الثلاثاء، 16 مايو 2000

العرب بين الأسطورة والتاريخ: من أين؟ إلى أين؟ و لمَ؟


النهار / معابر

كيف ننفكّ من قيد هذا التشرّد،
من أسر هذي الإقامة،
في غياهب تلك الخلافة، أو هذه الإمامة؟
عجباً، - نتكسّر، نبني جسوراً
لا لنعبر، لكن لنرثي أنقاضنا.
أدونيس، الكتاب، ج1ص103.

لعلّه من نافل القول أن نصرّح بأن كل معرفة إنسانية إنما جاءت و حُصِّلت نتيجة رغبتنا الجامحة كبشر  لإضفاء معناً ما على حياتنا. لكن، بمقدور المرء أن يقدّم حجّة قوية يدعمها الكثير من الأدلّة على كون الأسطورة و التاريخ أول فرعين للمعرفة النظرية يتعاملان بشكل صريح مع هذا الأمر. ومن هذا المنطلق، فإنه لمن المشروع التساؤل عن مدى نجاح هذين الفرعين المعرفيين في مهمّتها المفترضة. أي: بوسعنا التساؤل اليوم إلى أي مدى تنجح الأساطير و التواريخ المعاصرة في إضفاء معناً على حياتنا. 

أن عصرنا يشهد تقدّماً هائلاً في رصد و توثيق الأحداث وعلى نحو لم يكن متاح في أي وقت مضى. فبينما لا يزال بوسع بعض المؤرّخين التشكيك في وجود بعض الشخصيات "التاريخية" من أمثال لاو تسه وجلجامش وموسى بل ويسوع المسيح، وفي صحّة بعض الحوادث المدّعاة كالطوفان وعبور سيناء و الهجرات السامية، لا يمكن للمرء أبداّ أن يشكّك في وجود شخصيات مثل أينشتاين و هتلر والأميرة ديانا، أو في وقوع أحداث مثل الحربين العالميتين وانفجار أول قنبلة ذرية والهبوط على سطح القمر. فكل هذه الشخصيات وكل هذه الحوادث موثّقة توثيقاً لا يحتمل الشكّ (إلا من قبل بعض الشخصيات العُصابية). لكن هل يكفي التوثيق لمعرفة المعنى؟ 

لنأخذ حالة الأميرة ديانا على سبيل المثال. إنها المرأة التي لُوحقت و صُوّرت و تابع الناس في كلّ أنحاء العالم أخبارها بشغف أكثر من أي امرأة أو رجل في التاريخ. ومع ذلك، كم نعرف عنها في الحقيقة؟ إن الإشاعات عنها أكثر من الحقائق الموثّقة بكثير، والآراء والتفسيرات المتعلّقة بحياتها ونشاطاتها و شخصيتها تحتوي على قدر كبير من التناقض والتضارب. فأين الحقيقة في هذه الحالة؟ من كانت هذه المرأة فعلاً؟ أقديسة كانت أم عاهرة؟ أحائرة تائهة أم متمرّدة على القيود و التقاليد؟ أظالمة أم مظلومة؟ إلى آخره من هذه الأسئلة فهي كثيرة. وإذا كان الجواب خليطاً من كل هذه الأمور، وهو كذلك إلى حدّ كبير، فما هي النسب المكوّنة لهذا الخليط؟ إن كثرة المعلومات الموثّقة، إذن، لا تسمن و لا تغني من جوع على ما يبدو فيما يتعلّق بالبحث عن الحقيقة والمعنى، على الأقل فيما يتعلّق في مجال المعارف الإنسانية. 

