الأحد، 7 أبريل 2002

كاتبٌ يرفعُ الحجاب عن وجه الحياة السورية

عمار في طوكيو بصحبة مترجمة روايته إلى اليابانية

مقابلة مع عمّار عبد الحميد | كِن كاواشيما

يعالج عمار عبد الحميد في الحيض، روايته الأولى الجريئة التي مُنِع نشرُها في بلده المسلم المحافظ، قضايا الحياة الجنسية والكبت.

سار الكاتبُ السوري عمار عبد الحميد درباً طويلة قبل أن ينشر الحيض، روايته الأولى ذات العنوان الاستفزازي. ففقط عبر ترحاله في أوْجُه الأصولية الإسلامية المتعددة، وعبر صراعاته لتوطين نفسه على هويته ومعتقداته الدينية، استطاع أن يكتب روايته الأولى الجريئة التي تسبر أعماق القضايا المعاصرة، كالحياة الجنسية ووعي الذات والكبت في الإطار الديني المحافظ في سوريا.

وقد كُتِبَتْ الرواية باللغة الإنكليزية، ونشرتْها دار الساقي للنشر في بريطانيا [2001]، وتُرجمَت إلى ستِّ لغات، بما فيها اليابانية. بيد أن مضمونها المثير للسجال يحول دون نشرها بالعربية ليقرأها أبناء بلد عمار.

وفي لقاء أجري معه خلال زيارته مؤخراً لليابان قال الكاتب: «من الصعب جداً قبول مثل هذه القضايا في سوريا. إلاَّ أن الكتابة بالنسبة لي علاج وطريقة للتأقلم مع الواقع. فبعدما تحررتُ من أوهام الأصولية الإسلامية أُصِبتُ باكتئاب بلغ من الشدة حداً جعلني أفكر بالانتحار. وعندها بدأت الكتابة فأنقذتُ حياتي.»

رواية الحيض تصوير لكيفية إدراك عمار لشكوكه حول الدين والحياة السورية التقليدية وإحباطه منهما، من خلال أعين شباب سوريين معاصرين. والقصة مسرودة من خلال مستويات عدة، أحدها من خلال عيني حسن، وهو ابن إمام دمشقي يتمتع بقدرة غريبة على فرز المرأة الحائض من رائحتها؛ وكذلك وسام التعيسة في زواجها من زوج مسيطر. كلاهما محبط ومكبوت لا يزال في حياته المحافِظة، إلى أن يدخل كل منهما في علاقة جنسية تغيِّر حياتَه تغييراً لا رجعة عنه؛ إذ يصير حسن خليل امرأة متزوجة، بينما تعيش وسام علاقتها السحاقية الأولى. ويضعضع تحررُهما كلَّ المفاهيم الدينية والجنسية التي عاشا في كنفها في السابق وإلى الأبد، وبمساعدة المفكِّرَين التقدميَّين نديم وكنده، يبدأان بتشكيل نظرة جديدة كلياً إلى الحياة.

نظراً للمحيط المثقف ومتعدد الأديان الذي تربَّى فيه عمار في سوريا التقليدية متعددة الطوائف، لا عجب أن يبدأ هذا الكاتب ذو الستة وثلاثين عاماً بالتشكيك بهويته الدينية؛ خاصة وأنه قد تأثر من وجوه عدة بعائلته الفنية غير الاتباعية. فأمه هي إحدى أشهر نجوم الشاشة في سوريا وأبوه مخرج سينمائي معروف. ومسألة الدين برمَّتها، على ما جاء على لسان عمار، كانت مطاطة ومطواعة في إطار عائلته. يقول عمار : «لقد أرسِلتُ في سن الثالثة إلى مدرسة خاصة كاثوليكية، لكني اعتنقت الإسلامَ في السابعة، ولم يكُ هذا التغيير صعباً علي.»

