1.
الهدف الأساسي من
المشاركة في محادثات جنيف كان تجنب أن يقع اللوم على المعارضة، لكن انسحاب المعارضة
من المحادثات، الأمر الذي أدى إلى تجميدها، سمح لوزير الخارجية الأمريكي بإلقاء
اللوم على المعارضة، وهو تطور مؤسف. لماذا؟ لأن إدارة أوباما
تسعى، وبكل الوسائل، في هذه المرحلة، إلى تبرير سياساتها التراجعية فيما يتعلق
بالملف السوري، على الرغم من كل المآسي التي أدى إليها هذا التراجع. لوم المعارضة
يحقق لها هذا الأمر أكثر مما يحققه لوم روسيا أو إيران. من هذا المنطلق كان علينا
أن نذهب إلى جنيف ونبذل ما بوسعنا لكي نبدو بمظهر المتجاوب على الرغم من كل تعنت
الطرف الآخر، تآمر روسيا وإيران مع الأسد، وتخاذل الأطراف الدولية التي تدعي دعم
الثورة. ولقد كان موقفنا قوياً في هذا الصدد، وكان كل المطلوب منا هو الإصرار على
مواصلة اللقاءات مع ديمستورا حتى في حال اضطرارنا إلى تكرير ذات الكلام في كل لقاء.
لأن هدفنا كمعارضة
في هذه المرحلة، ونظراً لأهمية ومحورية الدور الأمريكي، عجبنا هذا الأمر أم لا، يكمن
في تمهيد نمهد الطريق للضغط على الإدارة القادمة من أجل أن ندفعها باتجاه تبني موقف
مختلف حيال الصراع في سوريا، وهذا الأمر يتطلب منا اليوم تجريد إدارة أوباما من أي
مسوغ أو عذر لتبرير سياستها. لن يؤدي نجاح المعارضة في هذا الصدد إلى أي تغيير في موقف
الإدارة، لكنه قد يؤدي إلى كسبنا لتعاطف المزيد من مؤيدي سياسة النأي بالنفس على المستوى
الشعبي، وهو الأمر الذي سيساعدنا مستقبلاً في الضغط على الإدارة الجديدة، سواء
كانت ديموقراطية أو جمهورية. نعم، هذا حساب بعيد الأمد نسيباً، وهو بالضبط نوع
الحسابات التي ينبغي علينا أن ننخرط بها، والتي كان علينا أن ننخرط بها منذ
البداية. فما استمرت حساباتنا السياسية بالتمحور حول الرغبة في التحصل على مكاسب
عاجلة، مهما بدت لنا هذه المكاسب مستحقة وعادلة، سنبقى غارقين في إطار ردود الأفعال،
ولن نتمكن من التأثير على أي قرار دولي فيما يتعلق بقضايانا، وستبقى العدالة
بالنسبة لنا أمراً مؤجلاً إلى ما لا نهاية.
2.
على المعارضة في هذه
المرحلة أيضاً أن تسعى للتواصل المباشر مع الطرفين الروسي والإيراني وكل الأطراف
الدولية الداعمة للأسد، لأن الكثير من الحسابات السياسية لهذه الأطراف قد تتغير مع
الاحتكاك المستمر. ولا ينبغي على ما تقوم به هذه القوى من مجازر في هذه المرحلة أن
يضعف من رغبتنا في التواصل معها، بل عليه أن يغذي هذه الرغبة، خاصة في حال روسيا
وإيران، بالذات لأن وجودهما في سوريا بات يمثل احتلالاً. ألم نتحاور مع المحتل الفرنسي
في السابق؟ وهل كان يمكن لنا دون اقتران المقاومة بالحوار أن نتوصل إلى الاستقلال؟
علينا أن نحسن كيف نتعامل مع الواقع الذي تم فرضه علينا، لكي نتوصل إلى أساليب
جديدة لتغييره.
فالكرامة في هذه
المرحلة تكمن في استمرار النضال، لكن للنضال أوجه وأطوار مختلفة، وما لم ندرك ذلك،
سنخسر الحرب كلها، وليس مجرد معركة.
3.
أما فيما يتعلق
بمسألة التدخل السعودي-التركي، فنحن نسمع هذا الكلام منذ أشهر، ولا ندري مدى
جديته، لكن، وعلى افتراض جديته، فمن المستبعد أن يكون الهدف منه هو الدخول في حالة
صدام مباشرة مع الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً وروسياً، وقد لا يؤثر على
الأوضاع إلا في منطقتي دير الزور الرقة وبعض مناطق الحسكة وشمال اللاذقية وحلب.
