الأحد، 3 مايو 2015

ما بعد الإيديولوجيا


1.

السياسة بمفهومها المعاصر هي فن وعلم إدارة المصالح الجمعية الحيوية. وللمبادئ دورها الهام هنا، خاصة في المجتمعات الديموقراطية، لكن ليس على حساب المصالح، وهذا سرّ تخبّط الغرب المستمر في تعامله مع المجتمعات الأضعف والأفقر. إن إغراء استغلال التفوّق المادي والحضاري لخدمة مصالح جوهرية يبدو أقوى من أي مبدأ.

ومع ذلك، وخلافاً للاعتقاد السائد في منطقتنا وربما العالم، الأمر ليس بهذه السهولة، فهناك نقاش جدي يجري في الغرب حول ضرورة وكيفية الموازنة ما بين المبادئ والحقوق من جهة، والضرورات والمصالح الجمعية الحيوية للدول الغربية والنامية من جهة أخرى. ولهذا النقاش دور كبير ومتزايد في صنع القرارات المصيرية في الغرب خاص حيالنا. لكنا وما بقينا ضعفاء ومصرّين على الاصطفاف وراء أنظمة وعقائد بائدة لا تنتج إلا الموت ولا تستقطب إلاه، لا يمكن لنا أن نضغط على الغرب لتغيير سياساته حيالنا. وسيبقى الغرب يتأرجح ما بين سياسات منفتحة على مصالحنا الجمعية وتلك اللامبالية بها إلى حين ننجح في خلق توازن تنموي وسياسي معه. وللغرب، ولأمريكا تحديداً، دور إيجابي محتمل فيما يتعلق في بناء نظام أكثر عدلاً فيما لو عرفنا كيف ندفع في ذلك الاتجاه عن طريق العمل على بناء شركات مع التيارات المختلفة فيه، عوضاً عن الانكفاء على أساليب وخطاب الممانعة العدمية.

2.

ولا نملك في الواقع رفاهية العمل مع تيار سياسي واحد في الغرب، سواء كان يمينياً أم يسارياً، فمن الواضح أن أولويات هذه التيارات لا علاقة لها باحتياجاتنا، بل باحتياجات مجتمعاتها المادية والمعنوية، وبرؤى إيديولوجية قد لاتتناسب مع مصالحنا العميقة. إن انتقادات هذه التيارات لمجتمعاتها حتى فيما يتعلق بالسياسات الخارجية هو انتقاد داخلي بحت يهدف إلى الكشف عن حقائق وأطراف وعمليات لها علاقة بتحولات داخلية في هذه المجتمعات وتفعالات مراكز القوى المختلفة فيها. إن استخدام هذه الانتقادات من قبلنا دون فهم للأبعاد الداخلية المكونّة لها يجعلنا نتعاطى مع العالم من منظور مشوَّه ومشوِّه.



ودعونا لا ننسى في هذا الصدد أن هذا النقد الداخلي ليس موضوعياً دائماً، بل غالباً ما يعكس الصراعات الإيديولوجية والمصلحية الدائرة ما بين القوى المختلفة المشكّلة للمجتمع، لذا، فغالباً ما يصلنا مشوباً بالأكاذيب والمبالغات والاتهامات المغرضة التي يصعب تحليلها والتعرّف عليها حتى من قبل أذكى المحللين والخبراء المحليين ناهيك عنّا بجهلنا المدقع لواقع الحياة السياسية في الغرب، أو للحياة السياسية بشكل عام. لذا، ترى معظمنا يأخذ من هذه الانتقادات ما يناسب تصوراته المسبقة عن الغرب وحسب.

3.