وفي سنة 1983، إثرَ وصول عمار ذي السبع عشرة ربيعاً إلى بريطانيا للدراسة – في أولِ زيارة له لبلد غربي – شرع بالتركيز على هويته الدينية وعلى تأثيرها عليه. يقول: «لقد شعرت بالاشمئزاز تجاه تركيز الغرب على الذكورة وسيطرة الذكور، وبدا لي وكأن الجميع يجاهر بذكورته. ألا يمكن أن تكون الأمور أكثر طبيعية؟»

لكن حلمه العزيز كان أن يصبح عالِمَ فلك؛ فترك بريطانيا بعد عام وانتقل إلى موسكو سعياً إلى هدفه. إلا أن ثمانية أشهر كانت أقصى مدة استطاع عمار أن يبقاها تحت النظام السوفييتي المقيِّد. قال: «لقد قتل الواقع السوفييتي حلمي، ولم أستطع التأقلم مع طريقة الحياة السوفييتية؛ فقد كنت عرضة للمحاسبة طوال الوقت، وكأنني أعيش في ظل المُراقِب السَّامي Big Brother الذي تخيَّله جورج أورويل في روايته 1984».

وبعد أن فقد حلمه وامتلأ إحباطاً من عدم قدرته على الاستقرار في أيٍّ من البلدين، التفت عمار إلى الدين، فأمسى بعد شهر من الزمان أصولياً. وذهب إلى الولايات المتحدة سنة 1986 وانتسب إلى جامعة ويسكونسِن حيث حضَّر لإجازة في التاريخ بينما كان يتفقَّه ليصير إماماً.

وخلال دراسته للشريعة الإسلامية تطرق عمار لتعاليم القرآن فيما له صلة بالحيض وبالنظافة الصحية لدى النساء، فوظَّفها لاحقاً في روايته. يقول عمار في هذا الصدد: «لقد صُعِقتُ عندما علمت أنه لأكثر من 1400 عاماً نُظِر إلى الحيض على أنه شيء نجس وقذر، بينما كان من المفترض أن يُنظَر إليه على أنه علامة حياة. عندما تحيض النساء لا يُسمَح لهن بالصلاة أو بالصوم ويجتنب أزواجُهُن الأكل معهن من نفس الطبق. ويذهب الرجال في بعض العائلات المتدينة إلى حدِّ التأكد من فُوَط زوجاتهم الصحية. أيُعقَل هذا؟»

لقد دفعتْ مثل هذه الاكتشافات العديدة عماراً إلى أن يفقد إيمانَه بالإسلام. والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت قضيةَ سلمان رشدي سنة 1989، حين أعلنت الحكومةُ الإسلامية في إيران أن روايةَ هذا الكاتب الهندي آيات شيطانية تجديفية لانتقادها محمداً وأصدرت فتوى بتحليل دمه.

يقول عمار: «حكمُ إعدام! لم أستطع هضم فكرة أن يُقتَلَ رجلٌ لأنه لا يوافق على بعض المعتقدات.» وفي نهاية المطاف، دفعت هذه الحادثة عماراً للتخلي عن الأصولية لأنه أدرك أنه كان يضيِّع وقته، على حد قوله. ويفسر عمار قائلاً: «في البداية، كان من الصعب جداً تقبُّل الحقيقة. لقد فكرت في الانتحار إذ اعتراني اكتئابٌ شديد. لكنني وجدت مخرجاً من خلال قَرطَسَةِ أفكاري.»

وإذ يستعيد عمار ذكريات تلك الفترة شديدة التدين، يعترف اليوم أنه كان يبحث عن إجابات على بعض التساؤلات الكبرى. «لكنني لم أعد بحاجة لها لأنني أمِنْتُ نفسي، وبتُّ قادراً على منح الحب وتلقِّيه. تطلَّب اكتشاف هذه الحقيقة وقتاً طويلاً.»

يعتبر عمار نفسه اليوم ملحداً، واجداً أن محمد ويسوع ليسا سوى نموذجين بَدئيَّين بسيكولوجيين. وهو يقول إنه تعلم أهمية أن يستخلص الشخصُ العِبَرَ من التجربة الخام، «فهذه هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحكمة. ومن الضروري أن نكون منفتحين تجاه الاختلافات، ولاسيما الاختلافات الثقافية. فكلنا مترابطون الآن في هذا العالم الصغير».

يعتقد عمار أن التغيرات العالمية التي أدت إليها الحضارة الغربية المعاصرة قد خَلَقَتْ نوعاً من الصدام بين التقاليد والحداثة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى ظهور أزمات هوية مماثلة لدى العديد من الشعوب في العالم. وهو يؤكد على ضرورة الإصغاء إلى مظالم الشعوب وذلك للوصول إلى حلٍّ لا يستبعد أي بلد.

