الخميس، 22 يونيو 2000

المرحلة الانتقالية والجمهورية الليبرالية


حزيران 22، 2000 / جريدة النهار

يتحدّث الكثير من الناس هذه الأيام عن "مرحلة انتقالية" تشهدها سورية دون أن يوضحوا طبيعة هذه المرحلة: هل هي مجرّد انتقال للسلطة من أب إلى ابنه ضمن الحدود المفروضة من قبل النظام القائم، أم هي مرحلة انتقالية أشمل و أعمق ستودي في خاتم المطاف، أي بعد عدّة سنين و ليس مجرّد أسابيع أو أشهر كما في الحالة الأولى، إلى إقامة "جمهورية جديدة" برلمانية الطابع، ليبرالية في توجّهاتها السياسية والاقتصادية، ديموقراطية و علمانية، و بالتالي أقدر على استيعاب آمال وطموحات شعب متعدّد الطوائف والطبقات بل والقوميات والميول السياسية مثل الشعب السوري؟ أنا من أنصار هذا الحل الأخير، وأرى أنه لابدّ من بسطه أمام ناظري الدكتور بشار في حال فوزه في الاستفتاء القادم. 

فالنظام البعثي القائم حالياً قد أثبت إفلاسه سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً، إن لم نقل إنسانياً، عبر تجربتيه السوريتين حتى الآن: تجربة ما قبل التصحيح والتصحيح ذاته، الذي أوصل سورية الغنية بثرواتها الطبيعية و الإنسانية إلى حافّة الفقر و قائمة الدول الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان (ناهيك عن خسارة الجولان). وهكذا يكون المؤمنون في سورية (وما أكثرهم ويا لسذاجة إيمانهم) قد لدغوا من ذات الجحر مرّتين، فهل سيُلدغون مرّة ثالثة من هذا الجحر ويتطلّعون قدماً إلى تجربة بعثية جديدة؟ التوقّعات تشير إلى أنهم سيفعلون، ذلك لأنهم تعوّدوا عبر الأربعين سنة الماضية أن تُملى عليهم خياراتهم (وهم لم يكونوا ذلك الشعب المتمرّس بالديموقراطية قبل ذلك على أية حال)؛ ولا شكّ في أن ذلك التهديد السخيف بالحرب الأهلية الذي يلوّح به بعض المحلّلين السياسيين من داخل سورية في الوجوه سيسهّل عليهم هذا الأمر. وبالطبع، سيدعم الرعيل الأول من المستفيدين الفاسدين (وكيف لا يفسد من بقي في السلطة أربعين عاماً بلا أية مسائلة؟) هذا الخيار الشعبي ولن يعارضوا، بل سيساندوا وبكل علنية، الدكتور بشار في مسعاه للقيام ببعض التغييرات "الطفيفة" من خلال المؤسّسات القائمة وتعود الأمور عاجلاً لا آجلاً إلى ما كانت عليه في السابق، بل إلى ما تزال عليه الآن (فالتغيير لم يبدأ بعد). 

أما فيما يتعلّق بذلك "الأمل الواعد" ذاته الذي هو الدكتور بشار فيبقى الجواب غامضاً، و ذلك لأن الدكتور بشار نفسه ما يزال مجهولاً بالنسبة لنا، مجهول النوايا، والأهمّ من ذلك، مجهول القدرات. فمستقبل "الجمهورية الثانية" إذن (أو بالأحرى الثالثة، فالجمهورية العقائدية التي أسّسها البعثيون ذاتهم هي الجمهورية الثانية إذ جاءت بدستور جديد)…فمستقبل الجمهورية الثالثة إذن يكاد يتوقّف على هذا الإنسان المجهول، وهو عبء لن يتمكّن الدكتور بشار من حمله ما لم يحيط نفسه بشباب لا يقلّون، لا بل يزيدون، عنه تشرّباً لواقع الحياة المعاصرة ومتطلّباتها ومبادئها، بالأخصّ الديموقراطية و العلمانية و حقوق الإنسان. لكنّ البوادر الأولى حتى الآن، وعلى أساس التغييرات التي جرت من خلال المؤتمر القطري، لا تبشّر بخير. 

أو هل نمرّ حالياً بمرحلة انتقالية مصغّرة ضمن مرحلة انتقالية أكبر؟ 

طالما بقي الدكتور بشار مجهولاً بالنسبة لنا ستبقى الأجوبة على أسئلة كهذه صعبة. وقد لا يتمكّن الدكتور بشار نفسه من مساعدتنا في هذا الصدد لأنه قد لا يرغب في الكشف عن أوراقه الآن. إذ أنه من الواضح أنه حتى لو كانت عنده نوايا ليبرالية من النوع الذي يناسب المشروع القومي (أو بالأحرى الحلم القومي، فدون وجود أي مؤسّسة تدعو وتعبّر عن هذا الحلم، كيف يمكن لنا أن نسمّيه مشروعاً؟)، فليس من مصلحته أن يكشف عنها الآن والوطن محاط من كلّ جهة بمن هم أعداء طبيعيون لمثل هذا التوجّه. 

