

(10)

لقد أصبح بشار الأسد مجرد بيدق في هذه اللعبة، وذلك منذ بداية التدخل الإيراني السافر في سوريا. ولم يعد من المفيد أن نستمر في ربط مفهومنا للنجاح أو الفشل بمصيره. إذا أراد بعض السوريين أن يستمر الأسد كممثل لهم على الساحة السياسية  في هذه المرحلة فهذا شأنهم، لأنه من الواضح أنه لم يعد، ولن يصبح من جديد، ممثلاً للسوريين جميعاً. بل حتى الدول التي ما تزال تؤيده لم تعد تتعامل معه على هذا الأساس.

وفي الحقيقة، تشكّل مشاركة النظام في مؤتمري جنيف 1 و2 وقبوله الجلوس مع المعارضة على طاولة الحوار اعترافاً علنياً ورسمياً بأن النظام لم يعد يمثل إلا شرائح معينة من السوريين وإن المعارضة تمثل الشرائح الأخرى. لقد تحدّد مصير الأسد منذ تلك اللحظة، وإن كان هو لا يدرك ذلك فهذه مشكلته، لكن المشكلة الأكبر هو أن الكثيرين منا لا يدركون ذلك أيضاً، ولا يفهمون مضامينه.

(11)

أما فيما يتعلق بموضوع العدالة الانتقالية فلا يمكن الخوض بشكل جدي في هذا الأمر والحرب الأهلية ما تزال مستعرة. ولايتعارض القبول ببشار الأسد كممثل لبعض السوريين في العملية السياسية المزمعة مع إمكانية تحريك هذه القضية ضده في أي وقت، لأن الأمر بات مرتبطاً من الناحية القانونية بإرادة مؤسسات دولية مستقلة شُكّلت لهذا الغرض أصبح في حيازتها الكثير من الوثائق التي تدين بشار وغيره فيما يتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتفاويض رسمية من مئات سوريين لملاحقتهم. ولم يعد بالإمكان تحصين أحد من المسائلة إلا من خلال قرار أممي، أي قرار لمجلس الأمن. ولايمكن للأسد وغيره من شخصيات المحورية في النظام إن يشملوا في قرار من هذا النوع ما لم يتنازلوا عن كل شيء ويغادروا البلد.

(12)

أما فيما يتعلّق بالعدالة الحقيقية، أي العدالة التي تشفي الصدور والآلام، فهي لا تتحقّق من خلال ملاحقة ومعاقبة لجرمين وحسب، بل من خلال مواصلة السعي وراء تحقيق أهداف الثورة على مدى العقود القادمة. ولا ننسى هنا أن الثورة الفرنسية لم تحقق أهدافها إلا بالتدريج وعلى مر قرنين ونيف من الزمن شهد الفرنسيون الحالمون بالحرية والإخوة والمساواة خلالما انتكاسات عدة.

أما فيما يتعلّق بروسيا والصين وإيران، فالنضال ما يزال مستمراً. ليست خيانة أوعيباً إذاً أن نقبل مرحلياً بما هو أقل من طموحاتنا وتوقعاتنا الأولى، بل تكمن الخيانة والعيب في تبنينا لعقلية النظام وداعش العدمية، عقلية "كل شيء، الآن، أو لاشيء،" عقلية تحويل الصراع إلى هدف بحد ذاته عوضاً عن كونه وسيلة. إن عملية التغيير الديموقراطي عملية طويلة الأمد، ولايمكن اختزالها بسنوات عدة بصرف النظر عن حجم التضحيات والخسائر.

من ناحية أخرى لن تضيع أهداف الثورة من خلال محاولة إطلاق عملية سياسية جدية، والمشاركة فيها، أو من خلال تقديم بعض التنازلات المرحلية، بل هي أكثر عرضة للضياع عندما يصرّ الثوار والجهات الممثلة لهم، على الانخراط في صراع عدمي بلا رؤية أو هدف.

(13)

هناك فرق شاسع ما بين تغيير المواقف وتطويرها للتماشى مع تطور الأحداث على الأرض. من هذا المنطلق، نعم أنا لم أكن مع الحوار في البداية، لا مع النظام، ولا مع روسيا، ولا مع إيران، لأني أعرف طبيعة النظام، وأعرف أنه لن يكون جدياً في أي حوار قد يدخل فيه مع المعارضة ما لم يتم تغيير موازين القوى على الأرض.

والأمر نفسه ينطبق على موضوع الحوار مع روسيا وإيران. وكان يمكن لموقف أمريكي وأوروبي إيجابي تجاه دعم المعارضة، خاصة في طور العمل السلمي، أن يغير الكثير، لكن، ونتيجة لظروف معينة لم يكن ما أردنا. ولا جدوى من التباكي اليوم على ما حصل وما لم يحصل، أو من تبادل اللوم حياله، المهم أن نقوم بتحليل وفهم الأسباب، لكي تصبح جهودنا المستقبلية أكثر فعّالية.

من لقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير خارجية الأسد، وليد المعلم، في موسكو في 26 حزيران، 2015

(14)

لقد بات من الواضح في هذه المرحلة أن موقف بوتين فيما يتعلّق بسوريا أصبح أكثر مرونة، بصرف النظر عن التصريحات الرسمية، وذلك بسبب بروز النصرة وداعش على الساحة من ناحية، وفتح جبهات أخرى للمواجهة مع الغرب من ناحية أخرى. لذا، لقد أصبح بوسعنا الانخراط في حوار بناء مع الروس في هذه المرحلة.

