الاثنين، 27 أكتوبر 2014

لكلنا وحيه

منمنة لمحمد وهو يلقي خطبة الوداع مأخوذة من مخطوط للبيروني مودعة في المتحف الوطني في باريس.


أقتدي بمحمد بشيء واحد فقط: أنه اتبع معطيات عقله وحدسه وحواسه وضميره، فأنا أيضاً أتبع معطيات عقلي وحدسي وحواسي وضميري، وإن قادتني إلى طريق مختلف. وإذا سأل أحد "وماذا عن الوحي؟" أقول: "وهل كان ممكن لمحمد كبشر سوي أن يتعامل ويتفاعل مع الوحي من دون توظيف عقله وحدسه وحواسه وضميره؟" وربما أضيف: "لكلنا وحيه." أو "لاينبغي لأحد أن يحتكر الله حتى باسم الاجتباء والنبوة." 

 توضيح: ما لم نكن كلنا على تواصل مع الله، لا معنى لوجوده أو وجودنا. أي أنني في كلامي أعلاه لا أدعي صفة خاصة لنفسي تنم عن جنون ما أو نرجسية مريضة، ولا أسعى لتمجيد نفسي، أو حتى للتمجيد بشكل عام. ما أردت قوله هو أن الله بالنسبة لي صيرورة مستمرة، وهو جزء منا كما نحن جزء منه، وأن علاقتنا معه علاقة تفاعلية وليس علاقة تبعية. الله بالنسبة لي ليس صنماً يُعبد، بل صيرورة تنتج نفسها وتتجلّى من خلال أفعالنا وأقوالنا ككائنات واعية بذاتها، إلى حد ما، كائنات ما زال عليها أن ترتقي بوعيها كثيراً لكي تندمج هي نفسها في الذات الإلهية، كائنات تسعى باستمرار لتجاوز نقصانها، وقد تنجح في لحظات بعينها، لكن المحاولة الصادقة هي أفضل ما بوسعها أن تقدّم في أية لحظة، إذ يبقى الكمال بالنسبة لها صيرورة زمنية مستمرة ولن يتحول إلى منتج نهائي أبداً، لأن النهاية كما البداية تعبير عن النقصان. إن استمرارنا في المحاولة هو في جوهره عملية للتواصل مع الكمال أي مع الإلوهة الكامنة فينا.


الأحد، 26 أكتوبر 2014

مشكلتنا مع الإسلاميين


مشكلتنا مع معظم الإسلاميين أنهم لايكتفون بأن يعيشوا كما يريدون بل يريدون للآخرين أيضاً، بصرف النظر عن عقائدهم أو آرائهم الخاصة، أن يعيشوا على شروطهم، متذرّعين في ذلك بإدعائهم أنهم على هدى، والآخرين على ضلالة، وأحياناً بأنهم هم الأغلبية وكأنّ للأغلبية الحق المطلق في تشكيل المجتمع على شاكلتها بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى. مشكلتنا مع الإسلاميين إذاً، أنهم لم يدركوا بعد معنى "الحق" في مفهوم حقوق الإنسان الأساسية. لكن الديموقراطية الحقيقية لا تنبنى إلا على أساس فهم عميق لهذا المفهوم وتقبّل له.

وإلى أن يتوصّل الإسلاميون إلى فهم أعمق للحق، سيبقوا يتصيّدون هفوات وأخطاء ومشاكل المجتمعات الغربية لينتقصوا من مفهوم الحقوق والديموقراطية والحداثة، وكأنه من المفترض أن تؤسّس هذه المفاهيم ليوتوبيا، أو أن تتصرّف المجتمعات الغربية وكأنّ هذه المفاهيم قد جرّدتها من إنسانيتها فأصبحت خالية من التعصّب والأهواء والمصالح، وتحوّل الناس فيها إلى ملائكة. إنّ عدم قدرتنا على التصرّف بمثالية في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وعدم قدرتنا على الوصول إلى مرتبة الكمال، لا تبرّر تمسّكنا بمفاهيم بالية باسم القداسة، وعدم قدرتنا على تقبّل حق الآخر في أن يكون كما يريد لنفسه أن يكون، طالما خلت تصرفاته من التعدّي على حقوقنا. أما مشاعرنا فشأن آخر، فالقوانين تحمي الحقوق لا المشاعر.