لكنا لا نملك رفاهية الإيديولوجية والتصورات المسبقة، ولا رفاهية الخلط ما بينها وبين المبادئ المستندة إلى الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. إن الدعوة إلى تعاملنا مع الأمور من منطلق ذرائعي لن يؤدي إلى التخلي عن المبادئ، كما يروّج البعض، بل هو انتصار وتفعيل لها. لا ينبغي على الصراعات الداخلية للغرب وللمنظومة السياسية والأمنية الدولية والإقليمية أن تملي علينا أولوياتنا، بل عليها أن تنبع من احتياجاتنا الخاصة واستقرائنا لواقعنا المعاش. وأذا اقتضى الأمر من أجل تلبية هذه الاحتياجات أن نتواصل مع أمريكا أو فرنسا أو حتى إسرائيل فليكن، فالتواصل لا يعني التنازل عن الحقوق ولايؤدي إليه. إن إعادة بناء أي جزء من سوريا على أية حال، سيتطلب منا الكثير من التواصل والتنازل في المستقبل. وربما لو عرفنا كيف نتواصل في الماضي لما وجدنا أنفسنا في هذا الموقف اليوم.

4.

آن الأوان لندرك أن معظم منتقدي النزعة الإمبريالية عند القوى الغربية لا يسعون في الواقع إلى وضع حدّ للمغامرات الإمبريالية بشكل عام بل فقط إلى المغامرات الغربية وذلك لتعارضها مع مغامراتهم الخاصة. لذا، نرى أن انتقاد إيران لإمبريالية أمريكا والغرب لم يمنعها من الانخراط في مغامرات إمبريالية خاصة بها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكذلك نرى أن انتقادات روسيا لأمريكا لم تمنعها عن اجتياح جورجيا أو القرم أو شرق أوكرانيا.

أما فيما يتعلق بانتقادات شخصيات يسارية تعيش في الغرب لسياسات الغرب مع امتناعها عن انتقاد سياسات مثيلة لروسيا وإيران فهي إما ناتجة عن عماء إيديولوجي يرى في المغامرات الإمبريالية الغربية خطورة أكبر على أمن العالم من تلك التي تقوم بها روسيا وإيران وغيرها من الدول الاستبدادية، أو محض سذاجة، أو، وبصريح العبارة، عمالة.

ولنسأل أنفسنا هنا، وفيما يتعلّق بالثورة السورية تحديداً، هل قدّمت هذه الشخصيات اليسارية الغربية التي طالما ادعت أنها تدعم قضايانا، وطالما انتقدت المغامرات الإمبريالية الغربية، والسياسيات الإسرائيلية الصهيونية، أي مقترح منطقي وعملي لحلّ الأزمة في سوريا؟ وماذا فعلت غير أنها دافعت عن الأسد ونظامه واتهمتنا وبإصرار بالسذاجة والعمالة، وساهمت بنجاح بتقيّض محاولاتنا للتحصّل على دعم حقيقي للثوار أو حتى إنشاء منطقة حظر جوي كان يمكن لها فيما لم تم فرضها عندما طالبنا بها في منتصف 2011 أن تمنع التصعيد الذي نراه الآن، إن لم توقفه؟

إن في هذه المواقف أكبر دلالة على أننا لا نتعامل مع أشخاص منسجمين مع المبادئ التي يدّعون الإيمان بها، أو التي نظنّ جهالة منا أنهم يؤمنوا بها، وأن الاتهامات التي كالوها لنا عبر السنين الماضية ربما انطبقت عليهم أكثر.

لكن الواقع أن معظم هذه الشخصيات اختارت خوض غمار صراع داخلي لتغيير بنية مجتمعاتها، مدفوعة إلى ذلك بمزيج من المصالح الطبقية والرؤى الإيديولوجية، وأنها لا تقل استعداداً للمتاجرة بنا وقضايانا من خصومها الإيديولوجيين، بل هذا ما دأبت عليه عبر العقود الماضية، لكن معظمنا لم يتنبّه إلى ذلك لأن الأمر كان يتطلّب فهماً أعمق للعالم من حولنا، بثقافاته المتنوّعة والطبيعة المتشابكة لصيروراته الحقيقية. ولن نتمكن أبداً من فهم طبيعة هذه الصيرورات طالما أصرّينا على معالجة الأمور من ذات المنظور الذي أخذناه عن هذه الشخصيات. نحن بحاجة لمعالجة الأمور بتجرّد أكثر، وبعيداً عن أية أحكام مسبقة.

5. 

