إن
طبيعة النظام الحاكم في سوريا، والتي تتقاطع وتتشابك من خلالها المصالح السياسية
والاقتصادية والمالية والاجتماعية والأمنية لتجمّعات عائلية وفئوية وطائفية وحزبية
معينة مع بعضها، وتحكّم هذه المصالح آليات إدارة مؤسّسات الدولة محوّلة إياها إلى
أدوات لفرض هيمنة النظام وسيطرته على كافة شرائح المجتمع، تجعل من الإصلاح أمراً
مستحيلاً، حتى وإن شمل الإصلاح إزاحة حاكم البلاد وغيره من المسؤولين الكبار عن
مناصبهم. إن ما تحتاجه سوريا اليوم من أجل تحقيق الهدف الأساسي الذي نصبه الثوار
أمام أعيننا هو إجراء ثورة شاملة يتم من خلالها إعادة هيكلة الدولة ذاتها بما فيها
من مؤسسات علاوة على مراجعة مفهومنا للدولة ذاته وإعادة صياغته بما يتناسب مع
تطلّعات الثوار وواقع التحديات والاحتياجات التنموية والتعايشية التي يتوجّب على
الدولة والشعب التعامل معها كشرط وجودي، مقدّمين بذلك ترجمة عملية لمفهوم الدولة
المدنية الذي طالما تكلّمنا عنه.
وانطلاقاً
من تجربة الشهور الماضية، وبعيداً عن التنظير والمواقف المثالية المحضة، بات من
الواضح أن تحقيق أهداف هذه الثورة لايمكن أن يتمّ إلا من خلال تبنّي مقاربات عدة
تعمل بالتوازي مع بعضها البعض: المقاربة اللاعنفية، والمقاربة العسكرية، والمقاربة
الفكرية. ولايمكن لأي كيان سياسي يسعى لتمثيل الثورة وقيادة المرحلة الانتقالية
المزمعة أن يهمل أية من هذه المقاربات مهما بدت متعارضة في الظاهر أو خلافية أو
إشكالية. إن طبيعة التحدي الأساسي الأول الذي يواجهه هذا الكيان هو ضرورة القبول
بالعمل على هذه المحاور معاً وبالتالي ضرورة التوصّل إلى رؤية سياسية جامعة تسمح
بذلك، ومن ثم إلى تبنّي الآليات المناسبة لترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع في
الداخل السوري وعلى الصعيد الدولي، بصرف النظر عن الخلفيات الإيديولوجية والشخصية
لمكوّنات هذا الكيان وخلافاتها البينية.
بعد
أشهر من نضال سلمي عمّ أرجاء البلاد، وأسابيع من انخراط المنشقين عن الجيش في
تنظيم وقيادة العمل المسلّح في بعض المناطق، لم يعد عند المعارضة السورية رفاهية
التلكؤ والمغمغمة فيما يتعلّق بإفراز مواقف ورؤى وآليات واضحة ومفصّلة لقيادة
المرحلتين الثورية والانتقالية بكل ما فيهما من تعقيدات. إن الاكتفاء بتقديم برامج
عمل لا تتجاوز أن تكون مجرّد عرض لمبادئ ونوايا ورغبات ووعود وعهود لن يسمن أو
يغني من جوع في هذه المرحلة، ولن يساعد المعارضة السورية في التحصّل على الاعتراف
الدولي المرتجى، فالمجتمع الدولي يحتاج إلى التوثّق من قدرة المعارضة على قيادة
المرحة الانتقالية قبل تقديم هذا الاعتراف، الأمر الذي يستدعي في الحالة السورية تناول
الكثير من القضايا الشائكة بأسلوب موضوعي ومنهجي.
وفيما
يلي بعض المقترحات والطروح التي ترمي إلى تشجيع أطراف المعارضة على البدء بمناقشة
هذه القضايا.
الثورة
ما بين السلمية والعسكرة:
من
حيث المبدأ، لاينبغي على تفضيلنا للمقاربة السلمية على التوجّه العسكري أن
يمنعنا من الاعتراف بالوقائع الجديدة التي ظهرت على الساحة الميدانية والتي تنبؤ
بأن الثورة تتجه نحو المزيد من العسكرة. ولايمكننا لوم الثوار في هذا الصدد فهم
أدرى بظروفهم وأكثر قدرة على تقرير الآليات المناسبة للمقاومة، وطالما التزموا
بالأعراف الدولية أثناء المواجهة لامناص من الاعتراف بمشروعية خيارهم. إن توحيد
الأهداف أمر ضروري، لكن توحيد الآليات غالباً ما يكون متعذراً بل ومضراً بالقضية
ذاتها لأنه يجرّدنا من المرونة اللازمة للتعامل الناجع مع التطورات العفوية
المتتابعة في سياق ظروف ومعطيات دائمة التباين. من هذا المنطلق تنبثق الحاجة لدعم
الجيش السوري الحر ومجلسه العسكري.
