|
داعش ترجم امرأة في ريف حماة بتهمة الزنى، والأب يشارك في الرجم. |
لو
قارنا بين العصور الذهبية لكل الحضارات لما كان بوسعنا أن نجد أيّ دليل على تفضيل
الله لقوم أو دين بعينه، أو على أن الدول والحضارات تقوم أو تنهار بناءاً على
الممارسات الجنسية للأفراد أو استهلاكهم للكحول أو لباسهم المفضل. فلم الانشغال
بهذه الأمور إذاً، إلا من منطلق الرغبة في فرض سيطرة مطلقة على الأفراد باسم
المقدس؟
ويالها
من سيطرة تلك التي تسمح لك بالتدخل في خصوصيات مأكل الناس ومشربها وعلاقاتها
الحميمة إلى هذه الدرجة. ودعونا لا ننسى هنا أنه على الرغم من الادعاء بأن الله هو
الذي بتّ في هذه الأمور، فالواقع، وإن سلّمنا بذلك، يبقى أن التفسير والتنفيذ لا
يتسنَيان إلا للبشر. فمن الناحية العملية إذاً، السيطرة ليست لله، ولكن للبشر،
بأخطائهم، ومصالحهم، ورغباتهم، ونزواتهم، وعقدهم. وعندما يدّعي هؤلاء البشر بأنه
من حقهم إدارة الدولة والمجتمع ككل من منطلق إيمانهم بأن الدين والسياسة
لاينفصلان، لا يمكن للدولة التي سيأسسون إلا أن تكون دولة مستبدة إلى أقصى الحدود.
هنا لبّ المشكلة مع الإسلام السياسي، ومع أية دولة قائمة على أساس العقيدة الدينية
والإيديولوجيات السياسية. فالحكم دائماً في يد البشر، وإن ادعوا الاستناد إلى كتب
وتعاليم مقدسة. لكن نقد من ادعى الاستناد إلى تعاليم مقدسة أصعب بكثير من انتقاد
أولئك الذين يعترفون صراحة بالمنبت البشري للقوانين.
وقد
يقول البعض أنه حتى في الدول الديموقراطية الغربية تقوم الدولة بالتدخل في شؤون
مأكل ومشرب وملبس المواطنين. هذا بالطبع صحيح. لكن الدول الغربية تتدخّل هنا في
الحدود الدنيا ودون الاختباء وراء المقدس وإصدار أحكام أخلاقية على تصرفات الناس
الخاصة. الدول هنا تمنع الناس مثلاً من ارتداء لباس البحر في وسط المدينة، أو من
قيادة السيارة في حالة سكر، وتمنع الاغتصاب، والعلاقات الجنسية مابين البالغين
والقاصرين، لكنها لا تتدخل فيما يتعلّق بالعلاقات الحميمة ما بين البالغين طالما
كانت قائمة بموافقة الطرفين، وفي حال الخيانات الزوجية، يمكن للطرف المتضرر، في
حال أثبت وقوع الخيانة، أن يتحصّل على الطلاق بشروط أفضل. ولاتتدخل الدولة فيما
يتعلق بشرب الحكول إلا فيما يتعلق بالمكان والساعة، وحتى في هذه الحالة يبقى الهدف
هو الحفاظ على النظام، ولاتتعلّق القرارات بوجود حكم أخلاقي مسبق فيما يتعلق
بموضوع استهلاك الكحول وأخلاق المستهلكين.
الفرق
شاسع في الواقع مابين المنطلقات النظرية في الدولة المدنية وتلك السائدة في الدول
الإيديولوجية. والفرق العملي أيضاً شاسع. الدولة المدنية الديموقراطية معنية
أساساً بتوفير الخدمات لجميع المواطنين، والدفاع عن حقوقهم الأساسية، والحفاظ على
التوازنات القائمة مابين الأفراد والجماعات ومابين الفضاء العام والخاص. ولا تهتم
الدولة المدنية بقضية الأخلاق بقدر ما تهتم بقضية القانون والحقوق. فالقيم
الأخلاقية لا تبثّ أو تحفظ من خلال القوانين، بل من خلال "الحكمة
والموعظة الحسنة،" لأن عامل الخيار مهم فيها. القانون يمنع التزوير وشهادة
الزور، لكن الكذب في الحياة العامة قضية أخلاقية لا يتدخل فيها القانون أو الدولة،
فالمجتمع هنا هو الذي يحدّد كيفية التعامل مع الكذاب. وسواء كنا في الغرب أو
الشرق، الناس هم الناس، وهم في العادة يحتقرون الكذب خاصة فيما يتعلق بعملية
التواصل اليومية أو أخلاقيات التعامل. الصدق والأمانة في التعامل هو مطلب لكل
الناس، مسلمهم وبوذيهم، مؤمنهم وملحدهم. والدولة المدنية الديموقراطية بامتناعها
عن التدخل في قضايا الأخلاق والدين تعطي مجالاً أكبر للخيار الفردي في الموضوع.
وتدلّنا
التجربة العملية هنا على أن الأخلاق لا تنهار عندما تمتنع الدولة عن التدخل
المباشر فيها، وكذلك الدولة لا تنهار بسبب بعض الممارسات الفردية الخاصة، فهاهي
المجتمعات الديموقراطية في الغرب أمامنا حيث تحترم غالبية الناس قوانين السير
والتدوير (recycling)
ونظافة الشارع، إلخ، على الرغم من أن الأغلبية تحتسي الكحول بشكل منتظم، ولا تربط
ما بين ممارسة الجنس والزواج.
وإن
كان البعض ينتقد المجتمعات الغربية بسبب غياب ما يسمى بالتكافل الاجتماعي، إلا أن
هذه الظاهرة تبدو أكثر ارتباطاً بالأنماط الحياتية السائدة في المدن الكبيرة منها
بموضوع الخلاف الثقافي مابين الغرب والشرق.
أخيراً،
علينا أن نتذكر دائماً أن الذين يريدون أن يحكموا باسم الله ويتدخلوا في كل صغيرة
وكبيرة في حياتنا هم بشر مثلنا، تحركهم الأهواء والمصالح كما تحركنا، وبوسعهم
التلاعب بالنصوص وفقاً لأهوائهم ومصالحهم. لا مجال للثقة هنا، المحاسبة تتطلب
التشكيك. والتشكيك في إطار الدولة المدنية لا يخضعنا لاتهامات بالتكفير والردة،
ولا لأحكام شريعة بات معظمنا يرفضها حتى المؤمنون منا بالله ورسوله.