غالباً ما تجد الدول القوية وعبر التاريخ نفسها عرضة لإغراء المغامرات الإمبريالية، حتى دولة ضعيفة مثل سوريا لم تستطع أن تقاوم طويلاً إغراء استغلال الصراع الدائر في لبنان (الأضعف) في سبعينات القرن الماضي للانخراط في مغامرتها الإمبريالية الخاصة. الإمبريالية إذاً موجودة في البنية الجينية للدول، وعلينا أن نتعامل مع الأمر من هذا المنطلق. ومن هذا المنطلق، لا يوجد أي مبرر إيديولوجي للعداء مع الغرب، وأفضل طريقة لمقاومة أي توجه إمبريالي غربي هو السعي إلى تقوية موقفنا التفاوضي معه من خلال إجراء تحالفات إقليمية مصلحية، ولا تقوم هذه التحالفات إلا على أساس التنمية، والتبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي والأمني والعسكري، أما قضايا مثل الانتماءات  القومية أو الدينية أو الطائفية فغالباً ما تثبت أنها عوامل تفتيت وتهديم للتحالفات خاصة في حال تم محاولة استخدامها كحجر أساس لها، وذلك نظراً للتنوع المدهش الذي تعرفه المنطقة بهذا الخصوص، ونظراً لبروز شرائح اجتماعية هامة لم تعد ترى في هذه الانتماءات، الديني منها خاصة، طريقة مناسبة للتعريف عن نفسها وآمالها.

الإمبريالية: نهج سياسي يسعى لتوسيع رقعة نفوذ بلد ما من خلال النشاط الدبلوماسي، أو القوة العسكرية لمت في ذلك المغامرات الاستيطانية وتأسيس المستعمرات والتبعيات.

من ناحية أخرى، هناك دائماً مجال حقيقي للحوار مع الدول الديموقراطية، خاصة في حال نجحنا في تقوية موقفنا عن طريق بناء تحالفات إقليمية و/أو من خلال بناء علاقات مع التيارات السياسية المختلفة في هذه الدول والمؤسسات الفاعلة فيها. لكن هذه الفرصة غير متاحة فيما يتعلق بالدول ذات الأنظمة الاستبدادية، التي غالباً ما ستصرّ على تبعية الدول الضعيفة لها، دون أن تترك مجال للحوار إلا فيما يتعلق بطبيعة الالتزامات الناجمة عن هذه التبعية.

6.

نحن نعيش هذه الأيام في زمن الشركات العابرة للحدود، وهو الأمر الذي يرى فيه الكثيروا من منظّري اليسار واليمين شراً مستطيراً. لكن الحقيقة كالمعتاد أعقد من كل نظرياتهم.

فهذه الشركات، وإن مثّلت من خلال مجالسها الإدارية مصالح نسبة مئوية محدودة فقط، ربما أقل من 0.1%، فهي تمثّل، بشكل أو آخر، من خلال مكاتبها ومعاملها وأملاكها الشاسعة وارتباطاتها بالأسواق المحلية والعالمية مصالح عشرات بل مئات الملايين من الناس. وقد لا يكون هذا التمثيل عادلاً، لكن العدالة فيه لن تتحقّق من خلال إعلان الحرب على هذه الشركات والدعوة إلى تدميرها، الأمر الذي سيضرّ بمصالح الفئات الاجتماعية الأضعف قبل أن يؤثّر على مصالح الفئات النافذة والتي بحكم موضعها ستبقى أكثر قدرة على المناورة والتأقلم من باقي الفئات.

وهل سيصبح العالم أفضل فعلاً فيما لو غابت عن الوجود فيه شركات مثل إكزون وشل وتوتال وبريتيش بتروليوم، وفورد ومرسيدس وتويوتا، وكرافت ونستله وبيبسي كو، وجوجل وأبل ومايكروسوفت، وجونسون وجونسون وبفيتزر وآسترا زينيكا ونوفارتيس، وغيرها وغيرها؟ وهل أفرز منتقدو هذه الشركات ورأسماليتها "الاحتكارية البغيضة" بدائل أفضل عنها لإدارة الاقتصاد العالمي وإنتاج وتوزيع الأدوية والأغذية وتحسين حياتنا المعيشية على مختلف الأصعدة؟ وفي حال توفّر بدائل محلية هنا وهناك، فهل يمكن من الناحية العملية تصدير هذه البدائل وتفعيلها على المستوى العالمي؟ وهل هناك من يعمل بجدّ على هذا الأمر؟

من ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار الشركات النفطية والغذائية والإلكترونية والدوائية التي تتخذ من الصين وروسيا وغيرها من البلدان مقراً لها بديلاً أفضل عن الشركات الغربية، على الرغم من أنها تلعب وفق القواعد المبهمة إياها، بل وتستغلّ تواجدها في بلدان غير ديموقراطية للتلاعب بالسوق والناس بأكثر مما يمكن لنظيراتها العاملة في الدول الديموقراطية أن تفعل؟

الواقع أن معظم الانتقادات التي تتعرّض لها الممارسات الرأسمالية والإمبريالية لدول الغرب بشركاته ومؤسساته، قديمها وجديدها، لا تزيد عن كونها غطاءاً لمخطّطات لا تقلّ في جوهرها، إن لم يكن في حجمها، رأسمالية وإمبريالية عنها، ون اختلفت هوية اللاعبين والمستفيدين.



7.

ولا يتناقض اعترافنا بهذا الواقع مع حاجتنا إلى دفع الشركات العابرة للحدود لتصبح أكثر شفافية وعدلاً فيما يتعلّق بكيفية إدارة نشاطاتها وتوزيع أرباحها. لكن قدرتنا على النجاح في هذا المسعى ستبقى مرتبطة وبشكل حميم بمدى ديموقراطية النظم السياسية التي تنشط فيها هذه الشركات. من هذا المنطلق، فلاشكّ في أن العمل على تسهيل انتشار الديموقراطية في المزيد من الدول حول العالم سيعطينا فرصة أكبر لإصلاح عمل هذه الشركات وإعادة هيكليتها بما يتناسب مع تطلّعاتنا إلى عالم أفضل وأكثر عدالة لكل من فيه. في حين لا يمكن لإعلان الحرب عليها إلا أن يؤدّي إلى انتشار الفوضى. وحدها المجتمعات التي تحترم الحسّ الإبداعي في كل شيء من الفن إلى إدارة الإعمال يمكن لها أن تنمو وتنتعش. علينا أن نأخذ هذه الحقيقة بالاعتبار ونحن نطالب بوضع قواعد ناظمة لعمل المبدعين على اختلاف مشاربهم.

8.

وربما تواجهنا في الحياة أوقات قد لايكون لدينا فيها رفاهية الخيار، ونضطر فيها إلى التعامل مع الفوضى بكل مخاطرها، السافرة والكامنة، لكن السعي الواعي والحثيث وراء الفوضى ظنّاً منّا أنها الحل، أو أنها ستمهّد الطريق إليه، فهو نمط من الفكر لا ينجم إلا عن عقلية حاقدة وعدمية لا يمكن لها أن تفضي إلا إلى الدمار، والدمار فقط. وعلينا لذلك أن نناضل ضدّها كما نناضل ضدّ أية منظومة استبدادية، لأن ما ينتعش في أوقات الفوضى هو الاستبداد والظلم، لا الحرية والعدالة.

9.

قبل أن ندعو إلى دمار الشركات الرأسمالية الكبيرة العابرة للحدود، دعونا نسأل أنفسنا أولاً: هل بنينا بدائل حقيقية عنها قادرة على تمثيل مصالح الملايين من البشر الذين يعتمدون في معيشتهم عليها؟ وهل يمكننا أن ندّعي فعلاً أننا ندرك بالفعل مدى توغّل هذه الشركات ومساهمتها في تشكيل حياتنا اليومية، بحاضرها ومستقبلها، بإيجابياتها وسلبياتها؟

ولايغرنّنا في تعاملنا مع هذه الشركات تلك القصص التي نسمعها بين الحين والآخر عن مدى فساد كبار مدرائها ومستثمريها، ومدى غرائبية أولوياتهم الناجمة عن انقطاعهم عن الواقع المعاش لمعظم البشر. فهذه القصص تنبؤنا أكثر عن حدود النفس البشرية منها عن واقع عمل هذه الشركات وتأثيرها في حياتنا.