يقول عمار: «لا يمكن لأي بلد أن يتقمص دور الله؛ فمادام ثمة إله سيكون الشيطان موجوداً دائماً. وهذا ما تشعر به غالبية الجماهير العربية اليوم – أن أميركا تتقمص دور الله وأن الحضارة الغربية كانت تستغل شقاءهم، الأمر الذي أدى، في نهاية السنة الماضية، إلى أن يجترأ بعض الناس على نطح مركز التجارة العالمي في نيويورك بالطائرات. فالمشاكل تبدأ عندما يشعر بلدٌ ما بقدرته على سحق جميع التمردات.»

رجع عمار إلى سوريا حيث تكمُنُ جميع إلهاماته، على حدِّ وصفه. وهو ينوي هناك الاستمرار بالحث على الحوار عبر Etana Press، وهي دارُ نشر صغيرة أسَّسَها في دمشق. كما يخطط لتنظيم الندوات ونشر الكتب التي من شأنها أن تولد الحوار في بيئة لا تزال بحاجة للتنوير.

«غالباً ما يكون الشعب السوري سطحيَّ الانفتاح. فالنساء، على سبيل المثال، نَزَعنَ الحجاب وارتَدَينَ البيكيني عوضاً عنه. وهن يُرِدْنَ التمتعَ بالامتيازات الغربية، كالحرية والاستقلالية، إلا أنهن يَودَدْنَ أن تُطلبَ يَدُهنَّ وفق التقاليد الشرقية. فهن غير مستعدات للتنازل عن أي شيء.»

وعلى الرغم من أنه لا يمكن لعمار نشر كتابه في سوريا نظراً لقوانين الرقابة الصارمة، إلا أنه ينوي نشره بالعربية على الإنترنت في المستقبل القريب. فحتى ناشر الحيض البريطاني اضطر إلى حذف الفصل الأخير من الكتاب، الذي يصور شخصيات تتحدث بصراحة عن محرَّمات دينية، خوفاً من استفزاز الأصوليين.

وقد قال عمار: «أتوقع أن تكون هناك موجة رفض عارمة في سوريا عندما أنشر كتابي بالعربية. وظني أنه سيكون هناك صياح أكثر من الحوار. بيد أنني أتمنى أن يقترح الكتاب طريقة عقلانية للحوار بين من يتبع الدين ومن لا يتبعه.»

*** *** ***
ترجمة: موسى الحوشي
عن صحيفة International Herald Tribune
عن صحيفة Asahi Shinbun اليابانية
في 7 إبريل/نيسان 2002


الاثنين، 1 أبريل 2002

وبعدين؟

رام الله، الضفة الغربية، 14 آذار، 2002

علينا أن نعيِّن بدقة إلى أين نحن ذاهبون وإلام نسعى حتى نتمكَّن من اختيار الدرب الصحيح.


من أسهل ما يكون فهمُ لماذا يشعر شعب، عاش عقوداً حتى الآن تحت الشروط المُذِلَّة لاحتلال أجنبي، بكل هذا الإحباط، والمرارة، والغضب، والكره. ومن السهل أيضاً فهمُ الحاجة إلى تفريغ عاطفي في ظل هذه الظروف. فأن ينجم العنف عن هذا الوضع ليس بالأمر المفاجِئ. 

أما الأمر المفاجِئ الذي يعسُر فهمه فهو عجز الناس المعنيين، أو إحجامهم المتواصل، عن رؤية عبثية العنف، على الرغم من كل هذه السنين من سفك عديم الجدوى للدماء. أيكون القصد برمَّته من الوضع الحالي في الأراضي المحتلة هو السماح بتنفيس بعض البخار؟ أهو الرغبة في الثأر؟ أم أنه طلب العدالة؟ إذ إن هذه الأمور ليست هي نفسها، ولا هي بسواسية. 

إن طلب العدالة يقتضي أكثر من استراتيجية، شبه عسكرية كانت أم خلاف ذلك (ذلك أن ثمة علامات بيِّنة على أن هجمات الفلسطينيين على أهداف إسرائيلية تتم تنفيذاً لاستراتيجية شبه عسكرية ما). طلبُ العدالة يقتضي فهماً عميقاً للقضايا الحقيقية ذات الصلة، واستعداداً للتضحية بـالكبرياء أكثر من التضحية بالدم. فعندما يقبل والدٌ فلسطيني (أو والدة فلسطينية) بالتضحية بشيء من الكبرياء في مقابل السلام، قد يوفِّر على نفسه المحنة الفظيعة المتمثلة في التضحية بأبنائه. 