(15)

أما فيما يتعلق بإيران، فالقضية أكثر تعقيداً.

فمن ناحية، يمكن لنجاحها في التوصل إلى اتفاق نووي مع الولايات المتحدة والدول الغربية، ولتحرير أكثر من 150 مليار من الأموال المحتجزة، أن يجعلها أكثر إصراراً على دعم الأسد وإطالة أمد الصراع في سوريا. أو، على النقيض من هذا، يمكن لهذا النجاح أن يجعلهم أكثر انفتاحاً على جميع أطراف الصراع في سوريا وليس فقط الأسد ونظامه. إذ قد يتمكن الإيرانيون من خلال إقامة علاقات تعاون أقتصادي وأمني مع أطراف المعارضة والمناطق الخاضعة لسيطرتها أن يتوصلوا لصيغة تحفط مصالحهم الحيوية فيها بشكل أفضل مما يمكن التحصل عليه من خلال العمليات العسكرية.

من ناحية أخرى، يمكن لفشل المباحثات الحالية المتعلقة بالملف النووي الإيراني، أن تضعنا أمام نفس الخيارين: المزيد من التعنّت والتطرّف من منطلق التحدي، أو انفتاح مشروط من منطلق الرغبة في تحجيم الأعباء المادية الناجمة عن استمرار الحصار الاقتصادي ضد إيران.

في كلتي الحالتين، يبقى احتمال التعنّت والتطرّف أقوى من احتمال الانفتاح والمرونة، وذلك لوجد بعد عقائدي في طريقة التعامل الإيرانية مع الملف السوري وغيره من القضايا الخارجية. فإذا، كانت جميع الصراعات والخلافات ما بين القوى الكبرى اليوم تحاصصية أكثر منها عقائدية الطابع، لا تنطبق هذه الملاحظة على إيران فيما يبدو، بخلاف ما تعتقده إدارة أوباما ومؤيدوها. لكن وجود بعد عقائدي لا يحتم الفشل في أية مباحثات مع إيران، لكنه ومن دون شكّ، سيجعلها أكثر تعقيداً.

(16)

عملياً، تدعو مبادرة ثروة إلى عملية سلام في سوريا، ومنطق عمليات السلام يختلف بشكل جوهري عن منطق العمل الثوري. فعمليات السلام تشرعن كل أطراف النزاع من منطلق وجود جهات داخلية وخارجية داعمة ومؤيدة لكل طرف منها. ولا تجرّم عمليات السلام أي طرف في النزاع، لكن تعلن لاشرعية ممارسات بعينها، بصرف النظر عن مرتكبيها. هذا يعني، من الناحية النظرية، أن بوسع داعش نفسها أن تصبح طرفاً في عملية السلام المزمعة فيما لو أعلنت نبذها لبعض الممارسات. لا أحد يتوقع ذلك من داعش بالطبع، لكن أريد أن أوضح هنا منطق عمليات صنع السلام.

يشكّل هذا المنطق أزمة عميقة بالنسبة للأشخاص العاملين في الحقل الثوري، لكننا أصبحنا نتعامل هنا مع حرب أهلية، وغزو خارجي، بل استيطان، وتدخلات من كل حدب وصوب، وهو الأمر الذي يفرض علينا تغيير أولوياتنا واستراتيجياتنا في هذا المرحلة.  الأهداف تبقى هي هي، وحدها الوسائل والمقاربات هي التي تتغير. وطالما أننا ندرك في العمق أن التغيير الديموقراطي عملية طويلة الأجل بطبيعتها، لا يوجد ما يدعو لليأس في تغييرنا لأولايتنا المرحلية.

(17)

وإن قيد لهذه المبادرة الفشل، وهو الاحتمال الأقوى في الواقع، فلا يعني هذا أن كل شيء قد انتهى. إذ طالما جاءت مساعينا بشكل منظّم وممنهج، سنكتسب من خلالها مصداقية كبيرة عند معظم الأطراف قد تؤهلنا في مرحلة قادمة لإحياء مبادرتنا، أو لإطلاق مبادرة جديدة، أو لتوجيه النصح والإرشاد لأية جهة جديدة تسعى لإطلاق مبادرة واقعية.

(18)

السياسي المخلص لشعبه ووطنه ومبادئه يقول للجميع بعض ما يريدون أن يسمعوه على الأقل، أما الناشط المخلص فيفعل العكس تماماً، ويقول لكل طرف ما لا يريد أن يسمعه. لأن الناشط يسعى دائماً إلى التغيير عن طريق حثّ الجميع على مواجهة الواقع، خاصة إن كان بشعاً، أما السياسي فيكتفي بالتعديل، ويسعى إلى تخفيف وقع الحقائق الصعبة على الناس ليتقبلوها ويعطوه فرصة أخرى لدفع العربة إلى الأمام. السياسي والناشط، كلاهما محق، وكلاهما ضروري، ما فهم كل منهما طبيعة عمله. لكن مشكلتنا في الواقع ، أننا غالباً ما نجد أنفسنا منغمسين في السياسة والنشاط (أو المناصرة) معاً، ومن هنا يبرز التناقض السافر في بعض مواقفنا. ولا يوجد حل لهذا الأمر غير الانغماس في مراجعة دائمة للنفس وللمسار، وغير السعي الدائم لتحقيق التوازنات المناسبة لكل مرحلة.