وفي الحقيقة، تتطلب منا احتياجاتنا اليومية أن نتعامل مع هذه الشركات كما نتعامل مع أية مؤسّسة تعمل في الفضاء العام وتؤثّر فيه، فهذا بحدّ ذاته يعطينا حقّ مسائلتها عن طبيعة نشاطاتها، وحقّ تحديد هذه النشاطات، وحقّ محاسبة هذه الشركات وفق القوانين المتفق عليها في المجتمع. وكلما كان المجتمع حراً وديموقراطياً كلما كانت فرصنا في مسائلة هذه الشركات ورسم الحدود المناسبة لها ولنا أفضل. أما المبالغة في العدوانية تجاهها فغالباً ما يجعلنا عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل قوى وجهات ربما كانت أجنداتها بالنسبة لنا أخطر لأنها تبقى مستبطنة.

وهنا لبّ المشكلة، فهذه الحرب التي نرى البعض يعلنها على الشركات الكبيرة العابرة للحدود هي في الواقع حرب كاذبة، زائفة، واهمة وخلّبية، وهي حرب على الشركات الغربية تحديداً من قبل أخرى طامحة إلى إضعافها وتبادل الموقع معها وحسب. إذ لا توجد أية نية هنا لتغيير قواعد اللعبة بشكل إيجابي، وكيف يمكن أن يتأتى هذا ومعظم اللاعبين هنا هم في الواقع ممثّلون للنخب الحاكمة في بلدان استبدادية الطابع مثل روسيا والصين وإيران. أي أن اللعبة هنا هي مجرّد امتداد للعبة السياسية التي أشرنا إليها سابقاً، بل هي الدافع الحقيقي وراء اللعبة السياسية.

10.

إن اليسار الذي نجح في الغرب هو اليسار الذي عمل ضمن الإطار العام لاقتصاد السوق، فنبذ التوجّهات الإيديولوجية المطّاطة وفضّل التركيز على القضايا التفصيلية مثل النقابات وحقوق العمال، والرعاية الصحية، والتعليم، وحقوق المرأة، والشؤون البيئية، وحماية المستهلك، إلخ. إن نسيان أو تناسي هذا الأمر من قبل النخب اليسارية اليوم سيعيد اليسار عقوداً إلى الوراء، وسيحوّله إلى حركة عدمية مفرزة  للإرهاب على غرار الحركات الفوضوية في مطلع القرن العشرين.

إن اليسار الذي عاد إلى البروز على الساحة السياسية الغربية اليوم هو يسار زائف تحركّه أيدي ونوايا وقوى احتكارية استبدادية فاسدة تجعل من انتقاداتنا واعتراضاتنا على الحكومات والمؤسسات والشركات الغربية تبدو وكأنها شكاوى طفولية. وماعلينا هنا إلا معاينة سلوكيات الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الروسية والصينية والإيرانية، وتصرفات كبار مدرائها ومستثمريها لنعرف ما الذي ينتظرنا. أنه ليس عالماً أفضل وأكثر حرية وشفافية وامتثالاً للمسائلة الشعبية، وأكثر عدلاً فميا يتعلّق بتعامله مع العامل والفلاح والمدرّس والفنان والمبدع، بل هو عالم أكثر صلافة فيما يتعلّق باستهتاره بحقوق الناس وقدراتهم واحتياجاتهم الأساسية.

11.

لكن، ومن الواضح أن اليمين في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، بات يتصرّف بالصلافة ذاتها، وذلك من خلال تلاعبه بالأنظمة السياسية والقانونية، وسعيه المستمر لإعفاء الشركات الكبرى ومستثمريها من أية مسائلة، على الرغم من تكاثر فضائحها وتعالي وتيرة الانتقادات الموجّهة لها فيما يتعلّق بكيفية إدارتها، وأدائها، واعتمادها المستمر، خاصة في أوقات الأزمة، على الدعم الحكومي. ولقد بات الكثير من الأكاديميين الغربيين ينظرون إلى بعض هذه الأنظمة السياسية، وخاصة النظام الأمريكي، على أنها باتت في جوهرها أقرب إلى الأوليجارشية منها إلى الديموقراطية. في الأمر الكثير من المبالغة بالطبع، خاصة في هذه المرحلة، لكنه جرس الإنذار يُقرع.