وهنا نواجه مشكلة أخرى عند الإسلاميين، فغالباً ما يتم الاعتراض من قبلهم على بعض الانتقادات ومظاهر التعبير المتعلقة بمعتقداتهم من منطلق الحماية المعنوية "للمقدسات" ولمشاعر الناس، لكن الناس ليسوا أطفالاً وعليهم أن يتأقلموا مع العيش في عالم عليه أن يحترم حقوقهم لكن ما بوسعه احترام مشاعرهم لما في ذلك من تقييد فعلي لحقوق الآخرين. والواقع أن المؤمنين أنفسهم هم عادة أقل الناس احتراماً لمشاعر الآخرين لأنهم بإسباغهم للقداسية على مصطلحاتهم وكلامهم لا يبالون بأن الكثير من هذه المصطلحات (مثلاً، أهل الذمة، الكفار، المشركين، الضالين إلخ.) فيها الكثير من التحقير والاستخفاف بالآخر المختلف. لكن حرية التعبير تكفل حقهم باستخدام هذه المصطلحات بصرف النظر عن مشاعر الآخرين، وعلى المؤمنين أن يتقبلوا أن حرية التعبير تكفل للآخرين أيضاً حق استخدام مصطلحاتهم الخاصة للتعبير عن معتقداتهم وإن آذت هذه المصطلحات مشاعر المؤمنين.

وفي الواقع ينبغي على الإسلاميين في ظل الدولة الحديثة استبدال هوسهم بتأسيس دولة إسلامية بالمسعى الأكثر ملائمة للطبيعة المتنوّعة للمجتمعات الحديثة ألا وهو السعي لتأسيس شبكات وتجمّعات إسلامية متكاملة يمكن لها أن توجد في أية دولة، مؤسّسات تسمح للمسلمين باتباع شريعتهم وتطبيقها على كل من شاء، وباختيار زعامات دينية وسياسية لهذه المؤسسات يمكن لها تمثيل مصالحهم على الساحة السياسية الأوسع للدول. بهذه الطريقة يمكن للإسلاميين التوفيق بين مطامحهم المشروعة من ناحية، وقوانين الدولة الديموقراطة المدنية ومتطلبات حقوق الإنسان من ناحية أخرى.

ولاشكّ أن هذه التسوية ستتطلب تعطيل بعض الحدود مثل الجلد والصلب والرجم، لأنها ستبقى دائماً مرفوضة في عالمنا المعاصر هذا بصرف النظر عن المبرّرات، لكن، من المفترض أن تكون هذه الأمور ثانوية بالنسبة للقضية الإسلامية العامة، خاصة وأنها لا تحظى باهتمام كبير إن في القرآن أو في السنة. وما لم يستطع الإسلاميون القيام بتضحيات من هذا النوع فالنجاح الوحيد الذي سيحقّقونه في هذا العصر الحديث هو تأسيس تجمّعات وحركات إرهابية الطابع مثل القاعدة والنصرة وداعش وغيرها. الخيارات المطروحة إذاً واضحة، ولن يؤدي التسويف هنا إلا إلى إسقاط المصداقية والمشروعية عن الطروحات الإسلامية المعاصرة.


الخميس، 23 أكتوبر 2014

عن الدين والدولة

داعش ترجم امرأة في ريف حماة بتهمة الزنى، والأب يشارك في الرجم.

