الحرة / من زاوية أخرى
– لا يمكن اختزال مشكلة التطرف الفكري في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة في مسألة
المعتقدات وحدها، فالتطرف ظاهرة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر منها ظاهرة
فكرية ودينية. ولا يشكل وجود سوابق تاريخية وفكرية للتطرف في الإسلام أو نصوصاً إشكالية
في كتبه المقدسة مبرراً لهذا الاختزال أو ظاهرة فريدة في تاريخ الأمم والأديان، فهناك
سوابق لهذا الأمر في معظم الأديان والمجتمعات التقليدية. وغالباً ما يقتصر دور الفكر
والعقائد على التبرير والتحريض والتجييش لخدمة مخططات ومصالح لا علاقة للدين بها لا
من قريب ولا بعيد.
لا
نهدف من خلال هذه الملاحظة إلى التقليل من أهمية البعد العقائدي في ظاهرة التطرف، وبالتالي
إلى التقليل من ضرورة إصلاح الفكر الديني، لكن فهماً أعمق لدور الدين والعقيدة هنا
سيساعدنا بلا شك في ترتيب أولياتنا وفي التعامل مع تحدي الإصلاح الديني بشكل أفضل وأنجع.
فإذا
كان ثمة إشكال في ما يتعلق بالمقدسات والمعتقدات في هذا الأمر فلن نجده في الإسلام كظاهرة استثنائية،
أو في أي دين بعينه إذا ما توخينا الدقة، ولكن في ذلك التناقض ما بين بعض المعتقدات
والنزعات التقليدية من ناحية، وبعض معطيات الحداثة بظروفها وشروطها الموضوعية الخاصة
والقيم الناجمة عنها من ناحية أخرى، وهذا إشكال يواجه كل الأديان والمجتمعات التقليدية
ولا يقتصر على الإسلام والمجتمعات ذات الغالبية المسلمة.
لذا،
يتطلب التعامل الناجع مع قضية التطرف في هذه المجتمعات أن نبتعد عن إغراءات الاختزال
والتبسيط، والتي غالباً ما تنجم عن تعصبات معينة نابعة عن إشكالات الهوية، إثنية كانت
أو مذهبية، فيرى بعض المسيحيين أن مشكلة التطرف توجد في الإسلام ذاته، أو يرى بعض الشيعة
أن المشكلة تقع عند أهل السنة تحديداً، أو العكس، أو يرى بعض الأكراد أن المشكلة تنجم
أساساً عن "العقلية العربية الصحراوية،" إلخ. علينا أن نتجاوز كل هذه النزعات
اللاعقلانية وأن نواجه العوامل الحقيقية وراء ظاهرة التطرف في مجتمعاتنا والتي طالت
كل مكوناتها بلا استثناء، وهي عوامل بنيوية الطابع تبدو أكثر ارتباطاً بالمنظومة الإدارية
والسياسية للدولة وطريقة تعاملها مع مسألة الحكم والهوية منها بالفكر والدين، خاصة
في المراحل التالية للمرحلة التأسيسية للدول في منطقتنا.
ومن
هذه العوامل فشل المنظومة التعليمية الرسمية في ترسيخ المفاهيم والقيم الثقافية الحداثية،
وسوء إدارة عمليات التنمية الوطنية أو إهمالها تماماً، خاصة في مناطق بعينها، وذلك
نتيجة لاعتماد الأنظمة الحاكمة على الولاءات عوضاً عن الكفاءات عند القيام بتوزيع المناصب
والوظائف الرسمية، أو كجزء من سياسة خاصة حيال هذه المناطق استناداً إلى اعتبارات إيديولوجية
أو إثنية أو مذهبية، إلى آخر ما هنالك من عوامل.
وعلينا
التعامل مع مسألة الإرهاب من المنطلق ذاته فنتجاوز إشكالية الاختزال والتبسيط. فالإرهاب
اليوم يمثل ظاهرة إقليمية وعالمية أمنية بامتياز ومرتبطة بدول وأجهزة ومصالح وصراعات
بعينها. إذ لا يمكن للمنظمات الإرهابية أن تتواجد وتنتشر على النطاق الواسع الملحوظ
حالياً من دون دعم مستمر وممنهج من قبل حكومات وجهات أمنية معينة. ولا نشير هنا إلى
الحكومة الأميركية والـ سي. أي. إيه.، كما جرت العادة في أدبياتنا المعاصرة، بقدر ما
نوجه أصابع الاتهام إلى حكوماتنا الإقليمية وأجهزتها الأمنية، والتي انضم إليها الروس
مؤخراً. أي أن دود الخل منه وفيه، كما يقول المثل الشامي.
إن
استغلال الحكومات الإقليمية لسلاح الإرهاب، أولاً تحت مسمى المقاومة، ومن ثم ابتداعها
لقضية محاربة الإرهاب والإرهابيين، وتجيير كلا الأمرين لخدمة مصالحها الفئوية الخاصة،
ولإدارة صراعاتها البينية، ولإحكام قبضتها على المجتمعات المحلية، سبق بعدة عقود إعلان
أميركا لحربها العالمية الخاصة على الإرهاب. ولقد جلب علينا هذا الوضع ويلات أكثر وأكبر
وأخطر وأعمق مما جلبه التدخل الأميركي في العراق والمنطقة عموماً.
إن
الحجم الديموغرافي للمسلمين وانتشارهم في جميع أنحاء العالم علاوة على طريقة تعامل
الإعلام العالمي والإقليمي مع ظاهرة الإرهاب ككل يولد انطباعاً عاماً يحعلها تبدو أكثر
ارتباطاً بالإسلام والمسلمين من غيرهم، وهذا يخدم مصالح الإرهابيين الإسلاميين أنفسهم،
فالإرهابي يريد أن يُعرف لأن هذا الأمر يساعده على الترويج لرسالته وعلى كسب الدعم
والمؤيدين.
لكن
الإرهابي في الواقع ليس سيد نفسه، وغالباً ما يتم استغلاله، بمعرفة عنه أو جهل، لخدمة
مصالح وقوى إقليمية معينة. ولا شك في أن هذا الارتباط ما بين الدول والأنظمة الإقليمية
من ناحية، والإرهاب من ناحية أخرى، يعقد إلى نحو كبير عملية محاربة التطرف في مجتمعاتنا
ويعرقلها. فأنظمتنا السياسية، وبصرف النظر عن ادعائاتها وتبجحاتها المتكررة، بحاجة
دائمة إلى وجود المتطرفين والإرهابيين في أوساطنا كونهم يشكلون أحد أدواتها الأساسية
في الحكم، وستبقى هذه الأنظمة بالتالي الراعي والداعم الأكبر للتطرف والإرهاب في مجتمعاتنا،
ونكاد في تأكيدنا هذا لا نستثني أياً من الأنظمة الحاكمة في منطقتنا.
ومن
هنا بالذات ينبع ذلك الارتباط البيني المصيري لقضايا التوعية والتحديث والدمقرطة والمعارضة
السياسية في مجتمعاتنا. ونظراً لهذا كله، لن يكون التغيير سهلاً أبداً، وليس من الغريب
على الإطلاق أن تجد شعوبنا أنفسها مراراً وتكراراً غارقة في دوامة العنف والقتل والدمار.
سيطول
هذا المخاض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.