هناك في الواقع حاجة ملحّة إلى مراجعة الكثير من القواعد والقوانين الناظمة لعمل الشركات الكبرى في الغرب، والتي بات صلف بعضها يهدّد أمن الغرب ذاته من خلال تلاعبها بالنظام السياسي والضريبي، والتسهيلات المصرفية التي تقدمها لكثير من الجهات المريبة (التي ينحدر أغلبها من خارج الغرب)، إلى استعدادها للتعامل مع الأنظمة المعادية للغرب وتصدير التقنية لها، إلخ.

12.

أما فيما يتعلّق ببعض القوى الصاعدة والديموقراطية الطابع مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، فالواقع أنها، وبسبب أنظمتها الديموقراطية، وبصرف النظر عن تصريحات زعمائها السياسيين والتي غالباً ما تعكس حسابات سياسية داخلية ونادراً ما تؤثر على السياسات العملية الناظمة لعلاقة هذه الدول مع الدول الغربية، ستبقى تحافظ على علاقات ودية مع الغرب، وستبقى تتمحور حول البنى العالمية الاقتصادية والمالية والسياسية والقانونية التي بناها، وجلّ ما ستحاول التوصّل إليه هو بناء شركات أكثر تكافئاً معه.

13.

إن سرد بعض الحقائق مثل كون نصف الثروة المالية في العالم مملوكاً من قبل أقل من 80 شخصاً قد يبدو وكأنه إدانة واضحة للرأسمالية، لكن التدقيق في الأسماء يوضح مدى تعقيد القضية، فالائحة تشمل شخصيات مثل بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، ومارك زكربيرج، مؤسس شركة فيسبوك، ولاري بيج وسيرجي برين، مؤسسي شركة جوجل، وغيرهم. أي أننا نتعامل هنا ليس فقط  مع شخصيات قد يكون لبعضها ارتباطات ونشاطات مشبوهة (ومعظم هذه الشخصيات بالمناسبة تقطن دولاً غير ديموقراطية، مثل روسيا والصين والسعودية، أو دولاً ما تزال عمليات التنمية والتحديث فيها متأخرة مثل الهند والمكسيك ونيجيريا)، بل مع الكثير من الشخصيات الإبداعية التي لعبت وماتزال أدوراً إيجابية في حياتنا عن طريق الشركات التي أسّستها. ليس من العدل أو الحكمة أن نتعامل مع كل هذه الشخصيات وكأنها مجبولة من عجينة واحدة.



لكن، ما بوسعنا إنكار الإشكالية المتمثّلة في ظاهرة الثراء الفاحش، لأن الثراء نفوذ ذو تجليات سياسية واجتماعية جمّة ومتشابكة، بل مستترة، وبصرف النظر عن النوايا، وهنا لبّ المشكلة. من ناحية أخرى، لا يمكننا تجريم الإبداع، أو التعامل معه بكثير من الارتياب، أو وضع حدود غير مدروسة لمدى قدرة المرء على تحويل إبداعه إلى ثروة.

الواقع أن الثروة، كما الإبداع، مسؤولية والتزام، أي قضية ذات أبعاد سياسية واجتماعية وأخلاقية، لكن التعامل مع القضية من هذا المنطلق يتطلّب خطاباً أقل عدوانية وأكثر عقلانية من الخطاب السائد حالياً في الأوساط اليسارية التقليدية.

14.

إن استغلال الشركات الغربية للعمالة الرخيصة في مجموعة من الدول النامية يستحق الإدانة في بعض تجلّياته المتمثّلة في عمالة الأطفال وعدم احترام القواعد المتعلّقة بشروط العمل الآمنة والعادلة، لكن الإدانة العامة للظاهرة تتجاهل الدور الإيجابي لهذه الشركات في تحسين الشروط المعاشية للمجتمعات المحلية عند توفر الرقابة المناسبة بالطبع. وعلينا أن لا ننسى هنا مسؤولية الدول المضيفة في الإشراف على نشاطات هذه الشركات، ولاشك في أن العمل على تقوية المجتمعات المدنية المحلّية وعلى زيادة نسبة الانفتاح السياسي في البلاد المضيفة سيلعب دوراً هاماً وفاعلاً فيما يتعلّق بقضية الرقابة.

