الحرة
/ من زاوية أخرى – ناقشنا في المقالة السابقة
ظاهرة الإمبريالية التقليدية وكيف اختار الغرب التعامل معها في النصف الثاني من القرن
العشرين، ونوهنا إلى تفرد الغرب إلى حد ما في تعامله الأكثر مرونة مع هذه الظاهرة،
الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على آليات صنع القرار في الدول الغربية وعلى طبيعة
القرارات نفسها، وذلك في ذات الوقت الذي تصر فيه دول مثل روسيا والصين على تبني سياسات
إمبريالية الطابع بغرض الحفاظ على إمبراطورياتها الموروثة، بصرف النظر عن إرادة شرائح
واسعة من مواطنيها.
ولا تقتصر النزعة الإمبريالية على الدول العظمى فقط. فهي
كما نوهنا نابعة من التركيب الجيني للدول والتجمعات البشرية عموماً. بل ما تزال هذه
النزعة مسؤولة عن تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للدول في معظم أنحاء العالم، وبوسعنا
أن نرى تجليات هذا الوضع في منطقتنا، أي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في الكيفية
التي تتعامل بها دول المنطقة مع بعضها البعض، والتي لا تراعي مفهوم السيادة في الكثير
من الأحيان، وفي كيفية تعامل السلطات المركزية في بعض الدول مع مناطق وشرائح اجتماعية
بعينها. ولهذا بوسعنا أن نتكلم عن مظلومية كوردية في كل من تركيا وإيران، ومظلومية
أمازيغية في شمال إفريقيا، ومظلومية أهوازية وبالوشية في إيران، إلخ.
وما بوسعنا أن نتجاهل في هذا الصدد أيضاً أن المملكة العربية
السعودية قامت على أساس نجاح تحالف مناطقي/قبائلي معين في فرض إرادته وسيطرته على أراضي
قبائل أخرى. ويتوقع بعض الخبراء الدوليين أن تعود هذه القضية المناطقية/القبائلية وتفرض
نفسها على الساحة من جديد في المستقبل القريب مؤدية إلى تفتت
السعودية وانهيارها إلى خمس دول.
لكن، وبصرف النظر عن مدى صوابية هذه التوقعات، يبقى الهدف
من وراء إثارة قضية الإمبريالية هنا التنويه إلى أمرين أساسين، أولهما الطبيعة
المعقدة لذلك الجدل الكبير حول ظاهرة الإمبريالية في الغرب الذي ما يزال محتدماً
فيه منذ أكثر من قرنين، وما يزال له تأثيره الكبير في تشكيل السياسات الغربية. ولا
ننسى في هذا الصدد نجاح المعسكر المناهض للحرب في المملكة المتحدة في إفشال القرار
البرلماني بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري عقب الهجمة الكيماوية في الغوطة في آب
2013، وهو الحدث الإشكالي الذي تم فيه الخلط ما بين مفهومي الإمبريالية والتدخل
الإنساني، الأمر الذي يكشف لنا مدى تعقيد الجدل الدائر في الغرب في هذا الصدد.
لكن، وفيما يستمر الجدل حول الإمبريالية في دول الغرب، لا
يخفى علينا ذلك التغييب المستمر لأي حوار جدي حول هذا الأمر في معظم الدول الأخرى،
إلا في ما يتعلق بإدانة بل وتجريم التجربة الغربية. لا وجود هنا لأي بعد أو انعكاسات
داخلية لهذا النقاش، أو لأية محاولة لإلقاء الأضواء على الإرث والتجربة التاريخية الوطنية.
فالإمبريالية بالنسبة لهذه الدول جريمة تُرتكب بحقها فقط ولا يمكن لها أن تنبع عن ممارساتها
وسياساتها، هذا على الرغم من إصرار هذه الدول على الاحتفاء بماضيها الإمبريالي
"المجيد" ومحاولتها اليائسة الحفاظ على ما تبقى من "مكتسباته،"
مادية كانت أو معنوية.
إنها لثنائية خطيرة بالفعل، لكنها إن دلت على شيء فعلى ضرورة
الربط ما بين قضية بث الثقافة الديموقراطية من جهة، وقضية مناهضة الإمبريالية من جهة
أخرى. فالإمبريالية على أرض الواقع، وبخلاف الخطاب الإعلامي والثقافي السائد عالمياً،
تبقى أكثر ارتباطاً بسياسات الدول الاستبدادية منها بسياسات الدول الديموقراطية. والدليل
أن الولايات المتحدة تخطط هي وحلفاؤها لمغادرة العراق منذ اللحظة الأولى لغزوه، في
حين جاءت القوات الروسية إلى سوريا وفقاً لاتفاقيات تسمح لها بالبقاء لأجل غير مسمى،
بل وبتوسيع قواعدها ونفوذها أيضاً. وتنطبق الملاحظة نفسها على الوجود الإيراني في سورية
أيضاً.
علينا أن لا نسمح للأخطاء التي ترتكبها الدول الديموقراطية
ولفشلها الحيني في لجم نزعتها الإمبريالية أو العدوانية، بصرف النظر عن الأسباب والمبررات،
أن تعمينا عن ضرورة التحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول، وعن ضرورة
تبني الثقافة الديموقراطية ككل، في مواجهاتنا المتكررة مع تلك الأنظمة والدول التي
ما تزال سياساتها الداخلية والخارجية تنم عن نزعة إمبريالية متجذرة لم تخضع بعد لأي
مراجعة فكرية أو أخلاقية.
وما لم يتماش العمل من أجل نشر الديموقراطية مع العمل على
مناهضة الإمبريالية التقليدية سنجد أنفسنا نقع مراراً وتكراراً في مطب الخلط ما بين
الإمبريالية وبين التدخل الإنساني أو ضرورات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو غيرها
من القضايا التي تتطلب بطبيعتها تدخلاً إقليمياً أو دولياً ما، الأمر الذي يؤدي إلى
خلق فراغ وتبني سياسات تصب في خاتم المطاف في مصلحة القوى الإمبريالية والاستبدادية
في جميع أنحاء العالم. ولنا فيما حدث ويحدث في سورية خير مثال على ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.