لو قارنا بين العصور الذهبية لكل الحضارات لما كان بوسعنا أن نجد أيّ دليل على تفضيل الله لقوم أو دين بعينه، أو على أن الدول والحضارات تقوم أو تنهار بناءاً على الممارسات الجنسية للأفراد أو استهلاكهم للكحول أو لباسهم المفضل. فلم الانشغال بهذه الأمور إذاً، إلا من منطلق الرغبة في فرض سيطرة مطلقة على الأفراد باسم المقدس؟

ويالها من سيطرة تلك التي تسمح لك بالتدخل في خصوصيات مأكل الناس ومشربها وعلاقاتها الحميمة إلى هذه الدرجة. ودعونا لا ننسى هنا أنه على الرغم من الادعاء بأن الله هو الذي بتّ في هذه الأمور، فالواقع، وإن سلّمنا بذلك، يبقى أن التفسير والتنفيذ لا يتسنَيان إلا للبشر. فمن الناحية العملية إذاً، السيطرة ليست لله، ولكن للبشر، بأخطائهم، ومصالحهم، ورغباتهم، ونزواتهم، وعقدهم. وعندما يدّعي هؤلاء البشر بأنه من حقهم إدارة الدولة والمجتمع ككل من منطلق إيمانهم بأن الدين والسياسة لاينفصلان، لا يمكن للدولة التي سيأسسون إلا أن تكون دولة مستبدة إلى أقصى الحدود. هنا لبّ المشكلة مع الإسلام السياسي، ومع أية دولة قائمة على أساس العقيدة الدينية والإيديولوجيات السياسية. فالحكم دائماً في يد البشر، وإن ادعوا الاستناد إلى كتب وتعاليم مقدسة. لكن نقد من ادعى الاستناد إلى تعاليم مقدسة أصعب بكثير من انتقاد أولئك الذين يعترفون صراحة بالمنبت البشري للقوانين.

وقد يقول البعض أنه حتى في الدول الديموقراطية الغربية تقوم الدولة بالتدخل في شؤون مأكل ومشرب وملبس المواطنين. هذا بالطبع صحيح. لكن الدول الغربية تتدخّل هنا في الحدود الدنيا ودون الاختباء وراء المقدس وإصدار أحكام أخلاقية على تصرفات الناس الخاصة. الدول هنا تمنع الناس مثلاً من ارتداء لباس البحر في وسط المدينة، أو من قيادة السيارة في حالة سكر، وتمنع الاغتصاب، والعلاقات الجنسية مابين البالغين والقاصرين، لكنها لا تتدخل فيما يتعلّق بالعلاقات الحميمة ما بين البالغين طالما كانت قائمة بموافقة الطرفين، وفي حال الخيانات الزوجية، يمكن للطرف المتضرر، في حال أثبت وقوع الخيانة، أن يتحصّل على الطلاق بشروط أفضل. ولاتتدخل الدولة فيما يتعلق بشرب الحكول إلا فيما يتعلق بالمكان والساعة، وحتى في هذه الحالة يبقى الهدف هو الحفاظ على النظام، ولاتتعلّق القرارات بوجود حكم أخلاقي مسبق فيما يتعلق بموضوع استهلاك الكحول وأخلاق المستهلكين.

الفرق شاسع في الواقع مابين المنطلقات النظرية في الدولة المدنية وتلك السائدة في الدول الإيديولوجية. والفرق العملي أيضاً شاسع. الدولة المدنية الديموقراطية معنية أساساً بتوفير الخدمات لجميع المواطنين، والدفاع عن حقوقهم الأساسية، والحفاظ على التوازنات القائمة مابين الأفراد والجماعات ومابين الفضاء العام والخاص. ولا تهتم الدولة المدنية بقضية الأخلاق بقدر ما تهتم بقضية القانون والحقوق. فالقيم الأخلاقية لا تبثّ أو تحفظ من خلال القوانين، بل من خلال "الحكمة والموعظة الحسنة،" لأن عامل الخيار مهم فيها. القانون يمنع التزوير وشهادة الزور، لكن الكذب في الحياة العامة قضية أخلاقية لا يتدخل فيها القانون أو الدولة، فالمجتمع هنا هو الذي يحدّد كيفية التعامل مع الكذاب. وسواء كنا في الغرب أو الشرق، الناس هم الناس، وهم في العادة يحتقرون الكذب خاصة فيما يتعلق بعملية التواصل اليومية أو أخلاقيات التعامل. الصدق والأمانة في التعامل هو مطلب لكل الناس، مسلمهم وبوذيهم، مؤمنهم وملحدهم. والدولة المدنية الديموقراطية بامتناعها عن التدخل في قضايا الأخلاق والدين تعطي مجالاً أكبر للخيار الفردي في الموضوع.