فإذا كانت الحال هكذا مع من هم أحياء الآن، أو من توفّوا بالأمس القريب، فكيف هي الحال مع أولئك الذين عاشوا قبل ألف سنة وأكثر؟ هل يمكن للحقيقة عنهم أن تعرف دون أن تشوبها شائبة؟ أو بالأحرى هل بمقدورنا أن نستخلص ذرة حقيقة واحدة عنهم من أطنان الشوائب المحيطة بأخبارهم؟ و الأمر نفسه بالطبع يسري على الأحداث التاريخية: هل بمقدورنا فعلاً أن نعرف الحقيقة عنها؟ إن الدراسات التاريخية غالباً ما تخبرنا عن القائمين بها وأفكارهم وعقائدهم وطبائعهم أكثر مما تخبرنا عن الأحداث والشخصيات التي تدّعي عرضها وتحليلها. و بالتالي، هناك عنصر هام و أساسي وحيوي من الأسطرة في كتابة التاريخ و مراجعته. ولا يمكن الفصل في الواقع ما بين الأسطرة والتأريخ إلا في حالات محدّدة وعلى نحو تقريبي. 

إنّ هذا التأكيد لا يؤدّي إلى نفي التاريخ بالضرورة، لكنه يحدّ من دوره، أو بالأحرى يدعو إلى الحدّ من دوره فيما يتعلّق بتكوين الهوية الإنسانية. إن الاحتكام إلى التاريخ  فيما يتعلّق بحلّ الخلافات، سياسية كانت أم اجتماعية أم دينية، عوضاً عن الرجوع إلى المبادئ الإنسانية العامة، يعني بالضرورة تعليق حلّ هذه الخلافات إلى أجل غير مسمّى، لأن لكلّ طرف في أي صراع أو خلاف كان وجهة نظره المستندة إلى تفسيره الخاص والنفعوي للتاريخ، و ذلك مهما بدا هذا التفسير اعتباطياً أو واهياً للمراقب "الحيادي." 

لقد اخترع الإنسان الأسطورة و التاريخ لوضع قاعدة معرفية يفسّر من خلالها وجوده. فالكون جاء من بيضة كونية أو من جوف تعامة بعد أن قتلها مردوخ، والإنسان ولد من دموع الآلهة أو جبله الله من طين من حمأ مسنون، والمجتمعات البشرية تكوّنت جرّاء طرد آدم و حوّاء من الجنة، والأمراض وجدت نتيجة تلاعب الأرواح الشريرة بالبشر أو لعقاب البشر على أعمالهم السيئة و هلمّجرّا. لقد كان الإنسان بحاجة إلى معرفة من هذا النوع في مرحلة ما من تاريخه كيما يوازن نفسه من الداخل و ينتقل إلى محاولة لموازنة نفسه من الخارج أيضاً عن طريق تأسيسه للمجتمع. لكن، ومع الزمن، اكتسبت الأسطورة والتاريخ دوراً آخر في حياة المجتمعات الإنسانية، دوراً في الحقيقة هدّاماً. إذ باتا يحدّان من النمو النفسي، إن لم نقل الروحي، والمعرفي-العلمي للإنسان وباتا يولّدان المزيد من الجدران الفاصلة بين الإنسان و أخيه الإنسان. و نتيجة لذلك أضحى الوجود الإنساني ذاته مهدّداً. 

و لعلّ أكثر المناطق في العالم التي تعاني من الاضطرابات الناتجة عن كثرة الجدران وعن رفض الإنسان لأخيه الإنسان استناداً إلى تنوع هائل في المعارف التاريخية و الأسطورية-الدينية، هي المنطقة المعروفة اليوم باسم الشرق الأوسط أو الهلال الخصيب. 

إن الروح الكلبية الناتجة عن هذا الأمر و استمراريته على مرّ القرون تفرز اليوم مجموعة غريبة من الظواهر في المجتمعات الشرق-أوسطية، لا سيّما العربية منها. وقد تساعد دعاية ظهرت مؤخّراً عبر القنوات الفضائية العربية في الكشف عن مكنونات هذه الروح. 