لكن،
ومن منطلق المصلحة الوطنية ورغبة في الانسجام مع أهداف الثورة وتطلّعاتها في بناء
دولة ديموقراطية مدنية، لابد من الإصرار على بقاء المرجعية الأساسية فيما يتعلّق
بقيادة الثورة والمرحلة الانتقالية في أيدي السلطة السياسية حصراً مع استمرار
التنسيق ما بين السلطتين تجنباً لتعددية المرجعيات، الأمر الذي سيخلق بلبلة بين
أطراف الثوار والممجتمع الدولي على حدّ سواء، وسيعيق عملية التحصّل على اعتراف
رسمي بأي جسد سياسي انتقالي وعلى دعم دولي لقضيتنا العادلة.
وفي
الواقع، إن قدرة المعارضة على التحصّل على قرار دولي داعم للثورة السورية ولعملية
الانتقال تعتمد على حد كبير على قدرتها على إفراز رؤية جامعة للحراكين السياسي
والعسكري مدعومة بمؤسّسات وآليات عمل ذات مصداقية واضحة.
ولعل
أفضل طريقة للتعامل مع الوضع القائم في هذه المرحلة هي توقيع اتفاق مبادئ واضح
وصريح ما بين المجلس العسكري والكيان السياسي الانتقالي، ينص على:
*
خضوع القيادات العسكرية كافة لسلطة الكيان السياسي الانتقالي، والالتزام
بتوجيهاته.
*
إلتزام القيادات العسكرية بقواعد المواجهة المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق
الدولية من حيث تفادي الأهداف المدنية، والتعامل الإنساني مع الأسرى، وحظر
النشاطات الثأرية والانتقامية من قبل العناصر التابعة للجيش السوري الحر وفي جميع
المناطق الخاضعة لسيطرتهم تحت طائلة المحاسبة القانونية.
*
التزام المجلس العسكري بقراره حلّ نفسه حال انتخاب حكومة ديموقراطية للبلاد.
*
التزام أعضاء المجلس العسكري بقرارهم الابتعاد عن الانتماء إلى الأحزاب السياسية
والحركات الدينية.
*
تكوين فريق متابعة مؤلّف من عناصر من المجلس العسكري وأخرى من الكيان السياسي
لتنسيق التواصل ما بين الطرفين وتطوير آليات الدعم.
*
تشكيل لجنة خبراء لوضع خطة تفصيلية لإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية بعد سقوط
النظام بما يسمح بتسريع عملية الاستقرار ومواجهة التحديات الأمنية المتعلّقة
بالمرحلة الانتقالية وما بعد.
رؤية
سياسية لمستقبل سوريا:
حتى
اللحظة لم تقدم فرق المعارضة السورية رؤية واضحة وتفصيلية لسوريا المستقبل، ما خلا
بعض التعهدات المتعلّقة بالرغبة في بناء نظام برلماني تعددي واحترام حقوق الأقليات
وإيجاد حل عادل للمسألة الكوردية. لكن، لم يقدم أي فصيل معارض بعد تصوراً واضحاً
حول الكيفية التي سيتم من خلالها تحقيق هذه الوعود والعهود. وهذه مشكلة كبيرة
طبعاً، لأن تقديم رؤى واضحة ومعقولة من هذا النوع هي ما قد يحسم مشاركة بعض أطراف
الصراع في سوريا، مثل المكوّن الكوردي والمسيحي والعلوي، بشكل أكبر في العمل
الثوري، علاوة على دوره في تسريع التحصّل على اعتراف رسمي من قبل المجتمع الدولي
بأي كيان انتقالي تقدمه المعارضة السورية.
