الاثنين، 6 نوفمبر 2017

نحو مفهوم جديد للأخلاق

"لا يمكن للتغيرات السلوكية، لا على الصعيد الفردي ولا الجمعي، أن تتحقق دون الاعتراف أولاً بوجود أبعاد ثقافية واجتماعية ونفسية عميقة لها، ودون مراجعة فكرية وسلوكية مستمرة، ودون الالتزام بعمليات دورية من المصارحة والمكاشفة والمساءلة، ودون استعداد لقبول النقد والتصحيح بنسبة معينة من الأريحية."
















الحرة / من زاوية أخرى – عندما تكون النزعة السلوكية متأصلة في النفس البشرية، سواءً على المستوى الفردي أو الجمعي، نتيجة لارتباطها بسمات وراثية معينة و/أو بالشروط الأولية المتعلقة بالبيئة الحاضنة، بما في ذلك طبيعة التركيبة الأسرية ودور الدين والتقاليد في المجتمع وطبيعة النظام السياسي القائم، إلى آخر ما هنالك من شروط، لا يمكن للفكر وحده أن يتغلب عليها ويتجاوزها في لحظة معينة، بل يتطلب الأمر الالتزام بعملية رقابية جادة ومستمرة ومتعددة الأوجه للنفس وللمجتمع وذلك لتجنب الارتكاس إلى السلوكيات القديمة من خلال طرحها ضمن قوالب اجتماعية وسياسية جديدة أو تقديم مبررات فكرية جديدة لها.

على سبيل المثال، يمثل ميل الجماعات والدول إلى فرض نفوذها خارج إطار تواجدها الجغرافي نزعة قديمة ومتأصلة في السلوك الجمعي للبشر، نزعة كانت لها مبرراتها المادية والفكرية في كل مرحلة تاريخية للمسيرة الإنسانية، وفي كل حضارة ومجتمع. لذا، وعلى الرغم من بروز وانتشار أفكار ومفاهيم جديدة في المجتمعات الغربية في القرون الماضية حول حقوق الإنسان والإخوة والعدالة والمساواة، لم تتمكن هذا الظاهرة من لجم النزعة الإمبريالية التوسعية عند هذه المجتمعات، بل، على العكس، فقد ساهمت هذه الأفكار بتزويد مجتمعاتها الحاضنة بمبررات فكرية جديدة لبسط نفوذها خارج حدودها عن طريق الحروب التوسيعية والنشاطات الاستيطانية، مثل مبدأ "المهمة التحضيرية Mission Civilisatrice" و إطروحة "عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden،" كما نوهنا في مقال سابق.

أما على الصعيد الفردي، فقد تعطينا سلوكيات الرجل حيال المرأة مثالاً مناسباً في هذا الصدد، خاصة في هذه اللحظة الحرجة التي تشهد نقاشات متشعبة وحادة حيال قضايا مثل الاغتصاب والتحرش الجنسي في مجتمعات ودول عديدة. إذ لا يمكن للتغيير أن يحدث هنا جراء اقتناع الرجال بوجهة النظر النسوية المنادية بالمساواة الإنسانية والقانونية والاجتماعية وحسب، فغالباً ما تقترن تصرفات هؤلاء الرجال، بصرف النظر عن تصريحاتهم وتأكيداتهم، بتناقضات تنمّ عن عدم قدرتهم على استيعاب المضمون السلوكي الحقيقي لقناعاتهم المعلنة، أو على تمثّله إلى درجة يتلاشى معها البعد الفوقي والوصائي، إن لم نقل الاستغلالي، في تعاملهم مع المرأة.

وليس هذا بالأمر الغريب، وإن كان مستهجناً. ففي الواقع، لا يمكن للتغيرات السلوكية، لا على الصعيد الفردي ولا الجمعي، أن تتحقق دون الاعتراف أولاً بوجود أبعاد ثقافية واجتماعية ونفسية عميقة لها، ودون مراجعة فكرية وسلوكية مستمرة، ودون الالتزام بعمليات دورية من المصارحة والمكاشفة والمساءلة، ودون استعداد لقبول النقد والتصحيح بنسبة معينة من الأريحية.

ولا شك في هذا الصدد في أن المجتمعات الديموقراطية تبقى أكثر قدرة على توفير المناخ الحر اللازم للانخراط في عمليات من هذا النوع. بل بوسعنا الجزم هنا أن هذه العمليات بالذات تمثل مفتاح تقدم هذه المجتمعات ومنبع قوتها الحقيقية، وذلك على الرغم من الأزمات والفضائح التي تفرزها بين الحين والآخر، إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي. إذ تبقى المجتمعات الديموقراطية أكثر قدرة على التأقلم مع الأزمات وتوابعها من خلال التغيرات الدورية للشخصيات الفاعلة في صياغة القرارات فيها، ومن خلال نشاطات المنظمات والناشطين المدنيين والشخصيات الاعتبارية الأخرى من باحثين وأكاديميين وفنانين، ومن خلال تداول السلطة بين التيارات السياسية المختلفة، ومن خلال تغيير هذه التيارات لأولوياتها السياسة بناءً على الضغوط والمساءلة الشعبية من ناحية، وعلى نشاطات مراكز الأبحاث واللوبيات من ناحية أخرى. لا تتوفر هذه المرونة في المجتمعات الاستبدادية والتقليدية، وهذا ما يرشح كل قضية فيها، مهما بدأت جزئية، مثل حق المرأة في التجنيس أو قيادة السيارات أو تولي المناصب العامة، للتحول إلى أزمة وجودية متعددة الأبعاد في حال اختارت بعض القوى السياسية تجييرها لذلك.

لذا، ونظراً لكل ما سبق، يبدو واضحاً أن التغيير المنشود في مجتمعاتنا الشرق أوسطية هو تغيير قيمي وسلوكي بالدرجة الأولى، أي تغيير ناتج عن تحديث مفهومنا للأخلاق ذاته، وهو الأمر الذي يتطلب إفراز طفرة ما في وعينا الفردي والجمعي. وتعلمنا التجربة التاريخية هنا أن طفرة من هذا النوع لا يمكن أن تحدث دون الخوض في آتون تجارب ومحن صعبة من النوع الذي نراه في مجتمعاتنا اليوم.

وفي خضم هذا كله، وكما أكدنا في مقال سابق، "ما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية." ويتطلب هذا الأمر بدوره العمل على التنسيق ما بين النشاطات الرامية إلى تحديث المجتمعات وتلك المنادية بالحريات وبالديموقراطية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.