الدعاية جاءت على شكل مقارنة يقوم بها رجل عربي بين معالم معروفة في الولايات المتّحدة وأخرى مختارة من بلده ليدلّل، من ناحية، على أن بلده لا يقلّ تقدّماً عن الولايات المتّحدة الأمريكية، ومن ناحية أخرى على كونه شخصياً أكثر ثراء من نظيره الأمريكي بامتلاكه لسيارتين من طراز لنكولن لا واحدة كما هي الحال مع نظيره. وهكذا تتمّ المقارنة ما بين جسر سان فرانسيسكو الشهير و جسر تمّ بنائه مؤخّراً في بلد الرجل، وبين منحوتات جبل رشمور  وبقايا مدينة أثرية، و بين البيت الأبيض و بيت العائلة. هكذا وبكل بساطة وصراحة ووضوح تعرض هذه الدعاية، دون أي قصد بالطبع، على مرأى الجميع إلى أي حدّ و عمق بلغ التخلّف بالعرب. فالمقارنة حدثت بين حضارة حية و مبدعة هي التي أفرزت الجسر، بل الجسرين، والمنحوتات والسيارة، وأخرى ميتة بائدة لم يعد بمقدورها أن تبدع بل باتت تتطفّل على إبداعات الآخرين. والمقارنة كانت بين رمز لأمة ديموقراطية وآخر لمجتمع ما يزال يفخر بتكوينه العشائري. يفتخر العربي في هذه الدعاية إذن بواقع العقم والموت والعشائرية ويبدي جهله أمام الجميع: إنه لا يدرك بعد جوهر الحياة المعاصرة وهو بعيد كل البعد عن أي شيء يمت إلى الإبداع والحرية والتقدم بأدنى صلة. 

إن عربي اليوم يأسطر ماضيه ليجعل منه عصراً ذهبياً، ويأسطر حاضره ليجعل منه واقعاً أقلّ إيلاماً. و هكذا يغرق في حال سلفية في بعض تجلّياتها، عدمية في أخرى، وحالمة إن لم نقل خدرية psychedelic في بعضها الأخير. لقد خسر العربي من الناحية العسكرية على الأقل حرب ال73 مع إسرائيل ولكنه يصرّ على الاحتفال "بنصره" كل عام، هذا النصر الذي لا يوجد إلا في رأسه هو لأنه بحاجة له، ولأن تخيّل النصر وادّعائه خير من مواجهة الهزيمة ونتائجها. ذلك لأن الهزيمة مرة، ذلك لأنها تجعل المرء يعترف، إن أراد أن يعترف بها، بواقع هو أمرّ وأكثر إيلاماً بكثير، ألا وهو واقع موته الحضاري. 

عندما يكون الواقع مرّاً إلى هذا الحد إذن يلجأ الناس إلى الأسطرة، القيادات لتنقذ نفسها وتصرّ على شرعيتها المهزوزة دائماً، والشعب ليحجّم من شعوره بالمرارة والإحباط. ومن هنا تأتي تفسيرات مثل: حرب تشرين كانت حرب تحريك لا حرب تحرير وعلى هذا الأساس يمكن اعتبارها حرب ناجحة إذ أنها مهّدت الطريق لاستعادة سيناء. ومن هنا أيضاً الاتهامات المتبادلة بين قيادات الحرب بالخروج عن "النص" ذلك النص الذي لا يوجد إلاّ في أذهان تلك القيادات التي ما انفتئت ذواكرها أن تكوم منفعية الطابع. 

لقد ماتت حضارة العرب إذن، و ربما منذ قرون (و لعلّ أكبر دليل على هذا هو عدم إفراز هذه الحضارة لأي مفكّر أو عالم إبداعي لأكثر من ستة قرون)، ومعها بالطبع ماتت الحضارة الإسلامية ذاتها، إذ ارتبطت مسيرة الحضارتين بشكل مصيري مع ظهور الإسلام على الساحة منذ نيف وخمسة عشر قرناً. و لا يعدّ هذا التطور أمراً فريداً في الحقيقة، فالحضارات الدينية لاقت المصير ذاته في كل إنحاء العالم ومنذ قرون، وإن كانت الحضارة الإسلامية قد تأخّرت في مواجهتها لهذا الواقع، فذلك لأنها أكثر الحضارات الدينية الأساسية شباباً. 

