السبت، 14 أكتوبر 2017

التيارات الديموقراطية الشرقأوسطية وضرورة التحالف مع الغرب

ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ.



الحرة / من زاوية أخرى – بدى للكثير من الناس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة عقب ثورات أوروبا الشرقية المخملية في أواخر القرن المنصرم أن ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم أصبحت في طريقها للانقراض، وأن تأسيس نظام عالمي جديد قائم على الديموقراطية والليبرالية، على الأقل في ما يتعلق بمبادئه الاقتصادية، بات أمراً وشيكاً.

من هذا المنطلق، لا شك أن لعودة روسيا اليوم إلى الساحة السياسية العالمية مصحوبة بالإنجازات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لإيران، وباستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في الصين وتمدد نفوذها عبر العالم، علاوة على نجاح الكثير من الأنظمة الاستبدادية التقليدية في البلدان النامية في الحفاظ على بقائها في وجه ثلة من التحديات الداخلية والخارجية وبعد أن بدت آيلة للزوال في تلك الفترة الواعدة، لا شك أن لهذا كله وقعاً سلبياً كبيراً عند كل من بنى آماله وتوقعاته على انتصار وشيك للنظام الديموقرطي الليبرالي.

لكن هذه العودة لقوى الاستبداد والرجعية ليست مفاجئة في الواقع، فهي لم تختف عن الساحة أساساً، وما كان يمكن للأسباب والعوامل التي أدت إلى ضعفها المرحلي أن تستمر إلى الأبد أو أن تمهّد الطريق إلى ذلك التغيير الجذري المرجو بالسرعة التي توقعها أو حلم بها الكثيرون. إذ لا تمثل هذه القوى ظاهرة طارئة في المجتمعات، بل هي في الواقع امتداد لإرث حضاري تراكمي قديم لا يمكن له أن يتغير أو يتطور إلا من خلال المرور بذات المراحل التي مرت بها ديموقراطيات الغرب، بما في ذلك من كر وفر، من مد وجذر، ومن صراعات وانتكاسات.

قد يرغب البعض في حرق المراحل، عن طريق المواجهات الثورية مع النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية المستفيدة من استمرار الأطر التقليدية مثلاً، لكن تحديات تشكيل الوعي الجمعي وصياغته لا تسمح بذلك، والثورات الشعبية لا تؤتي أُكُلها إلا بعد أجيال من النضال والعمل المنظم، وتبقى نتائجها مرتهنة بقدرة النخب الثورية على الارتقاء إلى التحديات التنظيمية الخاصة بكل مرحلة وكل جيل. فالمعرفة وحدها لا تكفي هنا، وإطلاع المرء على تجارب التغيير في المجتمعات الأخرى وتبنيه لأفكار مختلفة عن تلك التي نشأ عليها لا يكفي بالضرورة لإحداث تغيير جذري في تصرفاته وسلوكياته. والقضية أصعب بكثير على المستوى الجمعي. ولنا في التناقض الصارخ ما بين أفكار الليبراليين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وتصرفاتهم الشخصية خير دليل على ذلك، كما سبق ونوهنا في مقال سابق.

لقد مر أكثر من قرن على دخول الأفكار الحداثية إلى مجتمعاتنا وتغلغلها فيها، ومع ذلك، وفيما خلا بعض القشور والمظاهر، ما تزال النزعات التقليدية والإيديولوجيات السياسية المتمحورة حولها أكثر قدرة على تحديد الأنماط السلوكية السائدة في مجتمعاتنا من الأفكار والقيم الحداثية.

وفي الواقع، مازالت المجتمعات الغربية نفسها تعاني من هذا التناقض، على الرغم من أنها تمثل الحاضنة الأساسية للحداثة. وها نحن نرى كيف تعاني هذه المجتمعات اليوم من عودة صراعات الهوية إلى الساحة بما في ذلك حنين صريح ومعلن إلى تأكيد الخصوصية القومية والعرقية والدينية للغرب عموماً، وللمجتمعات المختلفة فيه، وإن أدى ذلك إلى تراجع في ما يتعلق بالالتزام بالقيم الديموقراطية والليبرالية.

فحتى في الغرب إذن، ما تزال المعركة من أجل الديموقراطية مستمرة، لأنها في جوهرها معركة ضد نزعات متأصلة في نفوسنا كبشر، ولا يمكن لمعركة كهذه أن تنتهي أبداً، كما لا يمكن لها أن تُخاض في الغرب وحده. فها نحن نرى كيف سمح التراجع الغربي على الساحة العالمية إلى عودة روسيا (وغيرها من القوى التقليدية) إليها، بأحلامها الإمبريالية القديمة إياها، بل، وكيف شجعها هذا التراجع على إعلان الحرب على الديموقراطيات الغربية من خلال تلاعبها الإلكتروني بالانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.

من هنا تنبع حاجة الغرب المستمرة إلى بسط نفوذه خارج حدوده الجغرافية، فهو ما لم يخض المعركة خارج حدوده سيخوضها داخلها. لذا، وكما عادت روسيا والنظم الاستبدادية الرجعية إلى الساحة الدولية بعد غياب، لن تطول مرحلة التراجع الغربي التي نشهدها اليوم.

من ناحية أخرى، هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم، ومهما تلكأت الحكومات المعنية هنا فهي لن تتلكأ طويلاً، بل لا يمكن السماح لها بذلك، ومهما أخطأت في تناولها لملف الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأخفقت في التوفيق ما بين مصالحها المادية وهذه القضايا، علينا أن لا نسمح لهذه الأخطاء أن تعمينا عن ضرورة إيجاد طرق للتحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول (راجع مقالي السابق: عن الإمبريالية والديموقراطية – 2)، إذ ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. كما لا يمكن لنا أن ننتصر في مواجهاتنا مع أنظمتنا الرجعية المختلفة دون هذا التحالف، لأن هذه الأنظمة ومهما تناحرت ما بينها تعرف متى تتحالف مع بعضها البعض في مواجهاتها المستمرة مع شعوبها.

ويمثل السعي وراء قيام هذا تحالف القوى الديموقراطية هذا وفي هذا الوقت بالذات التحدي الحقيقي الذي ينبغي على كل العاملين في مجال الديموقراطية والتنمية في مجتمعاتنا التصدي له.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.