أما "والِدو" الانتفاضة الجارية فيبدو أنهم أخذوا الأمر على العكس من ذلك. فهم، على ما يبدو، لا يتورعون عن التضحية بأبنائهم من أجل الثقب الأسود النَهِم لهذه القضية. والمَثَل التوراتي القديم عن والدِين وأطفال وعنب حامض لا يسعه إلا أن يبرز في ظل هذه الظروف، دالاً على حصول تلك الظاهرة الطاعنة في القِدَم التي يُضَحَّى فيها بالأبناء على محرقة غرور آبائهم. وعندي أنه ما من قضية تستحق ثمناً كهذا، بل ما من قضية تُكسَب بثمن كهذا. 

ليس المقصود من هذا، بالطبع، أن الشبان الفلسطينيين ببساطة تُغسَل أدمغتهم لكي يواجهوا الدبابات الإسرائيلية بصدورهم العارية أو يفجِّروا أنفسهم في المستوطنات الإسرائيلية. فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. شباب فلسطين، رجالاً ونساءً، يفعلون ما يفعلون عن سبق إصرار، نتيجة إحساسهم بالإحباط ورغبتهم في الحصول على ما يرون فيه العدل. 

لكنهم على خطأ؛ فهذه ليست الطريقة الصحيحة لنوال العدل. إن ما يطلبون في الواقع قد يؤوَّل كمجرد طلب للثأر وكمتنفَّس لقنوطهم وإحباطهم. غير أن الأسباب من وراء هذا السلوك، وإن كان من السهل الإحاطة بها، تبقى، مع ذلك، ضارة بقضية العدالة، كما قلنا. إذ لن يُطرَد الإسرائيليون أبداً خارج أرض، يراها كثيرون منهم أيضاً مقدسة، بوسائل عسكرية. فالأراضي المحتلة ليست جنوب لبنان. ولدى الإسرائيليين، في هذه الحالة، ما يحملهم على الشعور بأنهم يقاتلون دفاعاً عن حياتهم أيضاً، عن سلامة هويتهم نفسها، ومن أجل المحافظة على تماسك مجتمعهم. فكلما جعلتْهم العمليات الانتحارية يشعرون بهشاشتهم صاروا أكثر أهبة لجمع صفوفهم خلف أشدِّ زعمائهم السياسيين والدينيين والاجتماعيين تطرفاً وعنصرية. 

ومع ذلك، وبالعودة إلى مسألة الانتفاضة الجارية، على المرء أن يؤكد أن "والدِيها" يتحملون جانباً من الملامة، تحديداً على سلبيَّتهم، أي على إحجامهم عن إعادة النظر في أولوياتهم ومبادئهم. إنهم ببساطة يورثون الجيل التالي إحباطَهم، ويتركون القضية ميراثاً لا يقبل القسمة ولا يقلُّ قدسية عن الدين نفسه. ولا يُتوقَّع من "الأبناء" أن يشكِّكوا في هذا الميراث أو أن يحلِّلوه، بل يُتوقَّع منهم فقط أن يقبلوه على علاته، بل وأن يموتوا من أجله؛ وإلا فسيشهَّر بهم "خونةً" و"عملاء للعدو" – مرتدين وكفار آخر زمن. 

لكنْ دعوني، مجازفاً بأن يشهَّر بي زنديقاً (ذلك أن المرء إذا لم يكن يستطيع تفكيك ديننا الجديد هذا، لا يسعه إلا أن يكون زنديقاً فيدعو إلى إعادة النظر في بعض أركانه) – أقول: دعوني أجرؤ هنا على إيجاز ما أعتقد أنه القضايا الحقيقية ذات الصلة بالوضع الحالي – من أجل أولئك المهتمين بالعدالة، وليس بالثأر. واسمحوا لي أولاً أن أشير إلى أني لا أقدم حجتي بيقين نبي توَّاق، بل بجرأة مثالي شاب. 

وقائع:

- وجود إسرائيل أمر واقع. ونيَّتنا ليست القضاء عليه، أو "رمي اليهود في البحر".