وتدلّنا التجربة العملية هنا على أن الأخلاق لا تنهار عندما تمتنع الدولة عن التدخل المباشر فيها، وكذلك الدولة لا تنهار بسبب بعض الممارسات الفردية الخاصة، فهاهي المجتمعات الديموقراطية في الغرب أمامنا حيث تحترم غالبية الناس قوانين السير والتدوير (recycling) ونظافة الشارع، إلخ، على الرغم من أن الأغلبية تحتسي الكحول بشكل منتظم، ولا تربط ما بين ممارسة الجنس والزواج.

وإن كان البعض ينتقد المجتمعات الغربية بسبب غياب ما يسمى بالتكافل الاجتماعي، إلا أن هذه الظاهرة تبدو أكثر ارتباطاً بالأنماط الحياتية السائدة في المدن الكبيرة منها بموضوع الخلاف الثقافي مابين الغرب والشرق.

أخيراً، علينا أن نتذكر دائماً أن الذين يريدون أن يحكموا باسم الله ويتدخلوا في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا هم بشر مثلنا، تحركهم الأهواء والمصالح كما تحركنا، وبوسعهم التلاعب بالنصوص وفقاً لأهوائهم ومصالحهم. لا مجال للثقة هنا، المحاسبة تتطلب التشكيك. والتشكيك في إطار الدولة المدنية لا يخضعنا لاتهامات بالتكفير والردة، ولا لأحكام شريعة بات معظمنا يرفضها حتى المؤمنون منا بالله ورسوله.


السبت، 18 أكتوبر 2014

اليتامى


يتامى نحن، يتامى ولقطاء، ولدنا على قارعة الكون، ترعرعرنا في الخواء، اخترعنا الآلهة لحاجتنا إلى الأمهات والآباء، ثم صيرناها نقمة علينا لأننا، ككل اليتامى، نظن أنا لا نستحق الرحمة والمحبة، لا نستحق الود والعطف، لا نستحق القبول والأمان. بل ربما ارتأينا في لحظة غضب وخيبة أن الظلم والألم والحروب هم القدر الأليق بنا. نعم، حروبنا لم تكن يوماً ضد الآخر فينا، بل ضد أنفسنا نحن أولاً، ضد اليتم الدفين فينا، ضد الكون الذي أنجبنا عن غيرما قصد، ولم يرعانا. نعم، الكثير منا، فيما يبدو، يعيشون وهم كارهون لأنفسهم في العمق، ناقمون عليها، وعلى الكون، فكيف لهم أن يعيشوا بسلام؟ كيف لهم أن يجلبوا السعادة؟ كيف لهم أن يعرفوا الحب؟

إدرسوا التاريخ!


إدرسوا تاريخ وثقافات غيركم وستدركون أن البشر هم هم، في كل زمان ومكان: كائنات ناقصة قادرة على اقتراف الخير كما الشر، عبدوا الله أم عبدوا هبل. إدرسوا تاريخ وثقافات غيركم وستدركون أن البشر، على نقصانهم، هم كل المعنى. إدرسوا التاريخ بعمق وستختفي كل مبررات الصراع، ما خلا الجشع. فالجشع وحده هو محرّك الحروب، أما الجهل، والتعصب، والخوف، فوقود. إدرسوا ثم اسألوا أنفسكم: إلى متى سنبقى وقوداً لجشع البعض فينا؟ متى سنصبح نوراً لأنفسنا لا وقوداً لحروب بعضنا على بعضنا؟


الخميس، 16 أكتوبر 2014

الإصلاح الديني والإسلام

لوحة للفنان الإيطالي جيوتو (توفي في 1337) يصور فيها التحدي الذي أطلقه القديس فرنسيس الأسيسي في وجه العلماء المسلمين أبان الحملة الصليبية في مصر عام 1219، بعد أن قام عمداً بتسليم نفسه لجيوش السلطان آنذاك. التحدي تلخّص في أن يقوم الراهب فرنسيس وبعض علماء الإسلام بإلقاء أنفسهم في النار ليروا من ستأكله النار ومن سينقذه الله منها، وبالتالي من هو صاحب العقيدة والدين الصحيح. لقد رفض العلماء المسلمين التحدي وقتها، لكن، ربما آن أوان قبوله اليوم.