ولعلّ ظاهرة التطرّف اليوم هي واحدة من أهم مظاهر الأسطرة التي تسعى إلى نكران واقع موت الحضارة الإسلامية. فهذه الظاهرة حتى الآن لم تعبّر عن نفسها إلى بالرفض ولم تقدّم أي جديد، بالمعنى الإبداعي والخلاّق للجِدّة، في أي من طروحاتها الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية. بل إن مناهجها الفكرية ترفض قابلية التجديد أصلاً وتعوّل، أو تدّعي التعويل، على مصادر ومرجعيات الماضي المقدّس والمنزّه حكماً وتعريفاً. وكلّما اصطدم هذا التيار الأصولي السلفي المتطرّف بمعطيات الواقع المعاش المناقضة كلّية لمعطياته هو، لجأ إلى واحد من عدّة أساليب طوّرها مع الزمن مثل الرفض (لا للعلمانية، لا لحقوق المرأة، لا للمجتمع المدني) والاستملاك (القرآن تنبّأ بغزو الإنسان للفضاء)، إلى أخره. هذا، وبينما تتكاثر الفرق و التنظيمات الإسلامية ذات الطابع الأصولي الإرهابي، لم تفرز المجتمعات الإسلامية حتى الآن منظّمات من نوع "أطباء بلا حدود" و "كير Care" ومنظمة العفو الدولية. المجتمعات الإسلامية حتى الآن لم تقم بأي نشاط إنساني حقيقي حتى على الصعيد الداخلي إلاّ إذا أرادت توظيفه لأغراض سياسية مثل حركة الأخوان المسلمين في مصر مثلاً. 

موت الحضارة الإسلامية ليس حدثاً فريداً كما سبق وذكرنا، وهو لا يعني في الحقيقة موت الدين الإسلامي ذاته، شتان ما بين الأمرين. إن موت الحضارة الدينية شرط أساسي من شروط نشوء الحضارة المدنية. والحضارة المدنية يتحرّر المجتمع من سلطة و الدين والدين من سلطة المجتمع، وبذلك يمثّل قيام المجتمع المدني فرصة للدين لتحرير نفسه من قيود الماضي و ممارسة دوره العابر للزمان ويصبح أكثر قدرة على التعامل والتأقلم مع وقائع الزمن الجديد. أي، أنه يصبح حرّاً لبناء مجموعة جديدة وضرورية من الأساطير، ومن إعادة قراءة التاريخ، خاصة تاريخه المؤسّس.  

لكن، هاهم العرب اليوم في مطلع القرن الحادي و العشرين وهم أبعد ما يكون عن التأثير في السيرورة التاريخية للأحداث، يتخبّطون في متاهات الانتماءات الطائفية والإقليمية والعشائرية والفردية (أي انتماء المرء إلى نفسه فقط، ووضعه لمصلحته الشخصية فوق كلّ اعتبار) يبكون على الأطلال حين يبكون و يضحكون على أنفسهم حين يضحكون. 

هل انتهى كل شيء إذن؟ أليس ثمّة بصيص من أمل؟ 

في الحقيقة، هناك ما هو أكثر من مجرّد بصيص من أمل: أنه الأمل كله بين أيدي العرب اليوم. ذلك لأن الحضارات قد تموت لكن الإنسان يحيا و يستمر. بل إن الحضارات قد تموت كيما يحيا الإنسان و يستمرّ. إذ عندما يتهدّم كل شيء من حول المرء يصير بوسعه أن يباشر البناء من جديد وعلى أسس أمتن، هذا إن سمح لنفسه باستيعاب دروس الماضي وتوقف عن تمجيده. إن البناء من جديد خير من الترقيع، والإنسان الذي يتقبّل واقعه ويتقبّل أن عليه أن يبدأ من جديد هو إنسان أقوى وأقدر على الاستفادة من تجارب الماضي وتجارب "الآخرين" في مسعاه نحو تحقيق ذاته من جديد عن طريق نسجه لأسطورة جديدة وانكفائه على التأليف العملي لتاريخ جديد. إن فرصة كهذه لا تتاح كل يوم، فهل سيستغلّها العرب أم…