- المصالح الدولية ليست متناغمة تماماً مع المصالح الفلسطينية؛ من هنا سهولة غضِّ غالبية الدول النظرَ عن المستجدات المأسوية الحالية في الأراضي المحتلة، أو تبنِّيها موقفاً يكاد يعدم الشدة والصراحة في إدانتها للاحتلال الإسرائيلي ولتشديده الحصار على الفلسطينيين. وباختصار، يعدم هذا الصراع بالذات سماسرة دوليين شرفاء.

- الزعماء العرب أضعف أو أحجَم من أن يتخذوا مبادرة ذات وزن لدعم إيماننا الجديد هذا الذي هو القضية الفلسطينية.

- إسرائيل هو القوة المتفوقة عسكرياً.

- إدانتنا الأخلاقية والقانونية للاحتلال الإسرائيلي، في معظمها، تقوم على ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهذا، بمعنى ما، يضعنا في موقع يُتطلَّب منا فيه ويُتوقَّع منا أن نكون ممثلين أفضل للمُثُل التي تتخلل هاتين الوثيقتين. 

إذا ما كان لهذه الوقائع من معنى فهو أننا لا نستطيع أن نفوز بالعدالة بمعناها النهائي ذاك، الذي نتوق إليه أحياناً. بعبارة أخرى: من المتعذر تصحيح باطل وَقَعَ بأي معنى نهائي. لقد اختُلِقَتْ دولة بين ظهرانينا وعلى حساب أحلامنا (وعلى حساب إزهاق أرواح كثيرة). علينا أن نسلِّم بهذا الوضع ونتكيف معه. لقد تعارضتْ أشواق الآخرين مع شوقنا نحن عند نقطة زمنية معينة، وكان أن خسرنا، مادياً على الأقل. وهذا واقع آخر ينبغي أن نسلِّم به. 

ولكن – وههنا محطُّ رجائنا – كما أننا لا نستطيع نيل العدالة بالمعنى النهائي، كذلك لم نخسر بالمعنى النهائي. فرغم كل شيء، نحن ما زلنا موجودين، وما زال الكثيرون منا يحيون في الأراضي المحتلة. ولم تكسرنا "هزيمتنا" إلى حدٍّ يحول بيننا وبين أن نتشوق إلى تحسين نصيبنا وأن نكافح للحصول على شيء أفضل، أفضل بكثير، مما لدينا، شيء يتناسب أكثر مع أحلامنا ومع الكرامة الإنسانية. 

وهذا الشيء، بكل بساطة، هو: اتفاق يضع حداً لحمَّام الدم الجاري، من شأنه أن يوفِّر لأبنائنا، إن لم نقل لنا، فرصة لنحيا وننمو بسلام. حقاً إن من واجبنا أن نضحِّي ببعض أجزاء حلمنا (وأوهامنا) ونعضَّ على كبريائنا لصالح حلٍّ واقعي هو، باعتراف الجميع، أقل بكثير من الحلِّ الذي حلمنا به منذ زمن بعيد (أو ربما ليس منذ زمن بعيد)، لكن من شأنه أن يؤدي إلى مستقبل سلمي للأجيال القادمة. 

وإذا كانت الرغبة هي السلام لا يصحُّ أن تكون الوسائل عنيفة. إذ هل تمهَّل أحدهم وأعْمَلَ تفكيرَه في نوعية المجتمع الذي سيقدر على بنائه، حالما تنتهي الحرب، كلُّ هؤلاء الشبان المقاتلين الصغار الذين قُيِّض لهم أن يقبلوا العنف طريقةَ حياة طبيعية ووسيلةً مشروعة نحو غاية عادلة مرجوَّة؟ 

لئن كان في تاريخ القرن العشرين، وبخاصة في التجربة الأفريقية، من عبرة فهي أن خرِّيجي المدرسة شبه العسكرية، ولا سيما من انتسب منهم إليها وهو ما يزال مراهقاً، عاجزون عن بناء مجتمع مستقر ومسالم. 

فهل سيكتفي الفلسطينيون بوضع يحلُّ فيه نظيرٌ فلسطيني محلَّ العدو الإسرائيلي؟ وما هو القصد من هذه الانتفاضة برمَّتها، على كل حال، إذا كان كلُّ ما بمقدورها إنجازه هو إحلال عدوٍّ محلَّ آخر، واستبدال نوع معين من الحروب (حرب أهلية تحديداً) بآخر (حرب تحرير وطنية)؟ هذه الأسئلة تتحرق إلى إجابات قبل أن نواصل المضي قدماً على درب الأفعال وردود الأفعال الغدار هذا، درب الضربات والضربات المضادة. 