وقد يؤدي إلى رفع الحصار على حلب في حال وقوعه في الأسابيع القادمة. وربما أدى إلى
دعم الثوار في إدلب وبعض المناطق الوسطى أيضاً. أما في دمشق وجنوب سوريا، فقد لا يؤدي
إلا إلى تجميد الأوضاع. ويبقى الهدف هنا هو التمهيد لمباحثات أكثر جدية بين
الأطراف في جينيف أو فيينا. هذا هو السيناريو المثالي للتدخل، إذا حدث، وهو يقوم
على افتراض أن إيران وروسيا سيفضلا تجنب التصعيد، وسيرضيا إلى حد ما بالواقع
الجديد الذي سيفرضه هذا التدخل. وقد لا يكون هذا الافتراض في محله على الإطلاق.
وفي حال اختار
الطرفان التصعيد، فالمنطقة قد تتجه تدريجياً نحو صراع طائفي شامل، قد يكون التعويل
فيه على تدخل أمريكي أو حتى أوروبي إلى جانب المحور السني أمراً غير مضمون. في حال
أصر الغرب على النأي بالنفس، فأن توازنات القوى ترجح انتصار المحور الروسي-الإيراني،
بصرف النظر عن الحسابات الديموغرافية، فهناك أكثر من طريقة لتطويع الأغلبيات الهلامية، كما هو الحال مع الأغلبية
السنية العربية، التي لا يمكن لها في الواقع أن تتحول إلى حقيقة سياسية تحت هذا
العنوان.
من هذا المنطلق، ولأن
حسابات القوى الأخرى أكبر من سوريا، في حين لا يخدم استمرار الصراع على أرضنا مصلحة
السوريين على اختلاف خلفياتهم، على المعارضة السورية أن تدرك أن دورها في المرحلة
القادمة يهدف إلى إيجاد توازن ما لمصالح كل الأطراف المتناحرة على أرضها، وأن تكون
صانع سلام أكثر من كونها طرفاً في النزاع. لا أحد يلعب هذا الدور حالياً، ولن
يلعبه أحد أفضل من طرف سوري يتكلم مع الجميع ولا يرهن حساباته السياسية بمصالح أي
طرف ما خلا الشعب السوري بكل مكوناته، طرف ثار أساساً لتحقيق مصلحة الوطن ضد طغمة
لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الخاصة وإن على حساب الوطن.
إن تبني النظام وأتباعه
لشعار "الأسد أو نحرق البلد" قد يصلح لهم، ويتناسب مع عقليتهم ومخاوفهم،
لكنه لا يسوغ للثوار تبني عقلية مماثلة، عقلية شعارها العملي، وإن بقي غير منطوق، "الثورة
أو نحرق البلد." لم تكن الثورة أبداً هدفاً بذاته بالنسبة لمن قاموا بها، ولا
ينبغي لها أن تكون، إنما هي أداة من أدوات النضال المختلفة من أجل تحقيق التغيير
الديموقراطي المنشود، والتوصل إلى مجتمع الحقوق المتساوية. والعمل السياسي وجه آخر
من هذا النضال. ولن تأتي تسوياته وتنازلاته، كما يتوقع البعض، على حساب الهدف
الأساسي، لكن الفرج والعدالة لا يأتيان دفعة واحدة دائماً، بل لا يتحققان في معظم
الأحيان إلا بالتدريج.
لقد أصبحت عودة
الاستقرار إلى سوريا في هذه المرحلة ضرورة كبيرة، وقد يتطلب الأمر قبولنا بتنازلات
ما كنا نتوقعها منذ عام أو أكثر، لكن الواقع أن موازين القوى حالياً ليست في
صالحنا. وفي حال وقع التدخل السعودي-التركي، فهذا لا يعني تجميد العمل السياسي، بل
على العكس، على المعارضة وقتها أن تستغل وقوعه، وهو الأمر الذي سيصب في مصلحتها في
المرحلة الأولى، لتكثيف العمل السياسي بغية تجنب تصعيد روسي-إيراني. وقد تكون التنازلات
المطلوبة في هذه الحال أقل إيلاماً، لكن، علينا أن لا نغامر في المراهنة على حل
عسكري بالكامل، كما يفعل الروس والإيرانيون اليوم. لأن ثمن الخسارة سيدفعه الشعب
السوري أولاً.
باختصار، علينا أن
لا نمتنع عن العودة إلى المحادثات في آخر شباط، إن تم عقدها، لكن علينا أن ندرك أن
صنع السلام هو الهدف الحقيقي لنا في هذه المرحلة. لأن عودة السلام ستسمح لنا في مرحلة
قريبة بمتابعة النضال من أجل بناء مجتمع ديموقراطي، مهما كانت الظروف الصعبة. وفي
هذه الأثناء، على المعارضة أن تواصل تفاعلها مع القوى السياسية المختلفة، ولا
تكتفي بالانتظار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.