الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الدولة الحداثية والهوية والحركات الانفصالية

أحتفالات في أربيل بنتائج استفتاء الاستقلال - 29 أيلول، 2017

الحرة / من زاوية أخرى – إذا عرّفنا الدولة الحداثية على أنها ذلك الكيان الذي يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل من فيه من أفراد ومكونات، فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يتماهى مع الهوية الخاصة بأي من مكوناته المؤسسة، سواء كان الأمر يتعلق بالهوية القومية أو بالانتماء الديني أو بعقيدة سياسية بعينها
.

من هذا المنطلق، تمثل المساعي الانفصالية المختلفة والرامية إلى تأسيس دول جديدة قومية الطابع خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بعمليات التحديث والتطوير المجتمعي، سواء تجلّت هذه المساعي في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب. والأمر نفسه في الواقع ينطبق على تلك المساعي الهادفة إلى إعادة تشكيل دول قائمة على أسس دينية أو أيديولوجية، كالدعوة إلى أسلمة الدول أو تبني الشريعة الإسلامية كقانون ناظم لها. لكنا سنركز نقاشنا هنا على الحركات القومية بالذات.

لا يعني كلامنا السابق بالضرورة أن كل حركة انفصالية تشكل بالضرورة حركة رجعية من الناحية الفكرية والقيمية. إن التركيز شبه الحصري على البعد القومي هو الأمر الإشكالي هنا، وهو ما يسم الكثير من هذه الحركات بصفة الرجعية. والمثير في الموضوع عند تعاملنا مع هذه الظاهرة هو أن معظم الحركات القومية الانفصالية جاءت كردة فعل على الاضطهاد الذي تعاني منه قوميات معينة في إطار دول محكومة من قبل أنظمة وتيارات قومية التوجهات بدورها، أي أن معظم مؤيدي هذه الحركات يدركون تماماً حجم المخاطر التي غالباً ما تنجم عن تبنّي توجهات قومية في ما يتعلق بتعريف الدولة وحكمها. ومع ذلك لا يرى أصحاب هذه التيارات أي تناقض ما بين طروحاتهم وتوجهاتهم القومية وبين واقع الاضطهاد والتهميش الذي يحاولون الهروب منه، على الرغم من أنه سيكون لزاماً عليهم، فيما لو تكللت مساعيهم الانفصالية بالنجاح، أن يتعاملوا مع تحديات مماثلة، أي تحديات ناجمة عن وجود قوميات أخرى في إطار "وطنهم القومي" المنشود، قوميات قد يكون لها رؤية وتفسير مختلفان تماماً للتاريخ وللحدود، علاوة على مخاوفها المشروعة في ما يتعلق بمستقبلها في هذا الوطن الجديد. هذا ناهيك عن الإشكالية الناجمة عن أن قيام دولة قومية جديدة غالباً ما يأتي على حساب تفتيت دولة قومية قائمة وبالتالي على حساب الرؤية القومية الخاصة للتيارات والشرائح النافذة فيها. ولهذا، غالباً ما تؤدي هذه "الإشكالية" إلى اندلاع حرب ضروس نادراً ما يحسمها قيام هذا الكيان القومي الجديد، حتى في حال حصوله على اعتراف دولي.

يكمن المخرج من هذه الورطة في التركيز على المطالبة بالعدالة والحقوق الأساسية والأمان، وفي إدراك أن الانفصال لا يزيد عن كونه مجرد أداة من الأدوات التي يمكن لها أن تحقق هذه المطالب في بعض الظروف. لكنه يبقى الأداة الأكثر راديكالية، كما أن قدرته على تحقيق هذه المطالب ليست فورية في معظم الأحيان، كما تدلنا السوابق التاريخية. لذا، لا ينبغي اللجوء إليه إلا في حال فشل الأدوات الأخرى.

لقد رأينا أية شرور انبثقت من مجرد التلويح بالانفصال في كل من كوردستان العراق وكاتالونيا، وبوسعنا أن نتابع ما يحدث اليوم في جمهورية جنوب السودان التي انفصلت ولم يتحقق فيها لا الإمان ولا الاستقرار ولا الحرية، بل لم تنته مواجهاتها بعد مع النظام في الخرطوم. ورأينا ما حدث في السابق في البلقان الذي ما تزال الأوضاع الأمنية في دوله الجديدة معرضة للانهيار في أية لحظة.

نعم، لقد تحقق الانفصال في تشيكوسلوفاكيا دون حرب، ولم يسفر الاستفتاء في استكلندا عن أية اضطرابات أو قلاقل اجتماعية، وما كان من المتوقع له أن يسفر عن أية ممارسات عنفية حتى في حال جاءت نتيجته بالإيجاب، وكذلك الأمر في ما يتعلق بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروربي والذي يمثل نوعاً من الانفصال. وهنا بيت القصيد. لقد لعبت البنية المجتمعية والمنظومة السياسية الخاصة بهذه الدول دوراً كبيراً في قيادة الحوار وتشكيل الإطار الخاص بالعمليات السياسية المتعلقة بقرار الانفصال، هذا علاوة على قضية التوقيت وعلى الشروط الإقليمية والدولية الخاصة التي كانت سائدة في تلك اللحظات الحرجة التي حدثت فيها هذه العمليات وتم فيها اتخاذ القرارات الحاسمة.

على المطالبين بالانفصال أن يأخذوا كل هذه الأمور والشروط والسوابق بعين الاعتبار وأن يوازنوا ما بين رغباتهم ومطالبهم الخاصة، مهما بدت لهم مشروعة، وبين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف السائدة حالياً على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي. وإذا كانت النخب السياسية المسؤولة عن قيادة الحركات الانفصالية المختلفة تعاني في هذه المرحلة من خلخلة أو تشرذم ما ومن عدم استعداد للالتزام بشكل مناسب بالعملية الديموقراطية في عملها بما في ذلك القبول بالمساءلة الشعبية وبقواعد الشفافية وتداول السلطة والابتعاد عن المحسوبيات، فمن حق المرء، بل يتوجب عليه أن يتساءل عن طبيعة الدولة المستقلة التي ستديرها هذه النخب.

إن في التركيز على تحقيق الانفصال في هذه المرحلة، بل وعلى التعامل مع مفهوم الانفصال وكأنه الطرح الأمثل لتحقيق العدالة، تبديدا للطاقات الحيوية للشعوب المعنية، والتي ستعطي مفعولاً أكبر فيما لو جُيرت للمطالبة بالتزام أكبر من نخبها السياسية بأسس العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وبالعمل على تحقيق إدارة أكثر فاعلية لعمليات التنمية المحلية، إلى آخره من تلك القضايا التي يتم التعامل معها وكأنها مسائل فرعية في حين أنها تشكل حجر الأساس في ما يتعلق بقيام الدول العادلة القادرة على تحقيق الأمان لشعوبها، ولكل مكون من مكوناتها بصرف النظر عن خلفيته القومية أو الدينية أو المذهبية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.