15.

إخفاقاتنا المتكرّرة في تحقيق أهدافنا ليست مفاجأة، وعليها أن لا تثبط من عزائمنا، فنحن ومنذ ولدنا نعمل في الزمن الضائع في وجه تحدّيات شبه مستحيلة، لكن نجاحاً واحداً قد يكفي لقلب المعادلة، وهو لن يتحقّق من خلال العمل ضمن القوالب المعهودة. نحن لسنا بحاجة لأفكار جديدة وحسب، بل إلى طرق وأنماط جديدة للتفكير والتحليل لكي نتمكّن من تحقيق النجاح المنشود.

16.

علينا أن نضع الإنسان قبل أي اعتبار أو مفهوم سياسي في حساباتنا، بما في ذلك مفاهيم كالسيادة والحدود، فهذه الأمور كانت وستبقى دائماً عرضة للتغير، وحده الإنسان هو الثابت هنا، والتنمية هي الضرورة الحقيقية التي تواجهنا، لأنها مفتاح تحقيق التوازن الذي قد يسمح لنا بالحفاظ على وجودنا في خضم صراعات لم نختارها لكننا، شئنا أم أبينا جزء منها، وسنبقى.

17.

نحن لا نمثّل لا الأمويين ولا العباسيين ولا العرب ولا المسلمين، بل ولا أحد من الشعوب الماضية أو الحاضرة، لا أحد ما خلا أنفسنا. وإذا كانت هويتنا كسوريين بحدّ ذاتها ما تزال مائعة بحيث أخفقت في منع اندلاع هذه الحرب التي نخوضها اليوم، فكيف لنا أن نفكّر بما هو أكبر منها؟ نحن بحاجة إلى بداية جديدة، ولا يمكن لهذه البداية أن تبدأ من دون نقاش مفتوح حول هويتنا المعاصرة.

من نحن؟ لا، لسنا بحاجة للاتفاق على جواب واحد واضح لهذا السؤال، بل على طريقة تسمح لنا بتقديم إجابات مختلفة دون أن ننقلب على بعضنا البعض ونمعن تخويناً وتكفيراً وتقتيلاً في أنفسنا، نحن بحاجة للاتفاق على كيفية مناسبة لرسم الحدود ما بين فضائاتنا الحيوية المختلفة لكي نعيش، ونحسن العيش، فننمو وننضج.

18.

نحن لسنا مسؤولين أمام آبائنا وأجدادنا بقدر ما نحن مسؤولون أمام أبنائنا وأحفادنا. رأي السلف فينا لا يقدم ولايؤخّر، لأنه لا يمكن لنا إلا التكهّن حول طبيعته وحسب. أما رأي أبنائنا وأحفادنا فينا، فمعظمنا سيسمعه قبل موته، ولا أعتقد، نظراً لواقعنا المعاش، أنه سيكون إيجابياً بمجمله، فمن كان أكثر اهتماماً بما ومن مضى منه بما ومن سيأتي لن يزرع ما يكفي من المحبة والاستحقاق في حاضره ليكترث به ذلك الأتي.

نحن نحصد اليوم كشعب أو شعوب ذات اللامبالاة التي زرعناها في أنفسنا بالأمس القريب، وسيبقى حالنا كذلك حتى نتّخذ أولادنا وأحفادنا غايات سامية تستحقّ منّا كلّ تضحية، ونتوقّف عن استخدامهم كوسائل وأدوات لخدمة نرجسياتنا، وقرابين وأضاحيّ لها.

19.

لقد جاءت ثورات الربيع العربي بالنسبة للكثير منا كثأر للماضي واستجرار لآلامه أكثر منها انفتاحاً على المستقبل وعلى التغيير الذي لابد له أن يجلبه في طياته، ولهذا فشلت، على الأقل في مراحلها الأولى هذه، فهي في الواقع ما تزال مستمرة. والأمر نفسه بالنسبة ينطبق على من عارض الثورات ووالى الأنظمة، فولا تغلغل الماضي في وعيهم وذواتهم، لأبصروا الاحتمالات الإيجابية التي يمكن للتغيير أن يجلبها لهم فيما لو شاركوا في تشكيله.