إذ
ربما شارك الأكراد بزخم أكبر في الحراك الثوري فيما لو رأوا أن الدستور الجديد
والميثاق الوطني لحقوق الإنسان سيقدمان لهم جزءاً كبيراً مما يطمحون إلى تحقيقه
بخلاف ما هو قائم اليوم، وربما شارك المزيد من العلويين والمسيحيين في الاحتجاجات
فيما لو رأوا أن الدستور الجديد والبنية الجديدة المقترحة للدولة ولمؤسساتها
التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية والأمنية يمكن لها مجتمعة أن تضمن
حقوقهم الأساسية بالفعل وأن الأغلبية، بصرف النظر عن رغباتها وتعصباتها، لن تستطيع
أن تجرّدهم من حقوقهم الأساسية لأن بنية الدولة ذاتها تمنع حدوث ذلك.
لقد
آن أوان تقديم نماذج بعينها ومقترحات واضحة فيما يتعلّق مثلاً بنوع النظام
البرلماني الذي ترغب أحزاب المعارضة بتأسيسه ونوع الآليات الدستورية والقانونية
والإدارية المقترحة للدولة والتي سيتم من خلالها وبشكل عملي تحقيق التوازنات
المرغوبة بين السلطات المختلفة للدولة والمكونات المختلفة للمجتمع وبالتالي ضمان
حقوق الأقليات الأساسية ومشاركتهم المستمرة في صنع القرارات المحلية والمركزية. فعلى
الرغم من استحالة اتخاذ قرارات نهائية خارج أرض الوطن وبعيداً عن مشاركة فاعلة من
قبل كل القوى الوطنية في الحوار، ينبغي على النقاش حول هذه الأمور أن يبدأ الآن،
لأن النقاش بحد ذاته يشكّل جزءاً أساسياً من آليات المقاومة اللاعنفية، وأداة
فاعلة من أدوات التحصّل على اعتراف دولي كما ذكرنا.
إن
ساحة العمل السياسي السوري تعجّ بأطراف وشخصيات فاعلة ممن لها رؤاها وآرائها
الخاصة والواضحة فيما يتعلّق ببعض القضايا الأكثر حساسية التي يتوجّب التعامل معها
هنا. وتستحوز رؤى وآراء هذه الأطراف على اهتمام واسع في الداخل السوري وفي أرجاء
المجتمع الدولي قد لا يتناسب مع الحجم السياسي والديموغرافي الحقيقي لأصحابها،
وذلك لغياب مرادفات واضحة لها عند الأطراف الأخرى للمعارضة من جهة، وبسبب طبيعة
الاستقطابات الدينية والطائفية والقومية والسياسية التي تشهدها سوريا حالياً من
جهة أخرى. ومن هنا تنبثق ضرورة العمل على تشكيل توافقات معينة حول هذه القضايا وفي
هذه المرحلة بالذات.
وفيما
يلي بعض المقترحات حول هذه النقاط:
*
بما أن الثورة السورية وُصفت ومنذ البداية على أنها ثورة من أجل الكرامة والحرية
والعدالة وحكم القانون، ربما كان من الأنسب فيما لو حاولت أطراف المعارضة صياغة
ميثاق وطني لحقوق الإنسان يكون بمثابة رمز جامع للدولة وللشعب بمكوناته المختلفة،
ومرجع قانوني أساسي تعوّل عليه المحاكم في اتخاذ قراراتها، وجزء لايتجزأ من
الدستور السوري الجديد. إن إعداد مواثيق من هذا وع شكّل نقطة تحوّل هامة في تاريخ الكثير
من شعوب الأرض. وتشكل هذه المواثيق عماد معظم الدول المتحضّرة اليوم.
*
صياغة بنود وآليات دستورية واضحة فيما يتعلّق بالمسألة القومية والمسألة الطائفية
في سوريا، وبطبيعة النظام الإداري الجديد للدولة، لكي يصبح الجميع على بينة من
أمرهم في هذا الصدد، ولكي نتجنّب الاستمرار بطرح هذه القضايا بشكل عام مع تأجيل
البتّ في التفاصيل إلى أجل غير مسمى. وهناك الكثير من النماذج الدستورية في العالم
التي يمكن الاستفادة منها في هذا الصدد.
*
اتخاذ مواقف واضحة من الوضع الدستوري لطبيعة الدولة ودور الدين والانتماء القومي
فيها. في ظل التنوّع المميز للمجتمع السوري والمشهد السياسي السوري ينبغي على
الدستور أن يكون جامعاً ما أمكن في لغته وطروحاته وبنوده، وينبغي على الدولة أن
تقف على ذات المسافة من كافة مكوناتها ومواطنيها.
*
توقيع مواثيق تعهدات واضحة بين الأطراف المختلفة للمعارضة فيما يتعلّق بحقوق
الأقليات، القومية والدينية والسياسية، والمرأة، والطبيعة المدنية للدولة.