على أية حال، دعونا لا نتوقّف كثيراً عند هذه المسألة. فموضوع بناء "جمهورية ثالثة" من النوع الذي ألمحنا إليه أعلاه يتطلّب بجوهره وجود قاعدة شعبية واسعة تدعمه وتؤمن به. إنه لمن الواضح أن هذه القاعدة غير موجودة الآن ولا يمكن تصوّر وجودها في أي وقت قريب. بل يتوجّب علينا في الحقيقة أن نعمل ولسنين عدّة، وربما لعشرات السنين، قبل أن نوجد هذه القاعدة. لكن، وإذا ما أمّن الدكتور بشار في داخل سورية قدراً من الحرية السياسية والاجتماعية بحيث يتسنّى العمل على بناء هذه القاعدة من الداخل، وذلك من منطلق قناعاته الشخصية  التي يُشاع عنها في كل وسائل الإعلام الغربية والشرقية بأنها "ديموقراطية الطابع،" وبغضّ النظر عن طبيعة انتماءاته السياسية ذاتها:  أي هل هو بعثي بالفعل أم لا، أقول: إذا ما أمّن الدكتور ما نطمح إليه و نطالب به من حرية في سورية، فهذا بحدّ ذاته سيمثّل خطوة كبيرة بالنسبة للشعب السوري، فهذه الحرية لم تكن متاحة له من قبل، أي في عهد البعث ما قبل الدكتور بشار. 

و هذا لا يعني بالطبع أن نمتنع عن متابعة أعمال الدكتور بشار في المجالات الأخرى أو عن معارضة الحكومة، وننصرف هكذا بكلّيتنا إلى نقد التراث والجماهير والذود عن الحاكم الذي أمّن مقداراً من الحرية هو من حقّنا بحكم كوننا بشر (وهذا كما يحدث في بعض الدول العربية الأخرى). على العكس، إذا ما أردنا أن نعلّم الناس المعنى الحقيقي للديموقراطية والعلمانية فعلينا أن نتمثّل هذه التعاليم في كل ممارساتنا وأعمالنا. علينا أن نعلّم بالقدوة. فيتوجّب علينا في هذه الحال أن نكون نشطين سياسياً واجتماعياً وأن ننقد بصراحة أية ممارسة قمعية للحكومة أو سياسة اقتصادية نراها تتعارض مع الروح الليبرالية التي ندعو إليها. وقد نختلف مع بعضنا البعض هنا، وليكن، فهذا كلّه جزء من المسيرة التقدمية التي نصبو إليها. المهمّ أن نتعلّم كيف نتماسك في وجه الضغوطات الخارجية و الخلافات الداخلية. وهذه امتحان صعب. فخيارنا هو الخيار الأصعب بالتأكيد، لكنه أيضاً الأنسب، علينا أن لا ننسى ذلك. 

ولعلّ أول مطالب يمكن أن تقدّم من خلال النظام الحالي:

1) الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين بصرف النظر عن توجّهاتهم السابقة وإعادة كافة حقوقهم المدنية و تعويضهم عن فترة الاعتقال؛

2) تحديد مدّة تجديد البيعة للشخص ذاته بثلاث مدد متتالية أو غير متتالية؛

3) منع ترشيح أي قريب مباشر للرئيس لمنصب الرئاسة من بعده لمدة سبع سنين على الأقلّ و ذلك رغبة منا في الحفاظ على الطابع الجمهوري للنظام (إذ لا يجب السماح للحالة الاستثنائية التي تحدث اليوم بأن تتكرّر غداً)؛

4) السماح بتأسيس جمعيات وصحف سياسية واجتماعية مستقلّة وعدم التعرّض لها من خلال الرقابات المتشدّدة؛

5) العمل لإجراء التعديلات الدستورية اللازمة للسماح بتأسيس أحزاب علمانية مستقلّة وإعطائها تمثيلاً أكبر في مجلس الشعب.

لكن أهمّ مطلب في فترة ما قبل الاستفتاء هو العمل على التقيّد بالدستور فيما يتعلّق بسريّة الاقتراع وأن لا تجري الأمور "علمكشوف" كما في السابق وكأنّا في مقهى شعبي.