صورة للمحادثات الحالية في جنيف التقطها أحد الناشطين |
أولاً، أنوه إلى أني قد أكون مخطئاً في تحليلي السابق
بأن السعودية هي من يضغط باتجاه المقاطعة، لكن ذلك لا يغير من كون القرار ذاته خاطئاً
للأسباب التي ذكرت. لذا، لا بد من الترحيب والإشادة بموافقة المعارضة على حضور محادثات
جنيف بوفد مصغّر، وعلى إصرارها على طرح الملفات الإنسانية قبل كل شيء. فعلى الرغم
من كون مبررات قرار المقاطعة قوية من الناحية الأخلاقية والإنسانية، يبقى القرار مجانباً
للصواب من الناحية العملية.
لأن في الإصرار على المطالبة بمقاطعة عملية
جنيف دعوة عملية إلى ترك الساحة السياسية لصالح شخصيات يدعي الكثيرون منا أنها لا تمثل
إلا نرجسياتها المريضة لتقوم هي بتمثيل الشعب السوري المعارض في جنيف، فيما ينكفئ معظمنا
إلى سياسة رفع الشعارات والتشكّي ضد ظلم العالم لنا وإجحافه بحقنا، دائماً وأبداً،
ورفع الأصوات بالدعاء على الظالم، وتسليم أمرنا لله، أو للبروليتارية، مما يعني من
الناحية العملية أن الشيطان هو من سيتلقفه كالعادة. إذ لا قيمة لتوكّل من لا يعقل.
لكن، وفيما يبدو، فأن الكثير منا لم يتعلموا
شيئاً بعد من التجربة الفلسطينية، وقد لا يتعلمون أبداً، لأن مواقفهم الإيديولوجية
تحول دون ذلك. يريدون أن يتحصلوا على كل شيء قبل بدء التفاوض باسم الحفاظ على كرامتنا،
لكن، لهذا بالذات لا كرامة لنا. إذ لا تكفي أن تكون مطالبنا عادلة ومنطقية، فما لم
تكن أساليبنا عقلانية ومدروسة وعملية، لن نتحصل على شيء منها.
التفاوض ليس تخاذلاً، والنضال من أجل الحرية
لا يؤتي أكله دفعة واحدة، بل قضمة بعد أخرى، والفتات الذي نترفع عنه اليوم، ونتركه
للآخرين، هو بالذات ما قد يتحول إلى وجبة دسمة لاحقاً، فيما لو عرفنا كيف نستثمره.
كل تنازل نحصل عليه اليوم مكسب ومغنم، فمع كل تنازل، مهما كان صغيراً، ينزل النظام
من علياء إجرامه ونحو حتفه درجة.
نعم، النظام هو المعرقل الحقيقي أمام الحلول
والمباحثات الجدية، لكن، لا يكفي أن نعرف نحن ذلك، ولا يكفي أن يدرك بعض مؤيدي قضيتنا
ذلك، لا بد أن تكون حقيقة هذا الأمر ساطعة لدى الجميع فلا يجرؤ أحد على إنكارها ولا
نفسح المجال أمام أحد ليلقي باللوم علينا، كما يحدث اليوم، كما يفعل ديمستورا ذاته
الذي يأتي كلامه وتصرفاته من فراغنا نحن، وليس من عمالة مزعومة أو تحيز. نعم، نحن نقتل،
ونحن نلام، لأننا لم نتمرس بعد إلا بفن الشكوى، وما انفكينا نداري تخبطنا وحيرتنا تحت
ستار الحفاظ على الكرامة، لكن لا كرامة لأحمق.
نعم إن ديمستورا يدرك تماماً أنه يضغط على الطرف الأضعف في المعادلة، لأنه يدرك تماماً حقيقية الموقف الدولي: 1) تركيز "حلفائنا"
الدوليين على قضية داعش أولاً، ثم اللاجئين ثانياً، 2) تخاذل وضعف وتخبط حلفائنا
الإقليميين، وأخيراً 3) موقف روسيا وإيران القوي الداعم للنظام.
لن يغير من هذه الحقائق إلا تحرك قوي
لحلفائنا الإقليميين، وهو أمر لايبدو أنه مطروح من الناحية العملية، ولقد طال
انتظارنا له. هذا علاوة على أن هذا التحرك قد لا يؤدي إلا إلى تسعير الحرب وتوسيع
رقعة الدمار والتهجير، والتعميق من الكارثة الإنسانية التي تواجهنا.
لا علاقة لحسابات ديمستورا إذاً بعمالة ما،
أو حمق، أو لا مبالاة، بل تنبع من فهم عميق للحسابات والتوازنات الدولية
والإقليمية، ولطبيعة مهمته بالذات: وقف النزيف والدمار في سوريا لإتاحة المجال
أمام المجتمع الدولي لمواجهة داعش، وللحد من الهجرة إلى أوروبا عن طريق تطبيغ خطة
تم التوافق عليها فيما سبق: تشكيل حكومة انتقالية واسعة الصلاحيات، وضع دستور
جديد، والتمهيد لانتخابات رئاسية في المستقبل القريب نسبياً.
نعم، هناك خروقات من قبل النظام، نعم هناك
تعنت، نعم هناك انتهاكات مستمرة من قبل النظام، وحصار، وتجويع، ونعم، حزب الله وروسيا
وإيران، كلهم متورطون، لكن الواقع أم هذه الانتهاكات لن تتوقف، أو لكن أكثر
واقعية، يخف وقعها، حتى يتم التوقيع على اتفاق ما ضمن الخطوط العريضة المذكورة، وهي،
كما نوهت سابقاً، تعطينا الكثير، وتشكل منعطفاً هاماً نحو تحقيق ما نريد، وبداية
النهاية للحرب وللنظام.
إذاً، علينا أن نشكو ونفاوض في آن، نماطل
لكن لا نعرقل، نراوغ لكن لا نقاطع، نهدد وإن كنا ضعفاء، لكن ليس إلى الدرجة التي
تسمح للطرف الآخر بمطالبتنا بتنفيذ تهديدنا فنكشف عن ضعفنا.
الكل يعرف من يقوم بالقصف والتجويع في
سوريا، لكن القضية السورية لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً من حسابات سياسية واستراتيجية
دولية وإقليمية معقدة لا علاقة للقيم الإنسانية والأخلاقية بها. وبالتالي، قد لا تتلكأ
القوى الدولية والإقليمية كثيراً أمام هذا الأمر، بل بمعاينته من منظور مصالحها
الأخرى، وعلى ديمستورا العمل ضمن التوازنات والحسابات القائمة في هذه اللحظة.
فمن المنطلق الإخلاقي والإنساني البحت، هناك
ما يكفي من الأدلة لإدانة الجميع، أينما كانوا في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب،
في الدول النامية أو المتطورة، وأي كانت خلفياتهم القومية أو الدينية أو المذهبية
أو السياسية أو الفلسفية. لقد أثبت التاريخ أن كل الدول وكل الحضارات تبقى وفي كل
زمان ومكان على أهبة الاستعداد لخيانة مبادئها، أو تجييرها واستغلالها، لخدمة مصالحها،
كما تراها الفئات المتحكمة في صنع القرارات فيها. والفرق الوحيد، والهام، ما بين
الدول الاستبدادية والديموقراطية في هذا الصدد يكمن في مدى تقاطع مصالح النخب صانعة
القرار مع مصالح الشعوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.