المرحلة
الانتقالية وتحدياتها:
سيواجه
أي كيان انتقالي عدة تحديات خطيرة خلال المرحلة الانتقالية، لايمكن التعامل معها
من خلال الكلام في العموميات مثل الدعوة إلى توحيد القيادات العسكرية أو الأجهزة
الأمنية، إذ لابد من تحديد آليات واضحة لذلك يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الاستقطابات
القائمة في المجتمع السوري، وطبيعة المخاطر الحقيقية والمحتملة التي ينبغي على
المجلس الانتقالي بشقيه السياسي والعسكري التعامل معها.
الكثيرمن
أطراف المعارضة حتى اللحظة وضعت تصورات عامة وجداول زمنية مبدئية فيما يتعلّق
بالطريقة التي يمكن من خلالها تسلّم السلطة من النظام القائم ومن ثم تسليمها لأول
حكومة تنتخب ديموقراطياً وفق الدستور والأطر القانونية الجديدة. لكن المرحلة
الانتقالية أكثر تعقيداً بكثير من هذه التصورات العامة، ويتطلّب التعامل معها ومع
تحدياتها المختلفة خططاً أكثر تفصيلاً.
*
فمن الأمور الهامة على الصعيد السياسي، إيجاد طريقة لضمان مشاركة واسعة وعادلة
للشرائح التي قادت الحراك الثوري بصمت وسرية لكي لا تفقد المؤسسة المشرفة على
العملية الانتقالية شرعيتها عند الثوار، خاصة نظراً لبقاء الكثير من القيادات
المحلية خارج الإطار التنظيمي للجان التنسيق المحلية وللهيئة العامة للثورة
السورية.
*
كما يتعيّن الاتفاق على طريقة واضحة لإدارة مؤسسات الدولة المختلفة بشكل فعّال
ولإعادة هيكليتها وفكّ ارتباطاتها بأجهزة أمنية وحزبية بعينها وبمحسوبيات لجهات
خاصة مختلفة.
*
توصيف وتحديد دور الجيش في المرحلة الانتقالية ووضع آلية واضحة لدمج الجيشين،
الموالي والمنشق، تحت قيادة واضحة يكون ولائها الجديد للدولة ولدستورها وميثاقها
وشعبها خلال المرحلة الانتقالية وما بعد.
*
عوضاً عن الاكتفاء بالدعوة إلى توحيد الأجهزة الأمنية وتحديد صلاحياتها، من الأفضل
أن نضع تصوراً واضحاً لهذا الأمر، وأيضاً لطبيعة التحديات الأمنية التي ستواجهها
الدولة في الفترة التالية لانهيار النظام واقتراح آليات واستراتيجيات للتعامل معها
واحتوائها.
*
وضع تصور واضح للتحديات الاقتصادية التي ستواجهها الدولة في الفترة التالية
لانهيار النظام واقتراح آليات واستراتيجيات للتعامل معها واحتوائها.
*
وضع تصور واضح لكيفية التعامل مع موضوع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية على
المستويات القانونية والاجتماعية والسياسية.
*
تشكيل لجنة من مختلف المناطق والأطياف السياسية لوضع تصور شامل وجدول زمني فيما
يتعلّق بأولويات التنمية في البلاد على جميع الأصعدة، خاصة قطاع تعليم والبنى
التحتية والزراعة والصناعة، لتصبح بمثابة خارطة طريق تعوّل عليها الحكومات
المتعاقبة.
لقد
كانت هذه مجرّد ملاحظات بالطبع، لاتهدف إلا إلى بدء النقاش مع التنويه إلى قضايا
حساسة بذاتها لكي لايتم تجاهلها في خضمه، لأن تجاهلها قد يكون له مفعول عكسي عند
شرائح عريضة في المجتمع السورية وقوى ومراكز هامة لصنع القرار في المجتمع الدولي.
لقد دخلت الثورة السورية مع تعاظم قمع النظام وبدء طور عسكرة الأدوات مرحلة هامة
من تاريخها ولم يعد بوسع قوى المعارضة أن تكتفي بمعالجات مبتسرة للأمور والقضايا
المصيرة التي تواجه شعبنا. المستقبل يبدأ اليوم، وكذلك الحوار حول طبيعته،
والتخطيط لجعله مستقبلاً زاهراً وواعداً بالفعل والواقع كما بالقول والخيال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.