ولدى الإسرائيليين أيضاً، من جانبهم، قضايا لا بدَّ لهم أن ينصرفوا إليها خدمةً لمصلحة السلام وتحقيقاً للاستقرار والأمن. أهم هذه القضايا حاجتهم إلى مواجهة واقع أنهم قد بنوا حلمهم (أي دولتهم) على حساب أشواق وأرواح أناس آخرين. لم يكن الفلسطينيون مسؤولين عما لقيه اليهود من اضطهاد في أوروبا، فكانت معارضة الفلسطينيين للمخططات الصهيونية ردَّة فعل طبيعية من شعب يسعى إلى الحفاظ على حريته، على أرضه، وعلى هويته. 

لا يجوز للإسرائيليين أن يستبعدوا الفلسطينيين بوصفهم إرهابيين ومنبوذين. على الإسرائيليين أن يقبلوا أن للفلسطينيين مطالب وشكاوى مشروعة، وعليهم أن يدركوا أنهم، أخلاقياً، بحاجة ماسة إلى القيام بكل ما بوسعهم ليضمنوا حصول الفلسطينيين على أفضل اتفاق ممكن. لا يجوز للإسرائيليين أن يواصلوا التعامل مع الوضع بذهنية الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات، لا لشيء إلا لأنهم الأقوى. لقد ظلت هذه الاستراتيجية، على أية حال، تتمخض عن عكس المقصود طوال عقود، ولم يُستفَد منها سوى تأجيج التطرف لدى الشعب الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي في آن معاً. 

والإسرائيليون، ما داموا يتنكَّرون لكل ما فعلوا بالفلسطينيين، وما داموا يصرون على مواصلة سياسة الهوان والقمع حيال سكان الأراضي المحتلة، وما داموا يحاولون أن يبرروا لأنفسهم، وللعالم، ما هو، بالفعل، لا يقبل التبرير (أي إنكار الحقوق الإنسانية الأساسية للفلسطينيين)، يقعون أكثر فأكثر في قبضة القوى العنصرية والأصولية التي تدفع بالمجتمع الإسرائيلي برمَّته إلى حافة التورط في مغامرة إبادية محتملة للمرة الثانية في تاريخ دولتهم الفتيَّة. فمنذا يستطيع أن ينسى ما حصل عام 1948؟ 

بعبارة أخرى، فإن الإسرائيليين، بافتقارهم إلى الحكمة والشجاعة على الاعتراف بأنهم كانوا على خطأ (بالنظر إلى الطريقة التي نظروا بها إلى الفلسطينيين وعاملوهم منذ انطلاقة المغامرة الصهيونية نفسها، وليس بالنظر إلى محاولتهم إيجاد حلٍّ لمشكلة الاضطهاد في أوروبا) وعلى محاولة تصويب خطئهم بالامتثال للمقررات الدولية المعروفة فيما يخص الأراضي المحتلة، حوَّلوا بلدهم إلى معسكر اعتقال ضخم متوسِّع، لأنفسهم وللفلسطينيين. وأحلامهم بمجتمع علماني آمِن قد تلاشت تماماً الآن، فيما المنطقة على أهبة طور جديد من أطوار الإرهاب وسفك الدماء. 

هل بوسع الإسرائيليين أن يعيشوا في هذا الوضع المزري؟ أشك في ذلك. وهل يريدون ذلك حقاً؟ هل هم على استعداد حقاً للاشتراك في اغتيال حلمهم نفسه؟ ذلك إنه حالما يعمل المتطرفون والأصوليون، من كلا الطرفين، على استغلال الوضع، فإن هذا بالضبط ما سوف يحدث (شارون وحماس، في الواقع، هما المستفيدان الأولان من حلقة العنف الحالية). هذه هي الأسئلة التي ينبغي على الإسرائيليين أن يجيبوا عليها. 

في وقت يبدو فيه الطرفان وكأنهما فقدا حسَّ الاتجاه، لعل سؤال "وبعدين؟..." هو أهم سؤال ينبغي طرحه.