الإصلاح الديني بشكل عام يبدأ بمراجعة ما هو مقدس للبتّ فيما إذا كان بالفعل يستحقّ أن يعتبر مقدساً، مع مراعاة أننا في عصر الحداثة هذا لا نتكلم عن الإصلاح بمفهومه العام والمجرّد، بل عن ذلك الإصلاح الذي بوسعه إنقاذ الدين من التحوّل الكلّي إلى مشجب للتعصّب والتخلّف والإنغلاق، وهو أمر لايتم إلّا من خلال بناء علاقة تفاعلية ما بين المكوّنين الإلهي والإنساني، ونبذ المواقف المتشنّجة فيما يتعلّق بالإختلاف الفكري مهما كانت حدّته، وتجريم فقط تلك الأفعال التي تتعدّى إطار الحياة الخاصة وتتسبب بأذى للآخرين. وفي هذا الصدد، لايمكن أن يبقى الإسلام استثناءاً لقاعدة التغيير والتطور، كما يريد له الكثيرون من أتباعه ظنّاً منهم أن في ذلك حفاظ عليه، لأن الحقيقة أن استمرار هذه الحالة الاستثنائية تشكّل مقتلاً للإسلام، لا دعماً.

الجمعة، 3 أكتوبر 2014

مشكلتنا الحقيقية مع داعش

مجزرة لداعش في العراق

الاعتراض على فكر داعش أو غيرها من الجماعات الإسلامية من منطلق اتهامها بأن أتباعها لا يعرفون التفسير الصحيح للدين أمر في غاية الإشكالية ويمثّل استمراراً للمشكلة ذاتها التي يعبّر عنها وجود هذه الجماعات أساساً: ألا وهي قضية احتكار الدين لصالح فئة ما من خلال الإصرار على وجود تفسير أو مجموعة من التفاسير وحدها هي الصحيحة وكل ما غيرها خطأ. ألا يعد هذا استمراراً لعقلية التكفير ذاتها التي تتبناها هذه الجماعات؟ وألم تساهم هذه العقلية في تسعير الصراع ما بين الطوائف الإسلامية المختلفة عبر القرون الماضية؟

إن مشكلتنا مع داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة هي مشكلة وعي بالدرجة الأولى، فهناك اليوم مجموعة كبيرة من الممارسات التي لم تعد مقبولة من قبل الشرائح الأوسع للناس، وذلك بصرف النظر عن وجود سوابق ومبررات لها في التاريخ والنص المقدس. وإن كان عامة الناس يدركون هذا بالفطرة، كما يدل على ذلك نفورهم بشكل عام من تطبيق الشريعة بحرفيتها، على الرغم من حرصهم على التمسّك بالمقدس بكليته في الظاهر، لا يمكن إلا للقلة منهم فقط في هذه المرحلة الشائكة أن تعترف بحكمة إخضاع المقدس للمراجعة العقلانية بشكل مطلق، وقلة من هذه القلة هي تلك التي قد تختار رفض هذا المقدس بشكل صريح ومباشر، أو تحجيم شأنه في حياتهم اليومية من خلال الإصرارعلى التعامل معه كقضية خاصة بالفرد وخياراته.

إن الانتقال نحو هذه السوية من الوعي، الفردي والجمعي، ناهيك عن ضرورة تأطيره من خلال القوانين والأعراف، لايمكن أن يحدث إلا من خلال نشاطات وممارسات وكتابات نخب فكرية قادرة على الانخراط والتماهي مع عامة الناس والتأثير فيهم من خلال التفاعل اليومي معهم ومع همومهم، ويمثل استمرار غياب مثل هذه النخب عن الساحة أكبر عائق يواجهنا في الطريق نحو تحديث مجتمعاتنا.